الفتوحات المكية

الاصطلاحات الصوفية

ملخص من المعجم الصوفي من تأليف الدكتورة سعاد الحكيم

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


58. الانس

في اللغة:

“ الهمزة والنون والسين أصل واحد، وهو ظهور الشيء. وكل شيء خالف طريقة التوحش. .. والانس: انس الانسان بالشيء إذا لم يستوحش منه “

( معجم مقاييس اللغة - مادة “ انس “ ).

في القرآن:

لم ترد في القرآن آية تفيد الانس باللّه. وان كان القرآن يذهب في علاقة الانسان بخالقه إلى ابعد من الانس. إلى الحب.

حيث ورد في التنزيل قال تعالى :” يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ “[ 5 / 54 ] والحب يفترض الانس.

اذن، لقد بقي انس الانسان في القرآن بالانسان 1.

قال تعالى: ” لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا “2 ( 24 / 27 ).

عند الشيخ ابن العربي:

لقد وصلت كلمة “ الانس “ إلى الشيخ ابن العربي مشحونة، تكثّف في ابعادها رؤى من سبقه زمنيا في التصوف. ولذلك لا بد بما نعرفه عنه من طبيعة متفردة

خلّاقة، من أن يدخل هذه الكلمة في بوتقة أعماقه ويعيدها إلى الفكر الصوفي بثوب جديد شخصي.

اذن، لقد مرّت هذه الكلمة بعدة مراحل في فكر الحاتمي وسنحاول ان نتابعها بالترتيب:

لقد غلّط الشيخ الأكبر جماعة المتصوفة في تعريفاتهم للانس 3، وانساق مع نفيه لتعريفاتهم إلى نفي “ الانس باللّه “ جملة واحدة. ولكنه نفي آني سيستبدل به في المرحلة الثانية، كما سنرى انسا آخر جديدا.

يقول:

“. .. ان الانس عند القوم: ما تقع به المباسطة من الحق للعبد. .. والانس: حال القلب من تجلي الجمال. .. وهو غلط من جملة ما غلطوا فيه 4. .. وللانس باللّه علامة عند صاحبه 5 فإنه موضع يغلط فيه كثير من أهل الطريق فيجدون أنسا في حال. .. فيتخيل ان ذلك أنس باللّه، فإذا فقد ذلك الحال فقد الانس باللّه فعندنا وعند الجماعة ان انسه كان بذلك الحال لا باللّه، لان الانس باللّه إذا وقع لم يزل موجودا عنده في كل حال 6. .. “ ( ف 2 / 540 – 541).

“ فقال له [ اللّه ] انك [ العقاب - العقل الأول ] في ارض غربة، وان كنت مني في محل القربة، فاني لست من جنسك فلا بد من استيحاش نفسك، وفيك قرة عين فاظهرها في العين فتأنس بمجاورتها فان الانس بي محال 7 “.

(رسالة الاتحاد الكوني في حضرة الاشهاد العيني ق 144 ).

وهكذا ينساق الشيخ ابن العربي إلى نفي الانس باللّه عقلا 8، حجته في ذلك ان الانس يفترض المجانسة، وهذا محال بين اللّه والانسان. ولكنه. لا يستمر في نفيه ،

لأنه: ان كانت المجانسة مستحيلة بين اللّه والانسان، تبقى الفلسفات القائلة بالمناسبة. وغير خفي ان الشيخ ابن العربي يذهب مذهب هذه الفلسفات 9.

يقول:

“ وحقيقة الانس انما تكون بالمناسب، فمن يقول بالمناسبة يقول بالانس باللّه.

ومن يقول بارتفاع المناسبة يقول لا انس باللّه ولا وحشة منه “ ( ف 2 / 541 ).

بعد ما أغلق الشيخ ابن العربي باب الانس باللّه لعدم “ المجانسة “، عاد وفتحه من جديد “ بالمناسبة “. وصار نفيه محصورا بالاسم: اللّه.

من حيث إنه الاسم الجامع، الذي لا يصح ان يكون لاحد من الخلق حكم من حيثيته.

اذن، الانس باللّه: مقبول عقلا، من حيث اسم من أسمائه الحسنى، وليس من حيث الاسم الجامع 10.

يقول الشيخ ابن العربي:

“. .. انه لا يصح الانس باللّه عند المحققين، وانما يكون الانس باسم الهي خاص معين لا باسم اللّه، وهكذا جميع ما يكون من اللّه لعباده. لا يصح ان يكون من حكم اسم اللّه لأنه الاسم الجامع لحقائق الأسماء الإلهية، فلا يقع امر لشخص معين في الكون الا من اسم معين. .. “ ( ف 2 / 541 ).

