في معرفة النفس بفتح الفاء
وهو الباب 198 من الفتوحات المكية
[أن الله تعالى جعل هذه الأرض كالجسم الواحد]
![]() |
![]() |
[51] - [أن الله تعالى جعل هذه الأرض كالجسم الواحد]
واعلم أن الله تعالى قد جعل هذه الأرض بعد ما كانت رتقا كالجسم الواحد كما كانت السماء ففتق رتقها وجعلها سبعة أطباق كما فعل بالسموات وجعل لكل أرض استعداد انفعال لأثر حركة فلك من أفلاك السموات وشعاع كوكبها فالأرض الأولى وهي التي نحن عليها للفلك الأول من هناك ثم تنزل إلى أن تنتهي إلى الأرض السابعة والسماء الدنيا ولذلك
قال عليه السلام فيمن غصب شبرا من الأرض طوقه الله به من سبع أرضين
لأنه إذا غصب شيئا من الأرض كان ما تحت ذلك المغصوب مغصوبا إلى منتهى الأرض ولو لم تكن طباقا بعضها فوق بعض لبطل معقول هذا الخبر وكذلك الخبر الوارد في سجود العبد على الأرض طهر الله بسجدته إلى سبع أرضين وقال تعالى أَنَّ السَّماواتِ والْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً أي كل واحدة منهما مرتوقة ثم قال فَفَتَقْناهُما يعني فصل بعضها من بعض حتى تميزت كل واحدة عن صاحبتها كما قال خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ومن الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ الظاهر يريد طباقا ثم قال يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي بين السموات والأرض ولو كانت أرضا واحدة لقال بينهما هذا هو الظاهر وهو الذي يعطيه الكشف والأمر النازل بينهن هذا الأمر الإلهي الذي يكون بين السماء الدنيا والأرض التي نحن عليها ينزل من السماء ثم يطلب أرضه وهو قوله وأَوْحى في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فذلك الأمر هو الذي ينزل إلى أرضه بما أوحى الله فيه على عامر تلك الأرض من الصور والأرواح وجعل هذه الأرض سبعة أقاليم واصطفى من عباده المؤمنين سبعة سماهم الأبدال لكل بدل إقليم يمسك الله وجود ذلك الإقليم به فالإقليم الأول ينزل الأمر إليه من السماء الأولى من هناك وتنظر إليه روحانية كوكبه والبدل الذي يحفظه على قلب الخليل عليه السلام والإقليم الثاني ينزل الأمر إليه من السماء الثانية وتنظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب موسى عليه السلام والإقليم الثالث ينزل إليه الأمر الإلهي من السماء الثالثة وتنظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب هارون ويحيى عليهما السلام بتأييد محمد عليه الصلاة والسلام والإقليم الرابع ينزل الأمر إليه من قلب الأفلاك كلها وتنظر إليه روحانية كوكبها الأعظم والبدل الذي يحفظه على قدم إدريس عليه السلام وهو القطب الذي لم يمت إلى الآن والأقطاب فينا نوابه والإقليم الخامس ينزل إليه الأمر من السماء الخامسة وتنظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظ الله به ذلك الإقليم على قلب يوسف عليه السلام ويؤيده محمد صلى الله عليه وسلم والإقليم السادس ينزل الأمر إليه من السماء السادسة وتنظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب عيسى روح الله ويحيى عليهما السلام والإقليم السابع ينزل الأمر إليه من السماء الدنيا وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب آدم عليه السلام واجتمعت بهؤلاء الأبدال السبعة بحرم مكة خلف حطيم الحنابلة وجدتهم يركعون هناك فسلمت عليهم وسلموا علينا وتحدثت معهم
فما رأيت فيما رأيت أحسن سمتا منهم ولا أكثر شغلا منهم بالله ما رأيت مثلهم إلا سقيط الرفرف ابن ساقط العرش بقونية وكان فارسيا
(وصل)
