الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


قصة ما جرى لأمير المؤمنين المنصور بمكة مع بعض الفقراء

روينا عن غير واحد أن أبا جعفر المنصور بينما هو طائف بالبيت ليلا إذ سمع قائلا يقول: اللهم إنّا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع.

فخرج المنصور، فجلس في ناحية من المسجد، ثم أرسل إلى الرجل فصلّى ركعتين، ثم استلم الركن، وأقبل مع الرسول، فسلم عليه بالخلافة، فقال له المنصور: ما الذي سمعتك تذكر؟ قال: إن أمّنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور كلها من أصولها، وإل اقتصرت على نفسي، ففيها لي شغل شاغل. قال: فأنت آمن على نفسك.

فقال: ي أمير المؤمنين، إن الله قد استرعاك أمر عباده وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم حجابا من الجصّ والآجر، وأبوابا من الحديد، وحراسا معهم السلاح، ثم سجنت نفسك منهم، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها، وأمرت أن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف إليك، ولا أحد إلا وله في هذه الأموال حق. فلما رآك النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، و أمرت أن لا يحجبوا دونك، تحب الأموال وتجمعها، قالوا: هذا قد خان الله، فما لن لا نخونه؟ فأتمروا أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أحبّوه، ولا يخرج لك عامل إلا خوّنوه عندك وعابوه حتى تسقط منزلته عندك.

فلم انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم. وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليستعينوا بذلك على ظلم رعيتك. ثم فعل ذلك ذوو المقدرة و الأموال من رعيّتك، ليتوصلوا إلى ظلم من دونهم. فامتلأت بلاد الله ظلما وبغي و فسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك وأنت غافل. فإن جاء متظلم حيل بينك وبينه، و إن أراد رفع قصته إليك وجدك قد نهيت عن ذلك، ووقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاءك ذلك المتظلم وبلغ بطانتك خبره، سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك. فلا يزال المظلوم يختلف إليه، ويلوذ به، ويشكو ويستغيث وهو يدفعه، فإذ جهد وخرج، وظهر إليك وصرخ بين يديك، ضرب ضربا مبرحا يكون نكالا لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر. فما بقاء الإسلام على هذا؟ قال: فبكى المنصور بكاء شديدا، وقال: ويحك، كيف أحتال لنفسي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بهم في دنياهم، وهم:

العلماء و أهل الديانة. فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم يسدّدوك. فقال: قد بعثت إليهم فهربوا مني. فقال: خافوا أن تحملهم على طريقتك، ولكن: افتح بابك، وسهّل حجّابك، و انصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفيء والصدقات على وجوهها، وأنا ضامن عنهم أنهم يأتونك فيساعدونك على صلاح الأمة. ثم أذن بالصلاة، فقام يصلي وعاد إلى مجلسه، ثم طلب الرجل فلم يجده.

وأنشدن محمد بن عبد الواحد، عقب ما سمعته يقول هذه الحكاية:

فاعمل لنفسك واجتهد إن كنت ترغب في السلامه

من قبل أن يأتي الحمام وقبل أن تأتي القيامه

يوما تعضّ ندامة كفّا وما تغني الندامه

وأنشد بعضهم في الزهد ومعناه:

طلّق الدنيا ثلاثا والتمس زوجا سواها

إنها زوجة سوء لا تبالي من أتاه

تب إلى ربك منها واحترس قبل أذاها

وانه للنفس عن ال‍ غيّ وجنّبها هواه

فبهذا تدخل ال‍ جنة فاحذر وتناها

حدثنا محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم، قال: قرأت على عمر بن عبد الحميد بمكة، أن عبد الله بن العباس قال في قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ، قال: مرض الحسن و الحسين عليهما السلام وهما صبيان، فعدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر، فقال عمر لعلي: يا أبا الحسن، لو نذرت عن ابنيك نذرا إن الله عافاهما، قال: أصوم ثلاثة أيام شكرا لله. قالت فاطمة: وأنا أيضا أصوم ثلاثة أيام شكر لله. وقال الصبيان: ونحن نصوم ثلاثة أيام. وقالت جاريتهما فضة: وأنا أصوم ثلاثة أيام. فألبسهما الله العافية، فأصبحوا صياما وليس عندهم طعام. فانطلق علي إلى جار له من اليهود يقال له شمعون، يعالج الصوف، فقال له: هل لك أن تعطيني جزّة من صوف تغزلها لك بنت محمد بثلاثة آصع من شعير؟ قال: نعم. فأعطاه، فجاء بالصوف و الشعير، فأخبر فاطمة فقبلت وأطاعت، ثم غزلت ثلث الصوف، وأخذت صاعا من الشعير، فطحنته وعجنته، وخبزته خمسة أقراص لكل واحد قرصا.