بعد ما نفى الحاتمي الانس “ باللّه “ وحصره “ باسم من الأسماء الإلهية “، نجده هنا بوحي من وحدته الوجودية، ينظر إلى كل ظاهر بعينه الموحدة التي لا ترى فيه الا مجلى لذاك الأصل، وصورة من صور تجليه، بحيث يكون: “ كل موجود هو مجلى من مجالي اللّه تصبح هنا “ كل مأنوس به هو ذلك المجلى “.

اذن، كل انس بأي شيء هو في الواقع انس باللّه، لأنه انس بصورة من صور تجليه.

يقول:

“ فالعالم كله ذو انس باللّه، ولكن بعضه لا يشعر ان الانس الذي هو عليه هو باللّه لأنه لا بد ان يجد انسا بأمر ما بطريق الدوام، أو بطريق الانتقال بأنس يجده بأمر آخر وليس لغير اللّه في الأكوان حكم، فانسه لم يكن باللّه. وان كان ل يعلم. والذي ينظر فيه انه انس به فذلك صورة من صور تجليه، ولكن قد يعرف وقد ينكر فيستوحش العبد من عين ما انس به وهو لا يشعر لاختلاف الصور، فما فقد أحد الانس باللّه ولا استوحش أحد الا من اللّه. .. “ ( ف 2 / 541 ).

..........................................................................................

( 1 ) يشبه مضمون الفعل الفرنسي “Apprivoiser” كما يؤكده سانت اكسبري في قصته الشهيرة “ الأمير الصغير “.

( 2 ) راجع شرح الآية في لطائف الإشارات للقشيري ج 4 ص 277. دار الكاتب العربي.

القاهرة. تحقيق إبراهيم بسيوني.

( 3 ) أشار متصوفة القرون السابقة للشيخ ابن العربي إلى الانس بالعبارات التالية:

- ذو النون المصري: “ أدنى منازل الانس، ان يلقي في النار، فلا يغيب همه عن مأموله “ ( التعرف. ص 127 ) ( طبقات الصوفية - السلمي. ص 23 ).

“ الانس باللّه من صفاء القلب مع اللّه “ ( طبقات الأولياء ص 219 ).

- السري “ خمسة أشياء لا يسكن في القلب معها غيرها: الخوف من اللّه وحده ،

والانس باللّه وحده “ ( طبقات الصوفية ص 54 ).

“ من صبر على مخالفة نفسه أوصله اللّه إلى مقام انسه “ ( طبقات الأولياء ص 236 ).

- يحي بن معاذ:

“ إذا أحب القلب الخلوة أوصله حب الخلوة إلى الانس باللّه. ومن انس باللّه استوحش من غيره “ ( طبقات الأولياء، ص 323 ).

- الجنيد “ الانس: ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة “ ( التعرف ص 126 ).

- رويم “ الانس ان تستوحش مما سوى محبوبك “ ( طبقات الصوفية 184 ).

- سئل الشبلي عن الانس فقال: “ وحشتك منك ومن نفسك ومن الكون “

( اللمع ص 97 ).

كما قال أيضا: “ هو وحشتك منه “ ( التعرف ص 127 ).

- علي بن سهل الأصبهاني “ الانس باللّه ان تستوحش من الخلق، الا من أهل ولاية اللّه “. ( طبقات الصوفية. ص 235 ).

- أبو العباس بن عطاء الأدمي “. .. ومن تأدب بآداب الأنبياء فإنه يصلح لبساط الانس والانبساط “ ( طبقات الصوفية - ص 270 ).

- سئل أبو حمزة الخراساني عن الانس فقال: “ ضيق الصدر عن معاشرة الخلق “ ( طبقات الصوفية ص 326 ).

- اما الحلاج وقد سئل عن الانس فقال: “ هو فرح القلوب بالمحبوب، وقال أيضا:

الانس انبساط المحب إلى المحبوب ومعناه ما قال إبراهيم عليه السلام :” أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى “( 2 / 262 ) وقول موسى عليه السلام :” أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ “[ 7 / 140 ] وقال: الانس ان يستأنس بالأركان فيغيب عن رؤية الأعيان “ ( حكاية عن الكرمانيL. Tماسينيون. ص 98 - 99 ).

