الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


من محاضرة الأبرار و مسامرة الأخيار

روينا من حديث الهاشمي يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أيها الناس، أقبلو على ما كلفتموه من إصلاح آخرتكم، وأعرضوا عما ضمن لكم من أمر دنياكم، ول تستعملوا جوارحا غذيت بنعم الله في التعرض لسخطه بمعصيته، واجعلوا شغلكم بالتماس مغفرته، واصرفوا هممكم إلى التقرب إليه بطاعته، فإنه من بدأ بنصيبه من الدني فاته نصيبه من الآخرة، ولا يدرك منها ما يريد، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة وصل إليه نصيبه من الدنيا، وأدرك من الآخرة ما يريد» .

ومن وقائع بعض الفقراء إلى الله تعالى: ما حدثنا به عبد الله ابن الأستاذ المروزي بمروزة، قال: قال لي بعض الصالحين: رأيت في الواقعة أبا مدين، وأبا حامد، وأب طالب، وأبا يزيد، وجملة من الصوفية، فقال أبو يزيد للشيخ، يعني أبا مدين: زدن من التوحيد شيئا. فقال: التوحيد هو النور الذي منه مادة كل نور، وما عداه فأغشية و ستور.

هو الساتر المستور، وهو الأصل في كل الأمور، مادّته لكل ناقص وزائد، وما تفرّق في الوجود فهو عنده واحد. أودع بعض العارفين من الأسرار ما ميّزه بها عن الأغيار، و أجرى ينابيع الحكمة في قلبه فأنبتت أرضه ثمار الإيمان، وأزهرت بأنوار الإحسان، فأعبقت بنسيم الذكر، وجال فكره في ميدان الفكر، فرئي في حضرة الملكوت شاخصا. و اختطفه معنى الوحدانية مقافصا، فأفنته عن وجوده وعن الإحساس، وغيّبته عن مشاهدة الأنواع والأجناس، فكشفت له الغطاء عن سر الأسرار، فتلاشت الآثار والأخبار، فعاين من عظمة الجلال ما يليق به، وكشف السر الإلهي لعينه من غيبه، فامتزج نوره بنور النور، وتجلّى لقلبه الملك الغفور.

فصفات العارف أبدا تسمو وترقى، وأسراره لمالكه تزداد شوقا. قلبه له أبدا سليم، وسرّه في الحضرة معه مقيم، ليس منه في الوجود إلا ظاهره، ينتظر ما ترد به أوامره، لا

يشغله أبدا عنه شاغل. هو معه كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه في أي الجهات كيف شاء، ويكشف عن قلبه كل غشاء، فينظره بعين التحقيق، فيرد إليه الخلق من كل طريق. فالعارف من آفات الغير محفوظ، وكل ما سوى الحق عنه مرفوض. ركن إلى الحصن المنيع فأواه، ودق نظره في معرفته فتمعنى بمعناه، فنودي من حضرة مولاه: وحّدني فإني أنا الله.

حكي عن النعمان بن المنذر أنه خرج لصيد ومعه عديّ بن زيد العبّادي، فمرّ بآرام، وهي القبور، فقال عدي: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الآرام؟ قال: لا. قال: إنه تقول:

أيه الركب المخبّون على الأرض تمرّون

لكما كنتم كنّا وكما نحن تكونون

فقال: أعدها، فأعادها. فرجع كئيبا، وترك صيده.

وخرج معه مرة أخرى، فوقف على القبور بظاهر الحيرة فقال: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الآرام؟ فقال: لا. فقال: إنها تقول:

ربّ ركب قد أناخوا عندنا يشربون الخمر بالماء الزلال

ثم أضحوا ضعف الدهر بهم وكذاك الدهر حالا بعد حال

فانصرف أيضا وترك صيده.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم وروينا من حديث أحمد بن عبد الله بن عباس. حدّثه عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز شيّع جنازة، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، جنازة أنت وليّها تأخرت عنها و تركتها! فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي: يا عمر بن عبد العزيز، ألا تسألني م صنعت بالأحباب؟ قلت: بلى.

قال: خرقت الأكفان، ومزّقت الأبدان، ومصصت الدم، وأكلت اللحم. قال: ألا تسألني م صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى. قال: نزعت الكتفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، و العضدين من الوركين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين.

