The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

Brwose Headings Section I: on Knowledge (Maarif) Section II: on Interactions (Muamalat) Section IV: on Abodes (Manazil)
Introductions Section V: on Controversies (Munazalat) Section III: on States (Ahwal) Section VI: on Stations (Maqamat of the Pole)
Part One Part Two Part Three Part Four

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى معرفة عدد ما يحصل من الأسرار للمشاهد عند المقابلة والانحراف وعلى كم ينحرف من المقابلة

بسم الله الرحمن الرحيم‏

(الباب الثالث والسبعون في معرفة عدد ما يحصل من الأسرار للمشاهد عند المقابلة والانحراف وعلى كم ينحرف من المقابلة)

ملائكة الإله أتت إلينا *** لتوقفنا على النبإ اليقين‏

فقالت قول معصوم عليم *** بري‏ء من ملابسة الظنون‏

ثمانية وعشر قد أتتنا *** جهارا ثم عشر في كمين‏

ثمانية أشداء غلاظ *** وخمستهم أشداء بلين‏

بأربعة وعشرين افتتحنا *** وما يعلو بسبعتهم قريني‏

وخامس عشرة في لين عيش *** وأربعة لتطبيق الجفون‏

وفي إحدى وعشرين انسفلنا *** عن التقويم بالبلد الأمين‏

مددنا ظلنا لحجاب غصن *** على الأقوام في عطف ولين‏

صلاة المشركين بها مكاء *** مثلثة تحليني بديني‏

وواحد استطال فصال قهرا *** ومنحرف توحد في الوتين‏

إذا انفش الوحيد يصير جمعا *** ويهوى مثله يهواه دوني‏

تفرقت الهموم غداة ثبت *** ويعرفها المتيم بعد حين‏

بشفع من بناتكم غنينا *** فكرر واحد الصبح المبين‏

وإن زوائد الأفلاك عشر *** وللبدلاء أبراج الشئون‏

ومن عقد المئين لنا ثلاث *** على قلب لآدم عن يقين‏

وإن الأربعين لقلب نوح *** على بيضاء بالنور المبين‏

على قلب الخليل لنا رجال *** سباعية كآساد العرين‏

وخمسة أنفس لهم ثبات *** بقلب الطاهر الروح الأمين‏

وميكائيل يتلوه ثلاث *** تمسكهن بالحبل المتين‏

وإسرافيل يتبعه وحيد *** بقلب قد تفنن بالفنون‏

تقلقلهم عن التثبيت خمس *** ولولاهن كانوا في سكون‏

وينصرني على الإشراك وترى *** تلقى نصر ذلك باليمين‏

نجيب من ثمانية كرام *** وثنتا عشرة نقباء دين‏

أقاليم البلاد لها رجال *** على التمثيل في رأى العيون‏

وتحرسنا بأربعة رجال *** من الأوتاد في الحصن الحصين‏

إماما العالمين هما وزيرا *** مليك العالم القطب المكين‏

وستة أنفس لجهات ست *** أئمتهن من نور وطين‏

فهذا الرمز إن فكرت فيه *** ترى سر الظهور مع الكمون‏

[أصناف رجال الله والمسائل التي لا يعلمها إلا الأكابر]

اعلم أيدنا الله وإياك بروح منه أن هذا الباب يتضمن أصناف الرجال الذين يحصرهم العدد والذين لا توقيت لهم ويتضمن المسائل التي لا يعلمها إلا الأكابر من عباد الله الذين هم في زمانهم بمنزلة الأنبياء في زمان النبوة وهي النبوة العامة

[النبوة العامة ونبوة التشريع‏]

فإن النبوة التي انقطعت بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي نبوة التشريع لا مقامها فلا شرع يكون ناسخا لشرعه صلى الله عليه وسلم ولا يزيد في حكمه شرعا آخر وهذا معنى‏

قوله صلى الله عليه وسلم إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي‏

أي لا نبي بعدي يكون على شرع يخالف شرعي بل إذا كان يكون تحت حكم شريعتي ولا رسول أي لا رسول بعدي إلى أحد من خلق الله بشرع يدعوهم إليه فهذا هو الذي انقطع وسد بابه لا مقام النبوة

[عيسى ينزل في آخر الزمان حكما مقسطا بشرعنا]

فإنه لا خلاف إن عيسى عليه السلام نبي ورسول وأنه لا خلاف أنه ينزل في آخر الزمان حكما مقسطا عدلا بشرعنا لا بشرع آخر ولا بشرعه الذي تعبد الله به بنى إسرائيل من حيث ما نزل هو به بل ما ظهر من ذلك هو ما قرره شرع محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة عيسى عليه السلام ثابتة له محققة فهذا نبي ورسول قد ظهر بعده صلى الله عليه وسلم وهو الصادق في قوله إنه لا نبي بعده فعلمنا قطعا أنه يريد التشريع خاصة وهو المعبر عنه عند أهل النظر بالاختصاص وهو المراد بقولهم إن النبوة غير مكتسبة

[مراد القائلين باكتساب النبوة]

وأما القائلون باكتساب النبوة فإنهم يريدون بذلك حصول المنزلة عند الله المختصة من غير تشريع لا في حق أنفسهم ولا في حق غيرهم فمن لم يعقل النبوة سوى عين الشرع ونصب الأحكام قال بالاختصاص ومنع الكسب فإذا وقفتم على كلام أحد من أهل الله أصحاب الكشف يشير بكلامه إلى الاكتساب كأبي حامد الغزالي وغيره فليس مرادهم سوى ما ذكرناه وقد بينا هذا في فصل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر باب الصلاة من هذا الكتاب‏

[المقربون‏]

وهؤلاء هم المقربون الذين قال الله فيهم عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ وبه وصف الله نبيه عيسى عليه السلام فقال وَجِيهاً في الدُّنْيا والْآخِرَةِ ومن الْمُقَرَّبِينَ وبه وصف الملائكة فقال ولا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ومعلوم قطعا أن جبريل كان ينزل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يطلق عليه في الشرع اسم نبي مع أنه بهذه المثابة

[النبوة مقام عند الله مختص بالأكابر من البشر]

فالنبوة مقام عند الله يناله البشر وهو مختص بالأكابر من البشر يعطي للنبي المشرع ويعطي للتابع لهذا النبي المشرع الجاري على سنته قال تعالى ووَهَبْنا لَهُ (من رَحْمَتِنا) أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا فإذا نظر إلى هذا المقام بالنسبة إلى التابع وأنه باتباعه حصل له هذا المقام سمي مكتسبا والتعمل بهذا الاتباع اكتسابا ولم يأته شرع من ربه يختص به ولا شرع يوصله إلى غيره وكذلك كان هارون فسددنا باب إطلاق لفظ النبوة على هذا المقام مع تحققه لئلا يتخيل متخيل أن المطلق لهذا اللفظ يريد نبوة التشريع فيغلط كما اعتقده بعض الناس في الإمام أبي حامد فقال عنه إنه يقول باكتساب النبوة في كيمياء السعادة وغيره معاذ الله أن يريد أبو حامد غير ما ذكرناه وسأذكر إن شاء الله ما يختص به صاحب هذا المقام من الأسرار الخاصة به التي لا يعلمها إلا من حصله فإذا سمعتني أقول في هذا الباب ومما يختص بهذا المقام كذا فاعلم أن ذلك الذي أذكره هو من علوم أهل هذا المقام فلنذكر أولا شرح ما بوبنا عليه من المقابلة والانحراف‏

(وصل) [نسبتا التنزيه والتشبيه اللتان للحق‏]

اعلم أن للحق سبحانه في مشاهدة عباده إياه نسبتين نسبة تنزيه ونسبة تنزل إلى الخيال بضرب من التشبيه فنسبة التنزيه تجليه في لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ والنسبة الأخرى تجليه في‏

قوله عليه السلام اعبد الله كأنك تراه‏

وقوله إن الله في قبلة المصلي‏

وقوله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله وثم ظرف ووجه الله ذاته وحقيقته‏

[اعتقاد أهل السلف في ألفاظ الشرع المتشابهات‏]

والأحاديث والآيات الواردة بالألفاظ التي تطلق على المخلوقات باستصحاب معانيها إياها ولو لا استصحاب معانيها إياها المفهومة من الاصطلاح ما وقعت الفائدة بذلك عند المخاطب بها إذ لم يرد عن الله شرح ما أراد بها مما يخالف ذلك اللسان الذي نزل به هذا التعريف الإلهي قال تعالى وما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ يعني بلغتهم ليعلموا ما هو الأمر عليه ولم يشرح الرسول المبعوث بهذه الألفاظ هذه الألفاظ بشرح يخالف ما وقع عليه الاصطلاح فننسب تلك المعاني المفهومة من تلك الألفاظ الواردة إلى الله تعالى كما نسبها لنفسه ولا يتحكم في شرحها بمعان لا يفهمها أهل ذلك اللسان‏

الذي نزلت هذه الألفاظ بلغتهم فنكون من الذين يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ومن الذين يُحَرِّفُونَهُ من بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وهُمْ يَعْلَمُونَ بمخالفتهم ونقر بالجهل بكيفية هذه النسب وهذا هو اعتقاد السلف قاطبة من غير مخالف في ذلك‏

[الحق في الجمع بين النسبتين‏]

فإذا تقرر عندك ما ذكرناه من هاتين النسبتين للحق المشروعتين وأنت المطلوب بالتوجه بقلبك وبعبادتك إلى هاتين النسبتين فلا تعدل عنهما إن كنت كاملا أو إلى إحداهما إن كنت نازلا عن هذه المرتبة الكمالية إما لما يقوله أهل الكلام في الله من حيث عقولهم وإما لما توهمه القاصرة عقولهم من تشبيه الحق بخلقه فهؤلاء جهلوا وهؤلاء جهلوا والحق في الجمع بينهما وقد ورد الخبر في النشأة الآدمية أن الله خلق آدم على صورته‏

وورد في القرآن أن الله خلقه بيديه على جهة التشريف لقرينة الحال حين عرف بذلك إبليس لما ادعى الشرف على آدم بنشأته فقال ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ولا يسوغ هنا حمل اليدين على القدرة لوجود التثنية ولا على أن تكون الواحدة يد النعمة والأخرى يد القدرة فإن ذلك سائغ في كل موجود فلا شرف لآدم بهذا التأويل فلا بد أن يكون لقوله بيدي خلاف ما ذكرناه مما يصح به التشريف‏

[المشبه والمنزه والكامل‏]

فتوجهت على خلق الإنسان هاتان النسبتان نسبة التنزيه ونسبة التشبيه فخرج بنو آدم لهذا على ثلاث مراتب كامل وهو الجامع بين هاتين النسبتين أو واقف مع دليل عقله ونظر فكره خاصة أو مشبه بما أعطاه اللفظ الموارد ولا رابع لهم من المؤمنين فالمقابلة أو الانحراف لا تكون إلا من جهة نسبة التنزل الإلهي الخيالي في‏

قوله عليه السلام اعبد الله كأنك تراه‏

في هذا هي المقابلة للمعبود والانحراف عن هذه المقابلة إما بتنزيه وهو انحراف المتكلمين وإما بتشبيه محدود وهو انحراف المجسمين والكمل هم أهل القول بالأمرين‏

[الاسم الإلهي الدهر ومقاماته لأهل الشهود]

وهذه الحضرة التي ذكرناها تحوي على ستين وثلاثمائة مقام منها ستة وثلاثون أمهات وما بقي فهي نازلة عن هذه الستة والثلاثين تحصل كلها لأهل الشهود من الاسم الدهر فإن الله هو الدهر ولا يتوهم من هذا القول الزمان المعروف الذي تعده حركات الأفلاك ونتخيل من ذلك درجات للفلك التي تقطعها الكواكب ذلك هو الزمان وكلامنا إنما هو في الاسم الدهر ومقاماته التي ظهر عنها الزمان والزمان على التحقيق قد عرفناك أنه نسبة لا أمر وجودي وأنه للمحدث بمنزلة الأزل للقديم فهذه المقامات تحصل لأهل الشهود إذا قابلوها بذواتهم من حيث خلقهم على الصورة كذلك يقابل الزمان الدهر والأبد يقابله الأزل ولا يكون منهم عند المقابلة نظر إلى كون أصلا يميزونه عن ذواتهم وذوات ما قابلوه فإن وقع لمن هذا مقامه تميز لكون من الأكوان أو للذي قابلوه يميز لهم عما قابلوه من ذواتهم فقد حدوه وانحرفوا عن المقابلة وانحطوا بذلك إلى ثمانية عشر مقاما وهو النصف فأما أن يكون انحرافهم إليه أو إليهم فإن كان إليه تعالى فقد غابوا عنهم والمطلوب منهم حضورهم بهم له وإن كان الانحراف إليهم فقد غابوا عنه والمطلوب حضورهم معه فإن زاد الانحراف انحطوا إلى نصف ذلك وهو تسعة مقامات فغاب عنهم من الذي انحطوا عنه النصف فإن زاد الانحراف انحطوا إلى ستة مقامات وهو غاية الانحطاط وهو الثلث من الثمانية عشر والسدس من المجموع الذي هو ستة وثلاثون‏

[الكامل يقابل كل نسبة بذاته من غير تغيير في ذاته‏]

فمنزل العبد الكامل يكون بين هاتين النسبتين يقابل كل نسبة منهما بذاته فإنه لا ينقسم في ذاته وما لا ينقسم لا يوصف بأنه يقابل كل نسبة بغير الذي يقابل بها الأخرى وما ثم إلا ذاته كالجوهر الفرد بين الجوهرين أو الجسمين يقابل كل واحد مما هو بينهما بذاته لأن ما لا ينقسم لا يكون له جهتان مختلفتان في حكم العقل وإن كان الوهم يتخيل ذلك كذلك الإنسان من حيث حقيقته ولطيفته يقابل بذاته الحق من حيث نسبه التنزيه وبذلك الوجه عينه يقابل الحق من حيث صفة النزول الإلهي إلى الاتصاف بالصفات التي توهم التشبيه وهي النسبة الأخرى وكما أن الحق الذي هو الموصوف بهاتين النسبتين واحد في نفسه وأحديته ولم تحكم عليه هاتان النسبتان بالتعداد والانقسام في ذاته كذلك العبد الكامل في مقابلة الحق في هاتين النسبتين لا يكون له وجهان متغايران‏

[العين من الحق والعين من العبد واحدة]

فهذه هي المقابلة للحق من جميع النسب على كثرتها فإنها وإن كثرت فهي راجعة إلى هاتين النسبتين وليستا بأمر زائد على عين الموصوف بها فالكل عين واحدة وما ثم كل وجودي وإنما جئنا به من حيث النسب وهي لا أعيان لها فالعين من الحق واحدة والعين من العبد واحدة لكن عين العبد ثبوتية ما برحت من أصلها ولا خرجت من معدنها ولكن كساها

الحق حلة وجوده فعينها باطن وجوده ووجودها عين موجدها فما ظهر إلا الحق لا غيره وعين العبد باق على أصله لكنه استفاد ما لم يكن عنده من العلم بذاته وبمن كساه حلة وجوده وبمعرفة أمثاله ورأى العالم بعضه بعضا بعين وجود ربه‏

[درجات المعارف الإلهية]

فمن نظر إلى ذاته بعين ربه ولم يميز فقد انحرف عما ينبغي له فهو العبد الموصوف بالجهل في عين الحق وحكمه في هذا الوصف والحال حكم من لم يتصف بالوجود لأن الجهل عدم فمن قال في رؤيته ما رأى الله إلا الله فهو العبد الكامل وهكذا في كل نسبة وهذه أسنى درجات المعارف وتليها المعرفة الثانية التي يقول فيها صاحبها كنت مغمض العينين ففتحتهما فما وقعت على شي‏ء إلا كان هو الله فما رأيت إلا الله والأعيان على أصولها لا أثر لها في رؤيتى إياها والمعرفة الثالثة هي التي يقول فيها صاحبها ما رأيت شيئا والمعرفة الرابعة أن يقول ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله وهذه رؤية تحديد وكذلك فيما نزل عن هذه المعرفة من فيه وبعده وعنده وغير ذلك وهي هذه المعارف التي تعطي التحديد من النسبة النزولية التي توهم التشبيه والمعارف الأول التي ذكرناها من مقام كون العبد بين النسبتين لا غير وأما المعارف التي تحصل من نسبة التنزيه فلا تنقال ولا تأخذها عبارة ولا تصح فيها الإشارة

[أمهات المعارف الإلهية]

فانحصر لك الأمر في ثلاث معارف أمهات معرفة نسبة التنزيه ومعرفة نسبة التحديد والتشبيه ومعرفة أعطاها مقامك بين هاتين النسبتين وهو عينك لا وجود عينك لكون وجود عينك هو وجود الحق فلا ينسب إليك فمن لا علم له بهذه الأمهات فهو المنحرف‏

[أركان بيت النوع الإنسانى‏]

واعلم أن لله في كل نوع من المخلوقات خصائص وقد ذكرنا ذلك في هذا الكتاب وهذا النوع الإنساني هو من جملة الأنواع ولله فيه خصائص وصفوه وأعلى الخواص فيه من العباد الرسل عليهم السلام ولهم مقام النبوة والولاية والايمان فهم أركان بيت هذا النوع والرسول أفضلهم مقاما وأعلاهم حالا أي المقام الذي يرسل منه أعلى منزلة عند الله من سائر المقامات وهم الأقطاب والأئمة والأوتاد الذين يحفظ الله بهم العالم كما يحفظ البيت بأركانه فلو زال ركن منها زال كون البيت بيتا ألا إن البيت هو الدين ألا إن أركانه هي الرسالة والنبوة والولاية والايمان إلا أن الرسالة هي الركن الجامع للبيت وأركانه إلا إنها هي المقصودة من هذا النوع‏

[القطب الذي يحفظ الله به العالم موجود دائما بجسده وروحه‏]

فلا يخلو هذا النوع أن يكون فيه رسول من رسل الله كما لا يزال الشرع الذي هو دين الله فيه ألا إن ذلك الرسول هو القطب المشار إليه الذي ينظر الحق إليه فيبقى به هذا النوع في هذه الدار ولو كفر الجميع إلا أن الإنسان لا يصح عليه هذا الاسم إلا أن يكون ذا جسم طبيعي وروح ويكون موجودا في هذه الدار الدنيا بجسده وحقيقته فلا بد أن يكون الرسول الذي يحفظ الله به هذا النوع الإنساني موجودا في هذا النوع في هذه الدار بجسده وروحه يتغذى وهو مجلى الحق من آدم إلى يوم القيامة

[الرسل الأحياء بأجسادهم في الدار الدنيا]

ولما كان الأمر على ما ذكرناه ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قرر الدين الذي لا ينسخ والشرع الذي لا يبدل ودخلت الرسل كلهم في هذه الشريعة يقومون بها والأرض لا تخلو من رسول حي بجسمه فإنه قطب العالم الإنساني ولو كانوا ألف رسول لا بد أن يكون الواحد من هؤلاء هو الإمام المقصود فأبقى الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسل الأحياء بأجسادهم في هذه الدار الدنيا ثلاثة وهم إدريس عليه السلام بقي حيا بجسده وأسكنه الله السماء الرابعة

[السموات السبع هن من عالم الدنيا]

والسموات السبع هن من عالم الدنيا وتبقي ببقائها وتفني صورتها بفنائها فهي جزء من الدار الدنيا فإن الدار الأخرى تبدل فيها السموات والأرض بغيرهما كما تبدل هذه النشأة الترابية منا نشئات أخر غير هذه كما وردت الأخبار في السعداء من الصفاء والرقة واللطافة فهي نشأت طبيعية جسمية لا تقبل الأثقال فلا يغوطون ولا يبولون ولا يتمخطون كما كانت هذه النشأة الدنياوية وكذلك أهل الشقاء

[أبقى الله في الأرض الياس وعيسى والخضر]

وأبقى في الأرض أيضا الياس وعيسى وكلاهما من المرسلين وهما قائمان بالدين الحنيفي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهؤلاء ثلاثة من الرسل المجمع عليهم إنهم رسل وأما الخضر وهو الرابع فهو من المختلف فيه عند غيرنا لا عندنا فهؤلاء باقون بأجسامهم في الدار الدنيا فكلهم الأوتاد واثنان منهم الإمامان وواحد منهم القطب الذي هو موضع نظر الحق من العالم فما زال المرسلون ولا يزالون في هذه الدار إلى يوم القيامة وإن لم يبعثوا بشرع ناسخ ولا هم على غير شرع محمد صلى الله عليه وسلم ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏

[الأوتاد الأربعة الذين يحفظ الله بهم الدين الحنيفي‏]

والواحد من هؤلاء الأربعة الذين هم عيسى والياس وإدريس وخضر هو القطب وهو أحد أركان بيت الدين وهو ركن الحجر الأسود واثنان منهم هما الإمامان‏

وأربعتهم هم الأوتاد فبالواحد يحفظ الله الايمان وبالثاني يحفظ الله الولاية وبالثالث يحفظ الله النبوة وبالرابع يحفظ الله الرسالة وبالمجموع يحفظ الله الدين الحنيفي فالقطب من هؤلاء لا يموت أبدا أي لا يصعق وهذه المعرفة التي أبرزنا عينها للناظرين لا يعرفها من أهل طريقنا إلا الأفراد الأمناء

[نواب الأوتاد الأربعة في هذه الأمة]

ولكل واحد من هؤلاء الأربعة من هذه الأمة في كل زمان شخص على قلوبهم مع وجودهم هم نوابهم فأكثر الأولياء من عامة أصحابنا لا يعرفون القطب والإمامين والوتد إلا النواب لا هؤلاء المرسلون الذين ذكرناهم ولهذا يتطاول كل واحد من الأمة لنيل هذه المقامات فإذا حصلوا أو خصوا بها عرفوا عند ذلك أنهم نواب لذلك القطب ونائب الإمام يعرف أن الإمام غيره وأنه نائب عنه وكذلك الوتد

[فمن كرامة محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن جعل من أتباعه رسلا]

فمن كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد أن جعل من أمته وأتباعه رسلا وإن لم يرسلوا فهم من أهل المقام الذي منه يرسلون وقد كانوا أرسلوا فاعلم ذلك ولهذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إسرائه بالأنبياء عليهم السلام في السموات لتصح له الإمامة على الجميع حسا بجسمانيته وجسمه فلما انتقل صلى الله عليه وسلم بقي الأمر محفوظا بهؤلاء الرسل فثبت الدين قائما بحمد الله ما انهدم منه ركن إذ كان له حافظ يحفظه وإن ظهر الفساد في العالم إلى أن يرث الله الْأَرْضَ ومن عَلَيْها وهذه نكتة فاعرف قدرها فإنك لست تراها في كلام أحد منقول عنه أسرار هذه الطريقة غير كلامنا ولو لا ما ألقى عندي في إظهارها ما أظهرتها لسر يعلمه الله ما أعلمنا به ولا يعرف ما ذكرناه إلا نوابهم خاصة لا غيرهم من الأولياء

[أسرار الله المخبوة في خلقه التي اختص الله بها من شاء من عباده‏]

فاحمدوا الله يا إخواننا حيث جعلكم الله ممن قرع سمعه أسرار الله المخبوة في خلقه التي اختص الله بها من شاء من عباده فكونوا لها قابلين مؤمنين بها ولا تحرموا التصديق بها فتحرموا خيرها قال أبو يزيد البسطامي وهو أحد النواب لأبي موسى الدبيلي يا أبا موسى إذا رأيت من يؤمن بكلام أهل هذه الطريقة فقل له يدعو لك فإنه مجاب الدعوة وسمعت شيخنا أبا عمران موسى بن عمران الميرتلي بمنزله بمسجد الرضي بإشبيلية وهو يقول للخطيب أبي القاسم بن عفير وقد أنكر أبو القاسم ما يذكر أهل هذه الطريقة يا أبا القاسم لا تفعل فإنك إن فعلت هذا جمعنا بين حرمانين لا نرى ذلك من نفوسنا ولا نؤمن به من غيرنا وما ثم دليل يرده ولا قادح يقدح فيه شرعا وعقلا ثم استشهدني على ما ذكره وكان أبو القاسم يعتقد فينا فقررت عنده ما قاله بدليل يسلمه من مذهبه فإنه كان محدثا فشرح الله صدره للقبول وشكرني الشيخ ودعا لي‏

[رجال الله في هذه الطريقة هم المسمون بعالم الأنفاس‏]

واعلم أن رجال الله في هذه الطريقة هم المسمون بعالم الأنفاس وهو اسم يعم جميعهم وهم على طبقات كثيرة وأحوال مختلفة فمنهم من تجمع له الحالات كلها والطبقات ومنهم من يحصل من ذلك ما شاء الله وما من طبقة إلا لها لقب خاص من أهل الأحوال والمقامات التي يظهرون عليها في قوله ومَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ كل طائفة في جنسها ومنهم من يحصره عدد في كل زمان ومنهم من لا عدد له لازم فيقلون ويكثرون ولنذكر منهم أهل الأعداد ومن لا عدد لهم بألقابهم إن شاء الله تعالى‏

[الأقطاب‏]

فمنهم رضي الله عنهم الأقطاب وهم الجامعون للأحوال والمقامات بالأصالة أو بالنيابة كما ذكرنا وقد يتوسعون في هذا الإطلاق فيسمون قطبا كل من دار عليه مقام ما من المقامات وانفرد به في زمانه على أبناء جنسه وقد يسمى رجل البلد قطب ذلك البلد وشيخ الجماعة قطب تلك الجماعة ولكن الأقطاب المصطلح على أن يكون لهم هذا الاسم مطلقا من غير إضافة لا يكون منهم في الزمان إلا واحد وهو الغوث أيضا وهو من المقربين وهو سيد الجماعة في زمانه ومنهم من يكون ظاهر الحكم ويحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية بن يزيد وعمر بن عبد العزيز والمتوكل ومنهم من له الخلافة الباطنة خاصة ولا حكم له في الظاهر كأحمد بن هارون الرشيد السبتي وكأبي يزيد البسطامي وأكثر الأقطاب لا حكم لهم في الظاهر

[الأئمة]

ومنهم رضي الله عنهم الأئمة ولا يزيدون في كل زمان على اثنين لا ثالث لهما الواحد عبد الرب والآخر عبد الملك والقطب عبد الله قال تعالى وأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ الله يعني محمدا صلى الله عليه وسلم فلكل رجل اسم إلهي يخصه به يدعى عبد الله ولو كان اسمه ما كان فالأقطاب كلهم عبد الله والأئمة في كل زمان عبد الملك وعبد الرب وهما اللذان يخلفان القطب إذا مات وهما للقطب بمنزلة الوزيرين الواحد منهم مقصور على مشاهدة عالم الملكوت والآخر مع عالم الملك‏

[الأوتاد]

ومنهم رضي الله عنهم‏

الأوتاد وهم أربعة في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون رأينا منهم شخصا بمدينة فاس يقال له ابن جعدون كان ينخل الحناء بالأجرة الواحد منهم يحفظ الله به المشرق وولايته فيه والآخر المغرب والآخر الجنوب والآخر الشمال والتقسيم من الكعبة وهؤلاء قد يعبر عنهم بالجبال لقوله تعالى أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً والْجِبالَ أَوْتاداً فإنه بالجبال سكن ميد الأرض كذلك حكم هؤلاء في العالم حكم الجبال في الأرض وإلى مقامهم الإشارة بقوله تعالى عن إبليس ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ من بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ومن خَلْفِهِمْ وعَنْ أَيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ فيحفظ الله بالأوتاد هذه الجهات وهم محفوظون من هذه الجهات فليس للشيطان عليهم سلطان إذ لا دخول له على بنى آدم إلا من هذه الجهات وأما الفوق والتحت فربما يكون للستة التي نذكر أمرهم بعد هذا إن شاء الله وكل ما نذكره من هؤلاء الرجال باسم الرجال فقد يكون منهم النساء ولكن يغلب ذكر الرجال قيل لبعضهم كم الأبدال فقال أربعون نفسا فقيل له لم لا تقول أربعون رجلا فقال قد يكون فيهم النساء ألقابهم عبد الحي وعبد العليم وعبد القادر وعبد المريد

[الأبدال‏]

ومنهم رضي الله عنهم الأبدال وهم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة لكل بدل إقليم فيه ولايته الواحد منهم على قدم الخليل عليه السلام وله الإقليم الأول وأسوقهم على الترتيب إلى صاحب الإقليم السابع والثاني على قدم الكليم عليه السلام والثالث على قدم هارون والرابع على قدم إدريس والخامس على قدم يوسف والسادس على قدم عيسى والسابع على قدم آدم على الكل السلام وهم عارفون بما أودع الله سبحانه في الكواكب السيارة من الأمور والأسرار في حركاتها ونزولها في المنازل المقدرة ولهم من الأسماء أسماء الصفات فمنهم عبد الحي وعبد العليم وعبد الودود وعبد القادر وهذه الأربعة هي أربعة أسماء الأوتاد ومنهم عبد الشكور وعبد السميع وعبد البصير لكل صفة إلهية رجل من هؤلاء الأبدال بها ينظر الحق إليهم وهي الغالبة عليه وما من شخص إلا وله نسبة إلى اسم إلهي منه يتلقى ما يكون عليه من أسباب الخير وهم بحسب ما تعطيه حقيقة ذلك الاسم الإلهي من الشمول والإحاطة فعلى تلك الموازنة يكون علم هذا الرجل وسموا هؤلاء أبدا لا لكونهم إذا فارقوا موضعا ويريدون أن يخلفوا بدلا منهم في ذلك الموضع لأمر يرونه مصلحة وقربة يتركوا به شخصا على صورته لا يشك أحد ممن أدرك رؤية ذلك الشخص أنه عين ذلك الرجل وليس هو بل هو شخص روحاني يتركه بدله بالقصد على علم منه فكل من له هذه القوة فهو البدل ومن يقيم الله عنه بدلا في موضع ما ولا علم له بذلك فليس من الأبدال المذكورين وقد يتفق ذلك كثيرا عايناه ورأيناه ورأينا هؤلاء السبعة الأبدال بمكة لقيناهم خلف حطيم الحنابلة وهنالك اجتمعنا بهم فما رأيت أحسن سمتا منهم وكنا قد رأينا منهم موسى السدراني بإشبيلية سنة ست وثمانين وخمسمائة وصل إلينا بالقصد واجتمع بنا ورأينا منهم شيخ الجبال محمد بن أشرف الرندي ولقي منهم صاحبنا عبد المجيد بن سلمة شخصا اسمه معاذ بن أشرس كان من كبارهم وبلغني سلامه علينا سأله عبد المجيد هذا عن الأبدال بما ذا كانت لهم هذه المنزلة فقال بالأربعة التي ذكرها أبو طالب المكي يعني الجوع والسهر والصمت والعزلة وقد يسمون الرجبيين أبدالا وهم أربعون وقد يسمون الاثني عشر أيضا أبدالا وسيأتي ذكر هؤلاء في الرجال المعدودين فمن رأى الرجبيين قال إن الأبدال أربعون نفسا فإنهم أربعون‏

[النقباء]

ومنهم رضي الله عنهم النقباء وهم اثنا عشر نقيبا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الاثني عشر برجا كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله في مقامه من الأسرار والتأثيرات وما يعطي للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت فإن للثوابت حركات وقطعا في البروج لا يشعر به في الحس لأنه لا يظهر ذلك إلا في آلاف من السنين وأعمار أهل الرصد تقصر عن مشاهدة ذلك واعلم أن الله قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها وأما إبليس فمكشوف عندهم يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة وبالديار المصرية منهم كثير يخرجون الأثر في الصخور وإذا رأوا شخصا يقولون هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر ويكون كذلك وليسوا بأولياء الله فما ظنك بما يعطيه الله هؤلاء النقباء من علوم الآثار

[النجباء]

ومنهم رضي الله عنهم‏

النجباء وهم ثمانية في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون وهم الذين تبدو منهم وعليهم إعلام القبول من أحوالهم وإن لم يكن لهم في ذلك اختيار لكن الحال يغلب عليهم ولا يعرف ذلك منهم إلا من هو فوقهم لا من هو دونهم وهم أهل علم الصفات الثمانية السبع المشهورة والإدراك الثامن ومقامهم الكرسي لا يتعدوه ما داموا نجباء ولهم القدم الراسخة في علم تسيير الكواكب من جهة الكشف والاطلاع لا من جهة الطريقة المعلومة عند العلماء بهذا الشأن والنقباء هم الذين حازوا علم الفلك التاسع والنجباء حازوا علم الثمانية الأفلاك التي دونه وهي كل فلك فيه كوكب‏

[الحواريون‏]

ومنهم رضي الله عنهم الحواريون وهو واحد في كل زمان لا يكون فيه اثنان فإذا مات ذلك الواحد أقيم غيره وكان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام هو كان صاحب هذا المقام مع كثرة أنصار الدين بالسيف فالحواري من جمع في نصرة الدين بين السيف والحجة فأعطى العلم والعبارة والحجة وأعطى السيف والشجاعة والإقدام ومقاومة التحدي في إقامة الحجة على صحة الدين المشروع كالمعجزة التي للنبي فلا يقوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليله الذي يقيمه على صدقه فيما ادعاه إلا حواريه فهو يرث المعجزة ولا يقيمها الأعلى صدق نبيه صلى الله عليه وسلم‏

[معجزة النبي وكرامة الولى‏]

هذا مقام الحواري ويبقى عليها اسم المعجزة أعني على تلك الدلالة فإنه يقترن بها مع الحواري ما يقترن بها مع النبي صلى الله عليه وسلم ويضيفها إلى النبي كما يضيفها النبي إلى نفسه ولا يسمى مثل هذا كرامة لولي لأنه ما كان معجزة النبي على حدها وشمول لوازمها لا يكون ذلك أبدا كرامة لولي وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني ولكن على غير هذا الوجه الذي أومأنا إليه فإن أبا إسحاق يحيل وقوع عين الفعل المعجز وأكثر المتكلمين لا يحيله أن يكون كرامة لا على طريق الإعجاز فإذا وقع من الشخص على حد ما وقع من النبي بطريق الإعجاز لصدق ذلك النبي من هذا التابع فإنه يقع ولا بد وهذا لا يكون إلا من الحواري خاصة فمن ظهر منه مثل هذا على حد ما رسمناه فهو حواري ذلك العصر وقد رأيناه في زماننا سنة ست وثمانين وخمسمائة فهذا هو المسمى بالحواري‏

[الرجبيون‏]

