الفتوحات المكية

الاصطلاحات الصوفية

ملخص من المعجم الصوفي من تأليف الدكتورة سعاد الحكيم

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


101.  – التوبة

في اللغة:

“ التاء والواو والباء كلمة واحدة تدل على الرجوع. يقال: تاب من ذنبه، اي رجع عنه، يتوب إلى اللّه توبة ومتابا، فهو تائب. .. “

( معجم مقاييس اللغة مادة “ توب “ ).

في القرآن:

( ) ورد الفعل “ تاب “ في القرآن بمعناه اللغوي، مضافا إلى فاعلين: الحق من جهة، والانسان من جهة ثانية.

- وفي اضافته إلى الحق اتبع بالحرف “ على “ :” ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ “( 9 / 118 ).

- وفي اضافته إلى الخلق اتبع بالحرف “ إلى “ :” إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ “( 46 / 15 ).

( ب ) كما نلاحظ ان توبة العبد بين توبتين للحق: توبة ابتداء من الحق، وتوبة جزاء من الحق 1 .” ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا. .. “( 9 / 18 ).

انها توبة من الحق، منّ بها على عبده ابتداء من غير أن يستحقها بفعل .” إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ “( 2 / 160 ).

توبة الحق في هذه الآية جزاء توبة العبد وعمله الصالح.

( ج ) اما اسم الفاعل من التوبة. فقد ورد بصيغة مشددة: توّاب وهي كم يقول علماء النحو صيغة المبالغة. وقد اضافه التنزيل العزيز إلى الحق فقط. ولم يشر إلى الخلق الا بصيغة الجمع :” فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ “( 2 / 37 ) .” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ “( 2 / 222 ).

عند الشيخ ابن العربي 2:

* ناقش الشيخ الأكبر مقالات المتقدمين في التوبة، فاخذ منها ما وافق نظرته، وردّ بمنطق تعليلي ما ينافي حقائقه وفلسفته.

ثم في قفزة ثانية، تخطى كل المفاهيم الأولى في نظرتها الخلقية السلوكية، إلى نظرة انطولوجية في التوبة.

يقول الشيخ ابن العربي:

“ وحدّها [ التوبة ]: ترك الزلة في الحال. والندم على ما فات، والعزم على أنه لا يعود لما رجع عنه، ويفعل اللّه بعد ذلك ما يريد 3.

فأما ترك الزلة في الحال فلا بدّ منه، واما الركن الثاني وهو الندم 4 على ما فات: وهو عند الفقهاء الركن الأعظم. .. فالعارفون: آدميون 5، يسألون من ربهم ان يتوب عليهم.

وحظهم من التوبة: الاعتراف والسؤال لا غير ذلك. .. فان الرجوع إلى اللّه بطريق العهد وهو لا يعلم ما في علم اللّه، فيه خطر عظيم، فإنه ان كان قد بقي عليه شيء

من مخالفة فلا بدّ من نقض ذلك العهد، فينتظم في قوله” الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ “( 2 / 27 )، فلم ير أكمل معرفة من آدم عليه السلام حيث اعترف ودعا، وما عهد مع اللّه توبة عزم فيها انه لا يعود، كما يشترطه علماء الرسوم في حدّ التوبة. .. فان في العزم سوء أدب مع اللّه بكل وجه 6. .. “

( ف 2 / 139 - 142 ).

التوبة اذن هي اعتراف بالذنب وسؤال المعفرة دون عهد أو عزم بعدم العودة اليه 7.

ان “ التوبة “ تفترض “ الذنب “ الذي بدوره يفترض “ فعل العبد التائب “.

وهذا الافتراض يناقض مبادئ الشيخ ابن العربي في “ وحدة الفاعل “. فهو يرى أن الفاعل الحقيقي الوحيد لكل فعل في العالم هو: الحق 8.

اذن: التوبة ان لم تكن “ اشراكا “ يثبت فيه العبد فعله بجانب وجود الحق وفعله، فهي على الأقل تقاربه، ولذلك يعرّف التوبة بأنها: التبري من الحول والقوة بحول اللّه وقوته.

يقول الشيخ ابن العربي:

“. .. يوم التغابن [ يوم القيامة ] فيقول فاعل الشر: يا ليتني فعلت خيرا، ويقول فاعل الخير: يا ليتني زدت. والعارف لا يقول شيئا فإنه ما تغيّر عليه حال كما هو في الدنيا كذلك هو في الآخرة، اعني من شهوده ربه وتبرّيه من الملك والتصرف فيه، فلم يقم له عمل مضاف اليه يتحسر على ترك الزيادة منه وبذل الوسع فيه. .. فالتوبة المشروعة: هي التوبة من المخالفات، والتوبة الحقيقية: هي التبري من الحول والقوة بحول اللّه وقوته. .. “ ( ف 4 / 49 ).