ثم بكى عمر، ثم قال: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وغرورها كثير، وعزيزها ذليل، وغنيّه فقير، وشابّها يهرم، وحبّها يموت. ولا يغرّنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغترّ بها.

أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشقّوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها

قليلا؟ غرّتهم بصحّتهم فاغترّوا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، وغفلوا العاصي. إنهم كانوا و الله في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع إليه، محسودين على جمعه مع كثرة التعب عليه. فانظر ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسامهم، والديدان بعظامهم و أوصالهم.

كانوا في الدنيا على أسرّة ممهّدة، وفرش منضّدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون. فإذا مررت فنادهم إن كنت مناديا، ومرّ بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم، وسل غنيّهم ما لقي من غناه، وسل فقيرهم ما لقي من فقره، وسل عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، و الوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنعت بها الديدان: محت الألوان، وأكلت اللحوم، وعفرت الوجوه، وقبّحت المحاسن، وكسّرت الفقار، وأبانت الأعضاء، و مزّقت الأشلاء. وأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم، وجمعهم وكنوزهم؟ و الله ما زوّدهم فراشا، ولا وضعوا هناك متكأ، ولا غرسوا لهم شجرا، ولا أنزلوهم من اللحد قرارا، أليسوا في منازل الخلوات والغلوات؟ أليس النهار والليل عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين الأحباء.

فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوههم بالية، وأجسامهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزّقة، وقد سالت الحدقات على الوجنات، وامتلأت الأفواه ماء وصديدا، ودبّت دوابّ الأرض في أجسادهم وفرّقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميما. قد فارقوا الحدائق، وساروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوجت نساؤهم، و ترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت الورثة ديارهم وتراثهم. فمنهم والله الموسّع له في قبره الغضّ الناظر فيه المتنعم فيه بلذّته.

يا ساكن القبر غدا، ما الذي غرّك من الدنيا؟ هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطّرد؟ وأين ثمرتك الحاضرة ينعها؟ وأين رفيق ثيابك؟ وأين طيبك؟ وأين بخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟ أما رأيته قد نزل به الأمر فم يدفع عن نفسه دخلا، وهو يرشح عرقا، ويتلمظ عطشا، يتقلب في سكرات الموت وغمراته. جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، وجاء من الأمر الأجل ما لا يمنع منه. هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، و يا مخلّيه في القبر وراجعا عنه. ليت شعري كيف أنت على خشونة الثرى؟ يا ليت شعري بأي خدّيك بدا البلا؟ يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك

الموت عند خروجي من الدنيا؟ وما يأتيني به من رسالة ربي. ثم تمثل فقال:

تسرّ بم تفنى وتشغل بالمنى فما اغتر باللّذات في النوم حالم

نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم

وتعمل شيئا سوف تكره غبّه كذلك في الدنيا تعيش البهائم

ثم انصرف، فما بقي بعد ذلك إلا جمعة ومات رحمه الله. ولنا من هذا الباب:

شاب فؤديّ وشبّ الأمل ومضى العمر وجاء الأجل

عسكر الموت لنا منتظر فإذا سرنا إليهم رحلو

ليت شعري ليت شعري هل دروا أنني بعدهم منتقل

في فنون اللهو أفنى طربا غافلا عما إليه أنتقل

ولنا في المحاسبة وإضافة الأعمال إلى الله تعالى، إذ لا فاعل إلا هو:

تحاسبهم بما فعلوا وما فعلوا الذي فعلوا

وتطلبهم بما عملوا وأنت خلقت ما عملو

فهل تنجيهم حجج وهل يزكو لهم عمل

لئن أخذوا بما عملوا فأعظم منه ما جهلو

ولنا أيضا، وقد تذكرت الأحبة في القبور:

ضمّت لن آرامنا الآراما فكأن ذاك العيش كان مناما

يا واقفين على القبور تعجبوا من قائمين كيف صاروا نيام

تحت التراب موسدين أكفهم قد عاينوا الحسنات والآثاما

لا يوقظون فيخبرون بما رأوا لا بد من يوم يكون قيام

ولما سجن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قال في ذلك:

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا دخل السجّان يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدني

ونفرح بالرؤيا وجلّ حديثنا إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤي

فإن حسنت كانت بطيئا مجيئها وإن قبحت لم ننتظر وأتت سعي


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!