ومنهم رضي الله عنهم الرجبيون وهم أربعون نفسا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون وهم رجال حالهم القيام بعظمة الله وهم من الأفراد وهم أرباب القول الثقيل من قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا وسموا رجبيون لأن حال هذا المقام لا يكون لهم إلا في شهر رجب من أول استهلال هلاله إلى انفصاله ثم يفقدون ذلك الحال من أنفسهم فلا يجدونه إلى دخول رجب من السنة الآتية وقليل من يعرفهم من أهل هذا الطريق وهم متفرقون في البلاد ويعرف بعضهم بعضا منهم من يكون باليمن وبالشام وبديار بكر لقيت واحدا منهم بدنيسير من ديار بكر ما رأيت منهم غيره وكنت بالأشواق إلى رؤيتهم ومنهم من يبقى عليه في سائر السنة أمر ما مما كان يكاشف به في حاله في رجب ومنهم من لا يبقى عليه شي‏ء من ذلك وكان هذا الذي رأيته قد أبقى عليه كشف الروافض من أهل الشيعة سائر السنة فكان يراهم خنازير فيأتي الرجل المستور الذي لا يعرف منه هذا المذهب قط وهو في نفسه مؤمن به يدين به ربه فإذا مر عليه يراه في صورة خنزير فيستدعيه ويقول له تب إلى الله فإنك شيعي رافضي فيبقى الآخر متعجبا من ذلك فإن تاب وصدق في توبته رآه إنسانا وإن قال له بلسانه تبت وهو يضمر مذهبه لا يزال يراه خنزيرا فيقول له كذبت في قولك تبت وإذا صدق يقول له صدقت فيعرف ذلك الرجل صدقه في كشفه فيرجع عن مذهبه ذلك الرافضي ولقد جرى لهذا مثل هذا مع رجلين عاقلين من أهل العدالة من الشافعية ما عرف منهما قط التشيع ولم يكونوا من بيت التشيع أداهما إليه نظرهما وكانا متمكنين من عقولهما فلم يظهرا ذلك وأصرا عليه بينهما وبين الله فكانا يعتقدان السوء في أبي بكر وعمر ويتغالون في علي فلما مرا به ودخلا عليه أمر بإخراجهما من عنده فإن الله كشف له عن بواطنهما في صورة خنازير وهي العلامة التي جعل الله له في أهل هذا المذهب وكانا قد علما من نفوسهما أن أحدا من أهل الأرض ما اطلع على حالهما وكانا شاهدين عدلين مشهورين بالسنة فقالا له في ذلك فقال أراكما خنزيرين وهي علامة بيني وبين الله فيمن كان مذهبه هذا فأضمرا التوبة في نفوسهما فقال لهما إنكما الساعة قد رجعتما عن ذلك المذهب فإني أراكما إنسانين فتعجبا من ذلك وتابا إلى الله وهؤلاء الرجبيون أول يوم يكون في رجب يجدون كأنما

أطبقت عليهم السماء فيجدون من الثقل بحيث لا يقدرون على أن يطرفوا ولا يتحرك فيهم جارحة ويضطجعون فلا يقدرون على حركة أصلا ولا قيام ولا قعود ولا حركة يد ولا رجل ولا جفن عين يبقى ذلك عليهم أول يوم ثم يخف في ثاني يوم قليلا وفي ثالث يوم أقل وتقع لهم الكشوفات والتجليات والاطلاع على المغيبات ولا يزال مضطجعا مسجى يتكلم بعد الثلاث أو اليومين ويتكلم معه ويقال له إلى أن يكمل الشهر فإذا فرغ الشهر ودخل شعبان قام كأنما نشط من عقال فإن كان صاحب صناعة أو تجارة اشتغل بشغله وسلب عنه جميع حاله كله إلا من شاء الله أن يبقى عليه من ذلك شي‏ء أبقاه الله عليه هذا حالهم وهو حال غريب مجهول السبب والذي اجتمعت به منهم كان في شهر رجب وكان في هذه الحال‏

[ختم الولاية المحمدية وختم الولاية العامة]

ومنهم رضي الله عنهم الختم وهو واحد لا في كل زمان بل هو واحد في العالم يختم الله به الولاية المحمدية فلا يكون في الأولياء المحمديين أكبر منه وثم ختم آخر يختم الله به الولاية العامة من آدم إلى آخر ولي وهو عيسى عليه السلام هو ختم الأولياء كما كان ختم دورة الملك فله يوم القيامة حشران يحشر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويحشر رسولا مع الرسل عليهم السلام‏

[الأولياء الذين هم على قلب آدم‏]

ومنهم رضي الله عنهم ثلاثمائة نفس على قلب آدم عليه السلام في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون فاعلم إن معنى‏

قول النبي عليه السلام في حق هؤلاء الثلاثمائة إنهم على قلب آدم‏

وكذلك‏

قوله عليه السلام في غير هؤلاء ممن هو على قلب شخص من أكابر البشر أو الملائكة

إنما معناه إنهم يتقلبون في المعارف الإلهية تقلب ذلك الشخص إذ كانت واردات العلوم الإلهية إنما ترد على القلوب فكل علم يرد على قلب ذلك الكبير من ملك أو رسول فإنه يرد على هذه القلوب التي هي على قلبه وربما يقول بعضهم فلان على قدم فلان وهو بهذا المعنى نفسه وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الثلاثمائة أنهم على قلب آدم‏

وما ذكر صلى الله عليه وسلم أنهم ثلاثمائة في أمته فقط أو هم في كل زمان وما علمنا أنهم في كل زمان إلا من طريق الكشف وأن الزمان لا يخلو عن هذا العدد ولكل واحد من هؤلاء الثلاثمائة من الأخلاق الإلهية ثلاثمائة خلق إلهي من تخلق بواحد منها صحت له السعادة وهؤلاء هم المجتبون المصطفون ويستحبون من الدعاء ما ذكره الحق سبحانه في كتابه رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ من الْخاسِرِينَ وقال تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا من عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو آدم ومن كان بهذه المثابة ولهذه الطائفة من الزمان الثلاثمائة من السنين التي ذكر الله أنها لبثها أهل الكهف وكانت شمسية ولهذا قال وازْدَادُوا تِسْعاً فإن الثلاثمائة سنة الشمسية تكون من سنى القمر ثلاثمائة وتسع سنين على التقريب وكل سنة تمام الزمان بفصوله وهذه الجملة قريبة من ثلث يوم واحد من أيام الرب وإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فإذا أخذ العارف في مشهد من مشاهد الربوبية حصل في مقدار يومها في تلك اللحظة من العلوم الإلهية ما يحصل غيره في عالم الحس مع الاجتهاد والتهيؤ من العلوم الإلهية في ألف سنة من هذه السنين المعلومة وعلى هذا المجرى يكون ما يحصله واحد من هؤلاء الثلاثمائة من العلوم الإلهية إذا اختطف عن نفسه وحصره يوم من أيام الرب ولا يعرف قدر ما ذكرناه وشرفه إلا من ذاقه وانطوى الزمان في حقه في تلك اللحظة كما تنطوي المسافة والمقادير في حق البصر إذا فتحه فوقع نظره على فلك الكواكب الثابتة في زمان فتح عينه اتصلت أشعته بأجرام تلك الكواكب فانظر إلى هذا البعد وانظر إلى هذه السرعة وكذلك تعلق إدراك السمع في الزمان الذي يكون فيه الصوت فيه يكون إدراك السمع له مع البعد العظيم فإن تفطنت لهذا الذي أشرنا إليه علمت معنى رؤيتك ربك مع نفي التحيز والجهات وعلمت الرائي منك والمرئي والرؤية وكذلك السامع والسمع والمسموع وهذه الطبقة هي التي علمت الأسماء الإلهية التي توجهت على الأشياء المشار إليها في قوله تعالى أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إذ كان الإنباء بالأسماء عين الثناء على المسمى والناس يأخذون هذه الآية على أن الأسماء هي أسماء المشار إليهم من حيث دلالتها عليهم كدلالة زيد في علميته على شخص زيد وعمر وعلى شخص عمرو وأي فخر في ذلك على الموصوفين بالعلم وهم الملائكة وما تفطن الناس لقولهم نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وقد فاتهم من أسماء الله تعالى ما توجهت على هؤلاء المشار إليهم انتهى الجزء الخامس والسبعون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

[الأولياء الذين هم على قلب نوح‏]

ومنهم رضي الله عنهم أربعون شخصا على قلب نوح عليه السلام في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون‏

هكذا ورد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الطبقة أن في أمته أربعين على قلب نوح عليه السلام‏

وهو أول الرسل والرجال الذين هم على قلبه صفتهم القبض ودعاؤهم دعاء نوح رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً ومقام هؤلاء الرجال مقام الغيرة الدينية وهو مقام صعب المرتقى فإنه‏

صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله غيور ومن غيرته حرم الفواحش‏

فثبت من هذا الخبر أن الفاحشة هي فاحشة لعينها ولهذا حرمها قيل لمحمد عليه السلام قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ أي ما علم وما لم يعلم إلا بالتوقيف لغموض إدراك الفحش‏

[علل الأحكام قد تكون أعيان الأشياء]

فكل محرم حرمه الله على عباده فهو فحش وما هو عين ما أحله في زمان آخر ولا في شرع آخر فهذا هو الذي بطن علمه فإن الخمر التي أحلت له ما هي التي حرمت عليه ومنع من شربها فعلل الأحكام قد تكون أعيان الأشياء ومذاهب أهل الكلام في ذلك مختلفة والذي يعطيه الكشف تقرير المذهبين فإن المكاشف يحكم بحسب الحضرة التي منها يكاشف فإنها تعطيه بذاتها ما هي عليه‏

[مقام الغيرة مقام حيرة]

ومن هنا كان مقام الغيرة مقام حيرة صعب المرتقى ولا سيما والحق وصف بها نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهي من صفات القلوب والباطن وهي تستدعي إثبات المغاير ولا غير على الحقيقة إلا أعيان الممكنات من حيث ثبوتها لا من حيث وجودها فالغيرة تظهر من ثبوت أعيان الممكنات وعدم الغيرة من وجود أعيان الممكنات فالله غيور من حيث قبول الممكنات للوجود فمن هناك حرم الفواحش ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ وما ثم إلا ظاهر أو باطن والغيرة قد انسحبت على الجميع ثم إنها في جبلة الحيوانات ولا يشعر لحكمها فمن غار عقلا كان مشهده ثبوت الأعيان ومن غار شرعا كان مشهوده وجود الأعيان وهؤلاء الأربعون هم رجال هذا المقام‏

[حقيقة مقام ميقات موسى‏]

وحقيقة مقام ميقات موسى أربعون ليلة لهؤلاء الأربعين فالليل منها لما بطن والنهار منها لما ظهر فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فأضاف الميقات إلى الرب فعلمنا إن‏

قوله صلى الله عليه وسلم والله أغير مني‏

أن الاسم الله هنا يريد به الاسم الرب لأنه لا يصح أن يطلق الاسم الله من غير تقييد من طريق المعنى فإن الأحوال تقيد هذا الإطلاق باسم خاص يطلبه الحال فالغيرة للاسم الرب وإن وصف بها الاسم الله ولما كانت المكالمة والتجلي عقيب تمامها لذلك ظهر بتمام هؤلاء الأربعين رجل في العالم مقامه مقام أبيه نوح فإنه الأب الثاني على ما ذكر وكل ما تفرق في هؤلاء الأربعين اجتمع في نوح كما أنه كلما تفرق في الثلاثمائة اجتمع في آدم‏

[خلوات الفتح‏]

وعلى معارج هؤلاء الأربعين عملت الطائفة الأربعينيات في خلواتهم لم يزيدوا على ذلك شيئا وهي خلوات الفتح عندهم ويحتجون على ذلك‏

بالخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه‏

كما كانت المكالمة في التجلي عن مقدمة الميقات الأربعيني الرباني‏

[الأولياء الذين هم على قلب إبراهيم‏]

ومنهم رضي الله عنهم سبعة على قلب الخليل إبراهيم عليه السلام لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان ورد به الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

ودعاؤهم دعاء الخليل رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ومقامهم السلامة من جميع الريب والشكوك وقد نزع الله الغل من صدورهم في هذه الدنيا وسلم الناس من سوء ظنهم إذ ليس لهم سوء ظن بل ما لهم ظن فإنهم أهل علم صحيح فإن الظن أنما يقع ممن لا علم له فيما لا علم له به بضرب من الترجيح فلا يعلمون من الناس إلا ما هم عليه الناس من الخير وقد أرسل الله بينهم وبين الشرور التي هم عليها الناس حجابا وأطلعهم على النسب التي بين الله وبين عباده ونظر الحق إلى عباده بالرحمة التي أوجدهم بها فكل خير في الخلق من تلك الرحمة فذلك هو المشهود لهم من عباد الله ولقد لقيتهم يوما وما رأيت أحسن سمتا منهم علما وحلما إخوان صدق عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ قد عجلت لهم جناتهم المعنوية الروحانية في قلوبهم مشهودهم من الخلق تصريف الحق من حيث هو وجود لا من حيث تعلق حكم به‏

[الأولياء الذين هم على قلب جبريل‏]

ومنهم رضي الله عنهم خمسة على قلب جبريل عليه السلام لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان ورد بذلك الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

هم ملوك أهل هذه‏

الطريقة لهم من العلوم على عدد ما لجبريل من القوي المعبر عنها بالأجنحة التي بها يصعد وينزل لا يتجاوز علم هؤلاء الخمسة مقام جبريل وهو الممد لهم من الغيب ومعه يقفون يوم القيامة في الحشر

[الأولياء الذين هم على قلب ميكائيل‏]

ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة على قلب ميكائيل عليه السلام لهم الخير المحض والرحمة والحنان والعطف والغالب على هؤلاء الثلاثة البسط والتبسم ولين الجانب والشفقة المفرطة ومشاهدة ما يوجب الشفقة ولا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان ولهم من العلوم على قدر ما لميكائيل من القوي‏

[الأولياء الذين هم على قلب إسرافيل‏]

ومنهم رضي الله عنهم واحد على قلب إسرافيل عليه السلام في كل زمان وله الأمر ونقيضه جامع للطرفين ورد بذلك خبر مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

له علم إسرافيل وكان أبو يزيد البسطامي منهم ممن كان على قلب إسرافيل وله من الأنبياء عيسى عليه السلام فمن كان على قلب عيسى عليه السلام فهو على قلب إسرافيل ومن كان على قلب إسرافيل قد لا يكون على قلب عيسى وكان بعض شيوخنا على قلب عيسى وكان من الأكابر

(وصل) [رجال عالم الأنفاس‏]

وأما رجال عالم الأنفاس رضي الله عنهم فإنا أذكرهم وهم على قلب داود عليه السلام ولا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان وإنما نسبناهم إلى قلب داود وقد كانوا موجودين قبل ذلك بهذه الصفة فالمراد بذلك أنه ما تفرق فيهم من الأحوال والعلوم والمراتب اجتمع في داود ولقيت هؤلاء العالم كلهم ولازمتهم وانتفعت بهم وهم على مراتب لا يتعدونها بعدد مخصوص لا يزيد ولا ينقص وأنا ذاكرهم إن شاء الله تعالى‏

[رجال الغيب العشرة]

فمنهم رضي الله عنهم رجال الغيب وهم عشرة لا يزيدون ولا ينقصون هم أهل خشوع فلا يتكلمون إلا همسا لغلبة تجلى الرحمن عليهم دائما في أحوالهم قال تعالى وخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً وهؤلاء هم المستورون الذين لا يعرفون خبأهم الحق في أرضه وسمائه فلا يناجون سواه ولا يشهدون غيره يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً دأبهم الحياء إذا سمعوا أحدا يرفع صوته في كلامه ترعد فرائصهم ويتعجبون وذلك أنهم لغلبة الحال عليهم يتخيلون أن التجلي الذي أورث عندهم الخشوع والحياء يراه كل أحد ورأوا أن الله قد أمر عباده أن يغضوا أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ وإذا كنا نهينا وتحبط أعمالنا برفع أصواتنا على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم وهو المبلغ عن الله فغض أصواتنا عند ما نسمع تلاوة القرآن آكد والله يقول وإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وهذا هو مقام رجال الغيب وحالهم الذي ذكرناه فيمتاز الحديث النبوي من القرآن بهذا القدر ويمتاز كلامنا من الحديث النبوي بهذا القدر وأما أهل الورع إذا اتفقت بينهم مناظرة في مسألة دينية فيذكر أحد الخصمين حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خفض الخصم صوته عند سرد الحديث هذا هو الأدب عندهم إذا كانوا أهل حضور مع الله وطلبوا العلم لوجه الله فأما علماء زماننا اليوم فما عندهم خير ولا حياء لا من الله ولا من رسول الله إذا سمعوا الآية أو الحديث النبوي من الخصم لم يحسنوا الإصغاء إليه ولا أنصتوا وداخلوا الخصم في تلاوته أو حديثه وذلك لجهلهم وقلة ورعهم عصمنا الله من أفعالهم واعلم أن رجال الغيب في اصطلاح أهل الله يطلقونه ويريدون به هؤلاء الذين ذكرناهم وهي هذه الطبقة وقد يطلقونه ويريدون به من يحتجب عن الأبصار من الإنس وقد يطلقونه أيضا ويريدون به رجالا من الجن من صالحي مؤمنيهم وقد يطلقونه على القوم الذين لا يأخذون شيئا من العلوم والرزق المحسوس من الحس ولكن يأخذونه من الغيب‏

[الظاهرون بأمر الله عن أمر الله‏]

ومنهم رضي الله عنهم ثمانية عشر نفسا أيضا هم الظاهرون بأمر الله عن أمر الله لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان ظهورهم بالله قائمون بحقوق الله مثبتون الأسباب خرق العوائد عندهم عادة آيتهم قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ وأيضا إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً كان منهم شيخنا أبو مدين رحمه الله كان يقول لأصحابه أظهروا للناس ما عندكم من الموافقة كما يظهر الناس بالمخالفة وأظهروا بما أعطاكم الله من نعمه الظاهرة يعني خرق العوائد والباطنة يعني المعارف فإن الله يقول وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ وقال عليه السلام التحدث بالنعم شكر

وكان يقول بلسان أهل هذا المقام أَ غَيْرَ الله تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ هم على مدارج الأنبياء والرسل لا يعرفون إلا الله ظاهرا وباطنا وهذه الطبقة اختصت باسم الظهور لكونهم ظهروا في عالم الشهادة ومن ظهر في عالم‏

الشهادة فقد ظهر بجميع العالم فكانوا أولى بهذا اللقب من غيرهم كان سهل بن عبد الله يقول في رجال الغيب الأول الرجل من يكون في فلاة من الأرض فيصلي فينصرف من صلاته فينصرف معه أمثال الجبال من الملائكة على مشاهدة منه إياهم فقلت لحاكي هذه الحكاية عن سهل الرجل من يكون وحده في الفلاة فيصلي فينصرف من صلاته بالحال الذي هو في صلاته فلا ينصرف معه أحد من الملائكة فإنهم لا يعرفون أين يذهب فهؤلاء هم عندنا رجال الغيب على الحقيقة لأنهم غابوا عنده فإن رجال الغيب قسمان في الظهور منهم رجال غيب عن الأرواح العلى ظاهرون لله لا لمخلوق رأسا ورجال غيب عن عالم الشهادة ظاهرون في العالم الأعلى فرجال الغيب أيضا أهل ظهور ولكن لا في عالم الشهادة فاعلم إن الظاهرين بأمر الله لا يرون سوى الله في الأكوان وأن الأكوان عندهم مظاهر الحق فهم أهل علانية وجهر وكل طبقة فعاشقة بمقامها تذب عنه ولهذا لا تعرف منزلة مقامها من المقامات حتى تفارقه فإذا نظرت إليه نظر الأجنبي المفارق حينئذ تعرفه فقبل أن تحصل فيه يكون معلوما لها من حيث الجملة وترى علو منصبه فإذا دخلت فيه كان ذوقا لها وشربا فيحجبها كونها فيه عن التمييز فإذا ارتقت عنه نظرت إليه بعد ذوق فكانت عارفة بقدره بين المقامات ومرتبته فيقبل كلام هذا الشخص فيه لأنه تكلم عن ذوق وكان شهوده إياه عن صحو فتقبل شهادته لذلك المقام وعليه كما قبلنا شهادة الشبلي وقوله في الحلاج ولم نقبل قول الحلاج في نفسه ولا في الشبلي لأن الحلاج سكران والشبلي صاح‏

[رجال القوة الإلهية]

ومنهم رضي الله عنهم ثمانية رجال يقال لهم رجال القوة الإلهية آيتهم من كتاب الله أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ لهم من الأسماء الإلهية ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ جمعوا ما بين علم ما ينبغي أن تعلم به الذات الواجبة الوجود لنفسها من حيث هي وبين علم ما ينبغي أن يعلم به من حيث ما هي إله فقدمها عزيز في المعارف لا تأخذهم في الله لومة لائم وقد يسمون رجال القهر لهم همم فعالة في النفوس وبهذا يعرفون كان بمدينة فاس منهم رجل واحد يقال له أبو عبد الله الدقاق كان يقول ما اغتبت أحدا قط ولا اغتيب بحضرتي أحد قط ولقيت أنا منهم ببلاد الأندلس جماعة لهم أثر عجيب وكل معنى غريب وكان بعض شيوخي منهم‏

[رجال القوة واللين‏]

ومن نمط هؤلاء رضي الله عنهم خمسة رجال في كل زمان أيضا لا يزيدون ولا ينقصون هم على قدم هؤلاء الثمانية في القوة غير أن فيهم لينا ليس للثمانية وهم على قدم الرسل في هذا المقام قال تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً وقال تعالى فَبِما رَحْمَةٍ من الله لِنْتَ لَهُمْ فهم مع قوتهم لهم لين في بعض المواطن وأما في العزائم فهم في قوة الثمانية على السواء ويزيدون عليهم بما ذكرناه مما ليس للثمانية وقد لقينا منهم رضي الله عنهم وانتفعنا بهم‏

[رجال الحنان والعطف الإلهي‏]

ومنهم رضي الله عنهم خمسة عشر نفسا هم رجال الحنان والعطف الإلهي آيتهم من كتاب الله آية الريح السليمانية تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ لهم شفقة على عباد الله مؤمنهم وكافرهم ينظرون الخلق بعين الجود والوجود لا بعين الحكم والقضاء لا يولي الله منهم قط أحدا ولاية ظاهرة من قضاء أو ملك لأن ذوقهم ومقامهم لا يحتمل القيام بأمر الخلق فهم مع الحق في الرحمة المطلقة التي قال الله فيها ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ لقيت منهم جماعة وماشيتهم على هذا القدم وانتقلت منهم إلى الخمسة التي ذكرناهم آنفا فإن مقام هؤلاء الخمسة بين رجال القوة ورجال الحنان فجمعت بين الطرفين فكانت واسطة العقد وهي الطائفة التي تصلح لهم ولاية الأحكام في الظاهر وهاتان الطائفتان رجال القوة ورجال الحنان لا يكون منهم وال أبدا أمور العباد ولا يستخلف منهم أحد جملة واحدة

[رجال الهيبة والجلال‏]

ومنهم رضي الله عنهم أربعة أنفس في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون آيتهم من كتاب الله تعالى الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومن الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ وآيتهم أيضا في سورة تبارك الملك الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى‏ في خَلْقِ الرَّحْمنِ من تَفاوُتٍ هم رجال الهيبة والجلال‏

كأنما الطير منهم فوق أرؤسهم *** لا خوف ظلم ولكن خوف إجلال‏

وهم الذين يمدون الأوتاد الغالب على أحوالهم الروحانية قلوبهم سماوية مجهولون في الأرض معروفون في السماء الواحد من هؤلاء الأربعة هو ممن استثنى الله تعالى في قوله ونُفِخَ في الصُّورِ فَصَعِقَ من في السَّماواتِ ومن في الْأَرْضِ إِلَّا من شاءَ الله والثاني له العلم بما لا يتناهى وهو مقام عزيز يعلم التفصيل في المجمل وعندنا ليس في علمه مجمل والثالث له الهمة الفعالة في الإيجاد ولكن لا يوجد عنه شي‏ء والرابع توجد عنه الأشياء وليس له إرادة فيها ولا همة متعلقة بها أطبق العالم‏

الأعلى على علو مراتبهم أحدهم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم والآخر على قلب شعيب عليه السلام والثالث على قلب صالح عليه السلام والرابع على قلب هود عليه السلام ينظر إلى أحدهم من الملإ الأعلى عزرائيل وإلى الآخر جبريل وإلى الآخر ميكائيل وإلى الآخر إسرافيل أحدهم بعبد الله من حيث نسبة العماء إليه والثاني يعبد الله من حيث نسبة العرش إليه والثالث يعبد الله من حيث نسبة السماء إليه والرابع يعبد الله من حيث نسبة الأرض إليه فقد اجتمع في هؤلاء الأربعة عبادة العالم كله شأنهم عجيب وأمرهم غريب ما لقيت فيمن لقيت مثلهم لقيتهم بدمشق فعرفت أنهم هم وقد كنت رأيتهم ببلاد الأندلس واجتمعوا بي ولكن لم أكن أعلم أن لهم هذا المقام بل كانوا عندي من جملة عباد الله فشكرت الله على أن عرفني بمقامهم وأطلعني على حالهم‏

[رجال الفتح‏]

ومنهم رضي الله عنهم أربعة وعشرون نفسا في كل زمان يسمون رجال الفتح لا يزيدون ولا ينقصون بهم يفتح الله على قلوب أهل الله ما يفتحه من المعارف والأسرار وجعلهم الله على عدد الساعات لكل ساعة رجل منهم فكل من يفتح عليه في شي‏ء من العلوم والمعارف في أي ساعة كانت من ليل أو نهار فهو لرجل تلك الساعة وهم متفرقون في الأرض لا يجتمعون أبدا كل شخص منهم لازم مكانه لا يبرح أبدا فمنهم باليمن اثنان ومنهم ببلاد الشرق أربعة ومنهم بالمغرب ستة والباقي بسائر الجهات آيتهم من كتاب الله تعالى ما يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ من رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وآية الأربعة الذين ذكرناهم قبل هؤلاء باقي الآية وهو قوله تعالى وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ من بَعْدِهِ وهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مع أن قدم أولئك في قوله خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً الآية

[رجال المعارج العلى‏]

ومنهم رضي الله عنهم سبعة أنفس يقال لهم رجال العلى في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون هم رجال المعارج العلى لهم في كل نفس معراج وهم أعلى عالم الأنفاس آيتهم من كتاب الله تعالى وأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ والله مَعَكُمْ يتخيل بعض الناس من أهل الطريق أنهم الأبدال لما يرى أنهم سبعة كما يتخيل بعض الناس في الرجبيين أنهم الأبدال لكونهم أربعين عند من يقول إن الأبدال أربعون نفسا ومنهم من يقول سبعة أنفس وسبب ذلك أنهم لم يقع لهم التعريف من الله بذلك ولا بعدد ما لله في العالم في كل زمان من العباد المصطفين الذين يحفظ الله بهم العالم فيسمعون إن ثم رجالا عددهم كذا كما إن ثم أيضا مراتب محفوظة لا عدد لأصحابها معين في كل زمان بل يزيدون وينقصون كالأفراد ورجال الماء والأمناء والأحباء والأخلاء وأهل الله والمحدثين والسمراء والأصفياء وهم المصطفون فكل مرتبة من هذه المراتب محفوظة برجال في كل زمان غير أنهم لا يتقيدون بعدد مخصوص مثل من ذكرناهم وسأذكر إذا فرغنا من رجال العدد هذه المراتب وصفة رجالها فإنا لقينا منهم جماعة ورأينا أحوالهم فهؤلاء السبعة أهل العروج لهم كما قلنا في كل نفس معراج إلى الله لتحصيل علم خاص من الله فهم مع النفس الصاعد خاصة ولله رجال هم مع النفس الرحماني النازل الذي به حياتهم وغذاؤهم وهم أحد وعشرون نفسا

[رجال التحت الأسفل وهم أهل النفس‏]

ومنهم رضي الله عنهم أحد وعشرون نفسا وهم رجال التحت الأسفل وهم أهل النفس الذي يتلقونه من الله لا معرفة لهم بالنفس الخارج عنهم وهم على هذا العدد في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون آيتهم من كتاب الله تعالى ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ يريد عالم الطبيعة إذ لا أسفل منه رده إليه ليحيا به فإن الطبع ميت بالأصالة فأحياه بهذا النفس الرحماني الذي رده إليه لتكون الحياة سارية في جميع الكون لأن المراد من كل ما سوى الله أن يعبد الله فلا بد أن يكون حيا وجودا ميتا حكما فيجمع بين الحياة والموت ولهذا قال له أَ ولا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ من قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئاً فيريد منك في شيئيتك أن تكون معه كما كنت وأنت لا هذه الشيئية فلهذا قلنا حيا وجودا وميتا حكما وهؤلاء الرجال لا نظر لهم إلا فيما يرد من عند الله مع الأنفاس فهم أهل حضور مع الدوام‏

[رجال الإمداد الإلهي والكونى‏]

ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة أنفس وهم رجال الإمداد الإلهي والكوني في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون فهم يستمدون من الحق ويمدون الخلق ولكن بلطف ولين ورحمة لا بعنف ولا شدة ولا قهر يقبلون على الله بالاستفادة ويقبلون على الخلق بالإفادة فيهم رجال ونساء قد أهلهم الله للسعي في حوائج الناس وقضائها عند الله لا عند غيره وهم ثلاثة لقيت واحدا منهم بإشبيلية وهو من أكبر من لقيته يقال له موسى بن عمران سيد وقته كان أحد الثلاثة لم يسأل أحدا حاجة من خلق الله‏

ورد في الخبر أن النبي صلى الله‏

عليه وسلم قال من تقبل لي بواحدة تقبلت له بالجنة أن لا يسأل أحدا شيئا

فأخذها أبان مولى عثمان بن عفان فعمل عليها فربما وقع له السوط من يده وهو راكب فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه فينيخ راحلته فتبرك فيأخذ السوط من الأرض بيده وصفة هؤلاء إذا أفادوا الخلق ترى فيهم من اللطف وحسن التأني حتى يظن أنهم هم الذين يستفيدون من الخلق وأن الخلق هم الذين لهم اليد عليهم ما رأيت أحسن منهم في معاملة الناس الواحد من هؤلاء الثلاثة فتحه دائم لا ينقطع على قدم واحدة لا يتنوع في المقامات وهو مع الله واقف وبالله في خلقه قائم هجيره الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والثاني له عالم الملكوت جليس للملائكة تتنوع عليه المقامات والأحوال ويظهر في كل صورة من صور العالم له التروحن إذا شاء كقضيب البان والثالث له عالم الملك جليس للناس لين المعاطف تتنوع أيضا عليه المقامات إمداده من البشر أي من النفوس الحيوانية وإمداد الثاني من الملائكة شأنهم عجيب ومعناهم لطيف‏

[الأولياء الإلهيون الرحمانيون‏]

ومنهم رضي الله عنهم ثلاثة أنفس إلهيون رحمانيون في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون يشبهون الأبدال في بعض الأحوال وليسوا بأبدال آيتهم من كتاب الله وما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً لهم اعتقاد عجيب في كلام الله بين الاعتقادين هم أهل وحي إلهي لا يسمعونه أبدا إلا كسلسلة على صفوان لا غير ذلك ومثل صلصلة الجرس هذا مقام هؤلاء القوم وما عندي خبر بفهمهم في ذلك لأنه ما حصل عندي من شأنهم هل هم بأنفسهم يعطيهم الله الفهم في تلك الصلصلة إذا تكلم الله بالوحي أو هل يفتقرون في فهم ما جاء في تلك الصلصلة إلى غيرهم كما قيل عن غيرهم حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ فاستفهموا بعد صعقهم فإن الله إذا تكلم بالوحي كأنه سلسلة على صفوان تصعق الملائكة فإذا أفاقت وهو قوله حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ فلا أدري شأن هؤلاء الثلاثة هل هم بهذه المثابة في سماع كلام الحق أو يعطون الفهم كما أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال وأحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال فالله أعلم كيف شأنهم في ذلك وما أخبرني أحد عنهم وسألتهم في ذلك فما أخبرني واحد منهم بشي‏ء لا اطلعت عليه من جانب الحق‏

[الولى الذي له الاستطاعة على كل شي‏ء]

ومنهم رضي الله عنهم رجل واحد وقد تكون امرأة في كل زمان آيته وهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ له الاستطالة على كل شي‏ء سوى الله شهم شجاع مقدام كبير الدعوى بحق يقول حقا ويحكم عدلا كان صاحب هذا المقام شيخنا عبد القادر الجيلي ببغداد كانت له الصولة والاستطالة بحق على الخلق كان كبير الشأن أخباره مشهورة لم ألقه ولكن لقيت صاحب زماننا في هذا المقام ولكن كان عبد القادر أتم في أمور أخر من هذا الشخص الذي لقيته وقد درج الآخر ولا علم لي بمن ولي بعده هذا المقام إلى الآن‏

[الولى المتولد بين الروح والبشر الذي يحفظ الله به عالم البرزخ‏]

ومنهم رضي الله عنهم رجل واحد مركب ممتزج في كل زمان لا يوجد غيره في مقامه وهو يشبه عيسى عليه السلام متولد بين الروح والبشر لا يعلم له أب بشري كما يحكى عن بلقيس أنها تولدت بين الجن والإنس فهو مركب من جنسين مختلفين وهو رجل البرزخ به يحفظ الله عالم البرزخ دائما فلا يخلو كل زمان عن واحد مثل هذا الرجل يكون مولده على هذه الصفة فهو مخلوق من ماء أمه خلافا لما ذكر عن أهل علم الطبائع أنه لا يتكون من ماء المرأة ولد بل الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ

[الولى ذو الرقائق الممتدة إلى جميع العالم‏]

ومنهم رضي الله عنهم رجل واحد وقد يكون امرأة له رقائق ممتدة إلى جميع العالم وهو شخص غريب المقام لا يوجد منه في كل زمان إلا واحد يلتبس على بعض أهل الطريق ممن يعرفه بحالة القطب فيتخيل أنه القطب وليس بالقطب‏

[سقيط الرفرف بن ساقط العرش‏]

ومنهم رضي الله عنهم رجل واحد يسمى بمقامه سقيط الرفرف بن ساقط العرش رأيته بقونية آيته من كتاب الله والنَّجْمِ إِذا هَوى‏ حاله لا يتعداه شغله بنفسه وبربه كبير الشأن عظيم الحال رؤيته مؤثرة في حال من يراه فيه انكسار هكذا شاهدته صاحب انكسار وذل أعجبتني صفته له لسان في المعارف شديد الحياء

[رجال الغنى بالله‏]

ومنهم رضي الله عنهم رجلان يقال لهما رجال الغني بالله في كل زمان من عالم الأنفاس آيتهم فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ يحفظ الله بهم هذا المقام الواحد منهم أكمل من الآخر يضاف الواحد منهم إلى نفسه وهو الأدنى ويضاف الآخر إلى الله تعالى‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب هذا ليس الغني عن كثرة العرض لكن الغني غنى النفس‏

ولهذا المقام هذان الرجلان وإن كان في العالم أغنياء النفوس ولكن في غناهم شوب ولا يخلص في الزمان إلا لرجلين تكون نهايتهما في بدايتهما وبدايتهما

في نهايتهما للواحد منهما إمداد عالم الشهادة فكل غنى في عالم الشهادة فمن هذا الرجل وللآخر منهما له إمداد عالم الملكوت فكل غنى بالله في عالم الملكوت فمن هذا الرجل والذي يستمدان منه هذان الرجلان روح علوي متحقق بالحق غناه الله ما هو غناه بالله فإن أضفته إليهما فرجال الغني ثلاثة وإن نظرت إلى بشريتهما فرجال الغني اثنان وقد يكون منهم النساء فغني بالنفس وغني بالله وغني غناه الله ولنا جزء عجيب في معرفة هؤلاء الرجال الثلاثة

[الولى الذي يتكرر تقلبه في كل نفس‏]

ومنهم رضي الله عنهم شخص واحد يتكرر تقلبه في كل نفس لا يفتر بين علمه بربه وبين علمه بذات ربه ما تكاد تراه في إحدى المنزلتين إلا رأيته في الأخرى لا ترى في الرجال أعجب منه حالا وليس في أهل المعرفة بالله أكبر معرفة من صاحب هذا المقام يخشى الله ويتقيه تحققت به ورأيته وأفادني آيته من كتاب الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقوله ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لا تزال ترعد فرائصه من خشية الله هكذا شهدناه‏

[رجال عين التحكيم والزوائد]

ومنهم رجال عين التحكيم والزوائد رضي الله عنهم وهم عشرة أنفس في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون مقامهم إظهار غاية الخصوصية بلسان الانبساط في الدعاء وحالهم زيادات الايمان بالغيب واليقين في تحصيل ذلك الغيب فلا يكون لهم غيبا