يأخذ الشيخ ابن العربي التوبة بمعناها اللغوي اي الرجوع.

ولكنه ليس رجوعا من حال إلى حال كما يراها المتقدمون، مثلا: من حال المخالفة والمعصية إلى حال الطاعة. ..

بل رجوع بالوجود، فالعبد يرجع إلى الحق بوجوده: “ تاب إلى اللّه “ بمعنى “ رجع إلى اللّه “ في كل حال سواء كان مخالفة أو موافقة.

اذن، لم يربط الشيخ الأكبر التوبة بالذنب 9.

فالتوبة عنده رجوع بالوجود

إلى الحق في كل حال. وهذا حاصل في الكون سواء شعر به الشخص أم لم يشعر نظرا للقرب الإلهي. فالتائب هو من يشعر بهذا الرجوع الوجودي إلى الحق ولو كان في حال مخالفة.

يقول الشيخ ابن العربي:

“ اعلم، وفقك اللّه انه من كان صفته قال تعالى :” وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ “[ 57 / 4 ]

قال تعالى: “ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ “[ 41 / 54 ].

وقال تعالى :” لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى “[ 96 / 14 ]. ..

قال تعالى :” وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ “[ 50 / 16 ]

قال تعالى :” وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ ل تُبْصِرُونَ “[ 56 / 85 ]

فلا يتوب الا من لا يشعر ولا يبصر هذا القرب. .. ان اللّه يحب التّوابين اليه في كل حال من خلاف ووفاق. .. فلا تصح توبة فإنها رجوع، ولا يكون رجوع الا من مفارقة لأمر يرجع اليه، والحق على خلافه. .. “ ( ف 2 / 143 - 144 ).

“ التوبة امر لازم دائم الوجود “ ( ف 4 / 127 ).

..........................................................................................

( 1 ) وذلك حسب تعبير الشيخ الأكبر: توبة جزاء - توبة امتنان ( راجع منّة ).

( 2 ) ان مراجع “ التوبة “ قبل الشيخ ابن العربي لا تكاد تحصى، وذلك انها من المواضيع التي حظيت باهتمام الفقهاء وعلماء الكلام والمتصوفة.

فمن أراد الاستزادة من موضوعها فليراجع:

من الناحية الكلامية:

- غاية المرام في علم الكلام. الآمدي: فهرس المصطلحات والمسائل: التوبة ( تحديد معناها. وجوبها عقلا عند المعتزلة، وجوب قبولها على اللّه عندهم. .. ).

- كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل. ابن حزم. ج 4 ص ص 61 - 62.

- مذاهب الاسلاميين: عبد الرحمن بدوي ط. دار العلم للملايين بيروت ج 1 ص ص 376 - 379.

- الارشاد. الجويني ص ص 403 - 410 ،

- تأويلات أهل السنة لأبي منصور الماتريدي تحقيق إبراهيم عوضين القاهرة 1971 م. ج 1 ص ص 128 - 130.

من الناحية الصوفية:

- لطائف الاعلام. مادة توبة: التوبة من التوبة، توبة التحقيق، التوبة المحمدية، التوبة الخاصة لمحمد صلى اللّه عليه وسلم، التوبة من الزهد، التوبة من الطاعة، التوبة من التوكل.

- تنبيه الغافلين - السمرقندي. المطبعة الشرقية 1322 ه. ص ص 35 - 39 ،

- طبقات الصوفية. السلمي كشاف المصطلحات الصوفية مادة “ توبة “ ،

- طبقات الأولياء. ابن الملقن. كشاف اصطلاحات الصوفية. مادة “ توبة “.

- الرعاية لحقوق اللّه. المحاسبي. دار الكتب الحديثة. تحقيق عبد القادر احمد عطا.

الطبعة الثالثة، 1970 م. ص ص 68 - 71 وص ص 81 - 83 ،

- كتاب مختصر في التوبة. القشيري نشر الدكتور قاسم السامرائي. مجلة المجمع العلمي العراقي. المجلد السابع عشر 1969 م. ص ص 278 - 284. ويقع الكتاب في سبعة فصول.

- الرسالة القشيرية. ص 45.

- الغزالي: روضة الطالبين ص 118. منهاج العابدين. ص 10 - احياء علوم الدين المكتبة التجارية الكبرى. مصر - الجزء الرابع كتاب التوبة ص ص 2 - 60 ،

- قوت القلوب. لأبي طالب المكي. مطبعة البابي الحلبي 1961 م. “ فصل ذكر فروض التوبة وشرح فضائلها “ ص ص 364 - 394 ،

- اللمع الطوسي. ص ص 68 - 69، بعنوان “ باب مقام التوبة “.

