الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى العزلة | |
|
القوة المصورة من الأشكال الغريبة التي استفادت جزئياتها من الحس لا بد من ذلك ليس لها تصرف إلا به [الذكر الخيالى والذكر المعنوي الذي هو ذكر القلب]فمن شرط الخلوة في هذا الطريق الذكر النفسي لا الذكر اللفظي فأول خلوته الذكر الخيالي وهو تصور لفظة الذكر من كونه مركبا من حروف رقمية ولفظية يمسكها الخيال سمعا أو رؤية فيذكر بها من غير أن يرتقي إلى الذكر المعنوي الذي لا صورة له وهو ذكر القلب ومن الذكر القلبي ينقدح له المطلوب والزيادة من العلوم وبذلك العلم الذي انقدح له يعرف ما المراد بصور المثل إذا أقيمت له وأنشأها الحس في خياله في نوم ويقظة وغيبة وفناء فيعلم ما رأى وهو علم التعبير للرؤيا [مقاصد الخلوة عند أهل الخلوة]ومنهم من يأخذ الخلوة لصفاء الفكر ليكون صحيح النظر فيما يطلبه من العلم وهذا لا يكون إلا للذين يأخذون العلم من أفكارهم فهم يتخذون الخلوات لتصحيح ما يطلبونه إذا ظهر لهم بالموازين المنطقية وهو ميزان لطيف أدنى هواء يحركه فيخرجه عن الاستقامة فيتخذون الخلوات ويسدون مجاري الأهواء لئلا تؤثر في الميزان حركة تفسد عليهم صحة المطلوب ومثل هذه الخلوة لا يدخلها أهل الله وإنما لهم الخلوة بالذكر ليس للفكر عليهم سلطان ولا له فيهم أثر وأي صاحب خلوة استنكحه الفكر في خلوته فليخرج ويعلم أنه لا يراد لها وأنه ليس من أهل العلم الإلهي الصحيح إذ لو أراده الله لعلم الفيض الإلهي لحال بينه وبين الفكر ومنهم من يأخذ الخلوة لما غلب عليه من وحشة الأنس بالخلق فيجد انقباضا في نفسه برؤية الخلق حتى أهل بيته حتى أنه ليجد وحشة الحركة فيطلب السكون فيؤديه ذلك إلى اتخاذ الخلوة ومنهم من يتخذ الخلوة لاستحلاء ما يجد فيها من الالتذاذ وهذه كلها أمور معلولة لا تعطي مقاما ولا رتبة وصاحب الخلوة لا ينتظر واردا ولا صورة ولا شهودا وإنما يطلب علما بربه فوقتا يعطيه ذلك في غير مادة ووقتا يعطيه ذلك في مادة ويعطيه العلم بمدلول تلك المادة [الخلوة التي هي نسبة والخلوة التي هي المقام]الخلوة لها الدعوى وصاحبها مسئول لها الحجاب الأقرب هي نسبة ما هي مقام أعني الخلوة المعهودة عند القوم لا الخلوة التي هي مقام التي ذكرناها في أول الباب وهذه وإن لم تكن مقاما فإنها تحصل لصاحبها بالذكر مقامات لها إحاطة بالملك والملكوت والجبروت عند العارفين والملامية من الأدباء أرباب المواقف وأما أهل الوصال والأنس من العارفين والملامية فلا يرون لها في الملكوت دخولا وأنها مخصوصة بعالم الجبروت والملك لا غير إلا أنها لها قرب من الملكوت ما بينها وبينه إلا درجتان فالأدباء الواقفون من الملامية يرون لها ستمائة درجة وإحدى وأربعون درجة والعارفون من أهل الأنس يرون لها ألف درجة وسبعا وستين درجة والأدباء من العارفين الواقفين يرون لها ستمائة درجة وسبعا وستين درجة والملامية من أهل الأنس والوصال يرون لها ألف درجة وستة وثلاثين درجة (الباب التاسع والسبعون في ترك الخلوة وهو المعبر عنه بالجلوة)إذا لم ير الإنسان غير إلهه *** لدى كل عين فالخلاء محال فإن كنت هذا كنت صاحب خلوة *** ولله فيه فيصل ومقال [الكشف يمنع الخلوة]اعلم أيدنا الله وإياكم أن الكشف يمنع من الخلوة وإن كان فيها فإن الحجاب لها فإذا كوشف علم أنه لم يكن في خلوة فاتخاذ الخلوة المعهودة دليل على جهل متخذها فإنه عند الكشف يعرف جهله فكل من جهل إنه جهل فهو صاحب جهلين ومن عرف أنه جهل فهو ذو جهل واحد [الظاهر في أعيان العالم هو الحق وما ثم سواه]والذين علموا إن الظاهر من كونه ظاهرا في أعيان العالم وما ثم سواه فهو في خلوة في نفسه إذا لم ينظر إلى من ظهر فيه فأورثه الملأ والجلوة فلا تصح له الخلوة من هذا الوجه فمن الناس من يرجح صاحب الخلوة ومن الناس من يرجح نقيضه وهو صاحب الجلوة [الأسماء الإلهية التي تطلب الخلوة أو الجلوة]فالاسم الأول والباطن يطلبان الخلوة والاسم الآخر والظاهر يطلبان تركها وهي الجلوة وأنت لأي اسم غلب عليك ولا مفاضلة في الأسماء من وجه ومال الخلق إلى المقلوب من المال وهو الملأ فالخلوة دنيوية والجلوة أخروية والآخرة خير (الباب الموفي ثمانين في العزلة)إذا اعتزلت فلا تركن إلى أحد *** ولا تعرج على أهل ولا ولد ولا توالي إذا واليت منزلة *** وغب عن الشرك والتوحيد بالأحد وأنزع إلى طلب العليا منفردا *** بغير فكر ولا نفس ولا جسد وسابق الهمة العليا تحظ بمن *** سما بأسمائه الحسنى بلا عدد واعلم بأنك محبوس ومكتنف *** بالنور حبسا جليا لا إلى أمد [الأسماء الحسنى منها ما هو معقول ومنها ما هو منقول]لا يعتزل إلا من عرف نفسه ومن عرف نفسه عرف ربه فليس له مشهود إلا الله من حيث أسماؤه الحسنى وتخلقه بها ظاهرا وباطنا وأسماؤه الحسنى سبحانه على قسمين أسماء يقبلها العقل ويستقل بإدراكها وينسبها ويسمى بها الله تعالى وأسماء أيضا إلهية لو لا ورود الشرع بها ما قبلها فيقبلها إيمانا ولا يعقلها من حيث ذاته إلا إن أعلمه الحق بحقيقة نسبة تلك الأسماء إليه كما علمها أنبياءه وأولياءه [صاحب العزلة والأسماء الإلهية بشطريها: المعقول والمنقول]فصاحب العزلة هو الذي يعتزل بما هو له من ربه من غير تخلق بما ينفرد به في زعم العقل من الأسماء الإلهية المشروعة التي لو لا الشرع ما سمي العقل الله بها فهي للحق وقد جبل الإنسان عليها وخلقه مجلى لها فهو المسمى بها ولا يتمكن له الاعتزال عن مثل هذه الأسماء الإلهية وبقي القسم الآخر من الأسماء الإلهية يعتزل عنها لما يطرأ عليه منها من الضرر كما قال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وقوله كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فيعتزل عن مثل هذه الأسماء الإلهية لما فيها من الذم لمن تسمى بها وظهر بحكمها في العالم فالإنسان حقيقته أن يكون عائلا والعائل لا يكون متكبرا فإنه ظهر بما ليس هو له بنعت ولذلك لا ينظر الله إليه وهو واحد من الثلاثة الشيخ الزاني والملك الكذاب والعائل المستكبر ذكره مسلم في صحيحه [التخلق بالأسماء الإلهية ومزاحمة العبد الحق فيها]فمن رأى التخلق بالأسماء الحسنى ومزاحمة الحق فيها لكونه خلق على الصورة فلا بد أن يظهر بها ويتلبس على الحد المشروع المحمود فهذه مزاحمة عبودية ربوبية وذلك لما رأى أن له أسماء هي له حقيقة ينفرد