الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه

فحج كثيرا قبل ولايته الخلافة. وأما ولايته، فإنه ولّي الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر و أياما، وكانت ولايته بعد انقضاء الحج في سنة خمس وثلاثين، لأن عثمان قتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة من هذه السنة. وكانت وقعة الجمل سنة ست و ثلاثين، وحج بالناس أيضا عبد الله بن عباس. واشتغل علي رضي الله عنه بتلك الأمور، فحج بالناس سنة ثمان وثمانين قثم بن عباس. ثم اصطلح الناس في سنة تسع و ثلاثين على شيبة بن عثمان، فأقام لهم الحج. ثم قتل علي رضي الله عنه سنة أربعين.

ولنا في المحلات، وهي ست آلات، وإنما سمّيت محلات لأن من كانت معه حلّ حيث شاء:

إن المحلات ستّ فاسمعنّ لها الزند والدلو والسكين والفأس

والقدر والزق لا تبغي بها عوضا فحيث ما كنّ كان الناس والبأس

ولنا في أصناف المياه ونعوتها، وأصناف الشرب:

ماء فرات نقاخ سلسل شبم سلاسل وزلال نشره عطر

تسري الحياة به في كل ذي شبح النبت والحيوان الكلّ والبشر

وما سواه من الأمواه ليس له هذي النعوت فما في نعته نكر

مثل الأجاج وماج مالح لغة فريدة وشريب طعمه خصر

كذا الشروب وملح والزعاق له على القعاع مقام ليس يستتر

أما النمير فنعت لا يخصّ به صنف فذاك الذي ينمى به الشجر

فهذه خمسة من بعد عاشرة من اللغات لها في نفسها سور

والنشج والنضج ثم النقع والبغر ونغبة بعدها لفظ هو النجر

تفسيره: فالنشج والنضج هو الشرب دون الريّ. والنقع: الريّ. والبغر والنجر: أن يكثر الشرب فلا يروى. والنغبة: الجرعة من الماء. وكل ما تضمنه البيت الأول هو العذب الطيب، والشبم: البارد. والسلسل والسلاسل: السهل الدخول في الحلق. و الشريب:

الذي فيه شيء من العذوبة. والشروب: دونه، وهو الذي يشرب عند الضرورة. والأجاج:

الماء المالح، وهو أيضا: الماج، والقعاع، والزعاق: فيه مرارة.

ولنا في أسماء العطش:

الصدا و الأوام ثم غليل وو غيم ولوحة العطش

وكذاك الجواد مهلكة فإذا ما ارتويت تنتعش

ولنا في أسماء الخيل في السباق:

قالو المجلّى أول ثم المصلّى بعده ثم المسلى والنال طرف رابع

والخامس المرتاح ثم عاطف سادسهم ثم الخطى بعده وهو الجواد السابع

والثامن المؤمّل ثم اللطيم تاسع سكبتهم عاشرهم أهلّة طوالع

فثكلهم آخرهم فلا يعدّ فيهم أن المجلّى أوّل فتسعة توابع

المحفوظ عن العرب: السابق، ثم المصلى، والسكيب الذي هو العاشر، والسابق هو الأول، و هو المجلى والمبرز أيضا. وسائر ما ذكر من الأسماء، فإن بعض الحفّاظ من أهل اللغة قال: أراها محدثة، والله أعلم.

وروين من حديث عمرو بن بحر الجاحظ قال: ثنا سنان بن الحسن التستري، عن إسماعيل بن فهران العسكري، عن أبان بن عثمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على القبائل، خرج و أنا معه، وأبو بكر، وكان أبو بكر عالما بأنساب العرب، فوقفنا على

مجلس من مجالس العرب عليهم الوقار والسكينة، فتقدم أبو بكر، فسلّم عليهم، فردّوا عليه السلام، فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من ربيعة. قال: أمن هاماتها أم من لهازمها؟ قالوا: بل من هاماتها العظمى. قال: وأيّ هاماتها؟ قالوا: ذهل. قال: أذهل الأكبر أم ذهل الأصغر؟ قالوا: بل الأكبر. قال: أفمنكم عوف الذي كان يقال: لا حرّ بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتمي الأخيّاء؟ قالوا: لا. قال:

فمنكم جساس بن مرّة حامي الزمار ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم المزدلف صاحب الغمام؟ قالوا: لا. قال: أفأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: أفأنتم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال: فلستم من ذهل الأكبر، إذ أنتم من ذهل الأصغر.

فقام إليه أعرابي غلام حين بقل وجهه، فأخذ بزمام ناقته، ورسول الله صلى الله عليه و سلم واقف على ناقته يسمع مخاطبته، فقال لنا: على من سألنا أن نسأله، والعبء ل تعرفه أو تحمله. يا هذا، إنك سألتنا أي مسألة شئت فلم نكتمك، فأخبرنا من أنت؟ قال أبو بكر: من قريش.

قال: بخ بخ، أهل الشرف والرئاسة، فأخبرني من أي قريش أنت؟ قال: من بني تميم بن مرّة. قال: أمنكم قصيّ بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر، فكان يقال له مجمعا؟ قال أبو بكر: لا. قال: أفمنكم هاشم الذي يقول فيه الشاعر:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

قال أبو بكر: لا. قال: أفمنكم شيبة الحمد، الذي كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء الداجية مطعم الطير؟ قال: لا. قال: أفمن المفيضين بالبأس أنت؟ قال: لا. قال:

فمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: أما والله لو شئت لأخبرتك أنك لست من أشراف قريش.

فاجتذب أبو بكر زمام ناقته منه كهيئة المغضب، فقال الأعرابي:

صادف درء السيل درء يدفعه يرفعه طورا وطورا يضعه

فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال علي: فقلت: يا أبا بكر، لقد وقعت من هذا الأعرابي على باقعة. قال: أجل يا أبا الحسن، ما من طامّة إلا وفوقها طامّة، و إن البلاء موكل بالمنطق.

سأل عليّ بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أفضل الصلاة؟ قال: «ما حضرت فيه القلوب، وذرفت فيها العيون، وخلصت فيها النيّات، وفاضت فيها العبرات» .

وبكى الحسن البشري يوما في حلقته، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: لأني أرى قوما قد أمرو بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، وحبس أولهم على آخرهم وهم قعود يلعبون.

و أنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم:

قالو تقدّم فقلت الخوف أخّرني وقبح فعلي وزلاّتي ومجترمي

بأيّ وجه إذا ما جئت أرفعه وقد تمرّنت بالتوبيخ والندم

وكيف أنقل أقداما عصيت بها إلى محل العلا في القدس والعظم

إلى الذي جاد بالإحسان مبتدئا ومنّ بالفضل والآلاء والنّعم

وكلّ جارحة لي غير طاهرة لا ماء وجهي ولا جسمي ولا قدمي

قالوا فدونك من أبواب رحمته ومنتهى العفو والإحسان والكرم

فقلت وجهي من الزلاّت محتشم ولست أملك وجها غير محتشم

وقال بعض الأولياء: الفكرة نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة، والسعيد من وعظ بغيره.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!