إذ كل غيب لهم شهادة *** وكل حال لهم عبادة

فلا يصير لهم غيب شهادة إلا ويزيدون إيمانا بغيب آخر ويقينا في تحصيله آيتهم من كتاب الله تعالى وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ولِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ فَزادَتْهُمْ إِيماناً وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بالزيادة وقوله تعالى وإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ‏

[البدلاء الذين هم غير الأبدال‏]

ومنهم رضي الله عنهم اثنا عشر نفسا وهم البدلاء ما هم الأبدال وهم في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون وسموا بدلاء لأن الواحد منهم لو لم يوجد الباقون ناب منابهم وقام بما يقوم به جميعهم فكل واحد منهم في عين الجميع‏

وما على الله بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد

ويلتبس على الناس أمرهم مع الأبدال من جهة الاسم ويشبهون النقباء من جهة العدد آيتهم من كتاب الله تعالى قول بلقيس كَأَنَّهُ هُوَ تعني عرشها وهو هو فما شبهته إلا بنفسه وعينه لا بغيره وإنما شوش عليها بعد المسافة المعتاد وبالعادات صل جماعة من الناس في هذا الطريق‏

[رجال الاشتياق‏]

ومنهم رضي الله عنهم رجال الاشتياق وهم خمسة أنفس وهم أصحاب لقلق وفيهم يقول القائل يصف حالهم‏

لست أدري أطال ليلي أم لا *** كيف يدري بذاك من يتقلى‏

فالأشواق تقلقهم في عين المشاهدة وهم من ملوك أهل طريق الله وهم رجال الصلوات الخمس كل رجل منهم مختص بحقيقة صلاة من الفرائض وإلى هذا المقام يؤول‏

قوله عليه السلام وجعلت قرة عيني في الصلاة

بهم يحفظ الله وجود العالم آيتهم من كتاب الله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى‏ لا يفترون عن صلاة في ليل ولا نهار كان صالح البربري منهم لقيته وصحبته إلى أن مات وانتفعت به وكذلك أبو عبد الله المهدوي بمدينة فاس صحبته كان من هؤلاء أيضا حتى أن بعض أهل الكشف يتخيلون أن كل صلاة تجسدت لهم ما هي أعيان وليس الأمر كذلك‏

[رجال الأيام الستة]

ومنهم رضي الله عنهم ستة أنفس في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون كان منهم ابن هارون الرشيد السبتي لقيته بالطواف يوم الجمعة بعد الصلاة سنة تسع وتسعين وخمسمائة وهو يطوف بالكعبة وسألته وأجابني ونحن بالطواف وكان روحه تجسد لي في الطواف حسا تجسد جبريل في صورة أعرابي وهؤلاء الرجال الستة لما اطلعت عليهم لم أكن قبل ذلك عرفت أن ثم ستة رجال ولما عرفت بهم في هذا الزمان القريب لم أدر ما مقامهم ثم بعد هذا عرفت أنهم رجال الأيام الستة التي خلق الله فيها العالم وما علمت ذلك إلا من هجيرهم فإن هجيرهم ولَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أَيَّامٍ وما مَسَّنا من لُغُوبٍ ولهم سلطان على الجهات الست التي ظهرت بوجود الإنسان وأخبرت أن واحدا منهم بوكأ من جملة العوانية من أهل أرزن الروم أعرف ذلك الشخص بعينه وصحبته وكان يعظمني ويراني كثيرا واجتمعت به في دمشق وفي سيواس وفي ملطية وفي قيصرية وخدمني مدة وكانت له والدة كان برا بها اجتمعت به في حران في خدمة والدته فما رأيت فيمن‏

رأيت من يبر أمه مثله وكان ذا مال ولي سنون فقدته من دمشق فما أدري هل عاش أو مات‏

[ما من أمر محصور في عدد إلا وله رجال بعدده‏]

وبالجملة فما من أمر محصور في العالم في عدد ما إلا ولله رجال بعدده في كل زمان يحفظ الله بهم ذلك الأمر وقد ذكرنا من الرجال المحصورين في كل زمان في عدد ما الذين لا يخلو الزمان عنهم ما ذكرناه في هذا الباب فلنذكر من رجال الله الذين لا يختصون بعدد خاص يثبت لهم في كل زمان بل يزيدون وينقصون ولنذكر الأسرار والعلوم التي يختصون بها وهي علوم تقسم عليهم بحسب كثرتهم وقلتهم حتى أنه لو لم يوجد إلا واحد منهم في الزمان اجتمع في ذلك الواحد ذلك الأمر كله فلنذكر الآن بعض ما تيسر من المقامات المعروفة التي ذكرها أهل الطريق وعينها أيضا الشرع أو عين أكثرها وسماها ثم بعد ذلك أذكر من المسائل التي تختص بهذا الباب وبالأولياء التي لا يعرفها بالمجموع إلا الولي الكامل‏

[الدعاوي العريضة والضعف الظاهر]

فإن الإمام محمد بن علي الترمذي الحكيم هو الذي نبه على هذه المسائل وسأل عنها اختبار الأهل الدعوى لما رأى من الدعاوي العريضة والضعف الظاهر فجعل هذه المسائل كالمحك والمعيار لدعواهم ولم يتعرض لخرق العوائد في ظاهر الكون التي اتخذتها العامة دلائل على الولاية وليست بدلائل عند أهل الله وإنما القوم يختبر بعضهم بعضا فيما يدعونه من العلوم الإلهية والأسرار فإن خرق العوائد عند الصادقين إنما ذلك في بواطنهم وقلوبهم بما يهبهم الله من الفهم عنه مما لا يشاركهم فيه ذوقا من ليس من جنسهم وها أنا ذاكر ألقاب الرجال الذين لا يحصرهم عدد ولا يقيدهم أمد والله المستعان انتهى الجزء السادس والسبعون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

[وصل رجال الله الذين لا يتقيدون بعدد والأسرار والعلوم التي يختصون بها]

[الملامية سادات أهل طريق الله‏]

فمنهم رضي الله عنهم الملامية وقد يقولون الملامتية وهي لغة ضعيفة وهم سادات أهل طريق الله وأئمتهم وسيد العالم فيهم ومنهم وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الحكماء الذين وضعوا الأمور مواضعها وأحكموها وأقروا الأسباب في أماكنها ونفوها في المواضع التي ينبغي أن تنفى عنها ولا أخلوا بشي‏ء مما رتبه الله في خلقه على حسب ما رتبوه فما تقتضيه الدار الأولى تركوه للدار الأولى وما تقتضيه الدار الآخرة تركوه للدار لآخرة فنظروا في الأشياء بالعين التي نظر الله إليها لم يخلطوا بين الحقائق فإنه من رفع السبب في الموضع الذي وضعه فيه واضعه وهو الحق فقد سفه واضعه وجهل قدره ومن اعتمد عليه فقد أشرك وألحد وإلى أرض الطبيعة أخلد فالملامتية قررت الأسباب ولم تعتمد عليها فتلامذة الملامتية الصادقون يتقلبون في أطوار الرجولية وتلامذة غيرهم يتقلبون في أطوار الرعونات النفسية فالملامية مجهولة أقدارهم لا يعرفهم إلا سيدهم الذي حاباهم وخصهم بهذا المقام ولا عدد يحصرهم بل يزيدون وينقصون‏

[الفقراء الذين يفتقرون إلى الله على الإطلاق‏]

ومنهم رضي الله عنهم الفقراء ولا عدد يحصرهم أيضا بل يكثرون ويقلون قال تعالى تشريفا لجميع الموجودات وشهادة لهم يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله فالفقراء هم الذين يفتقرون إلى كل شي‏ء من حيث إن ذلك الشي‏ء هو مسمى الله فإن الحقيقة تأبى أن يفتقر إلى غير الله وقد أخبر الله أن الناس فقراء إلى الله على الإطلاق والفقر حاصل منهم فعلمنا إن الحق قد ظهر في صورة كل ما يفتقر إليه فيه فلا يفتقر إلى الفقراء إلى الله بهذه الآية شي‏ء وهم يفتقرون إلى كل شي‏ء فالناس محجوبون بالأشياء عن الله وهؤلاء السادة ينظرون الأشياء مظاهر الحق تجلى فيها لعباده حتى في أعيانهم فيفتقر الإنسان إلى سمعه وبصره وجميع ما يفتقر إليه من جوارحه وإدراكاته ظاهرا وباطنا وقد أخبر الحق في الحديث الصحيح أن الله سمع العبد وبصره ويده فما افتقر هذا الفقير إلا إلى الله في افتقاره إلى سمعه وبصره فسمعه وبصره إذا مظهر الحق ومجلاه وكذلك جميع الأشياء بهذه المثابة فما ألطف سريان الحق في الموجودات وسريان بعضها في بعض وهو قوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الْآفاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ فالآيات هنا دلالات إنها مظاهر للحق فهذا حال الفقراء إلى الله لا ما يتوهمه من لا علم له بطريق القوم فالفقير من يفتقر إلى كل شي‏ء وإلى نفسه ولا يفتقر إليه شي‏ء فهذه أسنى الحالات قال أبو يزيد يا رب بما ذا أتقرب إليك قال بما ليس لي الذلة والافتقار قال تعالى وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ليتذللوا لي ولا يتذللوا لي حتى يعرفوني في الأشياء فيذلوا لي لا لمن ظهرت فيهم أو ظهرت أعيانهم بكونهم مظاهر لي فوجودهم أنا وما

يشهدون من أعيانهم سوى وجودهم فاعلم ذلك والله المرشد منور البصائر

[الصوفية الذين هم أهل التخلق والتحقق‏]

ومنهم رضي الله عنهم الصوفية ولا عدد لهم يحصرهم بل يكثرون ويقلون وهم أهل مكارم الأخلاق يقال من زاد عليك في الأخلاق زاد عليك في التصوف مقامهم الاجتماع على قلب واحد أسقطوا الياءات الثلاثة فلا يقولون لي ولا عندي ولا متاعي أي لا يضيفون إلى أنفسهم شيئا أي لا ملك لهم دون خلق الله فهم فيما في أيديهم على السواء مع جميع ما سوى الله مع تقرير ما بأيدي الخلق للخلق لا يطلبونهم بهذا المقام وهذه الطبقة هي التي يظهر عليهم خرق العوائد عن اختيار منهم ليقيموا الدلالة على التصديق بالدين وصحته في مواضع الضرورة وقد عاينا مثل هذا من هذه الطائفة في مناظرة فيلسوف ومنهم من يفعل ذلك لكونه صار عادة لهم كسائر الأمور المعتادة عند أهلها فما هي في حقهم خرق عادة وهي في المعتاد العام خرق عادة فيمشون على الماء وفي الهواء كما نمشي نحن وكل دابة على الأرض لا يحتاج في ذلك في العموم إلى نية وحضور إلا الملامية والفقراء فإنهم لا يمشون ولا يخطو أحد منهم خطوة ولا يجلس إلا بنية وحضور لأنه لا يدري من أين يكون أخذ الله لعباده وقد كان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول في دعائه أعوذ بالله أن اغتال من تحتي وإن كانوا على أفعال تقتضي لهم الأمان كما هي أفعال الأنبياء من الطاعات لله والحضور مع الله ولكن لا يأمنون أن يصيب الله عامة عباده بشي‏ء فيعم الصالح والطالح لأنها دار بلاء ويحشر كل شخص على نيته ومقامه وقد أخبر الله بقتل الأمم أنبياءها ورسلها وأهل القسط من الناس وما عصمهم الله من بلاء الدنيا فالصوفية هم الذين حازوا مكارم الأخلاق ثم إنهم رضي الله عنهم علموا إن الأمر يقتضي أن لا يقدر أحد على إن يرضي عباد الله بخلق وإنه مهما أرضى زيدا ربما أسخط عمرا فلما رأوا أن حصول مقام عموم مكارم الأخلاق مع الجميع محال نظروا من أولى أن يعامل بمكارم الأخلاق ولا يلتفت إلى من يسخطه ذلك لم يجدوا إلا الله وأحباءه من الملائكة والبشر المطهر من الرسل والأنبياء وأكابر الأولياء من الثقلين فالتزموا مكارم الأخلاق معهم ثم أرسلوها عامة في سائر الحيوانات والنباتات وما عدا أشرار الثقلين والذي يقدرون عليه من مكارم الأخلاق مما أبيح لهم أن يصرفوه مع أشرار الثقلين فعلوه وبادروا إليه وهو على الحقيقة ذلك الخلق مع الله إلا في إقامة الحدود إذا كانوا حكاما وأداء الشهادات إذا تفرضت عليهم فاعلم ذلك‏

[العباد الذين هم أهل الفرائض‏]

ومنهم رضي الله عنهم العباد وهم أهل الفرائض خاصة قال تعالى مثنيا عليهم وكانُوا لَنا عابِدِينَ ولم يكونوا يؤدون سوى الفرائض ومن هؤلاء المنقطعون بالجبال والشعاب والسواحل وبطون الأودية ويسمون السياح ومنهم من يلازم بيته وصلاة الجماعات ويشتغل بنفسه ومنهم صاحب سبب ومنهم تارك السبب وهم صلحاء الظاهر والباطن قد عصموا من الغل والحسد والحرص والشرة المذموم وصرفوا كل هذه الأوصاف إلى الجهات المحمودة ولا رائحة عندهم من المعارف الإلهية والأسرار ومطالعة الملكوت والفهم عن الله في آياته حين تتلى غير أن الثواب لهم مشهود والقيامة وأهوالها والجنة والنار مشهودتان دموعهم في محاريبهم تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطَمَعاً وتَضَرُّعاً وخِيفَةً إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وقِياماً شغلهم هول المعاد عن الرقاد ضمروا بطونهم بالصيام للسباق في حلبة النجاة إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ليسوا من الإثم والباطل في شي‏ء عمال وأي عمال عاملوا الحق بالتعظيم والإجلال سمعت بعضهم رضي الله عنهم وعنه وهو أبو عبد الله الطبخي وإلى وجدة يتأوه وينشد ما قاله عمر بن عبد العزيز

حتى متى لا ترعوي *** وإلى متى وإلى متى‏

ما بعد أن سميت كهلا *** واستلبت اسم الفتى‏

لا ترعوي لنصيحة *** فإلى متى وإلى متى‏

وكان منهم خليفة من بنى العباس هرب من الخلافة من العراق وأقام بقرطبة من بلاد الأندلس إلى أن درج ودفن بباب عباس منها يقال له أبو وهب الفاضل خرج فضائله شيخنا أبو القاسم خلف بن بشكوال رحمه الله فذكر فيها عنه إنه كان كثيرا ما ينشد لنفسه‏

برئت من المنازل والقباب *** فلم يعسر على أحد حجابي‏

فمنزلي الفضاء وسقف بيتي *** سماء الله أو قطع السحاب‏

فأنت إذا أردت دخلت بيتي *** على مسلما من غير باب‏

لأني لم أجد مصراع باب *** يكون من السماء إلى التراب‏

ولا انشق الثرى عن عود تخت *** أؤمل أن أشد به ثيابي‏

ولا خفت الإباق على عبيدي *** ولا خفت الرهاص على دوابي‏

ولا حاسبت يوما قهرمانا *** فأخشى أن أغلت في الحساب‏

ففي ذا راحة وبلاغ عيش *** فدأب الدهر ذا أبدا ودأبي‏

كان خالنا أبو مسلم الخولاني رحمه الله من أكابرهم كان يقوم الليل فإذا أدركه العياء ضرب رجليه بقضبان كانت عنده ويقول لرجليه أنتما أحق بالضرب من دابتي أ يظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يفوزوا بمحمد صلى الله عليه وسلم دوننا والله لازاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا لقينا منهم جماعة كثيرة ذكرناهم في كتبنا ورأينا من أحوالهم ما تضيق الكتب عنها

[الزهاد الذين تركوا الدنيا عن قدرة]

ومنهم رضي الله عنهم الزهاد وهم الذين تركوا الدنيا عن قدرة واختلف أصحابنا فيمن ليس عنده بيده من الدنيا شي‏ء وهو قادر على طلبها وجمعها غير أنه لم يفعل وترك الطلب فهل يلحق بالزهاد أم لا فمن قائل من أصحابنا إنه يلحق بالزهاد ومن قائل لا زهد إلا في حاصل فإنه ربما لو حصل له شي‏ء منها ما زهد فمن رؤسائهم إبراهيم بن أدهم وحديثه مشهور وكان بعض أخوالي منهم كان قد ملك مدينة تلمسان يقال له يحيى بن يغان لو كان في زمنه رجل فقيه عابد منقطع من أهل تونس يقال له أبو عبد الله التونسي كان بموضع خارج تلمسان يقال له للعباد كان قد انقطع بمسجد يعبد الله فيه وقبره مشهور بها يزار فبينا هذا الصالح يمشي بمدينة تلمسان بين المدينتين أقادير والمدينة الوسطى إذ لقيه خالنا يحيى بن يغان ملك المدينة في خوله وحشمه فقيل له هذا أبو عبد الله التونسي عابد وقته فمسك لجام فرسه وسلم على الشيخ فرد عليه السلام وكان على الملك ثياب فاخرة فقال له يا شيخ هذه الثياب التي أنا لابسها تجوز لي الصلاة فيها فضحك الشيخ فقال له الملك مم تضحك قال من سخف عقلك وجهلك بنفسك وحالك ما لك تشبيه عندي إلا بالكلب يتمرغ في دم الجيفة وأكلها وقذارتها فإذا جاء يبول يرفع رجله حتى لا يصيبه البول وأنت وعاء ملي‏ء حراما وتسأل عن الثياب ومظالم العباد في عنقك قال فبكى الملك ونزل عن دابته وخرج عن ملكه من حينه ولزم خدمة الشيخ فمسكه الشيخ ثلاثة أيام ثم جاءه بحبل فقال له أيها الملك قد فرغت أيام الضيافة قم فاحتطب فكان يأتي بالحطب على رأسه ويدخل به السوق والناس ينظرون إليه ويبكون فيبيع ويأخذ قوته ويتصدق بالباقي ولم يزل في بلده ذلك حتى درج ودفن خارج تربة الشيخ وقبره اليوم بها يزار فكان الشيخ إذا جاءه الناس يطلبون أن يدعو لهم يقول لهم التمسوا الدعاء من يحيى بن يغان فإنه ملك فزهد ولو ابتليت بما ابتلي به من الملك ربما لم أزهد قال بعض الملوك في حال نفسه وقد تزهد وانقطع إلى الله تعالى‏

أنا في الحال الذي قد تراه *** إن تأملت أحسن الناس حالا

منزلي حيث شئت من مستقر الأرض *** أسقى من المياه الزلالا

ليس لي والد ولا لي مولود *** أراه ولا أرى إلى عيالا

أجعل الساعد اليمين وسادي *** فإذا ما انقلبت كان الشمالا

قد تلذذت حقبة بأمور *** لو تدبرتها لكانت خيالا

فهؤلاء الزهاد هم الذين آثروا الحق على الخلق وعلى نفوسهم فكل أمر لله فيه رضي وإيثار قاموا به وأقبلوا عليه وما كان للحق عنه إعراض أعرضوا عنه تركوا القليل رغبة في الكثير ليس للزهاد خروج عن هذا المقام في الزهد فإن خرجوا فلم يخرجوا من كونهم زهادا بل من مقام آخر وقد ينطلق اسم الزهد في اصطلاح القوم على ترك كل‏

ما سوى الله من دنيا وآخرة كأبي يزيد سئل عن الزهد فقال ليس بشي‏ء لا قدر له عندي ما كنت زاهدا سوى ثلاثة أيام أول يوم زهدت في الدنيا والثاني زهدت في الآخرة وثالث يوم زهدت في كل ما سوى الله فنوديت ما ذا تريد فقلت أريد أن لا أريد لأني أنا المراد وأنت المريد فجعل ترك كل ما سوى الله زهدا

[رجال الماء]

ومنهم رضي الله عنهم رجال الماء وهم قوم يعدون الله في قعور البحار والأنهار لا يعلم بهم كل أحد أخبرني أبو البدر التماشكي البغدادي وكان صدوقا ثقة عارفا بما ينقل ضابطا حافظا لما ينقل عن الشيخ أبي السعود بن الشبلي إمام وقته في الطريق قال كنت بشاطئ دجلة بغداد فخطر في نفسي هل لله عباد يعبدونه في الماء قال فما استتممت الخاطر إلا وإذا بالنهر قد انفلق عن رجل فسلم علي وقال نعم يا أبا السعود لله رجال يعبدون الله في الماء وأنا منهم أنا رجل من تكريت وقد خرجت منها لأنه بعد كذا وكذا يوما يقع فيها كذا وكذا ويذكر أمرا يحدث فيها ثم غاب في الماء فلما انقضت خمسة عشر يوما وقع ذلك الأمر على صورة ما ذكره ذلك الرجل لأبي السعود وأعلمني بالأمر ما كان‏

[الأفراد]

ومنهم رضي الله عنهم الأفراد ولا عدد يحصرهم وهم المقربون بلسان الشرع كان منهم محمد الأواني يعرف بابن قائد لوانة من أعمال بغداد من أصحاب الإمام عبد القادر الجيلي وكان هذا ابن قائد يقول فيه عبد القادر معربد الحضرة كان يشهد له عبد القادر الحاكم في هذه الطريقة المرجوع إلى قوله في الرجال أن محمد بن قائد الأواني من المفردين وهم رجال خارجون عن دائرة القطب وخضر منهم ونظيرهم من الملائكة الأرواح المهيمة في جلال الله وهم الكروبيون معتكفون في حضرة الحق سبحانه لا يعرفون سواه ولا يشهدون سوى ما عرفوا منه ليس لهم بذواتهم علم عند نفوسهم وهم على الحقيقة ما عرفوا سواهم ولا وقفوا إلا معهم هم وكل ما سوى الله بهذه المثابة

[مقام النبوة المطلقة]

مقامهم بين الصديقية والنبوة الشرعية وهو مقام جليل جهله أكثر الناس من أهل طريقنا كأبي حامد وأمثاله لأن ذوقه عزيز هو مقام النبوة المطلقة وقد ينال اختصاصا وقد ينال بالعمل المشروع وقد ينال بتوحيد الحق والذلة له وما ينبغي من تعظيم جلال المنعم بالإيجاد والتوحيد كل ذلك من جهة العلم وله كشف خاص لا يناله سواهم كالخضر فإنه كما قلنا من الأفراد ومحمد صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يرسل وينبأ من الأفراد الذين نالوا الأمر بتوحيد الحق وتعظيم جلاله والانقطاع إليه وذلك أنه يحصل في نفوسهم أعني في نفوس من هذا طريقهم إن الله كما أنعم عليه بالإيجاد وأسباب الخير هو قادر على أن يبقى له وعليه نعمة البقاء في الخير الدائم والسعادة حيث أراد وإن لم يعلم أن ثم آخرة ولا أن الدنيا لها نهاية أم لا ولا إيمان عنده بشي‏ء من هذا لأنه ما كشف له عن ذلك فإذا أطلعه الحق على الأمور حينئذ التحق بالمؤمنين بما هو الأمر عليه مما لا يدرك بالنظر الفكري فلو كان في زمان جواز نبوة الشرائع لكان صاحب هذا المقام منهم كالخضر في زمانه وعيسى والياس وإدريس وأما اليوم فليس إلا المقام الذي ذكرناه والرسالة ونبوة الشرائع قد انقطعت ولو كانت الأنبياء والرسل في قيد الحياة في هذا الزمان لكانوا بأجمعهم داخلين تحت حكم الشرع المحمدي‏

[الرسالة ونبوة الشرائع‏]

وأما الرسالة ونبوة الشرائع العامة أعني المتعدية إلى الأمم والخاصة بكل نبي فاختصاص إلهي في الأنبياء والرسل لا ينال بالاكتساب ولا بالتعمل فخطاب الحق قد ينال بالتعمل والذي يخاطب به إن كان شرعا يبلغه أو يخصه ذلك هو الذي نقول فيه لا ينال بالتعمل ولا بالكسب وهو الاختصاص الإلهي المعلوم وكل شرع ينال به عامله هذه المرتبة فإن نبي ذلك الشرع من أهل هذا المقام وهو زيادة على شريعة نبوته له فضلا من الله ونعمة وهو لمحمد صلى الله عليه وسلم بالقطع وكل شرع لا ينال العامل به هذا المقام فإن نبي ذلك الشرع لم يحصل له هذا المقام الذي حصل لغيره من أنبياء الشرائع قال تعالى ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ وقال جل جلاله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ في وجوه منها هذا قال الخضر لموسى في هذا المقام وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى‏ ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً فإن موسى في ذلك الوقت لم يكن له هذا المقام الذي نفاه عنه العدل بقوله وتعديل الله إياه بما شهد له به من العلم وما رد عليه موسى في ذلك ولا أنكر عليه بل قال له سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ الله صابِراً ولا أَعْصِي لَكَ أَمْراً فإنه قال له قبل ذلك هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى‏ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قال له الخضر إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ثم أنصفه في العلم وقال له يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا فلم يكن للخضر نبوة التشريع التي للأنبياء المرسلين ولا أدري‏

بعد هذا الاجتماع هل حصل لموسى من جانب الحق ذلك المقام الذي كان لخضر أم لا لا علم لي بذلك فرحم الله عبدا أطلعه الحق على أن موسى قد أحاط بالعلم الذي ناله الخضر بعد ذلك وحصل له هذا المقام خبرا فألحقه في هذا الموضع من كتابي هذا ونسبه إلى نفسه لا إلي‏

[الأمناء وهم أكابر الملامية]

ومنهم رضي الله عنهم الأمناء

قال النبي صلى الله عليه وسلم إن لله أمناء

وقال في أبي عبيدة ابن الجراح إنه أمين هذه الأمة

ومستخبر عن سر ليلي رددته *** بعمياء من ليلي بغير يقين‏

يقولون خبرنا فأنت أمينها *** وما أنا إن أخبرتهم بأمين‏

هم طائفة من الملامية لا تكون الأمناء من غيرهم وهم أكابر الملامتية وخواصهم فلا يعرف ما عندهم من أحوالهم لجريهم مع الخلق بحكم العوائد المعلومة التي يطلبها الايمان بما هو إيمان وهو الوقوف عند ما أمر الله به ونهى على جهة الفرضية فإذا كان يوم القيامة وظهرت مقاماتهم للخلق وكانوا في الدنيا مجهولين بين الناس‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم إن لله أمناء

وكان الذي أمنوا عليه ما ذكرناه ولو لا إن الخضر أمره الله أن يظهر لموسى عليه السلام بما ظهر ما ظهر له بشي‏ء من ذلك فإنه من الأمناء ولما عرض الله الأمانة على الإنسان وقبلها كان بحكم الأصل ظلوما جهولا فإنه خوطب بحملها عرضا لا أمرا فإن حملها جبرا أعين عليها مثل هؤلاء فالأمناء حملوها جبرا لا عرضا فإنه جاءهم الكشف فلا يقدرون أن يجهلوا ما علموا ولم يريدوا أن يتميزوا عن الخلق لأنه ما قيل لهم في ذلك أظهروا شيئا منه ولا لا تظهروه فوقفوا على هذا الحد فسموا أمناء ويزيدون على سائر الطبقات أنهم لا يعرف بعضهم بعضا بما عنده فكل واحد يتخيل في صاحبه أنه من عامة المؤمنين وهذا ليس إلا لهذه الطائفة خاصة لا يكون ذلك لغيرهم‏

[القراء وهم أهل الله وخاصته‏]

ومنهم رضي الله عنهم القراء أهل الله وخاصته ولا عدد يحصرهم‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم أهل القرآن هم أهل الله وخاصته‏

وأهل القرآن هم الذين حفظوه بالعمل به وحفظوا حروفه فاستظهروه حفظا وعملا كان أبو يزيد البسطامي منهم حدث أبو موسى الديبلي عنه بذلك أنه ما مات حتى استظهر القرآن فمن كان خلقه القرآن كان من أهله ومن كان من أهل القرآن كان من أهل الله لأن القرآن كلام الله وكلامه علمه وعلمه ذاته وبال هذا المقام سهل بن عبد الله التستري وهو ابن ست سنين ولهذا كان بدؤه في هذا الطريق سجود القلب‏

[سجود القلب‏]

وكم من ولي لله كبير الشأن طويل العمر مات وما حصل له سجود القلب ولا علم إن للقلب سجودا أصلا مع تحققه بالولاية ورسوخ قدمه فيها فإن سجود القلب إذا حصل لا يرفع أبدا رأسه من سجدته فهو ثباته على تلك القدم الواحدة التي تتفرع منها أقدام كثيرة وهو ثابت عليها فأكثر الأولياء يرون تقليب القلب من حال إلى حال ولهذا سمي قلبا وصاحب هذا المقام وإن تقلبت أحواله فمن عين واحدة هو عليها ثابت يعبر عنها بسجود القلب ولهذا لما دخل سهل بن عبد الله عبادان على الشيخ قال له أ يسجد القلب قال الشيخ إلى الأبد فلزم سهل خدمته‏

[الله يؤتى ما شاء من علمه من شاء من عباده‏]

فالله تعالى يؤتي ما شاء من علمه من شاء من عباده كما قال يُلْقِي الرُّوحَ من أَمْرِهِ عَلى‏ من يَشاءُ من عِبادِهِ فكل أمر منه إلى خلقه سبحانه من مقامات القربة في ملك ورسول ونبي وولي ومؤمن وسعادة بمجرد توحيد ومن يبعث أمة وحده إنما هو من عناية الله به ومنته عليه فإن توفيق الله للعبد في اكتساب ما قد قضى باكتسابه منة الله بذلك على عبده واختصاص وكم من ولي قد تعرض لنيل أمر من ذلك ولم تسبق له عناية من الله في تحصيله فحيل بينه وبين حصوله مع التعمل فأهل القرآن هم أهل الله فلم يجعل لهم صفة سوى عينه سبحانه ولا مقام أشرف ممن كان عين الحق صفته على علم منه‏

[الأولياء الأحباب: المحبوبون والمحبون‏]

ومنهم رضي الله عنهم الأحباب ولا عدد لهم بحصرهم بل يكثرون ويقلون قال تعالى فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ فمن كونهم محبين ابتلاهم ومن كونهم محبوبين اجتباهم واصطفاهم أعني في هذه الدار وفي القيامة وأما في الجنة فليس يعاملهم الحق إلا من كونهم محبوبين خاصة ولا يتجلى لهم إلا في ذلك المقام وهذه الطائفة على قسمين قسم أحبهم ابتداء وقسم استعملهم في طاعة رسوله طاعة لله فأثمرت لهم تلك محبة الله إياهم قال تعالى من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله فهذه محبة قد نتجت لم تكن ابتداء وإن كانوا أحبابا كلهم‏

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة *** والأذن تعشق قبل العين أحيانا

فلا خفاء فيما بينهم من المنازل وما من مقام من المقامات وإلا وأهله فيه بين فاضل ومفضول وهؤلاء الأحباب علامتهم الصفاء فلا يشوب ودهم كدر أصلا ولهم الثبات على هذه القدم مع الله وهم مع الكون بحسب ما يقام فيه ذلك الكون من محمود ومذموم شرعا فيعاملونه بما يقتضيه الأدب فهم يوالون في الله ويعادون في الله تعالى فالموالاة من حيث وجود المكون والمعاداة والذم من حيث عين المتكون لا من حيث ما اتصف به من الكون لأن الكون كون الله فهم يحكمون ولا يحكمون قد مكنهم الله من أنفسهم وأقامهم في حضرة الأدب فهم الأدباء الجامعون للخيرات‏

يقول الله تعالى فيمن ادعى هذا المقام يا عبدي هل عملت لي عملا قط فيقول العبد يا رب صليت وجاهدت وفعلت وفعلت ويصف من أحوال الخير فيقول الله له ذلك لك فيقول العبد يا رب فما هو العمل الذي هو لك فيقول هل واليت في وليا أو عاديت في عدوا

وهذا هو إيثار المحبوب قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وقال لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ من حَادَّ الله ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ (أَبْناءَهُمْ أَوْ) إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ فهم أهل التأييد والقوة

ورد في الخبر الصحيح وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتباذلين في والمتزاورين في‏

[المحدثون وهم صنفان‏]

ومنهم رضي الله عنهم المحدثون وعمر بن الخطاب رضي الله عنه منهم وكان في زماننا منهم أبو العباس الخشاب وأبو زكرياء البجاى بالمعرة بزاوية عمر بن عبد العزيز بدير النقيرة وهم صنفان صنف يحدثه الحق من خلف حجاب الحديث قال تعالى وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْياً أَوْ من وَراءِ حِجابٍ وهذا الصنف على طبقات كثيرة والصنف الآخر تحدثهم الأرواح الملكية في قلوبهم وأحيانا على آذانهم وقد يكتب لهم وهم كلهم أهل حديث فالصنف الذي تحدثه الأرواح الطريق إليه بالرياضات النفسية والمجاهدات البدنية بأي وجه كان ومن كان فإن النفوس إذا صفت من كدر الوقوف مع الطبع التحقت بعالمها المناسب لها فأدركت ما أدركت الأرواح العلى من علوم الملكوت والأسرار وانتقش فيها جميع ما في العالم من المعاني وحصلت من الغيوب بحسب الصنف الروحاني المناسب لها فإن الأرواح وإن جمعهم أمر واحد فلكل روح مقام معلوم فهم على درجات وطبقات فمنهم الكبير والأكبر كجبريل وإن كان من أكابرهم فميكائيل أكبر منه ومنصبه فوق منصبه وإسرافيل أكبر من ميكائيل وجبريل أكبر من إسماعيل فالذي على قلب

إسرافيل منه يأتي الإمداد إليه وهو أعلى من الذين هم على قلب ميكائيل فكل محدث من هؤلاء يحدثهم الروح المناسب لهم وكم من محدث لا يعلم من يحدثه فهذا من آثار صفاء النفوس وتخليصها من الوقوف مع الطبع وارتفاعها عن تأثير العناصر والأركان فيها فهي نفس فوق مزاج بدنها وقع قوم بهذا القدر من الحديث ولكن ما هو شرط في السعادة الإيمانية في الدار الآخرة لأنه تخليص نفسي فإن كان هذا المحدث أتى جميع هذه الصفات التي أوجبت له التخليص من الطبع بالطريقة المشروعة والاتباع النبوي والايمان الجزم اقترنت بالحديث السعادة فإن انضاف إلى ذلك الحديث الحديث مع الرب من الرب تعالى إليهم كان من الصنف الأول الذي ذكرنا أنه على طبقات في الحديث قال بعضهم‏

يا مؤنسي بالليل إن هجع الورى *** ومحدثي من بينهم بنهار

فذكر هذا القائل أن حديثه مع الله وحديث الله معه إنه من بينيتهم لا أنه كلمه على ألسنتهم قال تعالى نُودِيَ من شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ في الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ من الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى‏ إِنِّي أَنَا الله وقال تعالى وكَلَّمَ الله مُوسى‏ تَكْلِيماً فأكده بالمصدر لرفع الإشكال هذا هو المطلوب بالحديث في هذه الطريقة وأما قوله تعالى فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله فذلك لأهل السماع من الحق في الأشياء لا من بين الأشياء لأن بينية الأشياء عبارة عن النسب وهي أمور عدمية لا وجودية فإذا كان الحديث منها كان بلا واسطة وإذا كان من الأشياء فذلك قوة الفهم عن الله‏

ورد في الخبر الصحيح أن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

فهذا عين قوله فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله والذي نطلبه في هذا الطريق كلام الله من بين الأشياء لا في الأشياء ولا من الأشياء وإن كان هو عين وجود الأشياء فإنه ليس عين الأشياء فالأعيان في الموجودات‏

هيولى لها أو أرواح لها والوجود ظاهر تلك الأرواح وصور تلك الأعيان الهيولائية فالوجود كله حق ظاهر وباطنه الأشياء فالحديث الإلهي من بين الأشياء أوضح عند السامع في الدلالة إنه هو المكلم من أن يكلمنا في الأشياء فافهم والله تعالى الملهم‏