- عوارف المعارف. السهروردي. الباب الستون “ قولهم في التوبة “ ص ص 487 - 488.

- مجلة المشرق - بيروت 1967. كتاب كشف الغايات للشيخ الشيخ ابن العربي ص ص 484 - 485 بعنوان “ ( شرح ) تجلي المعاملة “.

كما يراجع:

ماسينيون :Passion: Table des termes Techniques art: Tawbah-Essai P. 266-

( 3 ) يشير الشيخ ابن العربي هنا إلى أن فعل العبد تابع لإرادة الحق وليس لإرادته هو مهما ندم وعزم على الا يعود إلى الذنب.

( 4 ) لعل من اغرب ما ذهب اليه الشيخ ابن العربي مما يخيف الفقهاء، ويدعو المؤمن العادي إلى التوقف، كلامه في: الندم على ما فات من فعل الكبائر. يقول في توسيع الركن الثاني من أركان التوبة:

“. .. فمنهم [ من أصحابنا ( الشيخ ابن العربي ) ] من يندم على ما فاته من الاستغفار عقب كل ذنب، ومنهم من يرى الندم على ما فاته من الوقت، ومن الناس من يرى الندم على ما فاته من الطاعة في وقت المخالفة، ومن الناس من يرى الندم على م فاته من فعل الكبائر في وقت المخالفة لأنه يشاهد التبديل كل سيئة بما يوازيها من الحسنات. .. فالحسنة كشخص جميل في غاية الجمال لا بزة عليه، وشخص جميل مثله في غاية الجمال [ - السيئة ] طرأ عليه وسخ من غبار فنظف من ذلك الوسخ العارض، فبان جماله ثم اكتسى بزة حسنة فاخرة تضاعف بها جماله وحسنه ففاق الأول حسنا. .. “ ( ف 2 / 140 - 141 ).

( 5 ) العارف في توبته ينتسب إلى أبيه “ آدم “ الذي اعترف بذنبه وسأل ربه المغفرة دون عهد أو عزم بعدم العودة إلى الفعل.

( 6 ) يقول الشيخ ابن العربي:

“ التوبة: أول منزل من منازل السالكين وأول مقام من مقامات الطالبين، وحقيقة التوبة في اللغة الرجوع والمراد في الشرع الرجوع عما لا يرضاه اللّه تعالى.

وللتوبة ثلاث شرايط:

الندامة على ما عمل من المعاصي، وترك الذلة في الحال والعزم الّا يعود إليها ابدا. فمن تاب ثم اتفق نقض توبته، ثم تاب فقبلت توبته ثانيا وثالثا إلى غير نهاية ما دامت لتوبته الشروط الثلاثة المذكورة “ ( كتاب الارشاد. مخطوط الأحمدية. حلب. رقم 797 ورقة 150 ب ).

يقرر الشيخ ابن العربي في هذا النص الشرط الثالث للتوبة الذي كان قد استبعده لما يحويه من سوء أدب مع الحق، ولعل السبب في ذلك أنه هنا لا يناقش حد التوبة وشروطها بقدر اهتمامه بشرح اسم “ التواب “ في نسبته إلى العبد والمعبود: ففعل التوبة من العبد فعلا متكررا مستمرا إلى ما لا نهاية يقابله قبول التوبة من الحق قبولا متكررا مستمرا.

( 7 ) ان العودة إلى الذنب لا تتفق ونظرة الشيخ ابن العربي بالخلق الجديد. فالانسان لا يعود إلى الذنب بل يعود إلى مثله ( انظر الفتوحات ج 2 ص 142 ).

( 8 ) نلاحظ ان الشيخ ابن العربي يظل منسجما مع نظرته الوجودية إلى الكون بل أكثر من ذلك، نراه يدخل كل التقسيمات المعتمدة في الفكر الانساني ( الاخلاق أو الخير - والجمال. .. ) في بوتقتها ملغيا بذلك صفاتها الذاتية المميزة. فكل مضمون يمت إلى الخير أو الجمال بصلة يتحول إلى مفهوم وجودي لا علاقة له بالقوانين الخلقية المتوارثة.

ولو كنا هنا في مجال دراسة نظريات الشيخ الأكبر لبينا ما يتضمنه موقفه هذا من تشابه عميق وغريب مع موقف الفلاسفة الوجوديين المعاصرين (Les existentialistes).

( 9 ) قال الشيخ ابن العربي في الرسالة الغوثية. مخطوط الظاهرية، رقم 6824 ورقة 80 ب “ قلت:

[ يا رب ] أي توبة أفضل عندك، قال: توبة المعصومين. .. “.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!