واعلم أن الفرق الذي بين مزاج العنصر الواحد وامتزاجه بعضه ببعضه أو امتزاجه بعنصر آخر كامتزاج الماء بالتراب فيحدث اسم الطين فما هو تراب وما هو ماء والامتزاج في العنصر الواحد كالنيل والإسفيداج إذا مزجا بالسحق واختلطت أجزاؤهما وامتزجت امتزاجا لا يمكن الفصل بينهما يحدث بينهما لون آخر ما هو لواحد منهما ويحدث لهذا الامتزاج حكم في آخر الأفعال الطبيعية وكالماء العذب والماء الملح إذا امتزجا حدث بينهما طعم آخر ما هو ملح ولا عذب فهذا ما أعطاه الامتزاج في العنصر الواحد وكذلك الماء بما هو بارد إذا أعطت النار فيه التسخين بحيث أن لا تبقيه باردا ولا تبلغ به درجتها في السخانة فيكون فاترا حارا ولا باردا فهذا امتزاج لا يشبه امتزاج العنصر بعضه في بعضه ولا امتزاج العنصرين وأما المزاج فهو ما كان به وجود عين العنصر وهو المسمى بالطبع فيقال طبع الماء أو مزاج الماء أن يكون باردا رطبا والنار حارة يابسة والهواء حارا رطبا والتراب باردا يابسا فما ظهرت أعيان هذه الأركان إلا بهذا المزاج الطبيعي فكل مزاج طبيعي وليس الامتزاج كذلك فبالامتزاج الذي ذكرناه في عنصر الماء نعلم قطعا إن أجزاء الماء الملح مجاورة أجزاء الماء العذب وأجزاء النيل مجاورة أجزاء الإسفيداج مجاورة بالعقل لا يدركها الحس ولا يفصلها ولكن في الامتزاج يحدث للطبيعة حكم في هذه الصور الظاهرة من الامتزاج كتركيب الأدوية فكل عقار فيه له نفع على حدة ثم إذا مزج الكل كان بهذه المثابة وكان للطبيعة في المجموع حكم ولا بد فإذا جعل الكل في إناء واحد وصب على الجميع ماء واحد أعطى كل عقار في كل جوهر من ذلك الماء قوة فيكون في الجوهر الواحد من الماء قوة كل واحد من العقاقير ما لم تتضاد القوي فهذا وإن كان امتزاجا فما هو مثل ذلك الامتزاج ولا بلغ حكمه حكم المزاج فهذه حالة معقولة بين المزاج وبين الامتزاج لا يقال فيه مزاج ولا امتزاج وكذلك الأرض وإن كانت سبعة طباق فقد يعسر في الحس الفصل بينهن مع علمنا بأن كل واحدة منهن لا تكون بحيث الأخرى كما لا يكون الجوهر بحيث جوهر آخر وعرضه يكون بحيث موضوعة وحامله فهكذا يكون كون الأشياء وفسادها وما يلحقها من التغيير انتهى الجزء الثالث والعشرون ومائة
( (بسم الله الرحمن الرحيم))
(وصل)
وأما ما يلحق الأجسام العنصرية من لواحق الطبيعة في الأجسام فكثير فمن ذلك حركة العنصر وسكونه هل هو مخالف لحركة الفلك وسكونه لو فرض سكونه أو هل سكونه كسكون السماء الذي لا يقول به إلا أهل هذا الشأن منا فأما حركة الفلك وهو من الأجسام الطبيعية فإنه يتحرك بمحرك ليس هو وهكذا كل متحرك في العالم وساكن ما هو متحرك لذاته ولا ساكن لذاته بل بمحرك ومسكن وذلك المحرك له لا بد أن يكون محركا له بذاته أو محركا له بما هو يريد تحريكه فأما من يرى أن محركه يحركه لذاته فهو القائل بخلق الحركة في الجسم والحركة تعطي لذاتها فيمن قامت به التحرك فهي محركة المتحرك لذاتها والسكون مثل ذلك وإن كان المحرك بما هو يريد تحريكه فقد يحركه بواسطة وبغير واسطة أي بواسطة لا تتصف بأنها مريدة لتحريكه ولو كانت ذا إرادة كالمجبور فيمن كان ذا إرادة أو تحريك الغصن بتحريك الريح التي تحدثه حركة المروحة من حركة يد الذي يروحه بها وبغير واسطة كإنسان هز عصا في يده فاضطربت أو يكون المتحرك هو المتحرك بالإرادة في ذاته كتحرك الإنسان في الجهات التحرك الإرادي فالفلك عندنا متحرك تحرك الإنسان في الجهات لأنه يعقل ويكلف ويؤمر كما
قال عليه السلام في ناقته إنها مأمورة
وقال عليه السلام في الشمس إنها تستأذن في الطلوع وحينئذ تطلع فيؤذن لها فإذا جاء وقت طلوعها من مغربها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مغربها فذلك حين لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها
فالفلك متحرك بالإرادة ليعطي ما في سمائه من الأمر الإلهي الذي يحدث أشياء في الأركان والمولدات وبتلك الحركات الفلكية يظهر الزمان فالزمان لا يحكم
في مظهره وإنما يحكم فيما دونه فلا حكم للزمان في حركات الفلك لأنه المظهر عينه وللحوادث الظاهرة والطارئة في الأفلاك والسموات والعالم العلوي أسباب غير الزمان وحركات الفلك مرتبة متتالية الأجزاء على طريقة واحدة كتحرك الرحى فكل جزء لا يفارق مجاوره وحركة الأركان ليست كذلك فإن حركة العنصر متداخلة بعضها في بعض يزول كل جزء عن الجزء الذي كان يجاوره ويعمر أحيازا غير أحيازه التي كان فيها فأسباب حركة العنصر تخالف أسباب حركة الفلك لأن حركة الفلك ما تعرف سوى ما تعطيه في الأركان من التحريك وشعاعات كواكبها بما أودع الله فيها من العقل والروح والعلم تعطي في أشخاص كل نوع من المولدات على التعيين من معدن ونبات وحيوان وجن وملك مخلوق من عمل أو نفس بقول من تسبيح وذكر أو تلاوة وذلك لعلمها بما أودع الله لديها وهو قوله تعالى وأَوْحى في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فمن لا كشف له يرى أن ذلك كله الكائن عن سريانها إنها مسخرات في حركاتها لإيجاد هذه الأمور كتحريك الصانع للآلات لإيجاد صورة ما يريد إيجادها كالصورة في الخشب وغيره ولا تعرف الآلات شيئا من ذلك ولا ما صدر عنها وإن كانت تلك الصور لا تظهر إلا بهذه الآلات هكذا يزعم من يذهب إلى غير ما ذهبنا إليه وذهب إليه أهل الله من أهل الكشف والوجود ونحن نقول إن آلة النجار ربما تعلم أكثر مما يعلم الصانع بها فإنها حية ناطقة عالمة بخالقها مسبحة بحمد ربها عالمة بما خلقت له عند أهل الكشف فإن المكاشف إذا كشف الله عن بصره وسمعه تناديه أشجار الأرض ونجمها بمنافعها ومضارها كما
قالت الأحجار لداود عليه السلام يقول كل حجر يا داود خذني فأنا أقتل جالوت وقال له الحجر الآخر خذني فإني أجعل الكسرة في ميمنة عسكره فقد علم كل حجر ما خلق له فأخذ داود تلك الأحجار فوقع الأمر كما ذكرت
ولما لم يبلغ بعض الناس هذه الدرجة ولا طولع بها أنكرها ولم يكن ينبغي له ذلك فما من متحرك في العالم إلا وهو عالم بما إليه يتحرك إلا الثقلين فقد يجهلون ما يتحركون إليه بل يجهلون إلا من شاء الله من أهل الكشف من مريد وغيره قال الله للسماء والأرض ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وإتيان الأرض حركة وانتقال لما دعيت إليه فجاءت طائعة فكل جزء في الكون عالم بما يراد منه فهو على بصيرة حتى أجزاء بدن الإنسان فما يجهل منه إلا لطيفته المكلفة الموكلة إلى استعمال فكرها أو تنظر بنور الايمان حتى يظهر ذلك النور على بصرها فيكشف ما كان خبرا عندها فإذا كانت حركة العنصر تخالف حركة الفلك بالتداخل وبما يطرأ عليها من السكون في بعض أجزاء العنصر لا في كله فنعلم قطعا إن حكم الحركة في العنصر يخالف حكم حركة الفلك فحكم حركة العنصر أي عنصر كان فإن كان بين عنصرين كالهواء والماء أو لا يكون بين عنصرين كالنار والأرض فحركة الهواء العنصري يظهر فيه من الأثر بحسب ما يباشر منه ما فوقه وما تحته وكذلك عنصر الماء وأما حركة النار فلا تؤثر فيه إلا الهواء وحركة الأرض لا تؤثر فيه إلا الماء والهواء وبهذا يفارق هذا العنصر عنصر النار فإذا أثر النار التسخين فيما عداه من الأركان فيأخذ أمرين إما بوساطة شعاع الكوكب الأعظم وهو الشمس فإن شعاعها يمر على الأثير فيكتسب زيادة كميات في حرارته أو بوساطة النار المحمولة في الفحم أو الحطب وهذه الآثار التي تظهر في العنصر من غيره إن لم يكن له إمداد من العنصر الذي ظهر عنه ذلك الأثر والأغلب عليه حكم العنصر الذي ظهر فيه الأثر فأفسده فهذا من أنواع الكون والفساد الظاهر في أجسام العناصر
![]() |
![]() |