[الأخلاء الذين لهم مقام الاتحاد]

ومنهم رضي الله عنهم الأخلاء ولا عدد يحصرهم بل يكثرون ويقلون قال الله تعالى واتَّخَذَ الله إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا خليلا لا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله‏

والمخاللة لا تصح إلا بين الله وبين عبده وهو مقام الاتحاد ولا تصح المخاللة بين المخلوقين وأعني من المخلوقين من المؤمنين ولكن قد انطلق اسم الأخلاء على الناس مؤمنيهم وكافريهم قال تعالى الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ فالخلة هنا للعاشرة وقد ورد أن المرء على دين خليله‏

وقيل في مقام الخلة

قد تخللت مسلك الروح مني *** وبذا سمي الخليل خليلا

[لا تصح الخلة إلا بيت الله وعبده‏]

وإنما قلنا لا تصح الخلة إلا بين الله وبين عبده لأن أعيان الأشياء متميزة وكون الأعيان وجود الحق لا غير ووجود الشي‏ء لا يمتاز عن عينه فلهذا لا تصح الخلة إلا بين الله وعبيده خاصة إذ هذا الحال لا يكون بين المخلوقين لأنه لا يستفاد من مخلوق وجود عين فاعلم ذلك‏

[شروط الخلة]

واعلم أن شروط الخلة لا تصح بين المؤمنين ولا بين النبي وتابعيه فإذا لم تصح شروطها لا تصح هي في نفسها ولكن في دار التكليف فإن النبي والمؤمن بحكم الله لا بحكم خليله ولا بحكم نفسه ومن شروط الخلة أن يكون الخليل بحكم خليله وهذا لا يتصور مطلقا بين المؤمنين ولا بين الرسل وأتباعهم في الدار الدنيا والمؤمن تصح الخلة بينه وبين الله ولا تصح بينه وبين الناس لكن تسمى المعاشرة التي بين الناس إذا تأكدت في غالب الأحوال خلة فالنبي ليس له خليل ولا هو صاحب لاحد سوى نبوته وكذلك المؤمن ليس له خليل ولا صاحب سوى إيمانه كما إن الملك ليس هو صاحب أحد سوى ملكه فمن كان بحكم ما يلقى إليه ولا يتصرف إلا عن أمر إلهي فلا يكون خليلا لا حد ولا صاحبا أبدا فمن اتخذ من المؤمنين خليلا غير الله فقد جهل مقام الخلة وإن كان عالما بالخلة والصحبة ووفاها حقها مع خليله وهو حاكم فقد قدح في إيمانه لما يؤدي ذلك إليه من إبطال حقوق الله فلا خليل إلا الله فالمقام عظيم وشأنه خطير والله الموفق لا رب غيره‏

[السمراء وهم صنف خاص من المحدثين‏]

ومنهم رضي الله عنهم السمراء ولا عدد يحصرهم وهم صنف خاص من أهل الحديث قال تعالى وشاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ وهذا الصنف لا حديث لهم مع الأرواح فحديثهم مع الله من قوله تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ فجليسهم من الأسماء الإلهية المدبر المفصل وهم من أهل الغيب في هذا المقام لا من أهل الشهادة

[الورثة وأصنافهم الثلاثة]

ومنهم رضي الله عنهم الورثة وهم ثلاثة أصناف ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات قال تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا من عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ الله ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وقال صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء

وكان شيخنا أبو مدين يقول في هذا المقام من علامات صدق المريد في إرادته فراره عن الخلق ومن علامات صدق فراره عن الخلق وجوده للحق ومن علامات صدق وجوده للحق رجوعه إلى الخلق وهذا هو حال الوارث للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يخلو بغار حراء ينقطع إلى الله فيه ويترك بيته وأهله ويفر إلى ربه حتى فجئه الحق ثم بعثه الله رسولا مرشدا إلى عباده فهذه حالات ثلاث ورثه فيها من اعتنى الله به من أمته ومثل هذا يسمى وارثا فالوارث الكامل من ورثه علما وعملا وحالا فأما قوله تعالى في الوارث للمصطفى إنه ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يريد حال أبي الدرداء وأمثاله من الرجال الذين ظلموا أنفسهم لأنفسهم أي من أجل أنفسهم حتى يسعدوها في الآخرة وذلك‏

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لنفسك عليك حقا ولعينك عليك حقا

فإذا صام الإنسان دائما وسهر ليله ولم ينم فقد ظلم نفسه في حقها وعينه في حقها وذلك الظلم لها من أجلها ولهذا قال ظالم لنفسه فإنه أراد بها العزائم وارتكاب الأشد لما عرف منها ومن جنوحها إلى الرخص والبطالة وجاءت السنة بالأمرين لأجل الضعفاء فلم يرد الله تعالى بقوله ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الظلم المذموم في الشرع فإن ذلك ليس بمصطفى وأما الصنف الثاني من ورثة الكتاب فهو المقتصد وهو الذي يعطي نفسه حقها من راحة الدنيا ليستعين بذلك على ما يحملها عليه من خدمة ربها في قيامه بين الراحة وأعمال البر وهو حال بين حالين بين العزيمة والرخصة ففي قيام الليل يسمى المقتصد متهجدا لأنه يقوم وينام‏

وعلى مثل هذا تجري أفعاله وأما السابق بالخيرات وهو المبادر إلى الأمر قبل دخول وقته ليكون على أهبة واستعداد وإذا دخل الوقت كان متهيئا لأداء فرض الوقت لا يمنعه من ذلك مانع كالمتوضئ قبل دخول الوقت والجالس في المسجد قبل دخول وقت الصلاة فإذا دخل الوقت كان على طهارة وفي المسجد فيسابق إلى أداء فرضه وهي الصلاة وكذلك إن كان له مال أخرج زكاته وعينها ليلة فراغ الحول ودفعها لربها في أول ساعة من الحول الثاني للعامل الذي يكون عليها وكذلك في جميع أفعال البر كلها يبادر إليها كما

قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال بم سبقتني إلى الجنة فقال بلال ما أحدثت قط إلا توضأت ولا توضأت إلا صليت ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما

فهذا وأمثاله من السابق بالخيرات وهو كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المشركين في شبابه وحداثة سنه ولم يكن مكلفا بشرع فانقطع إلى ربه وتحنث وسابق إلى الخيرات ومكارم الأخلاق حتى أعطاه الله الرسالة

(وصل) [أوصاف المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات‏]

واعلم أن الله تعالى قد وصف أقواما من النساء والرجال بصفات أذكرها إن شاء الله إذ كان الزمان لا يخلو أبدا عن رجال ونساء قائمين بهذا الوصف مثل قوله إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِماتِ والْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ والْقانِتِينَ والْقانِتاتِ والصَّادِقِينَ والصَّادِقاتِ والصَّابِرِينَ والصَّابِراتِ والْخاشِعِينَ والْخاشِعاتِ والْمُتَصَدِّقِينَ والْمُتَصَدِّقاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِماتِ والْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحافِظاتِ والذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً والذَّاكِراتِ ثم قال أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وأَجْراً عَظِيماً فأعد الله لهم المغفرة قبل وقوع الذنب المقدر عليهم عناية منه فدل ذلك على أنهم من العباد الذين لا تضرهم الذنوب وقد ورد في الصحيح من الخبر الإلهي اعمل ما شئت فقد غفرت لك‏

فما وقعت من مثل هؤلاء الذنوب إلا بالقدر المحتوم لا انتهاكا للحرمة الإلهية قيل لأبي يزيد أ يعصي العارف قال وكانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدُوراً فتقع المعصية من العارفين أهل العناية بحكم التقدير لنفوذ القضاء السابق فلا بد من ذكر هؤلاء الأصناف ليتبين من هو المسلم والمسلمة والمؤمن والمؤمنة ومن وصف الله منهم الذين لهم هذه المرتبة من أعداد المغفرة لهم والأجر العظيم قبل وقوع الذنب منهم وقبل حصول العمل وأمر قد عظمه الله لا يكون إلا عظيما وكذلك قوله فَأُولئِكَ (مَعَ) الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ من النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ وكذلك قوله تعالى التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ وقد ذكرنا العباد ثم قال الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ والسياحة في هذه الأمة الجهاد وقد قال تعالى في خليله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ فلا بد من ذكر الأواهين والحلماء وقال فيه لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فأثنى عليه بالإنابة وقال فيه إِنَّهُ أَوَّابٌ! فذكره بالأوبة فهؤلاء الأصناف لا بد من ذكرهم في هذا الباب ليقع عند السامع تعيين هذه الصفة ومنزلة هذا الموصوف بها وكذلك أولو النهى وأولو الأحلام وأولو الألباب وأولو الأبصار فما نعتهم الله بهذه النعوت سدى والمتصفون بهذه الأوصاف قد طالبهم الحق بما تقتضيه هذه الصفات وما تثمر لهم من المنازل عند الله فإن هذا الباب باب شريف من أشرف أبواب هذا الكتاب يتضمن ذكر الرجال وعلوم الأولياء ونحن نستوفيها إن شاء الله أو نقارب استيفاء ذلك على القدر الذي رسم لنا وعينه الحق تعالى في واقعتنا فإن المبشرات هي التي أبقى الله لنا من آثار النبوة التي سد بابها وقطع أسبابها فقذف به في قلوبنا ونفث به الروح المؤيد القدسي في نفوسنا وهو الإلهام الإلهي والعلم اللدني نتيجة الرحمة التي أعطاها الله من عنده من شاء من عباده‏

[أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏]

فمنهم رضي الله عنهم الأولياء قال تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ مطلقا ولم يقل في الآخرة فالولي من كان على بينة من ربه في حاله فعرف ما له بأخبار الحق إياه على الوجه الذي يقع به التصديق عنده وبشارته حق وقوله صدق وحكمه فصل فالقطع حاصل فالمراد بالولي من حصلت له البشرى من الله كما قال تعالى لَهُمُ الْبُشْرى‏ في الْحَياةِ الدُّنْيا وفي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ الله ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وأي خوف وحزن يبقى مع البشرى بالخير الذي لا يدخله تأويل فهذا هو الذي أريد بالولي في هذه الآية ثم إن أهل الولاية على أقسام كثيرة فإنها أعم فلك إحاطي فنذكر أهلها من البشر إن شاء الله وهم الأصناف الذين نذكرهم مضافا إلى ما تقدم في هذا الباب من ذكرهم ممن حصرتهم الأعداد ومن لا يحصرهم عدد انتهى الجزء السابع والسبعون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

[وصل أصناف الأولياء]

[الأولياء الأنبياء]

فمن الأولياء رضي الله عنهم الأنبياء صلوات الله عليهم تولاهم الله بالنبوة وهم رجال اصطنعهم لنفسه واختارهم لخدمته واختصهم من سائر العباد لحضرته شرع لهم ما تعبدهم به في ذواتهم ولم يأمر بعضهم بأن يعدي تلك العبادات إلى غيرهم بطريق الوجوب فمقام النبوة مقام خاص في الولاية فهم على شرع من الله أحل لهم أمور أو حرم عليهم أمورا قصرها عليهم دون غيرهم إذ كانت الدار الدنيا تقتضي ذلك لأنها دار الموت والحياة وقد قال تعالى الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ والْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ والتكليف هو الابتلاء

[الولاية نبوة عامة]

فالولاية نبوة عامة والنبوة التي بها التشريع نبوة خاصة تعم من هو بهذه المثابة من هذا الصنف وهي مقام الرفعة في الخطاب الإلهي إذا لم يؤمر لا غير لا في المشاهدة فمقام النبوة علو في الخطاب‏

[الأولياء والرسل‏]

ومن الأولياء رضوان الله عليهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم تولاهم الله بالرسالة فهم النبيون المرسلون إلى طائفة من الناس أو يكون إرسالا عاما إلى الناس ولم يحصل ذلك إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم فبلغ عن الله ما أمره الله بتبليغه في قوله يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ وما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ‏

[الإخبار عن المقامات يكون عن ذوق‏]

فمقام التبليغ هو المعبر عنه بالرسالة لا غير وما توقفنا عن الكلام في مقام الرسول والنبي صاحب الشرع إلا إن شرط أهل الطريق فيما يخبرون عنه من المقامات والأحوال أن يكون عن ذوق ولا ذوق لنا ولا لغيرنا ولا لمن ليس بنبي صاحب شريعة في نبوة التشريع ولا في الرسالة فكيف نتكلم في مقام لم نصل إليه وعلى حال لم نذقه لا أنا ولا غيري ممن ليس بنبي ذي شريعة من الله ولا رسول حرام علينا الكلام فيه فما نتكلم إلا فيما لنا فيه ذوق فما عدا هذين المقامين فلنا الكلام فيه عن ذوق لأن الله ما حجره‏

[الأولياء الصديقون‏]

ومن الأولياء أيضا الصديقون رضي الله عن الجميع تولاهم الله بالصديقية قال تعالى في الذين آمنوا بالله ورسوله أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ فالصديق من آمن بالله ورسوله عن قول المخبر لا عن دليل سوى النور الإيماني الذي يجده في قلبه المانع له من تردد أو شك يدخله في قول المخبر الرسول ومتعلقة على الحقيقة الايمان بالرسول ويكون الايمان بالله على جهة القربة لا على إثباته إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق ضرورة أو نظرا ولكن ما ثبت كونه قربة وهذه الآية تدل على شرف إثبات الوجود

[منزل الصديقية]

ثم إن الرسول إذا آمن به الصديق آمن بما جاء به ومما جاء به توحيد الإله وهوقوله قولوا لا إله إلا الله‏

أو فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الله فعلم أنه واحد في ألوهيته من حيث قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الله فذلك يسمى إيمانا ويسمى المؤمن به على هذا الحد صديقا فإن نظر في دليل يدل على صدق قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الله وعثر على توحيده بعد نظره فصدق الرسول في قوله وصدق الله في قوله له لا إله إلا الله فليس بصديق وهو مؤمن عن دليل فهو عالم فقد بان لك منزل الصديقية وأن الصديق هو صاحب النور الإيماني الذي يجده ضرورة في عين قلبه كنور البصر الذي جعله الله في البصر فلم يكن للعبد فيه كسب كذلك نور الصديق في بصيرته ولهذا قال أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ والشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ من حيث الشهادة ونُورُهُمْ من حيث الصديقية فجعل النور للصديقية والأجر للشهادة وهي بنية مبالغة في التصديق والصديق كشريب وخمير وسكير فليس بين النبوة التي هي نبوة التشريع والصديقية مقام ولا منزلة فمن تخطي رقاب الصديقين وقع في النبوة الرسالية ومن ادعى نبوة التشريع بعد محمد صلى الله عليه وسلم فقد كذب بل كذب وكفر بما جاء به الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

[مقام القربة]

غير أن ثم مقام القربة وهي النبوة العامة لا نبوة التشريع فيثبتها نبي التشريع فيثبتها الصديق لإثبات النبي المشرع إياها لا من حيث نفسه وحينئذ يكون صديقا كمسألة موسى والخضر وفتى موسى الذي هو صديقه ولكل رسول صديقون إما من عالم الإنس والجان أو من أحدهما فكل من آمن عن نور في قلبه ليس له دليل من خارج سوى قول الرسول قل ولا يجد توقفا وبادر فذلك الصديق فإن آمن عن نظر ودليل من خارج أو توقف عند القول حتى أوجد الله ذلك النور في قلبه فآمن فهو مؤمن لا صديق فنور الصديق معد قبل وجود المصدق به ونور المؤمن غير الصديق يوجد بعد

قول الرسول قل لا إله إلا الله‏

ونور المؤمن يكونه قربة بعد النظر في الدليل الذي أعطاه العلم بالتوحيد فهو في علمه بالتوحيد صاحب نور علم لا نور إيمان وهو

في كون ذلك العلم والنظر قربة إلى الله صاحب نور إيمان فإن نور العلم بتوحيد الله قد شهدوا الله بتوحيده قبل ذلك والرسل منهم قد وحدوه قبل أن يكونوا أنبياء ورسلا فإن الرسول ما أشرك قط قال تعالى شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ ولم يقل وأولو الايمان فرتبة العلم فوق رتبة الايمان بلا شك وهي صفة الملائكة والرسل وقد يكون حصول ذلك العلم عن نظر أو ضرورة كيفما كان فيسمى علما إذ لا قائل ولا مخبر يلزم التصديق بقوله وهذا المقام الذي أثبتناه بين الصديقية ونبوة التشريع الذي هو مقام القربة وهو للافراد هو دون نبوة التشريع في المنزلة عند الله وفوق الصديقية في المنزلة عند الله وهو المشار إليه بالسر الذي وقر في صدر أبي بكر ففضل به الصديقين إذ حصل له ما ليس من شرط الصديقية ولا من لوازمها فليس بين أبي بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لأنه صاحب صديقية وصاحب سر فهو من كونه صاحب سر بين الصديقية ونبوة التشريع ويشارك فيه فلا يفضل عليه من يشاركه فيه بل هو مساو له في حقيقته فافهم ذلك‏

[الأولياء الشهداء]

ومن الأولياء أيضا الشهداء رضي الله عن جميعهم تولاهم الله بالشهادة وهم من المقربين وهم أهل الحضور مع الله على بساط العلم به قال تعالى شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُولُوا الْعِلْمِ فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة فهم موحدون عن حضور إلهي وعناية أزلية فهم الموحدون وشأنهم عجيب وأمرهم غريب والايمان فرع عن هذه الشهادة فإن بعث رسول وآمنوا به أعني هؤلاء الشهداء فهم المؤمنون العلماء ولهم الأجر التام يوم القيامة وإن لم يؤمنوا فليس هم الشهداء الذين أنعم الله عليهم في قوله فَأُولئِكَ (مَعَ) الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ من النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ولو لا قوله وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ألحقنا هؤلاء الشهداء بحصول النعمة التي لأصحاب هذه الآية فإنهم وإن كانوا موحدين غير مؤمنين مع وجود الرسول إليهم لم تحسن مرافقتهم للمؤمنين فإنهم يشوشون على المؤمنين إيمانهم وهؤلاء الشهداء الذين تعمهم هذه الآية هم العلماء بالله المؤمنون بعد العلم بما قال سبحانه إذ ذلك قربة إليه من حيث قاله الله أو قاله الرسول الذي جاء من عند الله فقدم الصديق على الشهيد وجعله بإزاء النبي فإنه لا واسطة بينهما لاتصال نور الايمان بنور الرسالة والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث ما هو شاهد لله بتوحيده لا من حيث هو رسول فلا يصح أن يكون بعده مع المساوقة فكانت المساوقة تبطل ولا يصح أن يكون معه لكونه رسولا والشاهد ليس برسول فلا بد أن يتأخر فلم يبق إلا أن يكون في الرتبة التي تلي الصديقية

[الشهيد والصديق‏]

فإن الصديق أتم نورا من الشهيد في الصديقية لأنه صديق من وجهين من وجه التوحيد ومن وجه القربة والشهيد من وجه القربة خاصة لا من وجه التوحيد فإن توحيده عن علم لا عن إيمان فنزل عن الصديق في مرتبة الايمان وهو فوق الصديق في مرتبة العلم فهو المتقدم في رتبة العلم المتأخر برتبة الايمان والتصديق فإنه لا يصح من العالم أن يكون صديقا وقد تقدم العلم مرتبة الخبر فهو يعلم أنه صادق في توحيد الله إذا بلغ رسالة الله والصديق لم يعلم ذلك إلا بنور الايمان المعد في قلبه فعند ما جاءه الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر فقد عرفت منازل الشهداء عند الله‏

[الأولياء الصالحون‏]

ومن الأولياء رضي الله عنهم الصالحون تولاهم الله بالصلاح وجعل رتبتهم بعد الشهداء في المرتبة الرابعة لكن الشكل دائرة كما رسمناه في الهامش فالنبوة ابتدأ بها حتى انتهى إلى الصلاح ونهاية الشكل المستدير إذا كان مجعولا ترتبط بالبداية حتى تصح الدائرة وما من نبي إلا وقد ذكر أنه صالح أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا فدل على أن رتبة الصلاح خصوص في النبوة فقد تحصل لمن ليس بنبي ولا صديق ولا شهيد فصلاح الأنبياء هو مما يلي بدايتهم وهو عطف الصلاح عليهم فهم صالحون للنبوة فكانوا أنبياء وأعطاهم الدلالة فكانوا شهداء وأخبرهم بالغيب فكانوا صديقين فالأنبياء صلحت لجميع هذه المقامات فكانوا صالحين فجمعت الرسل جميع المقامات كما صلح الصديقون للصديقية وصلح الشهداء للشهادة وكل موجود فهو صالح لما وجد له غير أن هؤلاء الصالحين الذين أثنى الله عليهم بأنه أنعم عليهم هم المطلوبون في هذا المقام وهم المنخرطون في سلك هذا النمط فهم رابعو أربعة وأراد بالنبيين هنا الرسل أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا أعني بطريق الوجوب عليهم فالصالحون هم الذين لا يدخل علمهم بالله ولا إيمانهم بالله وبما جاء من عند الله خلل فإن دخله خلل بطل كونه‏

صالحا فهذا هو الصلاح الذي رغبت فيه الأنبياء صلوات الله عليهم فكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح ولا في شهادته فهو صالح ولا في نبوته فهو صالح والإنسان حقيقته الإمكان فله إن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه لأن النبي لو كان نبيا لنفسه أو لإنسانيته لكان كل إنسان بتلك المثابة إذ العلة في كونه نبيا كونه إنسانا فلما كان الأمر اختصاصا إلهيا جاز دخول الخلل فيه وجاز رفعه فصح إن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين أي الذين لا يدخل صلاحهم خلل في زمان ما فهذا نعني بالصالحين في هذا الباب والله الموفق‏

[الأولياء المسلمون‏]

ومن الأولياء أيضا رضي الله عنهم المسلمون والمسلمات وهكذا كل طائفة ذكرناهم منهم الرجال والنساء تولاهم الله بالإسلام وهو انقياد خاص لما جاء من عند الله لا غير فإذا وفي العبد الإسلام بجميع لوازمه وشروطه وقواعده فهو مسلم وإن انتقص شيئا من ذلك فليس بمسلم فيما أخل به من الشروط

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‏

واليد هنا بمعنى القدرة أي سلم المسلمون مما هو قادر على أن يفعل بهم مما لا يقتضيه الإسلام من التعدي لحدود الله فيهم فأتى بالأعم وذكر اللسان لأنه قد يؤذي بالذكر من لا يقدر على إيصال الأذى إليه بالفعل وهو البهتان هنا خاصة لا الغيبة فإنه قال المسلمون فلو قال الناس لدخلت الغيبة وغير ذلك من سوء القول فلم يثبت الشارع الإسلام إلا لمن سلم المسلمون وهم أمثاله في السلامة فالمسلمون هم المعتبر في هذا الحديث وهم المقصود فإن المسلمين لا يسلمون من لسان من يقع فيهم إلا حتى يكونوا أبرياء مما نسب إليهم ولذلك فسرناه بالبهتان فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قلت في أخيك ما ليس فيه فذلك البهتان وفي رواية فقد نبهته فخاب سهمك الذي رميته به فإنه ما وجد منفذا فإنك نسبت إليه ما ليس هو عليه فسماهم الله مسلمين فمن وقع فيمن هذه صفته فليس بمسلم لأن ذلك الوصف الذي وصفه المسلم به ورماه به ولم يكن المسلم محلا له عاد على قائله فلم يكن الرامي له بمسلم فإنه ما سلم مما قال إذ صار عليه سهم كلامه الذي رماه به‏

قال صلى الله عليه وسلم من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما

وقال تعالى في حق قوم قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ قال الله فيهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ ولكِنْ لا يَعْلَمُونَ فأعاد الصفة عليهم لما لم يكن المسلمون المؤمنون أهل سفه أي ضعف رأى في إيمانهم فعاد ما نسبوه من ضعف الرأي الذي هو السفه إليهم فليس المسلم إلا من سلم من جميع العيوب الأصلية والطارئة فلا يقول في أحد شرا ولا يؤثر فيه إذا قدر عليه شرا أصلا وليس إقامة الحدود بشر فإنه خير إذ جعل الله إقامة الحدود كشرب الدواء للمريض لأجل العافية وزوال المرض فهو وإن كان كريها في الوقت فإن عاقبته محمودة فما قصد الطبيب بشرب الدواء شرا للمريض وإنما أعطاه سبب حصول العافية فيتحمل ما فيه من الكراهة في الوقت كذلك إقامة الحدود وأما القصاص في مثل قوله وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فلا يخرجه ذلك عن الإسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط سلامة المسلمين ومن آذاك ابتداء عن قصد منه فليس بمسلم فإنك ما سلمت منه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول من سلم المسلمون‏

فلا يقدح القصاص في الإسلام فإنك ما آذيت مسلما من حيث آذاك فإن المسلم لا يؤذي المسلم بل أسقط عنه القصاص في الدنيا القصاص في الآخرة فقد أنعم عليه يضرب من النعم فإن عَفا وأَصْلَحَ ولم يؤاخذه وتجاوز عن سيئته فذلك المقام العالي وأجره على الله بشرط ترك المطالبة في الآخرة وحق الله ثابت قبله لأنه تعدى حده فقدح في إسلامه قدر ما تعدى فيه فإن عصى المسلم ربه في غير المسلم هل يكون مسلما بذلك أم لا قلنا لا يكون مسلما فإن الله يقول إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله في الدُّنْيا والْآخِرَةِ والمسلم لا يكون ملعونا فلقائل أن يقول هنا بالمجموع كانت اللعنة ونحن إنما قلنا من آذى الله وحده قلنا كل من آذى الله وحده في زعمه فقد آذى المسلمين فإن المسلم يتأذى إذا سمع في الله من القول ما لا يليق به فهو مؤاخذ من جهة ما تأذى به المسلمون من قولهم في الله ما لا يليق به فإن قيل فإن لم يعرف ذلك المسلمون منه حتى يتأذوا من ذلك قلنا حكم ذلك حكم الغيبة فإنه لو عرف من اغتيب تأذى وهو مؤاخذ بالغيبة فهو مؤاخذ بإيذائه الله وإن لم يعرف بذلك مسلم‏

قال صلى الله عليه وسلم لا أحد أصبر على أذى من الله‏

المسلم من كان بهذه المثابة وهو السعيد المطلق وقَلِيلٌ ما هُمْ‏

[الأولياء المؤمنون‏]

ومن الأولياء أيضا رضي الله عنهم المؤمنون والمؤمنات تولاهم الله بالإيمان الذي هو القول والعمل‏

والاعتقاد وحقيقته الاعتقاد شرعا ولغة وهو في القول والعمل شرعا لا لغة فالمؤمن من كان قوله وفعله مطابقا لما يعتقده في ذلك الفعل ولهذا قال في المؤمنين نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمانِهِمْ يريد ما قدموه من الأعمال الصالحة عند الله فأولئك من الذين أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وأَجْراً عَظِيماً

قال صلى الله عليه وسلم المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم‏

وقال صلى الله عليه وسلم المؤمن من أمن جاره بوائقه‏

ولم يخص مؤمنا ولا مسلما بل قال الناس والجار من غير تقييد فإن المسلم قيده بسلامة المسلمين ففرق بين المسلم والمؤمن بما قيده به وبما أطلقه فعلمنا إن للإيمان خصوص وصف وهو التصديق تقليدا من غير دليل ليفرق بين الايمان والعلم واعلم أن المؤمن المصطلح عليه في طريق الله عند أهله الذي اعتبره الشرع له علامتان في نفسه إذا وجدهما كان من المؤمنين العلامة الواحدة أن يصير الغيب له كالشهادة في عدم الريب فيما يظهر على المشاهد لذلك الأمر الذي وقع به الايمان من الإيثار في نفس المؤمن كما يقع في نفس المشاهد له فيعلم أنه مؤمن بالغيب والعلامة الثانية أن يسرى الأمان منه في نفس العالم كله فيأمنوه على القطع على أموالهم وأنفسهم وأهليهم من غير أن تتخلل ذلك الأمان تهمة في أنفسهم من هذا الشخص وانفعلت لأمانة النفوس فذلك هو المشهود له بأنه من المؤمنين ومهما لم يجد هاتين العلامتين فلا يغالط نفسه ولا يدخلها في المؤمنين فليس إلا ما ذكرناه‏

[الأولياء القانتون‏]

ومن الأولياء أيضا القانتون لله والقانتات رضي الله عنهم تولاهم الله بالقنوت وهو الطاعة لله في كل ما أمر به ونهى عنه وهذا لا يكون إلا بعد نزول الشرائع وما كان منه قبل نزول الشرائع فلا يسمى قنوتا ولا طاعة ولكن يسمى خيرا ومكارم خلق وفعل ما ينبغي قال الله تعالى وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أي طائعين فأمر بطاعته وقال تعالى والْقانِتِينَ والْقانِتاتِ وقال تعالى أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ وليس يرث الصالح من الأرض إلا إتيانها لله طائعة مع السماء حين قال لَها ولِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فورث العباد منها الطاعة لله وهي المعبر عنها بالقنوت إذ الساجدون لله على قسمين منهم من يسجد طوعا ومنهم من يسجد كرها فالقانت يسجد طوعا وتصحيح طاعتهم لله وقنوتهم أن يكون الحق لهم بهذه المثابة للموازنة كما قال فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا

فالحق مع العبد على قدر ما هو العبد مع الحق وقفت يوما أنا وعبد صالح معي يقال له الحاج مدور يوسف الإستجي كان من الأميين المنقطعين إلى الله المنورة بصائرهم على سائل يقول من يعطي شيئا لوجه الله ففتح رجل صرة دراهم كانت عنده وجعل ينتقي له من بين الدراهم قطعة صغيرة يدفعها للسائل فوجد ثمن درهم فأعطاه إياه وهذا العبد الصالح ينظر إليه فقال لي يا فلان تدري على ما يفتش هذا المعطي قلت لا قال على قدره عند الله لأنه أعطى السائل لوجه الله فعلى قدر ما أعطى لوجهه ذلك قيمته عند ربه ولكن من شرط القانت عندنا أنه يطيع الله من حيث ما هو عبد الله لا من حيث ما وعده الله به من الأجر والثواب لمن أطاعه وأما الأجر الذي يحصل للقانت فذلك من حيث العمل الذي يطلبه لا من حيث الحال الذي أوجب له القنوت قال الله تعالى في القانتات من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ فالأجر هنا للعمل الصالح الذي عملته وكان مضاعفا في مقابلة قوله تعالى في حقهن يا نِساءَ النَّبِيِّ من يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ لمكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفعل الفاحشة كذلك ضوعف الأجر للعمل الصالح ومكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي القنوت معرى عن الأجر فإنه أعظم من الأجر فإنه ليس بتكليف وإنما الحقيقة تطلبه وهو حال يستصحب العبد في الدنيا والآخرة ولهذا قال إِنْ كُلُّ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً يعني يوم القيامة فالقنوت مع العبودية في دار التكليف لا مع الأجر ذلك هو القنوت المطلوب والحق إنما ينظر للعبد في طاعته بعين باعثه على تلك الطاعة ولهذا قال تعالى آمرا وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ولم يسم أجرا ولا جعل القنوت إلا من أجله لا من أجل أمر آخر فهؤلاء هم القانتون والقانتات‏

[الأولياء الصادقون‏]

ومن الأولياء أيضا الصادقون والصادقات رضي الله عنهم تولاهم الله بالصدق في أقوالهم وأحوالهم فقال تعالى رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عَلَيْهِ فهذا من صدق أحوالهم والصدق في القول معلوم وهو ما يخبر به وصدق الحال ما يفي به في المستأنف وهو أقصى الغاية في الوفاء لأنه شديد

على النفس فلا يقع الوفاء به في الحال والقول إلا من الأشداء الأقوياء ولا سيما في القول فإنك لو حكيت كلاما عن أحد كان بالفاء فجعلت بدله واوا لم تكن من هذه الطائفة فانظر أغمض هذا المقام وما أقواه فإن نقلت الخبر على المعنى تعرف السامع إنك نقلت على المعنى فتكون صادقا من حيث إخبارك عن المعنى عند السامع ولا تسمى صادقا من حيث نقلك لما نقلته فإنك ما نقلت عين لفظ من نقلت عنه ولا تسمى كاذبا فإنك قد عرفت السامع أنك نقلت المعنى فأنت مخبر للسامع عن فهمك لا عمن تحكي عنه فأنت صادق عنده في نقلك عن فهمك لا عن الرسول أو من تخبر عنه إن ذلك مراده بما قال فالصدق في المقال عسير جدا قليل من الناس من يفي به إلا من أخبر السامع أنه ينقل على المعنى فيخرج عن العهدة فالصدق في الحال أهون منه إلا أنه شديد على النفوس فإنه يراعي جانب الوفاء لما عاهد من عاهد عليه وقد قرن الله الجزاء بالصدق والسؤال عنه فقال لِيَجْزِيَ الله الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ولكن بعد أن يسأل الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ فإذا ثبت لهم جازاهم به وجزاؤهم به هو صدق الله فيما وعدهم به فجزاء الصدق الصدق الإلهي وجزاء ما صدق فيه من العمل والقول بحسب ما يعطيه ذلك العمل أو القول فهذا معنى الجزاء وأما السؤال عنه فمن حيث إضافة الصدق إليهم لأنه قال تعالى عَنْ صِدْقِهِمْ وما قال عن الصدق فإن أضاف الصادق إذا سأل صدقه إلى ربه لا إلى نفسه وكان صادقا في هذه الإضافة إنها وجدت منه في حين صدقه في ذلك الأمر في الدار الدنيا ارتفع عنه الاعتراض فإن الصادق هو الله وهو قوله المشروع لا حول ولا قوة إلا بالله فإذا كانت القوة به وهي الصدق فإضافتها إلى العبد إنما هو من حيث إيجادها فيه وقيامها به وإن قال عند سؤال الحق إياه عن صدقه إنه لما صدق في فعله أو قوله في الدنيا لم يحضر في صدقه إن ذلك بالله كان منه كان صادقا في الجواب عند السؤال ونفعه ذلك عند الله في ذلك الموطن وحشر مع الصادقين وصدق في صدقه وهذا من أغمض ما يحتوي عليه هذا المقام ويطرأ فيه غلط كبير في هذا الطريق وهو أن يقول المريد أو العارف كلاما ما يترجم به عن معنى في نفسه قد وقع له ويكون في قوة دلالة تلك العبارة أن تدل على ذلك المعنى وعلى غيره من المعاني التي هي أعلى مما وقع له في الوقت ثم يأتي هذا الشخص في الزمان الآخر فيلوح له من مطلق ذلك اللفظ معنى غامض هو أعلى وأدق وأحسن من المعنى الذي عبر عنه بذلك اللفظ أولا فإذا سأل عن شرح قوله ذلك شرحه بما ظهر له في ثاني الحال لا بأول الوضع فيكون كاذبا في أصل الوضع صادقا في دلالة اللفظ فالصادق يقول كان قد ظهر لي معنى ما وهو كذا فأخرجته أو كسوته هذه العبارة ثم إنه لاح لي معنى هو أعلى منه لما نظرت في مدلول هذه العبارة فتركت هذه العبارة عليه أيضا في الزمان الثاني ولا يقول خلاف هذا وهذا من خفي رياسة النفوس وطلبها للعلو في الدنيا وقد ذم الله من طلب علوا في الأرض فإذا أراد العارف أن يسلم من هذا الخطر ويكون صادقا إذا أراد أن يترجم عن معنى قام له فليحضر في نفسه عند الترجمة أنه يترجم عن الله عن كل ما يحويه ذلك اللفظ من المعاني في علم الله ومن جملتها المعنى الذي وقع له فإذا أحضر هذا ولاح له ما شاء الله أن يمنحه من المعاني التي يدل عليها ذلك اللفظ كان صادقا في الشرح أنه قصد ذلك المعنى على الإجمال والإبهام لأنه لم يكن يعلم على التعيين ما في علم الله مما يدل عليه ذلك اللفظ إحضار مثل هذا عند كل إخبار وقت الإخبار عزيز لسلطان الغفلة والذهول الغالب على الإنسان فليعود الإنسان نفسه مثل هذا الاستحضار فإنه نافع في استدامة المراقبة والحضور مع الحق وهذا التنبيه الذي نبهت الصادقين عليه ما يشعر به أكثر أهل طريقنا فإنهم لا يحققون معناه وربما يتخيلون فيه أنه شبهة فيفرون منه وليس كذلك بل ذلك هو غاية الأدب البشري مع الله حيث يعبر عما في علم الله فهذا من الأدوية النافعة لهذا المرض لمن‏

