الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


موعظة عبد الله العمري للرشيد بمكة

روينا من حديث ابن إسحاق، وهو محمد بن إسحاق بن عبد الرحمن البغوي، قال: سمعت سعيد بن سليمان، قال: كنت بمكة في زقاق الشطويّ وإلى جنبي عبد الله بن عبد العزيز العمري، وقد حج هارون الرشيد، فقال له إنسان: يا أبا عبد الله، هو ذا أمير المؤمنين يسعى وقد أخلي له المسعى، قال العمري للرجل: لا جزاك الله خيرا، كلفتني

أمر كنت عنه غنيا. ثم قام، فتبعته، فأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا، فصاح به: يا هارون. فلما نظر إليه قال: لبيك يا عمري، قال: ارق الصفا، فلما رقيه، قال: ارم بطرفك إلى البيت، قال: قد فعلت. قال: كم هم؟ قال: من يحصيهم؟ قال: فكم من الناس مثلهم؟ قال: خلق لا يحصيهم إلا الله. قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون؟ قال: فبكى هارون وجلس، و جعلوا يعطونه منديلا منديلا للدموع.

قال العمري: وأخرى أقولها، قال: قل يا عم. قال: والله إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين؟ ثم مضى وهارون يبكي.

قال سعيد بن سليمان البغوي: فبلغني أن هارون الرشيد كان يقول: إني لأحب أن أحج في كل سنة، ما يمنعني إلا رجل من ولد عمر، ثم يسمعني ما أكره. حدثني بهذه الحكاية يونس بن يحيى بمكة، قال: ثنا أبو بكر بن منصور، عن أبي إسحاق، عن إبراهيم بن سعيد الحبّاك، ثنا الحافظ، عن أبي العباس أحمد بن محمد بن الجراح، عن محمد بن جعفر بن زاذان، عن هارون بن عبد العزيز العباسي، ثنا محمد بن خلف بن حبان، عن محمد بن إسحاق بن عبد الرحمن البغوي.

وروين من حديث ابن ودعان، عن أبي الموفق محمد بن محمد بن الحسن النيسابوري، عن سلمة بن خلف، عن إبراهيم بن محمد، عن أحمد بن عبد الجبار العطار، عن وكيع بن الجراح، عن سليمان بن إبراهيم، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم، تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص كل يوم من عمرك وأنت تفرح، أنت فيم يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك، لا بقليل تقنع، ولا بكثير تشبع» .

وسمعن على قول الشريف الرضي في التوديع بالنفس:

أراك ستحدث للقلب وجدا إذا ما الركائب ودّعن نجدا

بواكر يطلعن وقت الغوير شئون النواظر نايا وبعد

كانا بنجد غداة الوداع نداوي عيونا من الدمع رمدا

وأيسر ما نال منا العليل أن لا يحس من الماء برد

أثاروا زفيرا يلف الضلوع لفّ الرياح أنابيب ملدا

فكل حرارات أنفاسه تدل على أن في القلب وقد

وأنى للشوق من بعدهم أراعي الجنوب مراحا ومغدا

و أفرح من نحو أوطانهم بغيث يجلل برقا ورعدا

إذا طلع الركب يممتهم أحيي الوجوه كهلا ومرد

وأسألهم عن عقيق الحمى وعن أرض نجد ومن حلّ نجدا

نشدتكم الله فلتخبرون بمن كان أقرب للرمل عهد

هل الدار بالجزع مأهولة آثار الربيع عليها وأسدى

وهل جلّل الغيث أخلافه على مخضر من زرود وبند

وهل أهله عن تنائي الديار يراعون عهدا ويرعون ودّا

وسمعنا على قول مهيار في التوديع بالنفس:

لو كنت تتلو غداة البين أخباري علمت أن ليس ما عيّرت بالعار

شوقي إلى وطن المحبوب جاذب أض‍ لاعي ودمعي جرى من فرقة الجار

ووقفة لم أكن فيها بأول من بان الخليط فداوى الوجد بالدار

ونمّ في البرق زفراتي فلو علمت عيناك من أين ذاك البارق الساري

طارت شراراته في جو كاظمة تحت الدجى بلباناتي وأوطاري

هل بالديار على لومي ومعذرتي دعوى تقام على وجدي وتذكاري

أم أنت تعدل فيما لا تريد به إلا مداواة حرّ النار بالنار

وسماعنا على قوله أيضا في ذلك بالنفس:

من بمنى و أين جيران منى كانت ثلاثا لا تكون أربعا

سلبتموني كبدا صحيحة أمس فردّوها عليّ قطع

عدمت صبري فجزعت بعدكم ثم ذهلت فعدمت الجزعا

فأرجعا لي ليلة بحاجر إن تمّ في الغائب أن يرتجع

وغفلة سرقتها من زمن بلعلع سقى الغمام لعلعا

ومن وقائع بعض الفقراء ما حدثنا عبد الله المروزي بمروز، قال: قال لي بعض الصالحين: رأيت في الواقعة أبا مدين وخلقا كثيرا من أهل التصوّف لم أعرف منهم إل أبا حامد الغزالي، وأبا طالب المكي، وأبا يزيد البسطامي، فقالوا لأبي مدين: زدن من الغذاء الباقي.

فقال: التوحيد هو الأصل وإليه الطريق، وهو القطب وعليه التخليق، وهو تاج العارفين و به سادوا وبأخلاقه تخلّقوا وله انقادوا، هو بهم برّ وصول، منه البداية وإليه الوصول، نور قلوبهم بالحكمة والإيمان، وشرح صدورهم فتخلّقوا بالقرآن، ففهموا

معانيه و بان لهم المراد. فدامت فكرتهم فيه فمنعهم السهاد، وما عرّجوا على أهل ول أولاد. ولم يشركوا بعبادة ربهم أحدا.

هو الضياء بمشكاة قلب العارف عنه ينطق وبه يكاشف، ولم يلتفت إلى ما سواه، ولم يدّخر سوى مولاه، وهو حياته ونشوره، وبه أشرقت شمسه ونوره، يمدّه بدقائق المعاني، فيميز بين الباقي منه والفاني، فيعبر عنه بمعاني روحانية، تقصر عن إدراكها الصفات البشرية، ويعيها من هو بالتوحيد حي ذو عيان 7 و يعجز عنها من رضي بنعيم الجنان. فالعارف لذّته ذكره مولاه، وهو كليته، والظاهر بعبادته، ومفصحه بالعلم، وهاديه لبيانه، أمدّ سره من سره، فأنطق لسانه بالحكمة، فجذب الخلق إليه، وهدى به الأمة، فكشف له الغطاء عن أسرار التوحيد، وتجلى لقلبه من هو أقرب إليه من حبل الوريد. فتألفت متفرقاته، ففني عن رسومه، وكاشفه به، و شرفه بعلومه، فاهتزت أرضه، ونبع ماؤه، فوسعه قلبه، وما وسعته أرضه، ولا سماؤه.

هكذا جاء في الخبر، عن سيد البشر، هو مأوى العارف، وهو الأمل. وقد صحّت له محبته في الأزل، فألبسه التقوى، وزيّنه بالتجريد، وأقامه للعيان، وأفناه في التوحيد.

سقاه شرابا رويّا، وغذّاه بلبان اللب، واتصل بالمحل الخالص من اللقاء والقرب.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!