الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


187. الموقف السابع والثمانون بعد المائة

ورد في الخبر الرباني، قال الله تعالى : ((ما وَسِعني أرضي ول سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن الهّين الورع)).

هذا الخبر طعن فيه حفاظ الحديث، وقالوا: لا أصل له. ومع هذ فسادات القوم ومحقّقوهم رضوان الله عليهم ذكروه في كتبهم، وجعلوه أصلاً لكثير من مسائل مواجيدهم. فأقول، ياء المتكلم في قوله"ما وسعني" كناية عن الذات المطلق، وهو الشيء الذي تستند إليه الأسماء والصفات،  نفى تعالى عن الأرض و السماء وسعهما إياه، أي إطاقتهما. فهما لا يطيقان التجلّي بجميع الأسماء الإلهية، وأخبر أن عبده المؤمن وسعه، وأطاق تجلّيه بجميع الأسماء بل أطاق، تجليه المطلق، والمراد بالمؤمن المؤنم الكامل، "فأل" فيه للكمال وليس إلاَّ الإنسان الحقيقي، فهو الذي وسع الحق لحصوله على رتبة الإطلاق عن الصفات والنعوت، وأعني بالإطلاق هو أن لا يكون مغلوباً لاسم، ولا مقهوراً تحت حكم صفة، بل له الظهور بجميع الأسماء، في الآن الواحد، كما هو ثابت لمن هو مظهره، لأنه عين الكلّ، والكّل هو، قيل لأبي يزيد: كيف أصبحت؟ فقال: كيف سؤال عن الصفة، وأنا لا صفة لي؟ فلا مساء لي ولا صباح. وهذا الذي ذكرناه في معنى هذا الحديث الربّاني هو أن القلب الذي وسع الحق، هو قلب مخصوص، ل مطلق القلب المؤمن، هو الذي ورد به الوارد علينا، وأعطاه لنا كشفا ً، وإن قال الإمامان الكبيران قدوة العارفين محي الدين الحاتمي، وعبد الكريم الجيلي رضي الله عنهما بخلافه بادئ الرأي، ولنذكر كلامهما.

قال سيد المحققين محيي الدين،  في آخر الفص المحمدي هو الفصوص: «إله المعتقدات تأخذه الحدود و هو الإله الذي وسعه قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء، لأنه عين الأشياء، وعين نفسه. والشيء لا يقال فيه يسع نفسه "أ هـ، يريد أنّ من ربط قلبه، واعتقد في إلهه أنه كذا ولا يكون كذا؛ فإلهه محدود محصور، لأن الاعتقاد مأخوذ من العقد والربط، فكما أن المعتقد مربوط باعتقاده؛ فكذلك المعتقد فيه مربوط بحسب اعتقاد المعتقد، وهذا حال عامة المخلوقات، لأنهم ما عرفوا من الإله إلاَّ م تجلّى لهم به من الأسماء، وما تجلّى بجميع الأسماء إلاَّ للخليفة من بني آدم، وهو الذي حمل الأمانة التي ما حملتها السموات والأرض، وهو الذي وسع الحق تعالى قلبه. قوله، وهو الذي وسعه قلب عبده، يعني إله المعتقدات، هو الذي ورد في الخبر: ((ما وسعني أرضي ولا سمائي)).

وهذا مشكل ، فإنه لو كان الإله المذكور في الخبر هو إله المعتقدات المحصور المحدود، لوسعته الأرض والسماء، فإنهما لهما عقيدة، بحسب التجلّي الحاصل، كسائر المخلوقات، ولكان يقال في قلب المنّزه فقط، وفي كلّ من لم يحصل له التجلّي بجميع الأسماء الإلهية، ولم يصل إلى الإطلاق الذاتي، إنه وسع الحق.

وقوله: مع أن من لم يصل إلى مرتبة الكمال لم يسع إلاَّ بعض أسماء الإله الحق. وقوله: فإن الإله المطلق لا يسعه شيء، لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه أنه يسع نفسه.

جوابه: أنه لما كان قلب العارف الكامل المحقق ا لواصل، يصير عين م عرفه، وعين ما حقّقه، مع بقاء التمييز، إله ومألوه، رب وعبد، جاء في الخبر التعبير بالوسع مع هذا، فقد قال (رضي الله عنه) في الباب الثالث والستين وأربعمائة، عند الكلام على القطب السابع: "حال هذا القطب العظمة، بحيث أنه يرى أن العالم ل يسعه، لأن ذوقه كونه وسع الحق قلبه، وقد ورد في الخبر: «أن الحق يقول: ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن. وما كل قلب يسع الحق أ . هـ.»

فهذا تصريح منه: بأنه إنما يسع الحق بعض القلوب، وهي قلوب الكمّل، الذين إلههم مطلق من الاعتقاد والربط، فلا يحكمون عليه بحكم، ولا ينكرونه في أي شيء تجلّى وهو الذي قدمنّاه عن واردنا.

وقال الشيخ عبد الكريم الجيلي، في "لوامع البرق الموهن" في معنى: ((ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن)).

الباب الثامن: في ذكر مَجْلَى الكمال المطلق للوجود الحق في القلب، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حاكياً عن ربّه ما وسعني الخ: "اختلفت العلماء في هذا الوسع. فالجمهور أنه وسع الإيمان والعلم، و المحققون ذهبوا إلى أنه وسع حقيقي من غير حلول ولا تكييف، فقد علمت أيّدك الله بالفهم أنَّ العبد المؤمن بالله لابدّ له من العلم بأن إلهه موجود. واجب الوجود لذاته، غير مستند إلى غيره، وله من الكمال ما تقتضيه الصفات الإلهية، كما أخبر عن نفسه وأخبر عنه الصادق المصدّق، واقتضاه العقل بالدليل للوا جب بالذات، ولاشك أن هذا العلم موجود لك في قلبك، إذ لا خلاف: أن معلوم هذا العلم متصور في علمك، ثم أنه ليس له ثان، فيكون الموجود في علمك مغايراً للواجب هذا محال. فتعيّن: أن الموجود في علمك هو عين الواجب بالذات، بأسمائه وصفاته، وهو بعينه الموجود في علم غيرك، ولا يطعن ذلك في أحدّيته أ هـ".

ومع هذا فإن قوله: الكمال المطلق الموجود الحق من القلب يميل إلى قولنا. فإن أكثر القلوب ليس عندها الكمال المطلق، الذي هو للحق في نفس الأمر، وإنم عندها الكمال المقيّد بما اعتقدته كمالاً لا غير، وكذا قوله أوّل الكتاب: "فه ذا كتاب أذكر فيه بعض الحضرات القدسيّة التي اتسعت لها القلوب المحمدية، حيث التحقت به في المكانة الصديقية بعروجها في أثره، مستمسكة بما علمته من خبره "فهذا تصريح ، بأنه ما وسع الحق إلاَّ القلوب المحمّدية، لا جميع القلوب.

وعند كتابة هذا المحل، ورد الوارد بالتعريف الإلهي، مبيّناً لمراد هذين الإمامين، في قولهما بعموم الوسع لجميع قلوب المؤمنين، والحمد لله رب العالميّن.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!