استعمله وفقنا الله والسامعين لاستعماله واستعمال أمثاله‏

[الأولياء الصابرون‏]

ومن الأولياء أيضا الصابرون والصابرات رضي الله عنهم تولاهم الله بالصبر وهم الذين حبسوا أنفسهم مع الله على طاعته من غير توقيت فجعل الله جزاءهم على ذلك من غير توقيت فقال تعالى إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ فما وقت لهم فإنهم لم يوقتوا فعم صبرهم جميع المواطن التي يطلبها الصبر فكما حبسوا نفوسهم على الفعل بما أمروا به حبسوها أيضا على ترك ما نهوا عن فعله فلم يوقتوا فلم يوقت لهم الأجر وهم الذين أيضا حبسوا نفوسهم عند وقوع البلايا والرزايا بهم عن سؤال ما سوى الله في رفعها عنهم بدعاء الغير أو شفاعة أو طب إن كان‏

من البلاء الموقوف إزالته على الطب ولا يقدح في صبرهم شكواهم إلى الله في رفع ذلك البلاء عنهم أ لا ترى أيوب سأل ربه رفع البلاء عنه بقوله مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي أصاب مني فشكا ذلك إلى ربه عز وجل وقال له وأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ففي هذه الكلمة إثبات وضع الأسباب وعرض فيها لربه برفع البلاء عنه فاستجاب له ربه وكشف ما به من الضر فأثبت بقوله تعالى فَاسْتَجَبْنا لَهُ أن دعاءه كان في رفع البلاء فكشف ما به من ضُرٍّ ومع هذا أثنى عليه بالصبر وشهد له به فقال إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلينا فيما ابتليناه به وأثنى عليه بالعبودية فلو كان الدعاء إلى الله في رفع الضر ورفع البلاء يناقض الصبر المشروع المطلوب في هذا الطريق لم يثن الله على أيوب بالصبر وقد أثنى عليه به بل عندنا من سوء الأدب مع الله أن لا يسأل العبد رفع البلاء عنه لأن فيه رائحة من مقاومة القهر الإلهي بما يجده من الصبر وقوته قال العارف إنما جوعني لأبكي فالعارف وإن وجد القوة الصبرية فليفر إلى موطن الضعف والعبودية وحسن الأدب فإن القوة لله جميعا فيسأل ربه رفع البلاء عنه أو عصمته منه أن توهم وقوعه وهذا لا يناقض الرضاء بالقضاء فإن البلاء إنما هو عين المقضي لا القضاء فيرضى بالقضاء ويسأل الله في رفع المقضي عنه فيكون راضيا صابرا فهؤلاء أيضا هم الصابرون الذين أثنى الله عليهم‏

[الأولياء الخاشعون‏]

ومن الأولياء أيضا الخاشعون والخاشعات رضي الله عنهم تولاهم الله بالخشوع من ذل العبودية القائم بهم لتجلى سلطان الربوبية على قلوبهم في الدار الدنيا فينظرون إلى الحق سبحانه من طَرْفٍ خَفِيٍّ يوجده الله لهم في قلوبهم في هذه الحالة خفي عن إدراك كل مدرك إياه بل لا يشهد ذلك النظر منهم إلا الله فمن كانت حالته هذه في الدار الدنيا من رجل وامرأة فهو الخاشع وهي الخاشعة فيشبه القنوت من وجه إلا أن القنوت يشترط فيه الأمر الإلهي والخشوع لا يشترط فيه إلا التجلي الذاتي وكلتا الصفتين تطلبهما العبودية فلا يتحقق بهما إلا عبد خالص العبودية والعبودة وله حال ظاهر في الجوارح التي لها الحركات وحال باطن في القلوب فيورث في الظاهر سكونا ويؤثر في الباطن ثبوتا والقنوت يورث في الظاهر بحسب ما ترد به الأوامر من حركة وسكون فإن كان القانت خاشعا فحركته في سكون ولا بد إن ورد الأمر بالتحرك فيورث القنوت في الباطن انتقالات أدق من الأنفاس متوالية مع الأوامر الإلهية الواردة عليه في عالم باطنه فالخاشع في قنوته في الباطن ثبوته على قبول تلك الأوامر الواردة عليه من غير أن يتخللها ما يخرجها عن أن تكون مشهودة لهذا الخاشع فالخاشع والقانت خشوعه وقنوته إخوان متفقان في الموفقين من عباد الله‏

[الأولياء المتصدقون‏]

ومن الأولياء أيضا المتصدقون والمتصدقات رضي الله عنهم تولاهم الله بجوده ليجودوا بما استخلفهم الله فيه مما افتقر إليه خلق الله فأحوج الله الخلق إليهم لغناهم بالله فالكلمة الطيبة صدقة ولما كان حالهم التعمل في الإعطاء لا العمل دل على أنهم متكسبون في ذلك لنظرهم أن ذلك ليس لهم وإنما هو لله فلا يدعون فيما ليس لهم فلا منة لهم في الذي يوصلونه إلى الناس أو إلى خلق الله من جميع الحيوانات وكل متغذ عليهم لكونهم مؤدين أمانة كانت بأيديهم أوصلوها إلى مستحقيها فلا يرون أن لهم فضلا عليهم فيما أخرجوه وهذه الحالة لا يمدحون بها إلا مع الدوام والدءوب عليها في كل حال والعارفون هنا في هذه الصفة على طبقتين منهم من يكون عين ما يعطيه مشهودا له أنه حق لمن يعطيه لأن الله ما خلق الأشياء التي يقع بها الانتفاع لنفسه وإنما خلق الخلق للخلق فهذا معنى الاستحقاق وطبقة أخرى يكون مشهودا لهم كون خالق النعمة مختارا فيبطل عندهم الاستحقاق بأنهم يرون أن الله ما خلق الخلق أجمعه إلا لعبادته ولهذا قال وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ويسجد له وكان إيصال بعض الخلق للخلق بحكم لتبعية لا بالقصد الأول وإن لم يكن هناك ما يقال فيه قصد أول ولا ثان ولكن العبارات من أجل إبراز الحقائق تعطي ذلك ولله عباد من المتصدقين أقامهم الحق بين هاتين الطبقتين فهم ينظرون في حين كونهم متصدقين الاستحقاق لبقاء عين من تصدق عليه ليصح منه ما خلق له من التسبيح لربه والثناء عليه ولكن لا من حيث إنه آكل مثلا ولا شارب في حق من يكون بقاؤه بالأكل والشرب فذلك لا يكون باستحقاق وإنما الاستحقاق ما به بقاؤه وأسبابه كثيرة ثم تنظر هذه الطبقة الثالثة المتولدة بينهما من عين آخر معا وهو أن تنظر إلى الحق من حيث ما تقتضيه ذاته فيرتفع عندها الاختيار وترى أن المظاهر الإلهية هي المسبحة فلا يسبح الله إلا الله ولا يحمده إلا

هو فهو ثناء ذاتي لا ثناء افتقار لاكتساب ثناء فهؤلاء أحق باسم المتصدقين من غيرهم حيث أثبتوا أعيانهم ونفوا أحكامهم والله الهادي‏

[الأولياء الصائمون‏]

ومن الأولياء أيضا الصائمون والصائمات رضي الله عنهم تولاهم الله بالإمساك الذي يورثهم الرفعة عند الله تعالى عن كل شي‏ء أمرهم الحق أن يمسكوا عنه أنفسهم وجوارحهم فمنه ما هو واجب ومندوب وأما قوله تعالى لهذه الطائفة ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ تنبيها على غاية توقيت الإمساك في عالم الشهادة وهو النهار والليل ضرب مثال محقق للغيب فإذا وصلوا إلى رتبة مصاحبة عالم الغيب المعبر عنه بالليل لم يصح هنالك الإمساك فإن إمساك النفس والجوارح إنما هو في المنهيات وهي في عالم الشهادة فإن عالم الغيب أمر بلا نهي ولهذا سموا عالم الأمر وذلك لأن عالم الغيب عقل مجرد لا شهوة لهم فلا نهي عندهم في مقام التكليف فهم كما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز لا يَعْصُونَ الله ما أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ولم يذكر لهم نهي عن شي‏ء لأن حقائقهم لا تقتضيه فإذا صام الإنسان وانتقل من بشريته إلى عقله فقد كمل نهاره وفارقه الإمساك لمفارقة النهي والتحق بعالم الأمر بعقله فهو عقل محض لا شهوة عندهم أ لا ترى إلى‏

قوله صلى الله عليه وسلم في حقه إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم‏

يقول وغربت الشمس عن عالم الشهادة وطلعت على عالم عقله فقد أفطر الصائم أي لم يمتنع فارتفع عنه التحجير لأن عقله لا يتغذى بما أمره الحق بالإمساك عنه وهو حظ طبعه فاعلم ذلك وإذا كان الأمر على هذا الحد وحصلت له الرفعة الإلهية عن حكم طبعه ورفعه التجلي عن حكم فكره إذ كان الفكر من حكم الطبع العنصري ولهذا لا يفكر الملك ويفكر الإنسان لأنه مركب من طبيعة عنصرية وعقل فالعقل من حيث نفسه له التجلي فيرتفع عن حضيض الفكر الطبيعي المصاحب للخيال الآخذ عن الحس والمحسوس قال الشاعر

إذا صام النهار وهجرا

أي ارتفع النهار فمن ليست له هذه الرفعة عن هذا الإمساك فما هو الصائم المطلوب المسمى عندنا فهذا هو صوم العارفين بالله وهم أهل الله انتهى الجزء الثامن والسبعون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

[الأولياء الحافظون لحدود الله‏]

ومن الأولياء الحافظون لحدود الله والحافظات رضي الله عنهم تولاهم الله بالحفظ الإلهي فحفظوا به ما تعين عليهم إن يحفظوه وهم على طبقتين ذكرهم الله وهم الحافظون فروجهم فعين وخصص والحافظون لحدود الله فعمم وقال في الحافظين لحدود الله وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ على ذلك وهم الذين حبسوا نفوسهم عند الحدود ولم يتعدوها مطلقا وقال في الحافظين فروجهم أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً أي سترا لأن الفرج عورة تطلب الستر فهو إنباء عن حقيقة قال تعالى قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ فيسترها غيرة وفيها قال ولِباسُ التَّقْوى‏ والوقاية ستر لأنه يتقي بها ما ينبغي أن يتقى منه فجعل التقوى لباسا ينبه أن ذلك ستر والستر الغفر والعورة هي المائلة يريد المائلة إلى الحق عن نفسه ورؤية شهود وجودها فأمر بستر ذلك من أجل الأدب الإلهي لما نسب إليها من المذام وجعلها من الأسرار المكتومة المستورة أ لا ترى النكاح يسمى سرا قال الله تعالى لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا وهذا كله يؤذن بالستر فمن صبر على حفظ الحدود وسترها فإن الله يستره بما تطلبه هذه الحقيقة

[الحفظ حفظان وأهله طبقتان‏]

واعلم أن الحفظ حفظان وأهله طبقتان وقد يجتمع الحفظان في شخص واحد وقد تنفرد طبقة واحدة بحفظ واحد فلهذا فصل الله بينهما فأطلق في حق طائفة وقيد في حق أخرى ثم إن الذين أطلق في حقهم الحفظ لحدود الله هم على طبقتين فمنهم من عرف الحدود الذاتية فوقف عندها وذلك العالم الحكيم المشاهد المكاشف صاحب العين السليمة وصاحب هذا المقام قد لا يكون صاحب طريقة معينة لأن الإنسانية تطلبها ومنهم من عرف الحدود الرسمية ولم يعلم الحدود الذاتية وهم أرباب الايمان ومنهم من عرف الحدود الرسمية والذاتية وهم الأنبياء والرسل ومن دعا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم الأولى بأن يطلق عليهم الحافظون لحدود الله الذاتية والرسمية معا وأما الحافظون فروجهم فهم على طبقتين منهم من يحفظ فرجه عما أمر بحفظه منه ولا يحفظه مما رغب في استعماله لأمور إلهية وحكم ربانية أظهرها إبقاء النوع على طريق القربة ومنهم من‏

يحفظ فرجه إبقاء على نفسه لغلبة عقله على طبعه وغيبته عما سنه أهل السنن من الترغيب في ذلك فإن انفتح له عين وانفرج له طريق إلى ما تعطيه حقيقة الوضع المرغب في النكاح فذلك صاحب فرج فلم يحفظه الحفظ الذي أشرنا إليه وأما صاحب الشرع الحافظ به فلا بد له من الفتح ولكن إذا اقترنت مع الحفظ الهمة فإن لم تقترن معه الهمة فقد يصل إلى هذا المقام وقد لا يصل جعلنا الله من الحافظين لحدود الله الذاتية والرسمية فإن الله بكل شي‏ء حفيظ

[الأولياء الذاكرون‏]

ومن الأولياء الذاكرون الله كثيرا والذاكرات رضي الله عنهم تولاهم الله بإلهام الذكر ليذكروه فيذكرهم وهذا يتعلق بالاسم الآخر وهو صلاة الحق على العبد فالعبد هنا سابق والحق مصل لأن المقام يقتضيه فإنه قال تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فأخر ذكره إياهم عن ذكرهم إياه وقال من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم‏

وقال من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا

وقال فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله فكل مقام إلهي يتأخر عن مقام كوني فهو من الاسم الآخر ومن باب قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ فالأمر يتردد بين الاسمين الإلهيين الأول والآخر وعين العبد مظهر لحكم هذين الاسمين وهذا هو الفصل الذي تسميه الكوفيون العماد مثل قوله أنت من قوله كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ‏

[لو لا الاعتماد على عين العبد ما ظهر سلطان الأول والآخر]

فلو لا الاعتماد على عين العبد ما ظهر سلطان هذين الاسمين إذ العين هنالك واحدة لا متحدة وفي العبد متحدة لا واحدة فالأحدية لله والاتحاد للعبد لا الأحدية فإنه لا يعقل العبد إلا بغيره لا بنفسه فلا رائحة له في الأحدية أبدا والحق قد تعقل له الأحدية وقد تعقل بالإضافة لأن الكل له بل هو عين الكل لا كلية جمع بل حقيقة أحدية تكون عنها الكثرة ولا يصح هذا إلا في جناب الحق خاصة فلا يصدر عن الواحد أبدا في قضية العقل إلا واحد إلا أحدية الحق فإن الكثرة تصدر عنها لأن أحديته خارجة عن حكم العقل وطوره فأحدية حكم العقل هي التي لا يصدر عنها إلا واحد وأحدية الحق لا تدخل تحت الحكم كيف يدخل تحت الحكم من خلق الحكم والحاكم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏

[الذكر أعلى المقامات كلها]

فالذكر أعلى المقامات كلها والذاكر هو الرجل الذي له الدرجة على غيره من أهل المقامات كما قال تعالى ولِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ومن الذكر سمي الذكر الذي هو نقيض الأنثى فهو الفاعل والأنثى منفعلة كحواء من آدم فقد نبهتك بذكر الحق بمن ذكرك من كونه مصليا

[ظهور حواء وظهور عيسى‏]

فحواء عن ذكر بشري صوري إلهي وعيسى عن ذكر روحي ملكي في صورة بشر فذكر حواء أتم بسبب الصورة وذكر عيسى أتم بالملكية المتجلية في الصورة البشرية المخلوقة على الحضرة الإلهية فجمع بين الصورة والروح فكان نشأة تمامية ظاهره بشر وباطنه ملك فهو روح الله وكلمته ف لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ولا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أي من أجل الله لمن ظهر من المخلوقين بالعزة فذلوا لهم تحت العزة الإلهية إذ لا يصح ذلة إلا بظهورها فالأعزاء من الخلائق هم مظاهر العزة الإلهية فالمتواضع من تواضع تحت جبروت المخلوقين والفقير على الحقيقة من افتقر إلى الأغنياء من المخلوقين لأن غنى المخلوق هو مظهر لصفة الحق فالفقير من افتقر إليها ولم يحجبه المظهر عنها وهكذا كل صفة علوية إلهية لا تنبغي إلا لله يكون مظهرها في المخلوقين فإن العلماء بالله يذلون تحت سلطانها ولا يعرف ذلك إلا العلماء بالله‏

[العارف الذي يتعزز على أبناء الدنيا]

فإذا رأيت عارفا بزعم أنه عارف وتراه يتعزز على أبناء الدنيا لما يرى فيهم من العزة والجبروت فاعلم أنه غير عارف ولا صاحب ذوق وهذا لا يصح إلا للذاكرين الله كثيرا والذاكرات أي في كل حال هذا معنى الكثير فإنه من الناس من يكون له هذه الحالة في أوقات ما ثم تنحجب فدل انحجابه على أنها لم تكن هذه المعرفة عنده عن ذوق وإنما كانت عن تخيل وتوهم وتمثل لا عن تحقق‏

[الأولياء التائبون والتوابون‏]

ومن الأولياء أيضا التائبون والتائبات والتوابون رضي الله عنهم تولاهم الله بالتوبة إليه في كل حال أو في حال واحد سار في كل مقام واعلم أن الله سبحانه وصف نفسه بالتواب لا بالتائب وذكر محبته للتوابين فقال إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وهم الراجعون منه إليه وأما من رجع إليه من غيره فهو تائب خاصة فإنه لا يرجع إليه من غيره من هذه صفته إلا إلى عين واحدة ومن يرجع منه إليه فإنه يرجع إلى أسماء متعددة في عين واحدة وذلك هو المحبوب ومن أحبه الله كان سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه وجميع قواه ومحال قواه أي هو عين قواه بل محال قواه فما أحب إلا نفسه وهو أشد الحب من حب الغير فإن حب الغير من حب النفس وليس حب النفس من حب الغير فالحب الأصلي هو حب الشي‏ء نفسه ف إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وهو التواب والتوابون‏

مجلى صورة التواب فرأى نفسه فأحبها لأنه الجميل فهو يحب الجمال والكون مظاهره فما تعلقت محبته إلا به فإن الصور منه وعين العبد في العناية الإلهية غرق فالتائب راجع إليه من عين المخالفة ولو رجع ألف مرة في كل يوم فما يرجع إلا من المخالفة لي عين واحدة وهو القابل التوب خاصة والتواب ينتقل في الآنات مع الأنفاس من الله إلى الله بالموافقات بل لا يكون إلا كذلك وإن ظهرت في الظاهر ممن هذه صفته عند الله مخالفة فلجهل الناظر بالصورة التي أدخلت عليه الشبهة فإنه يتخيل أنه قد اجتمع معه في الحكم وما عنده خبر أنه ممن قيل له اعمل ما شئت وأبيح له ما حجر على غيره ثم بين له فقال فقد غفرت لك أي سترتك عن خطاب التحجير

[التواب هو المجهول في الخلق لأنه محبوب‏]

فالتواب هو المجهول في الخلق لأنه محبوب والمحب غيور على محبوبه فستره عن عيون الخلق فإنه لو كشفه لعباده ونظروا إلى حسن المعنى في باطنه لأحبوه ولو أحبوه لصرفوا همتهم إليه فآثروا فيه الإقبال عليهم تخلقا حقيقيا من قوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وفَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله فكان سبب إقبال الحق على العبد إقبال العبد على أمر الحق فما ظنك بالمخلوق فهو أسرع في الإقبال عليهم لأنه محل يقبل الأثر فلهذا القبول الصادر منهم لو أحبهم الخلق سترهم فلم يعرفوا فهم العرائس المخدرات خلف حجاب الغيرة فيقال فيهم مذنبون وليسوا والله بمذنبين بل مصانين محفوظين‏

[مقام التوبة من التوبة]

وهذا المقام هو مقام التوبة من التوبة أي من التوبة التي يقال في صاحبها تائب بالتوبة التي يقال في صاحبها تواب قال بعضهم في ذلك‏

يا ربة العود خذي في الغنا *** وحركي من صوته ما ونى‏

فإن مسود قميص الدجى *** لونه الصبح بما لونا

قد تاب أقوام كثير وما *** تاب من التوبة إلا أنا

ولنا في هذا المقام على أتم إشارة من قول الأول‏

ما فاز بالتوبة إلا الذي *** قد تاب منها والورى نوم‏

فمن يتب أدرك مطلوبه *** من توبة الناس ولا يعلموا

فالتوابون أحباب الله بنص كتابه الناطق بالحق الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ من حَكِيمٍ حَمِيدٍ

[الأولياء المتطهرون‏]

ومن الأولياء أيضا المتطهرون من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله القدوس بتطهيره فتطهيرهم تطهير ذاتي لا فعلي وهي صفة تنزيه وهو تعمل في الطهارة ظاهرا وفي الحقيقة ليس كذلك ولهذا أحبهم الله فإنها صفة ذاتية له يدل عليها اسمه الْقُدُّوسُ السَّلامُ فأحب نفسه والصورة فيهم مثل الصورة في التوابين ولهذا قرن بينهما في آية واحدة فقال إِنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فعين محبته لهم ليعلم أن صفة التوبة ما هي صفة التطهير وجاور بينهما لاحدية المعاملة من الله في حقهما من كونه ما أحب سوى نفسه‏

[المتطهر في الطريق الصوفي‏]

واعلم أن المتطهر في هذا الطريق من عباد الله الأولياء هو الذي تطهر من كل صفة تحول بينه وبين دخوله على ربه ولهذا شرع في الصلاة الطهارة لأن الصلاة دخول على الرب لمناجاته والصفات التي تحول بين العبد وبين دخوله على ربه هي كل صفة ربانية لا تكون إلا لله وكل صفة تدخله على ربه ويقع بها لهذا العبد التطهير فهي صفاته التي لا يستحقها إلا العبد ولا ينبغي أن تكون إلا له ولو خلع الحق عليه جميع الصفات التي لا تنبغي إلا له ولا بد من خلعها عليه لا تبرح ذاته من حيث تجلى الرب له موصوفة بصفاته التي له فإن كان التجلي ظاهرا كان حكم صفاته عليه ظاهرا مثل الخشوع والخضوع وخمود الجوارح وسكون الأعضاء والارتعاش الضروري وعدم الالتفات وإن كان التجلي باطنا لقلبه كان أيضا حكم صفاته في باطنه قائما وسواء كان موصوفا في ظاهره في ذلك الحال بصفة ربانية أي حكمها ظاهر عليه من قهره استيلاء أو قبض أو عطاء أو عطف أو حنان‏

[طهارة القلب مثل سجود القلب‏]

فالتجلي في الباطن بصفات العبودة لازم لا ينفك عنه باطن المتطهر أبدا فإن طهارة القلب مثل سجوده إذا تطهر وصح تطهيره لا تنتقض طهارته أبدا وكل من قال في هذا بتجديد طهارة القلب وأن طهارته يدخل عليها في القلب ما ينقضها فهو حديث نفس أعني طهره ما تطهر قط فإن طهارة القلب مؤيدة وهؤلاء هم المتطهرون الذين أحبهم الله وهي حالة مكتسبة يتعمل لها الإنسان فإن التفعل تعمل الفعل ثم الكلام في التعمل في ذلك على صورة ما ذكرناه في التواب سواء آنفا

وبالله التوفيق وهو الهادي إلى الصراط المستقيم‏

[الأولياء الحامدون‏]

ومن الأولياء أيضا الحامدون من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بعواقب ما تعطيه صفات الحمد فهم أهل عاقبة الأمور قال الله تعالى ولِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فالحامد من عباد الله من يرى في الحمد المطلق على ألسنة العالم كله سواء كان الحامدون من أهل الله أو لم يكونوا وسواء كان المحمود الله أو كان مما يحمد الناس به بعضهم بعضا فإنه في نفس الأمر يرجع عواقب الثناء كله إلى الله لا إلى غيره فالحمد إنما هو لله خاصة بأي وجه كان فالحامدون الذين أثنى الله عليهم في القرآن هم الذين طالعوا نهايات الأمور في ابتدائها وهم أهل السوابق فشرعوا في حمده ابتداء بما يرجع إليه سبحانه وتعالى جل جلاله من حمد المحجوبين انتهاء فهؤلاء هم الحامدون على الشهود بلسان الحق‏

[الأولياء السائحون‏]

ومن الأولياء أيضا السائحون وهم المجاهدون في سبيل الله من رجال ونساء

قال صلى الله عليه وسلم سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله‏

قال تعالى التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ والسياحة المشي في الأرض للاعتبار برؤية آثار القرون الماضية ومن هلك من الأمم السالفة وذلك أن العارفين بالله لما علموا أن الأرض تزهو وتفخر بذكر الله عليها وهم رضي الله عنهم أهل إيثار وسعى في حق الغير ورأوا أن المعمور من الأرض لا يخلو عن ذاكر لله فيه من عامة الناس وأن المفاوز المهلكة البعيدة عن العمران لا يكون فيها ذاكر لله من البشر لزم بعض العارفين السياحة صدقة منهم على البيداء التي لا يطرقها إلا أمثالهم وسواحل البحار وبطون الأودية وقنن الجبال والشعاب والجهاد في أرض الكفر التي لا يوحد الله تعالى فيها ويعبد فيها غير الله ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم سياحة هذه الأمة الجهاد فإن الأرض وإن لم يكفر عليها ولا ذكر الله فيها أحد من البشر فهي أقل حزنا وهما من الأرض التي عبد غير الله فيها وكفر عليها وهي أرض المشركين والكفار فكان السياحة بالجهاد أفضل من السياحة في غير الجهاد ولكن بشرط أن يذكر الله عليها ولا بد فإن ذكر الله في الجهاد أفضل من لقاء العدو فيضرب المؤمنون رقابهم ويضرب الكفار رقاب المؤمنين والمقصود إعلاء كلمة الله في الأماكن التي يعلو فيها ذكر غير الله ممن يعبد من دون الله فهؤلاء هم السائحون لقيت من أكابرهم يوسف المغاور الجلاء ساح مجاهدا في أرض العدو عشرين سنة وممن رابط بثغر الأعداء شاب بجلمانية نشأ في عبادة الله تعالى يقال له أحمد بن همام الشقاق بالأندلس وكان من كبار الرجال مع صغر سنة انقطع إلى الله تعالى على هذه الطريق وهو دون البلوغ واستمر حاله على ذلك إلى أن مات‏

[الأولياء الراكعون‏]

ومن الأولياء أيضا الراكعون من رجال ونساء رضي الله عنهم وصفهم الله في كتابه بالراكعين وهو الخضوع والتواضع لله تعالى من حيث هويته سبحانه ولعزته وكبريائه حيث ظهر من العالم إذ كان العارف لا ينظر العالم من حيث عينه وإنما ينظره من حيث هو مظهر لصفات الحق‏

[العين الهالكة والصفة القائمة الدائمة]

قال الله تعالى كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وقال الكبرياء ردائي والعظمة إزاري من نازعني واحدا منهما قصمته‏

فالعين هالكة والصفة قائمة فالراكعون ركعوا للصفة لا للعين لأنهم سمعوا الحق يقول من نازعني واحدا منهما قصمته فعلموا أنها صفة الحق لا صفتهم ولهذا أوقع التنازع فيهما فعرفوا من العالم ما لم يعرف العالم من نفسه فلو كان الكبرياء والجبروت والعزة والعظمة التي يدعيها العزيز الجبار العظيم المتكبر من العباد صفة لهم حقيقة لما ذمهم ولا أخذهم أَخْذَةً رابِيَةً كما أنه لم يأخذهم بكونهم أذلاء خاشعين حقراء محقرين فإن الحقارة والذلة والصغار صفتهم‏

[من ظهر بصفته لم يؤاخذه الله‏]

فمن ظهر بصفته لم يؤاخذه الله لأنه كيف يؤاخذه إذا ظهر بما هو حق له ولما لم يكن لهم الجبروت وما في معناه وظهروا به أهلكهم الله فتحقق عند العارفين أنها صفة الحق تعالى ظهرت فيمن أراد الله أن يشقيه فتواضع العارفون للجبابرة والمتكبرين من العالم للصفة لا لعينهم إذ كان الحق هو مشهودهم في كل شي‏ء حتى الانحناء في السلام عند الملاقاة ربما انحنى العارفون لإخوانهم عند ما يلقونهم في سلامهم فيسر بذلك الشخص الذي ينحني من أجله وسروره إنما هو من جهله بنفسه حيث تخيل أن ذلك الانحناء والركوع له ممن لقيه إنما هو لما يستحقه من الرفعة فيفعله عامة الأعاجم مقابلة جهل بجهل وعادة وعرفا وهم لا يشعرون ويفعله العارفون مشاهدة جبروت إلهي يجب الانحناء له إذ لا يرون إلا الله قال لبيد

ألا كل شي‏ء ما خلا الله باطل‏

والباطل هو العدم بلا شك والوجود كله حق فما ركع الراكع إلا لحق وجودي‏

باطنه عدم وهو عين المخلوق‏

[أسماء الحق على مراتب والعالم كله مظاهرها]

فإن قلت فالراكع أيضا وجود قلنا صدقت فإن الأسماء الإلهية التي تنسب إلى الحق على مراتب في النسبة بعضها يتوقف على بعض وبعضها لها المهيمنية على بعض وبعضها أعم تعلقا وأكثر أثرا في العالم من بعض والعالم كله مظاهر هذه الأسماء الإلهية فيركع الاسم الذي هو تحت حيطة غيره من الأسماء للاسم الذي له المهيمنية عليه فيظهر ذلك في الشخص الراكع فكان انحناء حق لحق أ لا ترى الأحاديث الواردة الصحيحة بالفرح الإلهي والتبشبش والنزول والتعجب والضحك أين هذه الصفات من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ومن هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وأمثال ذلك من صفات العظمة فمن ركع فبهذه الصفة فهي الراكعة ومن تعاظم فبتلك الصفة أيضا الإلهية فهي العظيمة والراكعون من الأولياء على هذا الحد هو ركوعهم‏

[الأولياء الساجدون‏]

ومن الأولياء أيضا الساجدون من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بسجود القلوب فهم لا يرفعون رءوسهم لا في الدنيا ولا في الآخرة وهو حال القربة وصفة المقربين ولا يكون السجود إلا عن تجل وشهود ولهذا قال له واسْجُدْ واقْتَرِبْ يعني اقتراب كرامة وبر وتحف كما يقول الملك للرجل إذا دخل عليه فحياه بالسجود له بين يديه فيقول له الملك ادنه ادنه حتى ينتهي منه حيث يريد من القربة فهذا معنى قوله واقْتَرِبْ في حال السجود أعلاما بأنه قد شاهد من سجد له وأنه بين يديه وهو يقول له اقترب ليضاعف له القربة كما

قال من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا

إذا كان اقتراب العبد عن أمر إلهي كان أعظم وأتم في بره وإكرامه لأنه ممتثل أمر سيده على الكشف‏

[سجود العارفين وسجود القلب‏]

فهذا هو سجود العارفين الذين أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطهر بيته لهم ولأمثالهم فقال عز من قائل أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ من السَّاجِدِينَ يريد الذين لا يرفعون رءوسهم أبدا ولا يكون ذلك إلا في سجود القلب ولهذا قال له عقيب قوله وكُنْ من السَّاجِدِينَ تمم فقال واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فتعرف باليقين من سجد منك ولمن سجدت فتعلم أنك آلة مسخرة بيد حق قادر اصطفاك وطهرك وحلاك بصفاته فصفاته سبحانه طلبته بالسجود لذاته لنسبتها إليه‏

[النسب أو الصفات أو الأسماء لا تقوم بأنفسها]

فانظر يا أخي سر ما أشرنا إليه في هذه المسألة إذ كانت النسب أو الصفات أو الأسماء لا تقوم بأنفسها لذاتها فهي طالبة بطلب ذاتي لعين تقوم بها فيظهر حكمها بأن توصف تلك العين بها أو تسمى بها أو تنسب إليها كيف ما شئت من هذا كله فقل وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وكذلك انظر في قوله وتنبه الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ فأشار إلى تنوع الحالات عليه في حال سجوده من غير رفع يتخلل ذلك ولقد رفع وقام وركع وثنى السجود ولم يثن حالة من حالات صلاته إلا السجود لشرفه في حق العبد فأكده بتثنيته في كل ركعة فرضا واجبا وركنا لا ينجبر إلا بالإتيان به‏

[الأولياء الآمرون بالمعروف‏]

ومن الأولياء الآمرون بالمعروف من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بالأمر بالله إذ كان هو المعروف فلا فرق أن تقول الآمرون بالله أو الآمرون بالمعروف لأنه سبحانه هو المعروف الذي لا ينكر ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ من خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله مع كونهم مشركين وقالوا ما نَعْبُدُهُمْ يعني الآلهة إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى‏ فهو المعروف عندهم بلا خلاف في ذلك في جميع النحل والملل والعقول‏

قال صلى الله عليه وسلم من عرف نفسه عرف ربه‏

فهو المعروف فمن أمر به فقد أمر بالمعروف ومن نهى به فقد نهى عن المنكر بالمعروف فالآمرون بالمعروف هم الآمرون على الحقيقة بالله فإنه سبحانه إذا أحب عبده كان لسانه الذي يتكلم به والأمر من أقسام الكلام فهم الآمرون به لأنه لسانهم فهؤلاء هم الطبقة العليا في الأمر بالمعروف وكل أمر بمعروف فهو تحت حيطة هذا الأمر فاعلم ذلك‏

[الأولياء الناهون عن المنكر]

ومن الأولياء أيضا الناهون عن المنكر من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بالنهي عن المنكر بالمعروف والمنكر الشريك الذي أثبته المشركون بجعلهم فلم يقبله التوحيد العرفاني الإلهي وأنكره فصار مُنْكَراً من الْقَوْلِ وزُوراً فلم يكن ثم شريك له عين أصلا بل هو لفظ ظهر تحته العدم المحض فأنكرته المعرفة بتوحيد الله الوجودي فسمي مُنْكَراً من الْقَوْلِ إذ القول موجود وليس بمنكر عيني فإنه لا عين للشريك إذ لا شريك في العالم عينا وإن وجد قولا ونطقا فهم الناهون عن المنكر وهو عين القول خاصة فليس لمنكر من المنكرات عين موجودة فلهذا وصفهم الله بأنهم الناهون عن المنكر ولكن نهيهم بالمعروف في ذلك‏

[الأولياء الحلماء]

ومن الأولياء أيضا الحلماء من رجال ونساء رضي الله عنهم‏

وما من صفة للرجال إلا وللنساء فيها مشرب تولاهم الله بالحلم وهو ترك الأخذ بالجريمة في الحال مع القدرة على ذلك فلم يعجل فإن العجلة بالأخذ عقيب الجريمة دليل على الضجر وحكمه في المستأنف في المشيئة فالحليم هو الذي لا يعجل مع القدرة وارتفاع المانع والعلم السابق مانع وهو محجوب عن العبد قبل الاتصاف بصفة الحلم فالعبيد على الحقيقة إذا لم يعجلوا بالأخذ عقيب الجريمة مع القدوة هم الحلماء فإنهم لا علم لهم سابق يمنع من وقوع الأخذ لا في نفس الأمر فإن حلم العبد من العلم الإلهي السابق ولا يشعر به العبد حتى تقوم به صفة الحلم فحينئذ يعلم ما أعطاه حكم علم الله في حكمه ولهذا أن تقدمه العلم بذلك لا يسمى حليما على جهة التشريف‏