وصلى عليّ رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم أتى إلى منزله فوضع الخوان فجلسوا، فأول لقمة كسرها علي رضي الله عنه، إذا مسكين واقف على الباب، فقال:

السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله من موائد الجنة. فوضع عليّ اللقمة من يده، ثم قال:

فاطمة المجد واليقين يا بنت خير الناس أجمعين

ما تري ذا البائس المسكين جاء إلى الباب له حنين

كل امرئ بكسبه رهين

فقالت فاطمة رضي الله عنها من حينها:

أمرك سمع يا ابن عم وطاعة ما لي من لوم ولا ضراعه

غديت باللب وبالبراعة أرجو إذا أنفقت من مجاعه

أن ألحق الأبرار والجماعة وأدخل الجنة في الشفاعه

قال: فعمدت إلى ما في الخوان، فدفعته إلى المسكين، وباتوا جياعا، وأصبحوا صياما، لم يذوقوا إلا الماء القراح. ثم عمدت إلى الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعا فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص لكل واحد قرصا.

وصلى عليّ المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى إلى منزله، فلما وضعت الخوان و جلس، فأول لقمة كسرها علي رضي الله عنه، إذا بيتيم من يتامى المسلمين قد وقف على الباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا يتيم من يتامى المسلمين، أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله من موائد الجنة. فوضع علي اللقمة من يده وقال:

فاطم بنت السيد الكريم قد جاءنا الله بذا اليتيم

من يطلب اليوم رضى الرحيم موعده في جنة النعيم

فأقبلت السيدة فاطمة رضي الله عنها وقالت:

فسوف أعطيه ولا أبالي وأوثر الله على عيالي

أمسوا جياعا وهم أمثالي أصغرهم يقتل في القتال

ثم عمدت إلى جميع ما كان في الخوان فأعطته اليتيم، وباتوا جياعا لم يذوقوا إل الماء القراح، وأصبحوا صياما. وعمدت فاطمة إلى باقي الصوف فغزلته، وطحنت الصاع الباقي وعجنته وخبزته خمسة أقراص لكل واحد قرصا.

وصلى عليّ المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى إلى منزله فقرّبت إليه الخوان، ثم جلس، فأول لقمة كسرها، إذا أسير من أسارى المسلمين بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، إن الكفار أسرونا وقيّدونا وشدّونا فلم يطعمونا. فوضع علي اللقمة من يده، وقال:

يا فاطمة بنت النبي أحمد بنت نبي سيد مسوّد

هذا أسير جاء ليس يهتدي مكبّل في قيده المقيّد

يشكو إلينا الجوع والتشدد من يطعم اليوم يجده في غد

عند العليّ الواحد الموحّد ما يزرع الزراع يوما يحصد

فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تقول:

لم يبق مما جاء غير صاع قد دبرت كفي مع الذراع

وابناي والله لد أجاعا يا رب لا تهلكهما ضياع

ثم عمدت إلى ما كان في الخوان، فأعطته إياه، فأصبحوا مفطرين وليس عندهم شيء.

وأقبل عليّ والحسن والحسين نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يرتعشان كالفرخين من شدة الجوع، فلما أبصرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ي أبا الحسن، أشد ما يسوؤني ما أدرككم، انطلقوا بنا إلى ابنتي فاطمة» ، فانطلقو إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع، وغارت عيناها. فلم رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمها إليه وقال: « وا غوثاه» . فهبط جبريل عليه السلام وقال: يا محمد، خذ هنيئا في أهل بيتك، قال: «و ما آخذ يا جبريل؟» ، قال: ويُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً ويَتِيماً وَ أَسِيراً ، إلى قوله: وكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً .

ومن محاسن الكلام ما قاله الفضل بن سهل للمأمون، وقد سأله حاجة لبعض أهل بنو بات دهاقين سمرقند، وكان وعده تعجيل إنفاذها فتأخر ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، هب لوعدك مذكرا من نفسك، وهب لسائلك حلاوة نعمتك، واجعل ميلك إلى ذلك في الكرم حتى تشهد لك القلوب بحقائق الكرم، والألسن بنهاية الجود. فقال له أمير المؤمنين: قد جعلت لك إجابة سؤالي عني بما ترى فيهم، وأخذك بما يلزم لهم من غير استثمار و معاودة في إخراج الصكاك من حصر الأموال متناولا. وقال له يوما: يا أمير المؤمنين، اجعل نعمتك صيانة لوجوه خدمك عن إراقة مائها في غضاضة السؤال. فقال:

والله لا كان ذلك إلا كذلك.

ومن هذ الباب ما حكاه أبو وجرة الأسلمي لما قدم على المهلب بن أبي صفرة، فقال: أصلح الله الأمير، إني قطعت إليك أرض الدهناء، وضربت إليك آباط الإبل من يثرب، فقال: هل أتيتنا بوسيلة أو عشيرة أو قرابة؟ قال: لا، ولكني رأيتك لحاجتي أهلا فإن قمت به فأهل لذلك أنت، وإن يحل دونها حائل لم أذمم يومك، ولم أيأس من غدك.

قال المهلب: يعطى ما في بيت المال فوجد فيه مائة ألف درهم فدفعت إليه، فأخذها، وقال:

يا من على الجود صاغ الله راحته فليس يحسن غير البذل والجود

عمّت عطاياك من بالشرق قاطبة فأنت والجود منحوتان من عود


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!