لقد أوردنا هذه الآراء على كثرتها بقصد بيان ان أقطاب الصوفية قد وضعت الانس باللّه في مقابل الانس بالناس. وجعلت بين هذين الحدين علاقة جدلية حيّة: بقدر ما يخلو القلب من الانس بالناس يدخل فيه الانس باللّه. فهما ضدان يقتسمان القلب. .. يتجاوران. ..

يتداخلان بشكل جدلي.

( 4 ) راجع اللمع ص 551 فصل بعنوان “ باب في ذكر من غلط في الانس والبسط وترك الخشية “.

( 5 ) انظر “ بينة اللّه “ وقارن مكانة “ العلامة “ فيها مع ما ورد في هذا النص.

( 6 ) الشيخ ابن العربي هنا يفارق ما ذهب اليه المتصوفة قبله: فهو ل يضع الانس باللّه في مقابل الانس بالناس وبالتالي لا يقيم علاقة جدلية حية بينهم كما فعل من سبقه. بل يجعل الانس باللّه كالعلم مثلا يكتسب إلى الأبد ولا يفقد في اي حال ومن ثم يظل مصاحبا للمتحقق به سواء كان في عزلة أو خلوة أو في ملأ.

( 7 ) يخاطب الحق في هذا النص “ العقل الأول “ منبها إلى استحالة الانس به لاختلاف الجنس ولا

يخفى ان هذا الخطاب رغم توجهه إلى شخص معين يخاطب الجنس البشري بأكمله، كحقيقة انسانية مباينة للحقيقة الإلهية، ممثلا في “ العقل الأول “ من حيث إنه أحد وجوه “ الانسان الكامل “. انظر “ العقل الأول “ “ الانسان الكامل “.

( 8 ) ان نفي الشيخ ابن العربي للانس باللّه نفيا عقليا منطقيا. يجدر مقارنته بنفي الانس الذي يراه أبو سعيد الخراز حالا مع اللّه يربو باهل الوجود عنه ( النص في الرسالة القشيرية ص 33 - 34 ) ونلمح إلى نقارب كلام الخراز من جواب أبي يزيد المشهور حين سئل: كيف أصبحت.

قال: لا صبح لي. ..

( 9 ) كيف لا يقول بالمناسبة، من يرى الانسان نسخة من جميع الحقائق الإلهية والكونية يقابلهما بذاته. انظر “ نسخة “ “ صورة “.

كما يراجع الرسالة التي اعددناها عن القونوي والتي قدمت إلى معهد الآداب الشرقية في جامعة القديس يوسف في بيروت ص ص 80 - 82. عنوان الفقرة “ ظروف الوصول، وأهمية المناسبة في فلسفة القونوي. .. “.

( 10 ) لا يتابع الشيخ ابن العربي ما يقرره من نفي الانس باللّه في كتاباته. بل نجده ينساق بعفوية مع تعبيرات الصوفية السابقين في استعمالهم للانس. أو ينسجم مع نظريته في وحدة الوجود التي تصبغ الانس بصبغتها كما سنرى في المرحلة الثالثة.

وسنورد نصين يقرر فيهما الشيخ الأكبر الانس باللّه.

“ فآثروا [ رجال من أهل الورع ] العزلة. .. فنفّس اللّه عنهم، من اسمه “ الرحمن “ بوجوه مختلفة من الانس به، وأعطاهم ذلك “ نفس الرحمن “ فاسمعهم أذكار الأحجار. ..

ومناطق الطير وتسبيح كل أمة من المخلوقات. .. فانس بهم من وحشته وعاد في جماعة وخلق “. ( فتوحات. السفر الرابع فقرة 310 ).

“ ومنهم [ رجال اللّه ] من ينفّس الرحمن عنه بأنس باللّه في باطنه، وتجليات دائمة معنويات.

فلا يزال في كل نفس، صاحب علم مجال جديد باللّه، وأنس جديد. ومنهم ينفس الرحمن عنه ذلك الضيق بمشاهدة عالم الخيال. .. “ ( فتوحات السفر الرابع فقرة 317 - 318 ).

راجع “ نفس الرحمن “ وخاصة في تعلقه بالتنفيس و “ عماء “

كما أنه في اصطلاحاته يعرّف الانس بعبارات تشابه في روحها تصوف من قبله. يقول:

“ الانس: اثر مشاهدة جمال الحضرة الإلهية في القلب وهو جمال الجلال “ ( الاصطلاحات ص 287 ).

***


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!