[حلم الحق وحلم العبد]

فالحق يوصف بالحلم لعدم الأخذ لا على طريق التشريف والعبد ينعت بالحليم لعدم الأخذ أيضا ولكن على طريق التشريف لجهله بما في علم الله من ذلك قبل اتصافه بعدم المؤاخذة والإمهال من غير إهمال فشرف الحق بالعلم لا بالحلم وشرف العبد بالحلم لا بالعلم لجهله بذلك فإن علم قبل قيام صفة الحلم به لم يكن له الحلم تشريفا فالأمر فيه بمنزلة من هو مجبور في اختياره فلا يثني عليه بالاختيار إلا مع رفع العلم عنه بالجبر في ذلك الاختيار سواء لأن الاختيار يناقض الجبر فيعلم الإنسان عند ذلك ما هو المراد بالاختيار ويرى أنه ما ثم في الوجودين إلا الجبر من غير إكراه فهو مجبور غير مكره وهذه المسألة من أعظم المسائل في المعارف وكم هلك فيها من الخلق قديما وحديثا

[الأولياء الأواهون‏]

ومن الأولياء أيضا الأواهون من رجال ونساء رضي الله عنهم لقيت منهم امرأة بمرشانة لزيتون من بلاد الأندلس تدعى بشمس مسنة تولى الله هذا الصنف بالتأوه مما يجدونه في صدورهم من ردهم لقصورهم من عين الكمال والنفوذ ويكون عن وجود أو عن وجود وجد على مفقود أثنى الله تعالى على خليله إبراهيم عليه السلام بذلك إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ ولَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ فتأوه لما رأى من عبادة قومه ما نحتوه وحلم فلم يعجل بأخذهم على ذلك مع قدرته عليهم بالدعاء عليهم ولهذا سمي حليما فلو لم يقدر ولا مكنه الله من أخذهم ما سماه سبحانه حليما ولكنه عليه السلام علم أنه في دار الامتزاج والتحول من حال إلى حال فكان يرجو لهم الايمان فيما بعد فهذا سبب حلمه وجود الموطن الذي يقتضي التحول من العبد والقبول من الله فلو علم من قومه ما علم نوح عليه السلام حيث قال ولا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ما حلم عنهم فالأواه هو الذي يكثر التأوه لبلواه ولما يقاسيه ويعانيه مما يشاهده ويراه وهو من باب الغيرة والحيرة والتأوه أمر طبيعي لا مدخل له في الأرواح من حيث عروها عن الامتزاج بالطبع‏

[الأولياء الأجناد الإلهيون‏]

ومن الأولياء الأجناد الإلهيون الذين لهم الغلبة على الأعداء من رجال ونساء رضي الله عنهم قال تعالى وإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فأضافهم إليه سبحانه من اسمه الملك فهم عبيد الملك وهنا سر فإن العالم أجناده سلط بعضهم على بعض وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي ما يحصيهم عددا تولى الله طائفة منهم بالعناية الإلهية فأضافهم إلى نفسه بضمير الكناية عن ذاته ولم يصرح باسم إلهي معين منصوص عليه اكتفاء بتسميتهم جندا والأجناد لا تكون إلا للملك فبين أنهم أهل عدة إذ كانت العدة من خصائص الأجناد التي تقع بها الغلبة على الأعداء والأعداء الذين في مقابلة هؤلاء الأجناد الشياطين والأهواء والمصارف المذمومة كلها وسلطانهم الهوى وعدة هؤلاء الجند التقوى والمراقبة والحياء والخشية والصبر والافتقار والميدان الذي يكون فيه المصاف والمقابلة إذا ترا آي الجمعان بينهم وبين الأعداء هو العلم في حق بعض الأجناد والايمان في حق بعضهم والعلم والايمان معا في حق الطبقة الثالثة من الجند

[الطبقات الثلاث الأجناد الأناية]

فإن أجناد الإنابة الذين لهم الغلبة على ثلاث طبقات الطبقة الخاصة العلية أهل علم بتوحيد الله وأهل علم برسول الله عن دليل عقلي برهاني وأهل إيمان مبناه على هذا العلم والطبقة الثانية أهل علم بتوحيد الله عن دليل قطعي من جهة النظر لا عن علم ضروري يجدونه في نفوسهم فإنه من الجند فلا بد له من آلة يدفع بها العدو المنازع ولا يقدر يدفعه صاحب العلم الضروري لكونه عالما من هذا الوجه من غير دليل فإن العدو ما يندفع إلا بالدليل وترتيبه وأصحاب العلم بالله من جهة الضرورة طائفة أخرى لا يتميزون في الأجناد ولا يتعرضون لدفع عدو بشبهة قادحة والطبقة الثالثة أهل إيمان لا أهل علم فهم أهل إيمان يكون عنه خرق عوائد يقوم لهم ذلك مقام الأدلة للعالم فيدفعون بخرق العوائد أعداء الله وأعداءهم كما يدفعه صاحب الدليل فمثل هذه الطبقة هم المسمون جندا

[المؤمنون الذين ليسوا بأجناد الأناية]

وأما المؤمنون الذين ليس عندهم خرق عادة لدفع عدو

فليسوا بأجناد وإن كانوا مؤمنين والجامع لمعرفة هذه الطبقة أن كل شخص يقدر على دفع عدو بآلة تكون عنده فهو من جنده سبحانه وتعالى الذين لهم الغلبة والقهر وهو التأبيد الإلهي الذي به يقع ظهورهم على الأعداء قال تعالى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى‏ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ‏

[الأولياء الأخيار]

ومن الأولياء أيضا الأخيار من رجال ونساء رضي الله عنهم قال الله تعالى وإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ تولاهم الله بالخيرة قال تعالى أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ جمع خيرة وهي الفاضلة من كل شي‏ء ومنه فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ والفضل يقتضي الزيادة على ما يقع فيه الاشتراك مما لا يشترك فيه من ليس من ذلك الجنس فالأخيار كل من زاد على جميع الأجناس بأمر لا يوجد في غير جنسه من العلم بالله على طريق خاص لا يحصل إلا لأهل ذلك الجنس ثم في هذا الجنس العالم بهذا العلم الخاص الذي به سموا أخيارا منهم من أعطى الإفصاح عما علمه ومنهم من لم يعط الإفصاح عما علمه في نفسه فالذي أعطى الإفصاح أخير ممن هو دونه وهو المستحق بهذا الاسم فإن الخير بالكسر الكلام يقال في فلان كرم وخير أي كرم وفصاحة فإذا أعطى الفصاحة عما عنده اهتدى به من سمع منه فكانت المنفعة به أتم فكان أفضل من غيره فإنه أقرب إلى التشبه بالاسم النافع فاعلم ذلك فقد بينت لك مرتبة الأخيار ولهذا ورد في أوصاف المرسلين لأن الرسول لا بد أن يكون مؤيدا بالنطق ليبين لمن أرسل إليه ما أرسل به إليه فهم الأخيار أي أصحاب هذه الفضيلة

[الأولياء الأوابون‏]

ومن الأولياء أيضا الأوابون من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بالأوبة في أحوالهم قال تعالى فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً يقال آبت الشمس لغة في غابت فالرجال الغائبون عند الله فلم يشهد حالهم مع الله أحد من خلق الله فإن الله وصف نفسه بأنه غفور لهم أي ساتر أي يستر مقامهم عن كل أحد سواه لأنهم طلبوا الغيبة عنده حتى لا يكون لهم مشهود سواه سبحانه والآئب أيضا الذي يأتي القوم ليلا كالطارق والليل ستر وهم الراجعون إلى الله في كل حال من كل ناحية يقال جاءوا من كل أوبة أي ناحية فالأواب الراجع إلى الله من كل ناحية من الأربع التي يأتي منها إبليس إلى الإنسان من ناحية أيديهم ومن خلفهم وعَنْ أَيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ فهم يرجعون في ذلك كله إلى الله أولا وآخرا فيما ذم وحمد من ذلك ولما اقتضى الأدب أن لا يرجعوا في حصول ما ذم إلى الله واقتضى لهؤلاء هذا الحال أن يرجعوا فيه إلى الله سمى نفسه غفورا للأوابين أي يغفر لهم هذا القدر الذي يصحبه من مقام آخر من سوء الأدب فالرجال الذين هم بهذه المثابة وهذه الصفة هم الأوابون‏

[الأولياء المخبتون‏]

ومن الأولياء أيضا المخبتون من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بالإخبات وهو الطمأنينة قال إبراهيم عليه السلام ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي يسكن والخبت المطمئن من الأرض فالذين اطمأنوا بالله من عباده وسكنت قلوبهم لما اطمأنوا إليه سبحانه فيه وتواضعوا تحت اسمه رفيع الدرجات وذلوا لعزته وأولئك هم المخبتون الذين أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه أن يبشرهم فقال له وبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ فإن قيل ومن المخبتون فقل الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصَّابِرِينَ عَلى‏ ما أَصابَهُمْ والْمُقِيمِي الصَّلاةِ ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فهذه صفات المخبتين أي كانوا ساكنين فحركهم ذكر الله بحسب ما وقع به الذكر وصبروا أي حبسوا نفوسهم على ما أصابهم من ذلك ولم يمنعهم ذلك الوجل ولا غلبة الحال عن إقامة الصلاة إذا حضر وقتها على أتم نشأتها لما أعطاهم الله من القوة على ذلك ثم مع ما هم فيه من الصبر على ما نابهم من الشدة فسألهم سائل وهم بتلك المثابة في رزق علمي أو حسي من سد جوعة أو ستر عورة أعطوه مما سألهم منه فلم يشغلهم شأن عن شأن فهذا نعت المخبتين الذي نعتهم الله به وهم ساكنون تحت مجاري الأقدار عليهم راضون بذلك من خبت النار إذا سكن لهبها

[الأولياء المنيبون‏]

ومن الأولياء أيضا المنيبون إلى الله من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بالإنابة إليه سبحانه قال تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ والرجال المنيبون هم الذين رجعوا إلى الله من كل شي‏ء أمرهم الله بالرجوع عنه مع شهودهم في حالهم أنهم نواب عن الله في رجوعهم إذ الرجوع عن الكشف إنما هو لله إذ كانت نواصي الخلق بيده يصرفهم كيف يشاء فمن شاهد نفسه في إنابته إلى ربه نائبا عن الله كما ينوب المصلي عن الله في قوله سمع الله لمن حمده وفي تلاوته كذلك رجوعه إلى الله في كل حال يسمى منيبا فلهم خصوص هذا الوصف‏

[الأولياء المبصرون‏]

ومن الأولياء أيضا المبصرون من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بالأبصار وهو من صفات خصائص المتقين قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ من الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ‏

فهم علماء أهل تقوى طرأ عليهم خاطر حسن أصله شيطاني فوجدوا له ذوقا خاصا لا يجدونه إلا إذا كان من الشيطان فيذكرهم ذلك الذوق بأن ذلك الخاطر من الشيطان فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ أي مشاهدون له بالذوق فإن اقتضى العلم أخذه وقلب عينه ليحزن بذلك الشيطان أخذه ولم يلتفت منه وكان من المبصرين فعلم كيف يأخذ ما يجب أخذه من ذلك ففرق بينه وبين ما يجب تركه كما

قال عيسى عليه السلام لما قال له إبليس حين تصور له على أنه لا يعرفه فقال له يا روح الله قل لا إله إلا الله رجاء منه أن يقول ذلك لقوله فيكون قد أطاعه بوجه ما وذلك هو الايمان فقال له عيسى عليه السلام أقولها لا لقولك لا إله إلا الله‏

فجمع بين القول ومخالفة غرض الشيطان لا امتثالا لأمر الشيطان فمن عرف كيف يأخذ الأشياء لا يبالي على يدي من جاء الله بها إليه وإن اقتضى العلم رد ذلك في وجهه رده فهذا معنى قوله تَذَكَّرُوا ولا يكون التذكر إلا لمعلوم قد نسي فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ أي رجع إليهم نظرهم الذي غاب عنهم رجع بالتذكر

[الأولياء المهاجرون‏]

ومن الأولياء أيضا المهاجرون والمهاجرات رضي الله عنهم تولاهم الله بالهجرة بأن ألهمهم إليها ووفقهم لها قال تعالى ومن يَخْرُجْ من بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى الله ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله فالمهاجر من ترك ما أمره الله ورسوله بتركه وبالغ في ترك ذلك لله خالصا من كل شبهة عن كرم نفس وطواعية لا عن كره وإكراه ولا رغبة في جزاء بل كرم نفس بمقاساة شدائد يلقاها من المنازعين له في ذلك ويسمعونه ما يكره من الكلام طبعا فيتغير عند سماعه ويكون ذلك كله عن اتساع في العلم والدءوب على مثل هذه الصفة وتقيده في ذلك كله بالوجوه المشروعة لا بأغراض نفسه ويكون به كمال مقامه فإذا اجتمعت هذه الصفات في الرجل فهو مهاجر فإن فاته شي‏ء من هذه الفصول والنعوت فاته من المقام بحسب ما فاته من الحال وإنما قلنا هذا كله واشترطناه لما سماه الله مهاجرا والله بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ فكل ما يدخل تحت هذا اللفظ مما ينبغي أن يكون وصفا حسنا للعبد فيسمى به صاحب هجرة اشترطناه في المهاجر لانسحاب هذه الحقيقة اللفظية في نفس الوضع على ذلك المعنى الذي اشتق من لفظه هذا الاسم‏

[الأولياء المشفقون‏]

ومن الأولياء أيضا المشفقون من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بالإشفاق من خشية ربهم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ هُمْ من خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ يقال أشفقت منه فإنا مشفق إذ حذرته قال تعالى من عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ أي حذرون من عذاب ربهم غير آمنين يعني وقوعه بهم ولا يقال أشفقت منه إلا في الحذر ويقال أشفقت عليه إشفاقا من الشفقة والأصل واحد أي حذرت عليه فالمشفقون من الأولياء من خاف على نفسه من التبديل والتحويل فإن أمنه الله بالبشرى مع إشفاقه على خلق الله مثل إشفاق المرسلين على أممهم ومن بشر من المؤمنين وهم قوم ذوو كبد رطبة لهم حنان وعطف إذا أبصروا مخالفة الأمر الإلهي من أحد ارتعدت فرائصهم إشفاقا عليه إن ينزل به أمر من السماء ومن كان بهذه المثابة فالغالب على أمره إنه محفوظ في أفعاله فلا يتصور منه مخالفة لما تحقق به من صفة الإشفاق فلما كانت ثمرة الإشفاق الاستقامة على طاعة الله أثنى الله عليهم بأنهم مشفقون للتغيير الذي يقوم بنفوسهم عند رؤية الموجب لذلك مأخوذ من الشفق الذي هو حمرة بقية ضوء الشمس إذا غربت أو إذا أرادت الطلوع‏

[الأولياء الموفون بعهد الله‏]

ومن الأولياء الموفون بعهد الله من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بالوفاء قال تعالى والْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وقال الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله ولا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وهم الذين لا يغدرون إذا عهدوا ومن جملة ما سأل قيصر ملك الروم عنه أبا سفيان بن حرب حين سأله عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم هل يغدر فالوفاء من شيم خاصة الله فمن أتى في أموره التي كلفه الله أن يأتي بها على التمام وكثر ذلك في حالاته كلها فهو وفي وقد وفى قال تعالى وإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى وقال تعالى ومن أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً يقال وفى الشي‏ء وفيا على فعول بضم فاء الفعل إذا تم وكثروهم على أشراف على الأسرار الإلهية المخزونة ولهذا يقال أوفى على الشي‏ء إذا أشرف فمن كان بهذه المثابة من الوفاء بما كلفه الله وأشرف على ما اختزنه الله من المعارف عن أكثر عباده فذلك هو الوفي ومن توفاه الله في حياته في دار الدنيا أي آتاه من الكشف ما يأتي للميت عند الاحتضار إذ كانت الوفاة عبارة عن إتيان الموت فإذا طولع العبد على هذه المرتبة أوجبت له الوفاء بعهود الله التي أخذها عليه فقد يكون الوفاء لأهل هذه الصفة سبب الكشف وقد يكون الكشف في‏

حق طائفة منهم سبب الوفاء

[الأولياء الواصلون ما أمر الله به أن يوصل‏]

ومن الأولياء أيضا الواصلون ما أمر الله به أن يوصل من رجال ونساء رضي الله عن جميعهم تولاهم الله بالتوفيق بالصلة لمن أمر الله به أن يوصل قال تعالى و(الَّذِينَ) يَصِلُونَ ما أَمَرَ الله به أَنْ يُوصَلَ يعني من صلة الأرحام وأن يصلوا من قطعهم من المؤمنين بما أمكنهم من السلام عليهم فما فوقه من الإحسان ولا يؤاخذ بالجريمة التي له الصفح عنها والتغافل ولا يقطعون أحدا من خلق الله إلا من أمرهم الحق بقطعه فيقطعونه معتقدين قطع الصفة لا قطع ذواتهم فإن الصفة دائمة القطع في حق هؤلاء اتصف بها من اتصف فهم ينتظرون به رحمة الله أن تشمله والوصل ضد القطع‏

[الوجود مبنى على الوصل‏]

ولما كان الوجود مبنيا على الوصل ولهذا دل العالم على الله واتصف بالوجود الذي هو الله فالوصل أصل في الباب والقطع عارض يعرض ولهذا جعل الله بينه وبين عباده حبلا منه إليهم يعتصمون به ويتمسكون ليصح الوصلة بينهم وبين الله سبحانه قال النبي صلى الله عليه وسلم الرحم شجنة من الرحمن أي هذه اللفظة أخذت من الاسم الرحمن عينا وغيبا فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله وقطعه إياها هو قطع الله لا أمر زائد فلما علموا أن الحق تعالى ما دعاهم إليه ولا شرع لهم الطريق الموصل إليه إلا ليسعدوا بالاتصال به فهم الواصلون أهل الأنس والوصال‏

فهم الذين همو همو *** أهل المودة في القديم‏

[اتصال داخل الأنفاس بخارجها]

وقد ورد في الخبر لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا

فنهوا عن التقاطع أ لا ترى اتصال الأنفاس داخلها بخارجها يؤذن بالبقاء والحياة فإذا انقطعت الوصلة بين النفسين فخرج الداخل يطلب دخول الخارج فلم يجده مات الإنسان لانقطاع تلك الوصلة التي كانت بين النفسين فالواصلون ما أمر الله به أن يوصل ذلك هو عين وصلتهم بالله تعالى فأثنى عليهم‏

[الأولياء الخائفون‏]

ومن الأولياء أيضا الخائفون من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بالخوف منه أو مما خوفهم منه امتثالا لأمره فقال وخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وأثنى عليهم بأنهم يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والْأَبْصارُ ويَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ فإذا خافوه التحقوا بالملإ الأعلى في هذه الصفة فإنه قال فيهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ من فَوْقِهِمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فمن كان بهذه المثابة تميز مع الملإ الأعلى‏

[خوف الزمان وخوف الحال‏]

فمن أدبهم مع الله أنهم خافوا اليوم لما يقع فيه لكون الله خوفهم ومنه ولما تحققوا بهذا الأدب أثنى الله عليهم بأنهم يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والْأَبْصارُ فهذا خوف الزمان وأما خوف الحال فهو قوله ويَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ فهم أهل أدب مع الله وفقوا له حيث وفقهم فإن كثيرا من أهل الله لا يتفطنون لهذا الأدب ولا يعرجون على ما خوفوا به من الأكوان وعلقوا أمرهم بالله فهؤلاء لهم لقب آخر غير اسم الخائف وإنما الخائفون الذين استحقوا هذا الاسم فهم الأدباء

[الخوف من الله ومن الهدى ومن العدو]

أوحى الله إلى رسوله موسى عليه السلام يا موسى خفني وخف نفسك يعني هواك وخف من لا يخافني‏

وهم أعداء الله فأمره بالخوف من غيره فامتثل الأدباء أمر الله فخافوهم في هذا الموطن كما شكروا غير الله من المحسنين إليهم بأمر الله لا من حيث إيصال النعم إليهم على أيديهم فهم في عبادة إلهية في شكرهم وفي خوفهم وهذا صراط دقيق خفي على العارفين فما ظنك بالعامة وأما المتوسطون أصحاب الأحوال فلا يعرفونه لأنهم تحت سلطان أحوالهم‏

[الأولياء المعرضون عمن أمر الله بالإعراض عنه‏]

أو من الأولياء أيضا المعرضون عمن أمرهم الله بالإعراض عنه من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بالإعراض عنهم قال تعالى والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وقال فَأَعْرِضْ عَنْ من تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وقد علمت هذه الطبقة أنه ما ثم إلا الله فأعرضوا بأمره عن فعله فكانوا أدباء زمانهم ولم يعرضوا بأنفسهم إذ المؤمن لا نفس له ف إِنَّ الله اشْتَرى‏ من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ فمن ادعى الايمان وزعم أن له نفسا يملكها فليس بمؤمن فقال الحق لمن هذه صفته فأعرض بها يعني بالنفس التي اشتريتها منك أعرض بها عن من تولى عن ذكرنا ممن لم نشتر منه نفسه لكونه غير مؤمن فقوله الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ أي عن الذي أسقطه الله عن أن يعتبر معرضون لكون الحق أسقط يقال لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل لغو أي ساقط ومنه لغو اليمين لإسقاط الكفارة والمؤاخذة بها فأثنى الله عليهم بالإعراض وإن تحققوا أنه ما ثم إلا الله‏

[الأولياء الكرماء]

ومن الأولياء أيضا الكرماء من رجال ونساء رضي الله عنهم تولاهم الله بكرم النفوس فقال تعالى وإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أي لم ينظروا لما أسقط الله النظر إليه فلم يتدنسوا بشي‏ء منه فمروا به غير ملتفين إليه كراما فما أثر فيهم فإنه مقام تستحليه النفوس وتقبل عليه للمخالفة التي جبلها الله عليها وهذه هي النفوس الآبية أي‏

تأبى الرذائل فهي نفوس الكرام من عباد الله والتحق بهذه الصفة بالملإ الأعلى الذين قال الله فيهم إن صحفه بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ فنعتهم بأنهم كرام فكل وصف يلحقك بالملإ الأعلى فهو شرف في حقك‏

[التخلق بأسماء الله عند العارفين‏]

فإن العارفين من عباد الله يجعلون بينهم وبين نعوت الحق عند التخلق بأسمائه ما وصف الله به الملأ الأعلى من تلك الصفة فيأخذونها من حيث هي صفة لعبيد من عباد الله مطهرين لا من حيث هي صفة للحق تعالى فإن شرفهم أن لا يبرحوا من مقام العبودية وهذا الذوق في العارفين عزيز فإن أكثر العارفين إنما يتخلقون بالأسماء الحسنى من حيث ما هي أسماء الله تعالى لا من حيث ما ذكرناه من كون الملإ الأعلى قد اتصف بها على ما يليق به فلا يتخلق العارف بها إلا بعد أن اكتسبت من اتصاف الملإ الأعلى روائح العبودة فمثل هؤلاء لا يجدون في التخلق بها طعما للربوبية التي تستحقها هذه الأسماء فمن عرف ما ذكرناه وعمل عليه ذاق من علم التجلي ما لم يذقه أحد ممن وجد طعم الربوبية في تخلقه‏

[صفات أولياء الله في كتاب الله‏]

وصفات أولياء الله في كتاب الله المودع كلام الله كثيرة ومن أعلى الثناء وأكمله ما أوقع الاشتراك فيه بما يدل على المفاضلة وأكثر من هذا التنزل الإلهي ما يكون ولو لا إن الكيان مظاهر الحق فكان نزوله منه إليه لما أطاق العارفون حمل كلام الحق ولا سماعه فجعل نفسه أرحم الراحمين بعباده وأحكم الحاكمين بفصل قضائه وأحسن الخالقين بتقديره وخير الغافرين بستر جلاله وخير الفاتحين لمغالق غيوبه وخير الفاصلين بأحكام حكمته ف هُمْ لِأَماناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ بكلايته وبِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ بين يديه في بساط جلاله وداعون إليه على بينة منه وبصيرة بما يطلبه حسن بلائه وهم العاملون بأوامره والرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ بشهادة توحيده بلسان إيمانه وأولو الأبصار بالاعتبار في مخلوقاته وأولو النهى بما زجرهم به في خطابه وأولو الألباب بما حفظهم من الاستمداد لبقاء نوره وهم العارفون عن الناس لما حجهم به عن الاطلاع إلى سابق علمه والكاظمون الغيظ لتعدي حدوده والمنفقون مما استخلفهم فيه أداء أمانة لمن شاء من عبيده والمستغفرون بالأسحار عند تجليه من سمائه والشاكرون لما أسداه من آلائه والفائزون بما وهبهم من معرفته والسابقون على نجب الأعمال إلى مرضاته والأبرار بما غمرهم به من إحسانه والمحسنون بما أشهدهم من كبريائه والمصطفون من بين الخلائق باجتبائه والأعلون بإعلاء كلمته على كلمة أعدائه والمقربون بين أسمائه وأنبيائه والمتفكرون فيما أخفاه من غامض حكمته في أحكامه والمذكرون من نسي إقراره بربوبيته عند أخذ ميثاقه والناصرون أهل دينه على من ناواهم فيه ابتغاء منازعته وإن كان بقضائه أولئك عباد الله الذين ليس لأحد عليهم سلطان لكونهم من أهل الحجة البالغة لما تكلموا بالنيابة عنه في كلامه فهو لسانهم وسمعهم وبصرهم ويدهم في نوره وظلماته ولو تقصينا ما ذكر الله في كتابه من صفات أولياءه وشرحنا ما خصوا به لم يف بذلك الوقت فإذ ولا بد من الاقتصاد في الاقتصار فليكف هذا القدر الذي ذكرناه من ذلك إجمالا وتفصيلا وموقتا وغير موقت‏

[المشيئة هي عرس الذات‏]

واعلم أنه من شم رائحة من العلم بالله لم يقل لم فعل كذا وما فعل كذا وكيف يقول العالم بالله لم فعل كذا وهو يعلم أنه السبب الذي اقتضى كل ما ظهر وما يظهر وما قدم وما أخر وما رتب لذاته فهو عين السبب فلا يوجد لعلة سواه ولا يعدم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا فمشيئته عرش ذاته كذا قال أبو طالب المكي إن عقلت فإن فتح لك في علم نسب الأسماء الإلهية التي ظهرت بظهور المظاهر الإلهية في أعيان الممكنات فتنوعت وتجنست وتشخصت قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وكُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ فسبب ظهور كل حكم في عينه اسمه الإلهي وليست أسماؤه سوى نسب ذاتية فاعقل والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ انتهى الجزء التاسع والسبعون‏

( (بسم الله الرحمن الرحيم))

(وصل من هذا الباب) [إيضاح وشرح المسائل الروحانية]

اعلم أن الدعاوي لما استطال لسانها في هذا الطريق من غير المحققين قديما وحديثا جرد الإمام صاحب الذوق التام محمد ابن علي الترمذي الحكيم مسائل تمحيص واختبار وعددها مائة وخمسة وخمسون سؤالا لا يعرف الجواب عنها إلا

من علمها ذوقا وشربا فإنها لا تنال بالنظر الفكري ولا بضرورات العقول فلم يبق إلا أن يكون حصولها عن تجل إلهي في حضرة غيبة بمظهر من المظاهر فوقتا يكون المظهر جسميا ووقتا يكون جسمانيا ووقتا جسديا ووقتا يكون المظهر روحيا ووقتا روحانيا وهذا الباب من هذا الكتاب مما يطلب إيضاح تلك المسائل وشرحها فجعلت هذا الباب مجلاها إن شاء الله تعالى فمن ذلك‏

(السؤال الأول) كم عدد منازل الأولياء

الجواب اعلم أن منازل الأولياء على نوعين حسية ومعنوية فمنازلهم الحسية في الجنان وإن كانت الجنة مائة درجة ومنازلهم الحسية في الدنيا أحوالهم التي تنتج لهم خرق العوائد فمنهم من يتبرز فيها كالإبدال وأشباههم ومنهم من تحصل له ولا يظهر عليه شي‏ء منها وهم الملامتية وأكابر العارفين وهي تزيد على مائة منزل وبضعة عشر منزلا وكل منزل يتضمن منازل كثيرة فهذه منازلهم الحسية في الدارين‏

[معارف الأولياء ومنازلهم فيها]

وأما منازلهم المعنوية في المعارف فهي مائتا ألف منزل وثمانية وأربعون ألف منزل محققة لم ينلها أحد من الأمم قبل هذه الأمة وهي من خصائص هذه الأمة ولها أذواق مختلفة لكل ذوق وصف خاص يعرفه من ذاقه وهذا العدد منحصر في أربعة مقامات مقام العلم اللدني وعلم النور وعلم الجمع والتفرقة وعلم الكتابة الإلهية ثم بين هذه المقامات مقامات من جنسها تنتهي إلى بضع ومائة مقام كلها منازل للأولياء ويتفرع من كل مقام منازل كثيرة معلومة العدد يطول الكتاب بإيرادها وإذا ذكرت الأمهات عرف ذوق صاحبها فأما العلم اللدني فمتعلقه الإلهيات وما يؤدي إلى تحصيلها من الرحمة الخاصة وأما علم النور فظهر سلطانه في الملإ الأعلى قبل وجود آدم بآلاف من السنين من أيام الرب وأما علم الجمع والتفرقة فهو البحر المحيط الذي اللوح المحفوظ جزء منه ومنه يستفيد العقل الأول وجميع الملإ الأعلى منه يستمدون وما ناله أحد من الأمم سوى أولياء هذه الأمة وتتنوع تجلياته في صدورهم على ستة آلاف نوع ومئين فمن الأولياء من حصل جميع هذه الأنواع كأبي يزيد البسطامي وسهل بن عبد الله ومنهم من حصل بعضها وقد كان للأولياء في سائر الأمم من هذه العلوم نفثات روح في روع وما كمل إلا لهذه الأمة تشريفا لهم وعناية بهم لمكانة نبيهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفيه من خفايا العلوم التي هي بمنزلة الأصول ثلاثة علوم علم يتعلق بالإلهيات وعلم يتعلق بالأرواح العلوية وعلم يتعلق بالمولدات الطبيعية فما يتعلق منه بالإلهيات على قدم واحدة لا يتغير وإن تغيرت تعلقاته والذي يتعلق منه بالأرواح العلوية فيتنوع من غير استحالة والذي يتعلق بالمولدات الطبيعية يتنوع ويستحيل باستحالاتها وهو المعبر عنه بأرذل العمر لِكَيْلا يَعْلَمَ من بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً فإن المواد التي حصل له منها هذا العلم استحالت فالتحق العلم بها بحكم التبعية

[طبقات الأولياء في أصول علوم الجمع والتفرقة]

وكما هي أصولها ثلاث علوم فالأولياء فيها على ثلاث طبقات الطبقة الوسطى منهم لهم مائة ألف منزل وثلاثة وعشرون ألف منزل وستمائة منزل وسبعة وثمانون منزلا أمهات يحتوي كل منزل منها على منازل لا يتسع الوقت لحصرها لتداخل بعضها في بعضها ولا ينفع فيها إلا الذوق خاصة وما بقي من الأعداد فمقسم بين الطبقتين وهما اللذان ظهرا برداء الكبرياء وإزار العظمة غير أن لهما من إزار العظمة مما يزيد على هذا الذي ذكرناه ألف منزل وبضعة وعشرون منزلا لهذه المنازل خصوص وصف لا يوجد في منازل رداء الكبرياء وذلك أن رداء الكبرياء مظهره من الاسم الظاهر والإزار مظهره من الاسم الباطن والظاهر هو الأصل والباطن نسبة حادثة ولحدوثها كانت لها هذه المنازل فإن الفروع محل الثمر فيوجد في الفرع ما لا يظهر في الأصل وهو الثمرة وإن كان مددهما من الأصل وهو الاسم الظاهر لكن الحكم يختلف فمعرفتنا بالرب تحدث عن معرفة بالنفس لأنها الدليل من عرف نفسه عرف ربه وإن كان وجود النفس فرعا عن وجود الرب فوجود الرب هو الأصل ووجود العبد فرع ففي مرتبة يتقدم فيكون له الاسم الأول وفي مرتبة يتأخر فيكون له الاسم الآخر فيحكم له بالأصل من نسبة خاصة ويحكم له بالفرع من نسبة أخرى هذا يعطيه النظر العقلي‏

[ما تعطيه المعرفة الذوقية في معرفة الذات الإلهية]

وأما ما تعطيه المعرفة الذوقية فهو أنه ظاهر من حيث ما هو باطن وباطن من عين ما هو ظاهر وأول من عين ما هو آخر وكذلك القول في الآخر وإزار من نفس ما هو رداء ورداء من نفس ما هو إزار لا يتصف أبدا بنسبتين مختلفتين كما يقرره ويعقله العقل من حيث ما هو ذو فكر ولهذا قال أبو سعيد الخراز وقد قيل له بم عرفت الله فقال بجمعه بين الضدين ثم تلا هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ‏

فلو كان عنده هذا العلم من نسبتين مختلفتين ما صدق قوله بجمعه بين الضدين ولو كانت معقولية الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية في نسبتها إلى الحق معقولية نسبتها إلى الخلق لما كان ذلك مدحا في الجناب الإلهي ولا استعظم العارفون بحقائق الأسماء ورود هذه النسب بل يصل العبد إذا تحقق بالحق أن تنسب إليه الأضداد وغيرها من عين واحدة لا تختلف وإذا كان العبد يتصور في حقه وقوع هذا فالحق أجدر وأولى إذ هو المجهول الذات فمثل هذه المعرفة الإلهية لا تنال إلا من هذه المنازل التي وقع السؤال عنها

[أعداد الأولياء الذين لهم عدد منازل المعارف‏]

وأما عدد الأولياء الذين لهم عدد المنازل فهم ثلاثمائة وستة وخمسون نفسا وهم الذين على قلب آدم ونوح وإبراهيم وجبريل وميكائيل وإسرافيل وهم ثلاثمائة وأربعون وسبعة وخمسة وثلاثة وواحد فيكون المجموع ستة وخمسين وثلاثمائة هذا هو عند أكثر الناس من أصحابنا وذلك للحديث الوارد في ذلك وأما طريقتنا وما يعطيه الكشف الذي لا مرية فيه فهو المجموع من الأولياء الذين ذكرنا أعدادهم في أول هذا الباب ومبلغ ذلك خمسمائة نفس وتسعة وثمانون نفسا منهم واحد لا يكون في كل زمان وهو الختم المحمدي وما بقي فهم في كل زمان لا ينقصون ولا يزيدون وأما الختم فهذا زمانه وقد رأيناه وعرفناه تمم الله سعادته علمته بفأس سنة خمس وتسعين وخمسمائة والمجمع عليه من أهل الطريق أنهم على ست طبقات أمهات أقطاب وأئمة وأوتاد وأبدال ونقباء ونجباء وأما الذين زادوا على هؤلاء في الكشف فطبقات الرجال عندهم الذي يحصرهم العدد ولا يخلو عنهم زمان خمس وثلاثون طبقة لا غير ومرتبة الختمين ولكن لا يكونان في كل زمان فلهذا لم نلحقهما بالطبقات الثابتة في كل زمان‏

(السؤال الثاني) أين منازل أهل القربة

الجواب بين الصديقية ونبوة الشرائع فلم تبلغ منزلة بنى التشريع من النبوة العامة ولا هو من الصديقين الذين هم أتباع الرسل لقول الرسل وهو مقام المقربين وتقريب الحق لهم على وجهين وجه اختصاص من غير تعمل كالقائم في آخر الزمان وأمثاله ووجه آخر من طريق التعمل كالخضر وأمثاله والمقام واحد ولكن الحصول فيه على ما ذكرناه ومن ثم يتبين الرسول من النبي ويعم الجميع هذا المقام وهو مقام المقربين والأفراد