بها ورأى أن الحق زاحمه فيها كالضحك والفرح والتعجب والمحب والمتردد والكارة والناسي والاستحياء وما أشبه ذلك مما ورد ذكره في الكتاب والسنة إلى ما يداخل النشأة من يد ويدين وأيد ووجل وعين وأعين إلى ما يداخل النشأة من الأحوال من استواء ومعية ونزول وطلب وشوق وأمثال ذلك ورأى هذا المعتزل قبل اعتزاله أن الحق قد زاحمه في هذه النعوت التي ينبغي أن تكون للعبد كما هي في نفس الأمر عنده قال الأليق بي إن أعتزل بأسمائي عن أسمائه ولا أزاحمه فيها تكون عارية عندي إذ كانت العارية أمانة مؤداة وحامل الأمانة موصوف بالتعريف الإلهي بالظلم والجهل [رجوع العبد إلى خصوصيته وقعوده في بيت شيئيته]فاعتزل صاحب هذا النظر التخلق بالأسماء الحسنى وانفرد بفقره وذله وصغاره وعجزه وقصوره وجهله في بيته كلما قرع عليه الباب اسم الإلهي قيل له ما هنا من يكلمك فإذا انقدح له بهذا الاعتزال أن الله له نفي الأولية وأنه أزلي الوجود ونظر في كلامه سبحانه وفيما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوصله إلينا من صفاته وأسمائه لنعرفه بذلك ويخلع علينا بهذا التعريف خلع العلم تشريفا لنا فأعلمنا إن هذه الصفات التي زعمنا إنا نستحقها وأنها لنا حقيقة إن الأمر على خلاف ذلك إذ قد اتصف هو بها وتسمى بها ونحن ما كنا فلا فرق بين هذه الأسماء والتي اعتزلنا عنها فأما أن نعتزل عن الجميع وإما أن نتسمى بالجميع فقلنا له اعتزل عن الجميع واترك الحق إن شاء سماك بالأسماء كلها فأقبلها ولا تعترض وإن شاء سماك ببعضها وإن شاء لم يسمك ولا بواحد منها لِلَّهِ الْأَمْرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ فرجع العبد إلى خصوصيته وهي العبودة التي لم تزاحم الربوبية فتحلى بها وقعد في بيت شيئية ثبوته لا بشيئية وجوده ينظر تصريف الحق فيه وهو معتزل عن التدبير في ذلك فإن تسمى من هذه حالته بأي اسم كان فالله مسميه ما هو تسمى وليس له رد ما سماه به فتلك الأسماء هي خلع الحق على عباده وهي خلع تشريف فمن الأدب قبولها لأنها جاءته من غير سؤال ولا استشراف وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذ مثل هذا العطاء وترك ما استشرفت النفس إلى أخذه وتمنى ذلك بالاستطلاع إليه ووقف عند ذلك على أنه كان غاصبا لله فيما كان يزعم أنه له فإذا هو لله وهو قوله تعالى وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فأخذ منه جميع ما كان يزعم أنه له إلا العبادة فإنه لا يأخذها إذ كانت ليست بصفة له فقال له تعالى لما قال وإِلَيْهِ إلى يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وهو أصله الذي خلق له وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فالعبادة اسم حقيقي للعبد فهي ذاته وموطنه وحاله وعينه ونفسه وحقيقته ووجهه [عزلة العلماء بالله والعزلة التي عند عامة الناس]فمن اعتزل هذه العزلة فهي عزلة العلماء بالله لا هجران الخلائق ولا غلق الأبواب وملازمة البيوت وهي العزلة التي عند الناس أن يلزم الإنسان بيته ولا يعاشر ولا يخالط ويطلب السلامة ما استطاع بعزلته ليسلم من الناس ويسلم الناس منه فهذا طلب عامة أهل الطريق |

