الفتوحات المكية

في معرفة النفس بفتح الفاء

وهو الباب 198 من الفتوحات المكية

[أن التسخير قد يكون إذلالا وقد يكون للقيام بما يحتاج إليه ذلك المسخر له بالحال‏]

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[62] - [أن التسخير قد يكون إذلالا وقد يكون للقيام بما يحتاج إليه ذلك المسخر له بالحال‏]

فاعلم أن التسخير قد يكون إذلالا وقد يكون للقيام بما يحتاج إليه ذلك المسخر له بالحال وهذا الفرقان بين التسخيرين بما تعطيه حقيقة المسخر والمسخر له فالعبد الذي هو الإنسان مسخر لفرسه ودابته فينظر منها في سقيها وعلفها وتفقد أحوالها مما فيه صلاحها وصحتها وحياتها وهي مسخرة له بطريق الإذلال لحمل أثقاله وركوبه واستخدامه إياها في مصالحه وهكذا في النوع الإنساني برفع الدرجات بينهم فبالدرجة يسخر بعضهم بعضا فتقتضي درجة الملك أن يسخر رعيته فيما يريده بطريق الإذلال للقيام بمصالحه لافتقاره إلى ذلك وتقتضي درجة الرعايا والسوقة أن تسخر الملك في حفظها والذب عنها وقتال عدوها والحكم فيما يقع بينها من المخاصمات وطلب الحقوق فهذه سخرية قيام لا سخرية إذلال اقتضتها درجة السوقة ودرجة الملك والمذل من الأسماء هو الحاكم في الطرفين ثم يأتي الكشف في هذه المسألة بأمر عجيب ينطق به القرآن ويشهده العيان فقال وهُوَ الله في السَّماواتِ وفي الْأَرْضِ وقال وسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ وقال لقمان لابنه يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّماواتِ أَوْ في الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله فإنه في الأرض وهو في السماء وهو في الصخرة ومعنا أينما كنا فإن الخالق لا يفارق المخلوق والمذل لا يفارق الإذلال إذ لو فارقه لفارقه هذا الوصف وزال ذلك الاسم وقال تعالى وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي يتذللوا إلي ولا يتذللون إلي إلا حتى يعرفوا مكانتي وعزتي فخلقهم باسم المذل لأنه خلقهم لعبادته ووصف نفسه بأنه القيوم القائم عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وقال ولا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما فوصف نفسه بأنه يحفظ ما في السموات وما في الأرض فبالدرجة يكون حافظا لما يطلبه العالم من حفظ الوجود عليه وبالدرجة يكون العالم محفوظا له فإذا علمت أن السيد يسخر عبده بالدرجة والعبد يسخر سيده بالحال وما يفعل ذلك السيد للعبد بطريق الجبر من العبد والإذلال وإنما يفعله لثبوت سيادته عليه فما سخره للعبد إلا حظ نفسه أ لا ترى أنه يزول عن السيد اسم السيد إذا باع عبده أو هلك فانظر في حكم هذا الاسم ما أعجبه وإنما اختص بالحيوان لظهور حكم القصد فيه ولأنه مستعد للاباية لما هو عليه من الإرادة فلما توجه عليه الاسم المذل صار حكمه تحت حكم من لا إرادة له ولا قدرة لما

تعطي هاتان الصفتان من العزة لمن قامتا به فأصحب الله من شاء صفة الافتقار والفاقة والحاجة فذل لكل ذلول يرى أن له عنده حاجة يفتقر إليه فيها وينحط عن رتبة عزه بسببها فربط الله الوجود على هذا وكان به صلاح العالم فليس في الأسماء من أعطى الصلاح العام في العالم ولا من له حكم في الحضرة الإلهية مثل هذا الاسم المذل فهو ساري الحكم دائما في الدنيا والآخرة فمن أقامه الحق من العارفين في مشاهدته وتجلى له فيه ومنه فلا يكون في عباد الله أسعد منه بالله ولا أعلم منه بأسرار الله على الكشف وهذا القدر من الإيماء في هذا الفصل كاف في علم التسخير الإلهي والكوني فإنه ألحق السيد بالعبيد وألحق العبيد بالسيد والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!