[العبد لا يكتسب ما يكون من الحق إليه‏]

وفي هذا المقام يلتحق البشر بالملإ الأعلى ويقع الاختصاص الإلهي فيما يكون من الحق لهؤلاء وأما المقام فداخل تحت الكسب وقد يحصل اختصاصا ولهذا يقال في الرسالة إنها اختصاص وهو الصحيح فإن العبد لا يكتسب ما يكون من الحق سبحانه فله التعمل في الوصول وما له تعمل فيما يكون من الحق له عند الوصول ومن هناك منبع العلم اللدني الذي قال الله فيه في حق عبده خضر آتَيْناهُ رَحْمَةً من عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ من لَدُنَّا عِلْماً المعنى آتيناه رحمة علما من عندنا وعلمناه من لدنا وهو من الأربعة المقامات الذي هو علم الكتابة الإلهية وعلم الجمع والتفرقة وعلم النور والعلم اللدني‏

[اتصال حياة أهل القربة في الدنيا بالآخرة]

واعلم أن منزل أهل القربة يعطيهم اتصال حياتهم بالآخرة فلا يدركهم الصعق الذي يدرك الأرواح بل هم ممن استثنى الله تعالى في قوله ونُفِخَ في الصُّورِ فَصَعِقَ من في السَّماواتِ ومن في الْأَرْضِ إِلَّا من شاءَ الله وهذا المنزل هو أخص المنازل عند الله وأعلاها والناس فيه على طبقات ثلاث فمنهم من يحصله برمته وهم الرسل صلوات الله عليهم وهم فيه على درجات يفضل بعضهم بعضا ومنهم من يحصل منه الدرجة الثانية وهم الأنبياء صلوات الله عليهم الذين لم يبعثوا بل تعبدوا بشريعة موقوفة عليهم فمن اتبعهم كان ومن لم يتبعهم لم يوجب الله على أحد أتباعهم وهم فيها على درجات يفضل بعضهم بعضا والطبقة الثالثة هي دونهما درج النبوة المطلقة التي لا يتخلل وحيها ملك ودون هؤلاء الطبقات هم الصديقون الذين يتبعون المرسلين ودون هؤلاء الصديقين الصديقون الذين يتبعون الأنبياء من غير أن يجب ذلك عليهم ودون هؤلاء الصديقين الذين يتبعون أهل الطبقة الثالثة وهم الذين انطلق عليهم اسم المقربين أعني أهل الطبقة الثالثة ولكل طبقة ذوق لا تعلمه الطبقة الأخرى ولهذا قال الخضر لموسى عليه السلام وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى‏ ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً والخبر الذوق وهو علم حال وقال الخضر لموسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا

(السؤال الثالث) فإن قيل إن الذين حازوا العساكر بأي شي‏ء حازوا

فلنقل في الجواب نذكر أو لا ما معنى العساكر وما معنى حيازتهم لهم ثم نبين بأي شي‏ء حازوا فإن هذا السائل إذا أرسل سؤاله من غير تقييد لفظي أو قرينة حال‏

ينبغي للمجيب أن يجيب بالمعاني التي تدل عليها تلك الكلمة في اصطلاحهم فمهما أخل بشي‏ء منها فما وفي الكلمة حقها

[مبنى هذا الطريق على التخلق بأسماء الله‏]

فاعلم إن العساكر قد يطلقونها ويريدون بها شدائد الأعمال والعزائم والمجاهدات كما قال القائل‏

ظل في عسكرة من حبها

أي في شدة واعلم أن مبني هذا الطريق على التخلق بأسماء الله فحاز هؤلاء العساكر بالتخلق باسمه الملك فإن الملك هو الذي يوصف بأنه يجوز العساكر والملك معناه أيضا الشديد فلا تحاز الشدائد والعزائم إلا بما هو أشد منها يقال ملكت العجين إذا شددت عجنه قال قيس بن الحطيم يصف طعنة

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

أي شددت بها كفي حين طعنته‏

[الهالكون بين الحقيقة والأدب‏]

فحازوا العساكر بالطريقين باسمه الملك فأما الشدائد التي حازوها في هذا الباب فهي البرازخ التي أوقفهم الحق في حضرة الأفعال من نسبتها إلى الله ونسبتها إلى أنفسهم فيلوح لهم ما لا يتمكن لهم معه أن ينسبوها إلى أنفسهم ويلوح لهم ما لا يتمكن لهم معه أن ينسبوها إلى الله فهم هالكون بين حقيقة وأدب والتخليص من هذا البرزخ من أشد ما يقاسيه العارفون فإن الذي ينزل عن هذا المقام يشاهد أحد الطرفين فيكون مستريحا لعدم المعارض‏

[من أعلمه الله بجنوده التي لا يعلمها إلا هو]

واعلم أن صاحب هذا المقام هو الذي أعلمه الله بجنوده الذي لا يعلمها إلا هو قال تعالى وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وقال وإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فصاحب هذا المقام يعرفه جنود الله الذين لا حاكم عليهم في شغلهم إلا الله ولهذا نسبهم إليه فهم الغالبون الذين لا يغلبون فمنهم الريح العقيم ومنهم الطير التي أرسلت على أصحاب الفيل وكل جند ليس لمخلوق فيه تصريف هم العساكر التي حازها صاحب هذا المقام علما وقال صلى الله عليه وسلم فيهم نصرت بالصبا

وقال نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر

فإذا منح الله صاحب هذا المقام علم هؤلاء العساكر رمى بالحصى في وجوه الأعداء فانهزموا كما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين فله الرمي وهم لا يكون منهم غلبة إلا بأمر الله ولهذا قال وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ فكل منصور بجند الله فهو دليل على عناية الله به ولا يكون منصورا بهم على الاختصاص إلا بتعريف إلهي فإن نصره الله من غير تعريف إلهي فليس هو من هذه الطبقة التي حازت العساكر فلا بد من اشتراط النصر حقا في ذلك القصد وصاحب هذا المقام يعين لأصحابه مصارع القوم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر فإنه ما من شخص من أجناد الله إلا وهو يعرف عين من سلط عليه ومتى يسلط عليه وأين يسلط عليه فتتشخص الأجناد لصاحب هذا المقام في الأماكن التي هي مصارع القوم كل شخص على صورة المقتول وباسمه فيراه صاحب هذا المقام فيقول هذا هو مصرع فلان وهذا هو مقام الإمام الواحد من الإمامين وأقرب شي‏ء ينال به هذا المقام البغض في الله والحب في الله فتكون همم هذه الطبقة وأنفاسهم من جملة العساكر التي حازوها بما ذكرناه وهو الموالاة في الله والعداوة في الله عن عزم وصدق مع كونهم لا يرون إلا الله فيجدون من الانضغاط وكظم الغيظ ما لا يعلمه إلا الله والعين تحرسهم في باطنهم هل ينظرون في ذلك أنه غير الله فإذا تحققوا ذلك حازوا عساكر الحق التي هي أسماؤه سبحانه إذ أسماؤه تعالى عساكره وهي التي يسلطها على من يشاء ويرحم بها من يشاء فمن حاز أسماء الله فقد حاز العساكر الإلهية ورئيس هؤلاء الأجناد الأسمائية كما قلنا الاسم الملك هو المهيمن عليها ومن عداه فأمثال السدنة له ويكفي هذا القدر في الجواب عن هذا السؤال‏

(السؤال الرابع) فإن قال إلى أين منتهاهم‏

قلنا في الجواب لا شك ولا خفاء أن هذه الطبقة هم أصحاب عقد وعهد وهو قوله رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ من قَضى‏ نَحْبَهُ ومِنْهُمْ من يَنْتَظِرُ وما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا فإذا حصلت هذه الطبقة فيما قلنا في غزوهم وسلكوا سبيل جهادهم كان منتهاهم إلى حل ما عقدوا عليه ونقض ما عسكروا إليه‏

[الأعيان مظاهر الحق فالمنتهى إليه والبدء منه وليس وراء الله مرمى‏]

وذلك أن الأعيان التي عسكروا لها وعقدوا مع الله أن يبيدوها فلما توجهوا بعساكرهم التي أوردناها إليها كانت آثار تلك العساكر فيها إيجاد أعيانها وهو خلاف مقصود العارف بهذه العساكر إذ كان المقصود إذهاب أعيانها وإلحاقها بمن لا عين له وما علم أن الحقائق لا تتبدل وأن آثار العساكر فيها الوجود إذ كان سبق العدم لها لعينها فلا تؤثر فيها هذه العساكر العدم لأن العدم لها من نفسها فلم يبق إلا الوجود فوقع غير مقصود العارف وعلم عند ذلك العارف أن تلك الأعيان مظاهر الحق فكان منتهاهم إليه وبدأهم منه وليس وراء الله مرمى فإن قلت فالذات الغنية عن العالمين‏

وراء الله قلنا ليس الأمر كما زعمت بل الله وراء الذات وليس وراء الله مرمى فإن الذات متقدمة على المرتبة في كل شي‏ء بما هي مرتبة لها فليس وراء الله مرمى‏

[جواب الباطنية عن الله‏]

فحصلوا من العلم بالله ما لم يكن عندهم بالقصد الأول حين حازوا العساكر وكان الذي حجبهم ابتداء عن هذه المعرفة غيرتهم أن يشترك الحق مع كون من الأكوان في حال أو عين أو نسبة فلهذا كان مقصودهم أن يلحقوا الأعيان بمطلق العدم وهو المقام الذي تشير إليه الباطنية بقولها في جواب من يقول لها الله موجود فنقول ليس بمعدوم فإذا قلت لهم الله حي تقول ليس بميت فإن قيل لهم فالله قادر قالت ليس بعاجز فلا تجيب قط بلفظة تعطي الاشتراك في الثبوت فتجيب بالسلب وهذا كله من باب الغيرة ولا تقدر تنفي الأعيان فتستعين بهؤلاء العساكر على إعدام هذه الأعيان وزوال حكم الثبوت منها فتجد العساكر توجدها وتكسوها حلة الوجود فإذا رأت أنها مظاهر الحق رضيت بأن تبقيها أعيانا ثابتة ولا تراها موجودة ويكون عين شهودها ناظرة فيها إلى وجود الحق وأنه لا وجود اكتسبته من الحق بل حكمها مع الوجود حكمها ولا وجود وإن الذي ظهر ما هو غير هذا غايتها وهو قوله إِلى‏ رَبِّكَ مُنْتَهاها فكان منتهاها ربها

[من كانت عساكره العزائم فمنتهاه إلى الرخص‏]

فأما من كانت عساكره العزائم فمنتهاه إلى الرخص من طريقين الطريق الواحدة أحدية المحبة فيهما فيكون منتهاهم إلى شهودها وهو الذي‏

أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه‏

فينحل عقد الأخذ بالعزائم بهذه المشاهدة لكونه يفوته من العلم بالله على قدر ما فاته من الأخذ بالرخصة والطريقة الأخرى تنتهي بهم إلى شهود كونه في العزائم هو عين كونه في الرخص وهم لا نسبة لهم في واحدة منهما فينحل ما عقدوا عليه انحلالا ذاتيا لا تعمل لهم فيه ومن هذا المقام يقول بعضهم بتفضيل الرسل بعضهم على بعض على أنه في نفس الأمر كما ورد في الخطاب من قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ فينتهي بهم هذا الأمر إلى حل عقد التفضيل بقوله لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُسُلِهِ ومن فضل فقد فرق فلو لا وحدانية الأمر ما كان عين الجمع عين الفرق كما أن السالك يمشي حنبليا أو حنفيا مقتصرا على مذهب بعينه يدين الله به لا يرى مخالفته فينتهي به هذا المشهد إلى أن يصبح يتعبد نفسه بجميع المذاهب من غير فرقان ومن هنا يبطل النسخ عنده الذي هو رفع الحكم بعد ثبوته لا انقضاء مدته‏

[منتهى كل عسكر إلى فعله الذي وجه إليه‏]

فإلى ما ذكرناه منتهاهم على حسب ما أعطته عساكرهم فإن العساكر تختلف فإن جند الرياح ما هي جند الطير وجند الطير ما هو جند المعاني الحاصلة في نفوس الأعداء كالروع والجبن فمنتهى كل عسكر إلى فعله الذي وجه إليه من حصار قلعة وضرب مصاف أو غارة أو كبسة كل عسكر له خاصية في نفس الأمر لا يتعداه قال تعالى في الطير تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ وقال في الريح ما تَذَرُ من شَيْ‏ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وقال في الرعب وقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ فانظر منتهى كل عسكر إلى ما أثر في نفس من عسكر إليه فالحق لا يتقيد إذ كان هو عين كل قيد فالناس بين محجوب وغير محجوب جعلنا الله ممن أشهد الحق في عين حجابه وفي رفع حجابه وفيما كان له من راء حجابه‏

(السؤال الخامس) فإن قيل قد عرفنا أينية منازل أهل القربة

وأينية منتهى العساكر ومنتهى من حازها فأين مقام أهل المجالس والحديث قلنا في الجواب أما أهل المجالس المحدثون فمجالسهم خلف الحجاب الأنزل الأقدس في النزول ولهم ست حضرات لهم في الحضرة الأولى ثمانية مجالس المجلس الثاني والسادس يسمى مجالس الراحات وهي من باب وفق الله بالعباد الذين لهم هذه الأحوال ومجلسان الأول الذي هو الرابع والثامن فهما مجلسا الجمع بين العبد والرب ومجلس الفصل بين العبد والرب على مراتب أبينها وأما الأربعة مجالس التي بقيت فالحديث فيها على مراتب متعددة وكذلك الحضرة الثانية والحضرة الرابعة فيها ثمانية مجالس على ما ذكرناه وأما في الحضرة السادسة فمجلسان وأما في الحضرة الثالثة فستة مجالس وأما في الحضرة الخامسة فاربعة مجالس وانتهت أمهات مجالس أهل الحديث مع الله من حيث هم محدثون لا من حيث لهم مجالس‏

[مراتب أهل المجالس الذين هم أهل الشهود]

وأما أهل المجالس لا من كونهم محدثين فهم أهل الشهود وهم على أربع مراتب في مجالسهم فالمحدثون جلوسهم من حيث هم من خلف ذلك الحجاب وأهل المجالس فمن حيث المراتب التي أعد لهم الحق فمنهم من أعد لهم منابر ومنهم من أعد لهم أرائك ومنهم من أعد لهم‏

كراسي ومنهم من أعد لهم درانك والكل يشهدون جليسهم من غير حديث من الطرفين‏

[مجالس أهل الحديث‏]

فلنذكر مجالس أهل الحديث وهي ثمانية وأربعون مجلسا وعند الترمذي الحكيم ستة وخمسون مجلسا لأن الترمذي يراعي من الإنسان حظ طبعه فيزيد اثني عشر مجلسا وهو الصحيح ومن يقتصر منا في الإنسان على روحانيته من غير طبيعته فهي ستة وثلاثون مجلسا فلهذا وقع الخلاف بيننا وبين العلماء من أهل هذه المجالس فمنا من اعتبر ذلك ومنا من لم يعتبر والأولى اعتبارها

[مجالس الجمع بين العبد والرب‏]

فأما مجالس الجمع بين العبد والرب فاربعة مجالس يعلم فيما يحادثه به الحق فيها كيف يخاطب الخلق من أجل الله وكيف يثني على الحق تبارك وتعالى ويعلم معنى قوله بُورِكَ من في النَّارِ ومن حَوْلَها ويحادثه فيها بمثل قوله كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالًا طَيِّباً فيعرف من أين طيب له وبما طيب له وبما طاب له ويعلم الاسم الآخر ما نسبته إلى الحق وما حظ العبد منه ويعلم ما يقول كلما ورد على ملأ أعلى من روح وبشر في السموات والأرض ويعلم شهادة التوحيد بالنسبة إلى الله وبالنسبة إلى الملائكة وبالنسبة إلى العلماء من البشر الحاصلة لهم من باب الشهود لا من باب الفكر ويعلم منازل الرسل ومن أين خصوا بما خصوا به وبما ذا يفضل بعضهم بعضا وبما ذا لا يفضل ومن أي نسبة ينسبون إلى الله وأشياء غير هذا محصورة

[مجالس الفصل بين الرب والعبد]

وأما مجالس الفصل فيحصل فيها ما يحصل في هذه المجالس من طريق أخرى وذوق آخر غير أنه يختلف عليه الحال عند انتهاء المجالسة بمشاهدة أسماء إلهية لم يكن يعرفها قبل ذلك أو بمشاهدة أسماء إلهية من حيث أعيان أكوان خاصة أو بمشاهدة أعيان أكوان خاصة من غير ارتباط بأسماء إلهية وإن كانت في نفس الأمر مرتبطة بها ولكن يكون بينها وبين هذا العبد حجاب رقيق‏

[المجالس الأربعة ذات المراتب‏]

وأما المجالس الأربعة التي بقيت ذات المراتب فسأذكر ما يكون فيها وفي هذه الست الحضرات من الحديث في الفصل الثامن في سؤاله ما حديثهم ونجواهم وهذه المجالس أيضا توجد في الحضرة الثانية والرابعة وأما الحضرة الثالثة فمجالسها ستة مجالس وأما الحضرة الخامسة ففيها أربعة مجالس وأما الحضرة السادسة ففيها مجلسان وهذه كلها مجالس أهل الحديث لا مجالس الشهود إلا عند بعض العارفين فإنه قد تكون مجالس شهود متخيل من خلف حجاب الخيال‏

[المجالس الاثنا عشر المزيدة عند الترمذي‏]

وأما الاثنا عشر مجلسا الذي لهم على مذهب الترمذي كما قررنا وهي تمام الثمانية والأربعين مجلسا فحديثهم فيها نذكره عند ذكر الستة والثلاثين مجلسا في الفصل الثامن إن شاء الله فإن ذلك الفصل سورته‏

(السؤال السادس) فإن قلت كم عددهم‏

قلنا في الجواب عدد أهل بدر أهل الحديث منهم أربعون نفسا وما بقي فلهم مجالس الشهود من غير حديث فإن الحديث للحضور مع المعنى الذي يعطيه الكلام لا مع المتكلم إلا أن يكون المتكلم بحيث يتخيله السامع فيجمع بين الحديث والشهود ولكن ما هو الشهود المطلوب لأهل الأذواق فلا بد أن تكون أنت من حيث أنت للاستفادة عند الحديث ولكن يسمعه لا بعينك بل بظهوره فيك فمن كونك مظهر تسمع ومن كونك عينا تكون مظهرا فافهم‏

[رمزية الصباح والأربعين‏]

وقد أشار لسان الخبر الصدق إلى هذا العدد بقوله من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه‏

أي كان من الحديث بالله عن الله والصباح ظهور عين العبد مظهرا لا عينا وبطون عينه في مظهره كبطون الليل عند وجود الصباح والأربعون إشارة إلى أعيان هؤلاء الأشخاص فهو عين ما قلنا إن أهل الحديث منهم أربعون نفسا

[استفادة أصحاب المجالس من التجلي بغير حديث‏]

فبقي أهل المجالس من غير حديث مائتين وثلاثة وسبعين نفسا وهم تمام الثلاثمائة والثلاثة عشر فجلوسهم جلوس مشاهدة للاستفادة من حيث إن أعيانهم مظهر لبصر الحق فيرونه به وهم غيب في ذلك المظهر وتكون استفادتهم من ذلك التجلي استفادة أصحاب الرصد فتعطيهم الأرصاد العلوم من غير حديث لكنه حديث معنوي بدلالات ظاهرة تقوم تلك الدلالات مقام الخطاب بالحروف والإشارات في عالم الحروف والإشارات فالغرض الحاصل من هذه المجالس سواء كانت مجالس شهود أو حديث حصول علو ينتقش في عين هذا المظهر من نظر أو سماع وهؤلاء هم المعتنى بهم من أهل الله‏

(السؤال السابع) فإن قلت بأي شي‏ء استوجبوا هذا على ربهم تبارك وتعالى‏

قلنا في الجواب الأدب الإلهي إنه لا يجب على الله شي‏ء بإيجاب موجب غير نفسه فإن أوجب هو على نفسه أمرا ما فهو الموجب والوجوب والموجب عليه‏

لا غيره ولكن إيجابه على نفسه لمن أوجب عليه مثل قوله فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني الرحمة الواسعة فأدخلها تحت التقييد بعد الإطلاق من أجل الوجوب ومثل قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أنه الآية

[الوجوب على الله هل هو من حيث مظاهره أو لمظاهره‏]

فهل هذا كله من حيث مظاهره أو هو وجوب ذاتي لمظاهره من حيث هي مظاهر لا من حيث الأعيان فإن كان للمظاهر فما أوجب على نفسه إلا لنفسه فلا يدخل تحت حد الواجب ما هو وجوب على هذه الصفة فإن الشي‏ء لا يذم نفسه وإن كان للاعيان القابلة أن تكون مظاهر كان وجوبه لغيره إذ الأعيان غيره والمظاهر هويته فقل بعد هذا البيان ما شئت في الجواب ويكون الجواب بحسب ما قيده الموجب فاستوجبوا ذلك على ربهم في موطن بكونهم يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ على مفهوم الزكاة لغة وشرعا والَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فهؤلاء طائفة مخصوصة وهم أهل الكتاب فخرج من ليس بأهل الكتاب من هذا التقييد الوجوبي وبقي الحق عنده من كونه رحمانا على الإطلاق واستوجبت طائفة أخرى ذلك على ربها أَنَّهُ من عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ من بَعْدِهِ وأَصْلَحَ فقيد بالجهالة فإن لم يجهل لم يدخل في هذا التقييد وبقيت الرحمة في حقه مطلقة ينتظرها من عين المنة التي منها كان وجوده أي منها كان مظهرا للحق لتتميز عينه في حال اتصافها بالعدم عن العدم المطلق الذي لا عين فيه أ لا ترى إبليس كيف قال لسهل في هذا الفصل يا سهل التقييد صفتك لا صفته فلم ينحجب بتقييد الجهالة والتقوى عما يستحقه من الإطلاق فلا وجوب عليه مطلقا أصلا فمهما رأيت الوجوب فاعلم إن التقييد يصحبه‏

[بذل المراكب في زمان الزيادة]

وأما من رأى أنهم استوجبوا ذلك على ربهم من غير ما ذكره تعالى عن نفسه فقالوا ببذلهم مراكبهم في زمان الزيادة طلبا للمواصلة وإيثار الجناب الحق في زعمهم وإن كان في ذلك نقص فهو عين الكمال التام بهذه المراعاة فهذا عندي مثل ما قال الشاعر لعمر بن الخطاب حين حبسه‏

ما ذا تقول لأفراخ بذي مرح *** حمر الحواصل لا ماء ولا شجر

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة *** فاغفر هداك مليك الناس يا عمر

ما آثروك بها إذ قدموك لها *** لا بل لأنفسهم قد كانت الأثر

فإن كانوا بذلوا مراكبهم عن طلب إلهي يقتضي ذلك وجوبا إلهيا كان مثل الأول فإنه لو لم يرد عنه تعالى الوجوب على نفسه لم نقل به فإنه سوء أدب من العبد أن يوجب على سيده‏

[كما نطلبه لوجود أعياننا فهو يطلبنا لظهور مظاهره‏]

غير إن هنا لطيفة دقيقة لا يشعر بها كثير من العارفين بهذه المجالس وذلك أنه كما نطلبه لوجود أعياننا يطلبنا لظهور مظاهره فلا مظهر له إلا نحن ولا ظهور لنا إلا به فيه عرفنا أنفسنا وعرفناه وبنا تحقق عين ما يستحقه الإله‏

فلولاه لما كنا *** ولو لا نحن ما كانا

فإن قلنا بأنا هو *** يكون الحق إيانا

فأبدانا وأخفاه *** وأبداه وأخفانا

فكان الحق أكوانا *** وكنا نحن أعيانا

فيظهرنا لنظهره *** سرارا ثم إعلانا

فلما وقفوا على هذه الحقائق من نفوسهم ونفوس الأعيان سواهم تميزوا على من سواهم بأن علموا منهم ما لم يعلموا من أنفسهم واطلع الحق على قلوبهم فرأى ما تجلت به مما أعطتها العناية الإلهية وسابقة القدم الرباني استوجبوا على ربهم ما استوجبوه من أن يكونوا أهلا لهذه المجالس الثمانية والأربعين‏

(السؤال الثامن) فإن قلت عن أهل هذه المجالس ما حديثهم ونجواهم‏

قلنا في الجواب بحسب الاسم الذي يقيمهم فلا يتعين علينا تعيينه ولكن الأصول الإلهية محفوظة

[محادثات الحق في أسمائه بمختلف الألسنة]

وذلك أن حديث أهل الحضرة الأولى في مجالستهم فيها والمجلس الأول الذي بين المثلين من اسمه الظاهر والمبدئ والباعث وكل اسم يعطي البروز ووجود الأعيان تحادث الحق فيه بلسان حياة الأرواح وحياة إلهيا كل السفلية في البرازخ وعالم الحس والمحسوس والعقل والمعقول وبلسان من ضاع‏

عن الطريق وانجبر إليه بعد ما انكسر خاطره وخاف الفوت وبلسان أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ أي بين أنه أعطى كل شي‏ء خلقه ففرق بين قوله واغْلُظْ عَلَيْهِمْ وقوله له بعينه فَبِما رَحْمَةٍ من الله لِنْتَ لَهُمْ ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا من حَوْلِكَ وقال لموسى وهارون فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً ليقابل به غلظة فرعون فينكسر لعدم المقاوم إذ لم يجد قوة تصادم غلظته فعاد أثرها عليه فأهلكته بالغرق فباللين هلك فرعون ف أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ في وقته فيحدث نشأة الإنسان مع الأنفاس ولا يشعر وهو قوله تعالى ونُنْشِئَكُمْ في ما لا تَعْلَمُونَ يعني مع الأنفاس وفي كل نفس له فينا إنشاء جديد بنشأة جديدة ومن لا علم له بهذا فهو في لَبْسٍ من خَلْقٍ جَدِيدٍ لأن الحس يحجبه بالصورة التي لم يحس بتغييرها مع ثبوت عين القابل للتغيير مع الأنفاس وبلسان طلب الاستقامة في المزاج ليصح نظر العقل في فكره ومزاج الحواس فيما تنقل إليه ومزاج القوي الباطنة فيما تؤديه من الأمور للعقل فإنه إذا اختل المزاج ضعفت الإدراكات عن صحة النقل فنقلت بحسب ما له انتقلت فكانت الشبه والمغالط فعقل العقل للجهل علما فيصير العدم وجود أو بلسان إزاحة الأمور التي توجب عدم المواصلة والمراسلة ففي الحضرة الأولى أربعة مجالس مما تشاكل ما ذكرناه ومثلها في الثانية والرابعة وأما في الحضرة الثالثة من هذه المجالس فثلاثة وفي الخامسة اثنان وفي السادسة واحدة على هذه المشاكلة لكن في كل حضرة فنون مختلفة ولكن لا تخرج عن هذا الأسلوب‏

[محادثات الحق في حضرات مجالس الراحات‏]

وأما مجالس الراحات في الحضرة الأولى والثانية والرابعة هي ستة مجالس فيها أحاديث معنوية عن مشاهدة كما قيل‏

تكلم منا في الوجوه عيوننا *** فنحن سكوت والهوى يتكلم‏

وكما قلنا في هذا الشكل‏

والهوى بيننا يسوق حديثا *** طيبا مطربا بغير لسان‏

وهي المجالس التي بين الضدين يحصل منها علم للاعتماد والكشف عن الساق والبرزخ الذي بين الضدين كالفاتر بين الحار والبارد وكالإسماع بين المخافتة والجهر وكالتبسم بين الضحك والبكاء وكل ضدين بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهو مجلس راحة وليس بين النفي والإثبات برزخ وجودي فصاحبه ينقطع في الحال لأحد الطرفين لأنه لا يجد حيث يستريح فالبرازخ مواطن الراحات أ لا ترى أن الله جعل النوم سباتا أي راحة لأنه بين الضدين الموت والحياة فالنائم لا حي ولا ميت فأمثال هذه العلوم هي التي يقع بها الحديث لهم ونجواهم وفي الحضرة الثالثة والخامسة مجلس واحد في كل حضرة والحضرة السادسة لا مجلس فيها من مجالس الراحة

[محادثات الحق في مجالس الفصل‏]

وأما مجالس الفصل بين العبد والرب فقد ذكرنا من حديثه طرفا آنفا في السؤال الرابع من هذه السؤالات وأما لحضرة السادسة والخامسة فليس فيهما من هذه المجالس مجلس البتة وأما مجالس الفصل الثاني بين العبد والرب فهي ستة مجالس لا سابع لها في كل حضرة من الست مجالس واحد يفصل به بين العبد والرب من حيث ما هو العبد عبد ومن حيث ما هو الرب رب ومجالس الفصل الأول بين العبد والرب من حيث ما هو عبد لهذا الرب ومن حيث ما هو رب لهذا العبد فهو فصل في عين وصل وهذه المجالس الأخر فصل في فصول لا وصل فيها فيحصل له ما يشاء كل هذا الفن من العلم الإلهي إذ كنت لا تعلمه إلا من نفسك ولا تعلم نفسك إلا منه فهو يشبه الدور ولا دور بل هو علم محقق‏

[الاثنا عشر مجلسا التي يراها الترمذي‏]

وأما الاثنا عشر مجلسا التي يراها الترمذي الحكيم صاحب هذه السؤالات وبها تكمل الثمانية والأربعون من المجالس فإن الأرواح العلوية لا تعلمها وليس لها فيها قدم مع الله وهي مخصوصة بنا من أجل الدعوى فإذا تجسدت الأرواح العلوية تبعت الدعوى جسديتها فربما تدعى فإن ادعت ابتليت وفي قصة آدم والملائكة تحقيق ما ذكرناه فابتليت بالسجود جبرا لما أخذت من طهارتها الدعوى فكان ذلك للملائكة كالسهو في الصلاة للمصلي فأمر المصلي أن يسجد لسهوه كذلك أمرت الملائكة أن تسجد لدعواها فإن الدعوى سهو في حقها فكان ذلك ترغيما للدعوى لا لهم كما كان سجود السهو منا ترغيما للشيطان لا لنا فاعلم ذلك فأما هذه المجالس الاثنا عشر فستة منها تلتحق بالمجلس الذي بين المثلين والستة الباقية تلتحق بمجالس الفصل الثاني بين العبد من حيث ما هو عبد وبين الرب من حيث ما هو رب لكن تختلف الأذواق في ذلك‏

[آيات السؤال الثامن من القرآن الكريم‏]

آيات هذا السؤال من القرآن لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وقوله والْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ وقوله فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ وقوله والسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ إلى آخرها والمدار على القطب انتهى الجزء الثمانون (بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال التاسع) فإن قلت فبأي شي‏ء يفتتحون المناجاة

قلنا في الجواب بحسب الباعث والداعي لها وذلك أن الحق إذا أجلسهم هذه المجالس التي ذكرناها فإنما يجلسهم الحق فيها بعد قرع وفتح واستفتاح وذلك إنهم سمعوا الحق يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ثم قال أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ وقال في إنزال الرسول منزلة الحق نفسه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ وقال من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله لأنه به يدعو إليه سبحانه وقال صلى الله عليه وسلم الكلمة الطيبة صدقة

وقال يصبح على كل سلامي من ابن آدم صدقة

وأفضل الصدقات تصدق الإنسان بنفسه وأفضل ما يخرجها عليه من يخرجها على نفسه‏

[الباعث الذاتي على النجوى‏]

فإذا إذا أراد العبد نجوى ربه فليقدم بين يدي نجواه نفسه لنفسه فإن النجوى سامع ومتكلم والعبد إن لم يكن الحق سمعه فمن المحال أن يطيق فهم كلام الله وإن لم يكن الحق لسان العبد عند النجوى فمن المحال أن تكون نجواه صادقة الصدق الذي ينبغي أن يخاطب به الله فاذن الحق ناجى نفسه بنفسه والعبد محل الاستفادة لأنها أمور وجودية والوجود كله هو عينه والعبد يصدق بنفسه على نفسه لأنها أفضل الصدقات استفتاحا لنجوى ربه فكانت المناسبة بين النجوى وما افتتحت به كون الصدقة رجعت إليه وكون الحق كانت نجواه بينه وبينه فما سمع الحق إلا الحق ولا تصدق العبد إلا على العبد فصحت الأهلية فمن كان استفتاحه هكذا كان من أهل المجالس والحديث‏

[الباعث الوضعي على النجوى‏]

وأما مذهب الترمذي فإن الذي يفتتحون به المناجاة إنما هو تلبسهم بالكبرياء ثم يتعرون من بعضه بوجه خاص ويبقون عليهم ما يليق أن يسمع به كلام الحق ويكلم به الحق لتصح النجوى فيكون الابتداء من العبد فيكون له الأولية في هذا الموطن وهو وجه صحيح وهذا هو الباعث الوضعي والذي ذكرناه أولا هو الباعث الذاتي فإن نجوى هذه الطائفة في هذا الحال بمنزلة الصلاة في العامة فإنه من هذه الحضرة التي ذكرناها خرج التكليف بها على السنة الرسل للعباد وشرع فيها التكبير لما ذكرناه والصلاة مناجاة

[من يجعل عاقبة الأمور استفتاحا]

ومن أهل الله من يجعل عاقبة الأمور استفتاحا فيردها أولا إذ كان المطلوب عين العواقب كمن يطلب الاستظلال فأول ما يقع عنده وجود السقف وهو آخر ما يقع به الفعل لأن وجوده موقوف على وجود أشياء فإذا كان من الأمور التي لا توقف لوجودها على شي‏ء كان عين العاقبة عين السابقة فيكون استفتاح العمل بالعاقبة وهي طريقة عجيبة عملنا عليها وناجينا بها في هذا المقام ولكن لا بد أن تكون النجوى كما قررنا بسمع الحق وكلام الحق لأن الحقيقة تأبى أن يكلمه غير نفسه أو يسمعه غير نفسه فقد أعلمتك بما ذا يفتتحون المناجاة أهل المجالس والحديث‏

(السؤال العاشر) فإن قلت بأي شي‏ء يختمونها

فلنقل في الجواب بالمنزلة التي تعطيهم ذلك الاستفتاح والافتتاح مختلف فالختام مختلف أيضا فلا يتقيد غير أنه ثم أمر جامع وهو الوقفة بين الاسمين بين الاسم الذي ينفصل عنه وبين الاسم الذي يأخذ منه فإن بينهما اسما إلهيا خفيا به يقع الختم ولا يشعر به إلا أهل المجالس والحديث وهو وجود سار في جميع الموجودات لكن لا يشعر به لدقته كالخط الفاصل بين الظل والشمس يعقل ولا يدرك بالحس وهي الحدود بين الأشياء لها لكل من هي بينهما وجه خاص مع كونها لا تنقسم فهي بذاتها مع كل محدود ولهذا يعز العثور على الحدود الذاتية بخلاف الحدود الرسمية واللفظية التي بأيدي العلماء فقد يكون ذلك الذي يختم به دليل كون وقد يكون دليل عين وقد يكون دليل ذات لا تقبل المظاهر وهذا أعلى ما تختم به النجوى عندهم ودونه دليل كون وهو ما يعطي مظهرا ما ودونه دليل عين وهو الذي لا يقبل التغيير وهو المعبر عنه بباطن المظهر

[النجوى دائرة ينعطف آخرها بطلب أولها]

واعلم أن الأمر في النجوى دائرة تنعطف بطلب أولها فيكون عين الختم هو عين الافتتاح فتنقسم بين أول وآخر وظاهر وباطن فإذا ابتدأ فهو الظاهر فإذا

