الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


232. الموقف الثاني و الثلاثون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[المائدة: 5/ 54].

هذه محبة مخصوصة منه تعالى لهؤلاء القوم، كما أن محبتهم له تعالى ـ مخصوصة، ولمحبته لهم ومحبتهم له آثار مخصوصة، وثمرات منصوصة، وإلاَّ فالحق تعالى يحب جميع مخلوقاته، كما أن جميع مخلوقاته يحبونه. وذلك أنَّ الميل والحركة، معنوية أو محسوسة في كل ما تحرك لا تكون إلاَّ لمحبوب. فهو تعالى م مال إلى إيجاد شيء، وتحرك الحركة الإرادية المعنوية إلاَّ محبّة في ذلك الشيء. كم أن كل مخلوق يحبُّ المحسن إليه، ولا محسن إلاَّ هو تعالى ، فهو يحبُّ الله تعالى ـ، وإن لم يشعر ويسمّي محبّاً لله في نفس الأمر. و أمَّا بغضه تعالى لبعض الخصوص،  كقوله: ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾[البقرة: 2/ 276]. ﴿لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾[آل عمران: 3/ 32].﴿ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾[البقرة: 2/190]. ﴿ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 6/141] و﴿ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾[الأعراف: 7/ 31].

فذلك بغض مخصوص، لأهل صفات مخصوصة. فهو في مقابلة محبته تعالى لأهل صفات مخصوصة، كقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾[البقرة: 2/ 222]. ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 2/ 195]. ﴿َاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 3/ 134]. ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 3/ 146].

ونحو ذلك. فهذه محبّة مخصوصة منه تعالى لهم، جزاء محبته منهم له تعالى مخصوصة. فإنه تعالى جعل الأمر تارة منه إلينا، وتارة منّا إليه، كما قال: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[التوبة: 9/ 118].

وقال: ﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[المائدة: 5/ 54].

وقال فيما منا إليه: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾[البقرة: 2/ 40].

وقال: ﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ﴾[محمد: 47/ 7].

فتارة تكون البداية منه والجزاء منّا، وتارة تكون البداءة منّا والجزاء منه. ولكل من المحبتين ثمرة، أعني محبّة الخواص له، ومحبته للخواص. فثمرة محبتهم له القيام بمطالبه تعالى سواء كان الطلب جازماً أو غير جازم، والكفُّ عن نواهيه سواء كان طلب الكف طلباً جازماً أو غير جازم، وثمرة محبته تعالى لهم أن يكشف لهم عنهم، فلا يجدون غيراً ولا سوى لهم، كما ورد في الخبر:

((فإذا أحببته كنته)). وفي رواية: ((كنت سمعه وجميع قواه)) الحديث.

دنا فتدلّى رب عبد وعبده

فلما التقينا لم يكن غير واحد

وحينئذٍ تتضاعف محبّتهم وتتزايد تقرُّباتهم:

وأبرح ما يكون الشوق يوماً

 

إذا دنت الديار من الديار

قال إمام المحبين وسيد المحبوبين: ((وجعلت قرّة عيني في الصلاة)).


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!