انتهى صار الظاهر باطنا وعاد الباطن ظاهرا فإن الحكم له فيبطن الختم في الافتتاح عند البدء ويبطن الافتتاح في الختام عند النهاية قيل في رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه خاتم النبيين فبطن بظهور ختمه كونه نبيا وآدم بين الماء والطين ولما ظهر كونه نبيا وآدم بين الماء والطين واستفتح به مراتب البشر كان كونه خاتم النبيين باطنا في ذلك الظهور

[أنتم مظاهر الإلهية وبها تسعدون وتشقون‏]

وأما الإلهية فالوجود منه وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ بينهما وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فيهما وما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ حيث أنتم مظاهر أسمائه الحسنى وبها تسعدون وتشقون والله مَعَكُمْ ولَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ فسلم الأمر إليه واستسلم تكن موافقا لما هو الأمر عليه في نفسه فتستريح من تعب الدعوى بين الافتتاح والختم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(السؤال الحادي عشر) بما ذا يجابون‏

الجواب بحسب حالهم ووقتهم وحالهم ووقتهم بحسب الاسم الذي هو الحاكم فيهم بين الافتتاح والختم فإنه بين الختم والافتتاح تكون أسماء كثيرة إلهية هي الناطقة في تلك الأعيان من أهل المجالس والحديث فيكون الجواب بحسب ما وقع به حكم الاسم ولكن ما يجابون إلا باسم ولا بد

[الحديث المعنوي عن شهود هو في غاية الإفهام‏]

فإن كان الحديث معنويا عن شهود فقد يقع الجواب بالذات معراة من الأسماء وهو بمنزلة المجاز من الحقيقة ويجتمع هذا مع الحديث في الإفادة والاستفادة فمن راعى الاستفادة والإفادة ألحق هذا المقام بأهل المجالس والحديث وهو الذي قصده الترمذي لكونه قال أهل المجالس والحديث ولم يقل أهل الحديث خاصة ومن الناس من لا يراعي سوى الحديث فلا يجعل في هذه الحضرة حكما لحديث معنوي حالي فإنه يقول مطلبي الحقائق ولكنه صاحب هذا القول كأنه غير محقق وما أوقعه في ذلك إلا تقيد الحديث بالألفاظ وأما نحن فعلى مذهب الترمذي في ذلك فإنا ذقناه في المجالسة حديثا معنويا في غاية الإفهام معرى عن الاحتمال والإجمال بل هو تفصيل محقق في عين واحدة وهو الذي يعول عليه في هذا الفصل‏

(السؤال الثاني عشر) كيف يكون صفة سيرهم يعني إلى هذه المجالس والحديث ابتدأ

قلنا في الجواب بالهمم المجردة عن السوي وبسط ذلك ما نقول وهو أن الأمور المعنوية التي لا تقبل المواد ولا تحددها لا يصح السير إلى تحصيلها أو تحصيل ما يكون منها بقطع المسافات وتذريع المساحات لكن قد يقترن بالهمة حركات مادية مبناها على علم أو إيمان بشرط التوحيد فيهما

[سير العلماء غير المؤمنين إلى المجالس‏]

فأما سيرهم من حيث ما هم علماء فبتصفية النفوس من كدورات الطبيعة واتخاذ الخلوات لتفريغ القلوب عن الخواطر المتعلقة بأجزاء الكون الحاصلة من إرسال الحواس في المحسوسات فتمتلئ خزانة الخيال فتصور القوة المصور منها بحسب ما تعشقت به من ذلك فتكون هذه الصور حائلة بينه وبين حصول هذه المرتبة الإلهية فيجنحون إلى الخلوات والأذكار على جهة المدح لمن بيده الملكوت فإذا صفت النفس وارتفع الحجاب الطبيعي الذي بينها وبين عالم الملكوت انطبع في مرآتها جميع ما في صور عالم الملكوت من العلوم المنقوشة فيطلع الملأ الأعلى على هذه النفس التي هي بهذه المثابة فيرى فيها ما عنده فيتخذها مجلى ظهور ما فيه فيكون الملأ الأعلى معينا له أيضا على استدامة ذلك الصفاء ويحول بينه وبين ما يقتضيه حجاب الطبع فتتلقى هذه النفس من العالم العلوي بقدر مناسبتها منهم من العلم بالله فيؤديهم ذلك العلم إلى التلقي من الفيض الإلهي ولكن بوساطة الأرواح النورية لا بد من ذلك فيسمون ذلك سيرا ولا بد من تجريد الهمم في الطلب لذلك ولو لا تعلق الهمة بتحصيل ما تقرر عندها مجملا ما صح له توجه إلى الملإ الأعلى‏

[صفة سير أهل الإيمان إلى المجالس وطبقاتهم‏]

فإن اتفق أن يكون هذا الرجل في سيره مع علمه مؤمنا أو يكون صاحب إيمان من غير علم فإن همته لا تتعلق إلا بالله فإن الايمان لا يدله إلا على الله والعلم إنما يدله على الوسائط وترتيب الحكمة المعتادة في العالم فصفة سير أصحاب الايمان ما لهم طريق إلى ذلك إلا بعزائم الأمور المشروعة من حيث ما هي مشروعة وهم على قسمين طائفة منهم قد ربطت همتها على أن الرسول إنما جاء منبها ومعلما بالطريق الموصلة إلى جناب الحق تعالى فإذا أعطى العلم بذلك زال من الطريق وخلى بينهم وبين الله فهؤلاء إذا سارعوا أو سابقوا إلى الخيرات وفي الخيرات لم يروا إمامهم قدم أحد من المخلوقين لأنهم قد أزالوه من نفوسهم وانفردوا إلى الحق كرابعة العدوية فهؤلاء إذا حصلوا في المجالس والحديث خاطبهم الحق بالكلام الإلهي من غير وساطة لسان معين وأما الطائفة الأخرى فهم قوم جعلوا في نفوسهم أنهم لا سبيل‏

لهم إليه تعالى إلا والرسول هو الحاجب فلا يشهدون منه أمرا إلا ويرون في سيرهم قدم الرسول بين أيديهم ولا يخاطبهم إلا بلسانه ولغته كمحمد الأواني قال تركت الكل ورائي وجئت إليه فرأيت أمامي قدما فغرت وقلت لمن هذا اعتمادا مني إنه ما سبقني أحد وإني من أهل الرعيل الأول فقيل لي هذه قدم نبيك فسكن روعي والحالة الأولى هي حالة عبد القادر وأبي السعود بن الشبل ورابعة العدوية ومن جرى مجراهم وأصحاب الايمان إذا كانوا علماء جمع لهم بين الأمرين فهم أكمل الرجال بشرط أنهم إذا ساروا إليه وأخذوا مجالسهم عنده بالحديث المعنوي كما تقدم وحديث السمع رأوا سريان سره تعالى في الموجودات من‏

قوله من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا

ومن كونه ينزل إلى السماء الدنيا التي لا أقرب منها فإنها أقرب من حَبْلِ الْوَرِيدِ فالتحق عنده عالم الطبع بالعالم الروحاني وعاد الوجود عنده كله ملأ أعلى ومكانة زلفى فلم يحجبه كون ولا شغله عين واستوى عنده الأين وعدم الأين وكان وما كان فرآه في الحجاب والعسس وسمع كلامه وحديثه في الغث والجرس‏

[السائر في وقوفه والواقف في سيره‏]

هذا صفة سيرهم على طبقاتهم ومنهم من كان سيره فيه بأسمائه فهو صاحب سير منه وإليه وفيه وبه فهو سائر في وقوفه وواقف في سيره والخضر والأفراد من أهل هذا المقام ومن هنا كانت قرة عينه صلى الله عليه وسلم في الصلاة لأنه مناج مع اختلاف الحالات المحصورة من قيام وركوع وسجود وجلوس ما ثم أكثر من هذه الأركان وهي حالات تربيع روحاني فأشبهت العناصر في التربيع فحدثت صور المعاني من امتزاج هذه الحالات الأربعة كما حدثت صور المولدات الجسمية الطبيعية من امتزاج هذه العناصر

(السؤال الثالث عشر) فإن قلت ومن الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة

فلنقل في الجواب الختم ختمان ختم يختم الله به الولاية وختم بختم الله به الولاية المحمدية فأما ختم الولاية على الإطلاق فهو عيسى عليه السلام فهو الولي بالنبوة المطلقة في زمان هذه الأمة وقد حيل بينه وبين نبوة التشريع والرسالة فينزل في آخر الزمان وارثا خاتما لا ولي بعده بنبوة مطلقة كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة لا نبوة تشريع بعده وإن كان بعده مثل عيسى من أولي العزم من الرسل وخواص الأنبياء ولكن زال حكمه من هذا المقام لحكم الزمان عليه الذي هو لغيره فينزل وليا ذا نبوة مطلقة يشركه فيها الأولياء المحمديون فهو منا وهو سيدنا فكان أول هذا الأمر نبي وهو آدم وآخره نبي وهو عيسى أعني نبوة الاختصاص فيكون له يوم القيامة حشران حشر معنا وحشر مع الرسل وحشر مع الأنبياء

[ختم الولاية المحمدية]

وأما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب من أكرمها أصلا ويدا وهو في زماننا اليوم موجود عرفت به سنة خمس وتسعين وخمسمائة ورأيت العلامة التي له قد أخفاها الحق فيه عن عيون عباده وكشفها لي بمدينة فاس حتى رأيت خاتم الولاية منه وهو خاتم النبوة المطلقة لا يعلمها كثير من الناس وقد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه فيما يتحقق به من الحق في سره من العلم به وكما أن الله ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم نبوة الشرائع كذلك ختم الله بالختم المحمدي الولاية التي تحصل من الورث المحمدي لا التي تحصل من سائر الأنبياء فإن من الأولياء من يرث إبراهيم وموسى وعيسى فهؤلاء يوجدون بعد هذا الختم المحمدي وبعده فلا يوجد ولي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم هذا معنى خاتم الولاية المحمدية

[ختم الولاية العامة]

وأما ختم الولاية العامة الذي لا يوجد بعده ولي فهو عيسى عليه السلام ولقينا جماعة ممن هو على قلب عيسى عليه السلام وغيره من الرسل عليهم السلام وقد جمعت بين صاحبي عبد الله وإسماعيل بن سودكين وبين هذا الختم ودعا لهما وانتفعا به والحمد لله‏

(السؤال الرابع عشر) بأي صفة يكون ذلك المستحق لذلك‏

الجواب بصفة الأمانة وبيده مفاتيح الأنفاس وحالة التجريد والحركة وهذا هو نعت عيسى عليه السلام كان يحيى بالنفخ وكان من زهاد الرسل وكانت له السياحة وكان حافظا للامانة مؤديا لها ولهذا عادته اليهود ولم تأخذه في الله لومة لائم كنت كثير الاجتماع به في الوقائع وعلى يده تبت ودعا لي بالثبات على الدين في الحياة الدنيا وفي الآخرة ودعاني بالحبيب وأمرني بالزهد والتجريد

[صفة خاتم الولاية المحمدية]

وأما الصفة التي استحق بها خاتم الولاية المحمدية أن يكون خاتما فبتمام مكارم الأخلاق مع الله وجميع ما حصل للناس من جهته من الأخلاق فمن كون ذلك الخلق موافقا لتصريف الأخلاق مع الله وإنما كان ذلك كذلك لأن الأغراض مختلفة

ومكارم الأخلاق عند من يتخلق بها معه عبارة عن موافقة غرضه سواء حمد ذلك عند غيره أو ذم فلما لم يتمكن في الوجود تعميم موافقة العالم بالجميل الذي هو عنده جميل نظر في ذلك نظر الحكيم الذي يفعل ما ينبغي كما ينبغي لما ينبغي فنظر في الموجودات فلم يجد صاحبا مثل الحق ولا صحبة أحسن من صحبته ورأى أن السعادة في معاملته وموافقة إرادته فنظر فيما حده وشرعه فوقف عنده واتبعه وكان من جملة ما شرعه أن علمه كيف يعاشر ما سوى الله من ملك مطهر ورسول مكرم وإمام جعل الله أمور الخلق بيده من خليفة إلى عريف وصاحب وصاحبة وقرابة وولد وخادم وداية وحيوان ونبات وجماد في ذات وعرض وملك إذا كان ممن يملك فراعى جميع من ذكرناه بمراعاة الصاحب الحق فما صرف الأخلاق إلا مع سيده فلما كان بهذه المثابة قيل فيه مثل ما قيل في رسوله وإِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ‏

قالت عائشة كان القرآن خلقه‏

يحمد ما حمد الله ويذم ما ذم الله بلسان حق في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ فلما طابت أعراقه وعم العالم أخلاقه ووصلت إلى جميع الآفاق أرفاقه استحق أن يختم بمن هذه صفته الولاية المحمدية من قوله وإِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ جعلنا الله ممن مهد له سبيل هداه وو فقه للمشي عليه وهداه‏

(السؤال الخامس عشر) فإن قلت ما سبب الخاتم ومعناه‏

فلنقل في الجواب كمال المقام سببه والمنع والحجر معناه وذلك أن الدنيا لما كان لها بدء ونهاية وهو ختمها قضى الله سبحانه أن يكون جميع ما فيها بحسب نعتها له بدء وختام وكان من جملة ما فيها تنزيل الشرائع فختم الله هذا التنزيل بشرع محمد صلى الله عليه وسلم فكان خاتَمَ النَّبِيِّينَ وكانَ الله بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً وكان من جملة ما فيها الولاية العامة ولها بدء من آدم فختمها الله بعيسى فكان الختم يضاهي البدء إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ فختم بمثل ما به بدأ فكان البدء لهذا الأمر بنبي مطلق وختم به أيضا

[من خصائص الدعوة المحمدية]

ولما كانت أحكام محمد صلى الله عليه وسلم عند الله تخالف أحكام سائر الأنبياء والرسل في البعث العام وتحليل الغنائم وطهارة الأرض واتخاذها مسجدا وأوتي جوامع الكلم ونصر بالمعنى وهو الرعب وأوتي مفاتيح خزائن الأرض وختمت به النبوة عاد حكم كل نبي بعده حكم ولي فأنزل في الدنيا من مقام اختصاصه واستحق أن يكون لولايته الخاصة ختم يواطئ اسمه اسمه صلى الله عليه وسلم ويحوز خلقه وما هو بالمهدي المسمى المعروف المنتظر فإن ذلك من سلالته وعترته والختم ليس من سلالته الحسية ولكنه من سلالة أعراقه وأخلاقه صلى الله عليه وسلم أما سمعت الله يقول فيما أشرنا إليه ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ وجميع أنواع المخلوقات في الدنيا أمم وقال كُلٌّ يَجْرِي إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى في أثر قوله يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ ويُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى فجعل لها ختاما وهو انتهاء مدة الأجل وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فما من نوع إلا وهو أمة فافهم ما بيناه لك فإنه من أسرار العالم المخزونة التي لا تعرف إلا من طريق الكشف والله يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وإِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ‏

(السؤال السادس عشر) كم مجالس ملك الملك‏

الجواب على عدد الحقائق الملكية والنارية والإنسانية واستحقاقاتها الداعية لإجابة الحق فيما سألته منه بسط ذلك اعلم أولا أنه لا بد من معرفة ملك الملك ما أرادوا به ثم بعد هذا تعرف كمية مجالسه إن كان لها كمية محصورة فالملك هو الذي يقضي فيه مالكه ومليكه بما شاء ولا يمتنع عنه جبرا فيسمى كرها أو اختيارا فيسمى طوعا قال تعالى ولِلَّهِ يَسْجُدُ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً فَقالَ لَها ولِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً والمأمور هو الملك والآمر هو المالك ولا بد من أخذ الإرادة في حد الأمر لأنه اقتضاء وطلب من الآمر بالمأمور سواء كان المأمور دونه أو مثله أو أعلى وفرق الناس بين أمر الدون وبين أمر الأعلى فسموا أمر الدون إذا أمر الأعلى طلبا وسؤالا مثل قوله تعالى اهْدِنَا فلا يشك إنه أمر من العبد لله فسمي دعاء

[النسبة بين المأمور والآمر]

وإذا فهمت هذا وعلمت أن المأمور هو بالنسبة إلى الآمر ملكا والآمر مليك ثم رأيت المأمور وقد امتثل أمر آمره وأجابه فيما سأل منه أو اعترف بأنه يجيبه إذا دعاه لما يدعوه إليه إن كان المدعو أعلى منه فقد صير نفسه هذا الأعلى ملكا لهذا الدون وهذا الدون هو تحت حكم هذا الأعلى وحيطته وقهره وقدرته وأمره فهو ملكه بلا شك وقد قررنا أن الدون الذي هو بهذه المثابة قد يأمر سيده فيجيبه السيد لأمره فيصير بتلك الإجابة ملكا له وإن كان عن‏

اختيار منه فيصح أن يقال في السيد إنه ملك الملك لأنه أجاب أمر عبده وعبده ملك له‏

[ملك الملك‏]

ومن أمر فأجاب فقد صح عليه اسم المأمور وهو معنى الملك فإذا أجاب السيد أمر عبده وهو ملك فبإجابته صير نفسه ملك ملكه وهذا غاية النزول الإلهي لعبده إذ قال له ادعوني أستجب لك فيقول له العبد اغفر لي ارحمني انصرني أجبرني فيفعل ويقول الله له ادعني أقم الصلاة ائت الزكاة اصْبِرُوا ... رابِطُوا ... جاهِدُوا فيطيع ويعصي وأما الحق سبحانه فيجيب عبده لما دعاه إليه بشرط تفرغه لدعائه‏

[أثر المؤثر قد يكون فعلا من غير أمر]

وقد يكون أثر المؤثر فعلا من غير أمر كالعبد يعصي فيثير كونه عاصيا غضبا في نفس السيد فيوقع به العقوبة فقد جعل العبد سيده يعاقبه بمعصيته ولو لم يعصه ما ظهر من السيد ما ظهر أو يغفر له وكذلك في الطاعة يثيبه فيكون من هذه النسبة أيضا ملك الملك أي ملكا لمن هو ملكه وبهذا وردت الشرائع كلها

[مجالس الملك لا تنحصر]

وأما قوله كم مجالسه فإنها لا تنحصر عقلا فإنها حالة دوام من سيد لعبد ومن عبد إلى سيد فسؤاله لا يخلو إما أن يريد ما قلنا من أنها لا تنحصر عقلا فإن أجاب بانحصار في كمية معلومة علم أنه لا علم عنده أو يريد مجالسه من حيث ما شرع فهي مجالس في الدنيا محصورة وفي الآخرة غير محصورة لأن الآثار الواقعة في الآخرة كلها أصلها من الشرائع فلا ينفك حكم الشرع في الدنيا والآخرة فإن الخلود في الدارين من حكم الشرع وما يكون من الحق فيهم من حكم الشرع فإذا مجالس ملك الملك من جهة الشرع لا تنحصر فإن أراد السائل عن هذا حالة الدنيا خاصة فعددها عدد أنفاس الخلائق عقلا وإن أراد ما اقترن به الأمر من العبد خاصة فعلى قدر ما دعا العبد ربه من حيث ما أمره أن يدعوه به وهي من كل داع بحسب ما سبق في علم الله من تكليفه لكل عين عبد أن يدعوه وخلق الله الذين هم بهذه المثابة يفوتون التلفظ باسم العدد الذي يحصرهم فإنه يدخل في ذلك الملائكة والجن والإنس فحصر كمياتها ما دام زمان الدنيا إلى أن ينقضي في حق الملك والجن والإنس محصور الكمية غير متصور التلفظ به لأنه قال وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا

هُوَ وهم من الملك الذي يدعو ربه فيصيره بدعائه ملكا له فكمياتها وإن كانت محصورة فهي غير معلومة وإن علمت فهي غير مقدورة للتلفظ بها لما في ذلك من المشقة ولكن من وقف على ما رقم في اللوح المحفوظ عرف كمياتها بلا شك وإن تعذر النطق بها فمن كل وجه لا يتصور الجواب عنها بأكثر من هذا وإنما جعله الترمذي على سبيل الامتحان فإنه جاء بمسائل لا يصح الجواب عنها ليعلم أن المسئول إذا أجاب عنها أنه مبطل في دعواه علم ذلك إذ لو علم ذلك لكان من علمه به أنه مما لا يجاب عنه فيعلم صدق دعواه وسيأتي من ذلك ما تقف عليه في هذه السؤالات إن شاء الله والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(السؤال السابع عشر) بأي شي‏ء حظ كل رسول من ربه‏

الجواب عن هذا لا يتصور لأن كلام أهل طريق الله عن ذوق ولا ذوق لأحد في نصيب كل رسول من الله لأن أذواق الرسل مخصوصة بالرسل وأذواق الأنبياء مخصوصة بالأنبياء وأذواق الأولياء مخصوصة بالأولياء فبعض الرسل عنده الأذواق الثلاثة لأنه ولي ونبي ورسول قال الخضر لموسى ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً والخبر الذوق وقال له أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا

هذا هو الذوق‏

[ذوق مقام الرسل لغير الرسل ممنوع‏]

حضرت في مجلس فيه جماعة من العارفين فسأل بعضهم بعضا من أي مقام سأل موسى الرؤية فقال له الآخر من مقام الشوق فقلت له لا تفعل أصل الطريق أن نهايات الأولياء بدايات الأنبياء فلا ذوق للولي في حال من أحوال أنبياء الشرائع فلا ذوق لهم فيه ومن أصولنا إنا لا نتكلم إلا عن ذوق ونحن لسنا برسل ولا أنبياء شريعة فبأي شي‏ء نعرف من أي مقام سأل موسى الرؤية ربه نعم لو سألها ولي أمكنك الجواب فإن في الإمكان أن يكون لك ذلك الذوق وقد علمنا من باب الذوق أن ذوق مقام الرسل لغير الرسل ممنوع فالتحق وجوده بالمحال العقلي لأن الذات لا تقتضي إلا هذا الترتيب الخاص أو سبق العلم كيف شئت فقل‏

[السبب العام الذي عين المراتب العلية لأربابها]

فإن أراد السؤال عن السبب الذي اقتضى لذلك الرسول هذا الحظ الذي انفرد به فقد قال صاحب المحاسن ليس بينه وبين عباده نسب إلا العنابة ولا سبب إلا الحكم ولا وقت غير الأزل وما بقي فعمى وتلبيس واعلم أن السبب العام الذي عين المراتب العلية لأربابها إنما هو العناية الإلهية وهو قوله تعالى وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ وأما السبب الخاص لهذا الرسول للحظ الخاص الذي له من‏

ربه فيحتاج ذكره إلى ذكر كل رسول باسمه وحينئذ نذكر سببه ورسل الله في البشر محصورون وفي الملائكة غير محصورين عندنا لكن من شرط أهل هذه الطريقة إذا ادعوا هذه المعرفة فلا بد أن يعرفوا السبب عند تعين الرسول بالذكر ولكن هو من الأسباب التي لا نذاع لئلا يتعب الخلق أو يتخيل الضعيف الرأي أن الرسالة تكتسب بذلك السبب إذا علم فيؤدي ذكر ذلك إلى فساد في العالم فيحفظ عليه الأمناء

[كل واحد من الرسل فاضل مفضول‏]

وأيضا فلا فائدة في إظهاره فإنه بكونه رسولا خص به لأنه كان رسولا بل هو رسول بأمر عام يجتمع فيه المرسلون قال تعالى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وقال ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ فكل واحد منهم فاضل مفضول وهو مذهب الجماعة وقد بين هذا أبو القاسم ابن قسي في خلع النعلين وهو قوله وإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ فخص آدم بعلم الأسماء الإلهية التي طوى علمها عن الملائكة فلم تسبح الله بها حتى استفادتها من آدم وخص موسى بالكلام والتوراة من حيث إن الله كتبها بيده قبل أن يخلق آدم بأربع آلاف سنة وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكر عن نفسه من أنه أوتي جوامع الكلم وخص عيسى بكونه روحا وأضاف النفخ إليه فيما خلقه من الطين ولم يضف نفخا في إعطاء الحياة لغير عيسى بل لنفسه تعالى إما بالنون أو بالتاء التي هي ضمير المتكلم عن نفسه وهذا وإن كانت كلها منصوصا عليها إنها حصلت لهم فليس بمنصوص الاختصاص بها ولكنه معلوم من جهة الكشف والاطلاع‏

(السؤال الثامن عشر) أين مقام الرسل من مقام الأنبياء

الجواب هو بالإزاء إلا أنه في المقام الرابع من المراتب فإن المراتب أربع التي تعطي السعادة للإنسان وهي الايمان والولاية والنبوة والرسالة وأما من مقام الأنبياء فهم من أنبياء التشريع في الرتبة الثانية ومن مقام الأنبياء في الرتبة الثالثة والعلم من شرائط الولاية وليس من شرطها الايمان فإن الايمان مستنده الخبر فلا يحتاج إليه مع الخبر إما بالمحال كالأينية لله أو بالإمكان وهو الإخبار ببعض المغيبات التي يمكن أن ينسب إليها المخبر ما نسب‏

[ترتيب المراتب التي تعطى السعادة]

فأول مرتبة العلماء بتوحيد الله الأولياء فإن الله ما اتخذ وليا جاهلا وهذه مسألة عظيمة أغفلها علماء الرسوم فإنه يدخل تحت فلك الولاية كل موحد لله بأي طريق كان وهو المقام الأول ثم النبوة ثم الرسالة ثم الايمان فهي فينا أعني مرتبة الولاية على ما رتبناه وهي هناك ولاية ثم إيمان ثم نبوة ثم رسالة وعند علماء الرسوم وعامة الناس الخارجين عن الطريق الخاص المرتبة الأولى إيمان ثم ولاية ثم نبوة ثم رسالة فأجبنا فيها على ما تعرفه العامة وعلماء الرسوم وبينا المراتب كيف هي بالنظر إلى جهات مختلفة

[الموحدون بأى وجه كان هم أولياء الله‏]

فالموحدون بأي وجه كان أولياء الله تعالى فإنهم حازوا أشرف المراتب التي شرك الله أصحابها من أجلها مع الله فيها فقال شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ففصل لتمييز شهادة الحق لنفسه من شهادة من سواه له بما شهد به لنفسه فقال وعطف بالواو والْمَلائِكَةُ فقدم للمجاورة في النسبة من كونه إلها والجار الأقرب في الشرع وفي العرف عند أرباب الكرم والعلم مقدم على الجار إلا بعد بكل وجه إذا اتحدا في ذلك الوجه وفي هذا من رحمة الله بخلقه ما لا يقدر قدره إلا العارفون به في قوله ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ولكِنْ لا تُبْصِرُونَ فنحن أقرب جار وللجار حق مشروع يعرفه أهل الشريعة وكذلك قوله ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ فينبغي للإنسان أن يحضر هذا الجوار الإلهي عند الموت حتى يطلب من الحق ما يستحقه الجار على جاره من حيث ما شرع وهو قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي الحق الذي شرعته لنا فعاملنا به حتى لا ننكر شيئا منه مما يقتضيه الكرم فلو علم الناس ما في هاتين الآيتين من العناية بالعباد لكانوا على أحوال لا يمكن أن تذاع يقول تعالى قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ وقال صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المقام أ فلا أكون عبدا شكورا

[أولوا العلم جيران الملائكة]

ثم قال تعالى وأُولُوا الْعِلْمِ يعني من الجن والإنس ومن شاركهم من الأمهات والمولدات العلماء بالله فجعلهم جيران الملائكة لتصح الشفاعة من الملائكة فينا لحق الجوار أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الضمير في أنه يعود على الله من شهد الله فشهادتهم بتوحيده على قدر مراتبهم في ذلك فلذلك فصل بين شهادته لنفسه وشهادة العلماء له ثم قال قائِماً بِالْقِسْطِ أي بالعدل فيما فصل به بين الشهادتين ثم قال بنفسه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ نظير الشهادة الأولى التي له فحصلت شهادة العالم له بالتوحيد بين شهادتين إلهيتين أحاطتا بها حتى لا يكون للشقاء سبيل إلى القائل بها

[الشهادة الثالثة لله بالتوحيد]

ثم تمم بقوله الْعَزِيزُ ليعلم أن الشهادة الثالثة له مثل‏

الأولى لاقتران العزة بها أي لا ينالها إلا هو لأنها منيعة الحمى بالعزة ولو كانت هذه الشهادة من الخلق لم تكن منيعة الحمى عن الله فدل إضافة العزة لها على أنها شهادة الله لنفسه وقوله الْحَكِيمُ لوجود هذا الترتيب في إعطاء السعادة لصاحب هذه الشهادة حيث جعلها بين شهادتين منسوبتين إلى الله من حيث الاسم الأول والآخر وشهادة الخلق بينهما

[الكشف الذي من مقام وراثة الرسول كرسول‏]

فسبحان من قدر الأشياء مقاديرها وعجز العالم أن يقدروها حق قدرها فكيف أن يقدروا حق قدر من خلقها وهذا الكشف من مقام وراثة الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث رسالته من قوله أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا ومن اتَّبَعَنِي وهم العلماء بالله من أهل الله الذين أقامهم الحق مقام الرسل في الدعوة إلى الله بلسان حق عن نبوة مطلقة اعتنى بهم في أن وصفهم بها لا نبوة الشرائع بل نبوة حفظ لأمر مشروع على بصيرة من الحافظ لا عن تقليد

(السؤال التاسع عشر) أين مقام الأنبياء من الأولياء

الجواب هو خصوص فيه وهو بالإزاء أيضا إلا أنه في المقام الثالث على ما نقدم من المراتب وكان ينبغي أن يكون السؤال عن هذا بتفصيل بين نبوة الشرائع والنبوة المطلقة فهم من الأولياء إذا كانوا أنبياء شريعة في الدرجة الثالثة وإن كانوا في النبوة اللغوية فهم في الدرجة الثانية واعلم أن الأولياء هم الذين تولاهم الله بنصرته في مقام مجاهدتهم الأعداء الأربعة الهوى والنفس والدنيا والشيطان والمعرفة بهؤلاء أركان المعرفة عند المحاسبي‏

[مقام نبوة الولاية ومقام الرسل‏]

وإن كان سؤله عن مقام الأنبياء من الأولياء أي أنبياء الأولياء وهي النبوة التي قلنا إنها لم تنقطع فإنها ليست نبوة الشرائع وكذلك في السؤال عن مقام الرسل الذين هم أنبياء فلنقل في جوابه إن أنبياء الأولياء مقامهم من الحضرات الإلهية الفردانية والاسم الإلهي الذي تعبدهم الفرد وهم المسمون الأفراد فهذا هو مقام نبوة الولاية لا نبوة الشرائع وأما مقام الرسل الذين هم أنبياء فهم الذين لهم خصائص على ما تعبدوا به أتباعهم كمحمد صلى الله عليه وسلم فيما قيل له خالِصَةً لَكَ من دُونِ الْمُؤْمِنِينَ في النكاح بالهبة فمن الرسل من لهم خصائص على أمتهم ومنهم من لا يختصه الله بشي‏ء دون أمته‏

[الأولياء الذين خصوا بعلم الأنبياء]

وكذلك الأولياء فيهم أنبياء أي خصوا بعلم لا يحصل إلا لنبي من العلم الإلهي ويكون حكمهم من الله فيما أخبرهم به حكم الملائكة ولهذا قال في نبي الشرائع ما لم تحط به خبرا أي ما هو ذوقك يا موسى مع كونه كليم الله فخرق السفينة وقتل الغلام حكما وأقام الجدار مكارم خلق عن حكم أمر إلهي كخسف البلاد على يدي جبريل ومن كان من الملائكة ولهذا كان الأفراد من البشر بمنزلة المهيمين من الملائكة وأنبياؤهم منهم بمنزلة الرسل من الأنبياء

(السؤال العشرون) وأي اسم منحه من أسمائه‏

الجواب سؤالك هذا يحتمل أربعة أمور الواحد أن يكون الضمير المرفوع في منحه يعود على الله الثاني أن يعود على المقام الثالث على الاسم الإلهي الرابع أن يكون الضمير في أسمائه يعود على العبد فيكون الاسم اسم العبد لا اسم الله وكذلك الضمير المنصوب في منحه الذي هو المفعول الثاني هل هو ضمير اسم إلهي أو هل هو المقام فإن كان الضمير المرفوع الله أو المقام فيكون الممنوح الاسم بلا شك وإن كان الضمير المرفوع الله أو الاسم الإلهي أو اسم العبد فيكون المقام هو الممنوح‏

[العبد لا يتصف بالقرب من الله إلا باسمه‏]

فليكن الضمير المرفوع الله فالممنوح الاسم الإلهي الذي يسمى به العبد في تخلقه أو اسم العبد وهو الأصل في القربة الإلهية فإن العبد لا يتصف بالقرب من الله إلا باسمه قال الله لأبي يزيد تقرب إلي بما ليس لي قال يا رب وما ليس لك قال الذلة والافتقار والسبب في ذلك أن أصل العبد أن يكون معلولا ولا بد والمعلولية له لذاته وكل معلول فقير ذليل بلا شك لا شفاء يرجى له من هذه العلة فيكون القرب من الله قربا ذاتيا أصليا

[الأسماء التي يستحقها الله والعبد والأسماء التي تعرض لهما]

وإن كان الممنوح اسما إلهيا ليتخلق به العبد كالاسم الرحيم في موطنه والاسم الملك المتكبر في موطنه فذلك قرب يعرض له من الشارع الذي عينه له فإن للعبد أسماء يستحقها وأسماء تعرض له مثل الأسماء الإلهية إذا تخلق بها العبد ولله أسماء يستحقها وأسماء عرضت له من تنزله لعقول عباده وهي الأسماء التي هي للعبد بحكم الاستحقاق فهل اتصاف الحق بها يكون تخلقا من الله بأسماء عبده أو تلك الصفات لله حقيقة جهلنا معناها بالنسبة إليه وعرفنا معناها بالنسبة إلينا فيكون العبد متخلقا بها وإن كان يستحقها من وجه معرفته بمعناها إذا نسبت إليه ومن كون الباري اتصف بها على طريقة مجهولة عندنا فلا نعرف كيف ننسبها إليه لجهلنا بذاته فتكون أصلا فيه عارضة فينا

فلا نستحق شيئا لا من أسمائه ولا مما نعتقد فيها أنها أسماؤنا وهذا موضع حيرة ومزلة قدم إلا لمن كشف الله عن بصيرته‏

[العبد لا يستحق شيئا من حيث عينه‏]

ونحن بحمد الله وإن كنا قد علمناها فهي من العلوم التي لا تذاع أصلا ورأسا وبمعرفته بها دعا من دعا إلى الله على بصيرة وهو الشخص الذي هو عَلى‏ بَيِّنَةٍ من رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يشهد له بصدق البينة التي هو عليها فالفطن يعلم ما سترناه بإعلام الله في قوله ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ هل تلك الأسماء إذا نسبت إلى الله هل تنسب إليه تخلقا أو استحقاقا وإذا نسبت إلى العبد هل تنسب إليه تخلقا كسائر الأسماء الإلهية التي لا خلاف فيها عند العام والخاص أو تنسب إليه بطريق الاستحقاق فالشاهد المطلوب هنا أن عين العبد لا تستحق شيئا من حيث عينه لأنه ليس بحق أصلا والحق هو الذي يستحق ما يستحق فجميع الأسماء التي في العالم ويتخيل أنها حق للعبد حق لله فإذا أضيفت إليه وسمي بها على غير وجه الاستحقاق كانت كفرا وكان صاحبها كافرا قال الله تعالى لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ فكفروا بالمجموع هذا إذا كان الكفر شرعا فإن كان لغة ولسانا فهو إشارة إلى الأمناء من عباد الله الذين علموا أن الاستحقاق بجميع الأسماء الواقعة في الكون الظاهرة الحكم إنما يستحقها الحق والعبد يتخلق بها وأنه ليس للعبد سوى عينه ولا يقال في الشي‏ء إنه يستحق عينه فإن عينه هويته فلا حق ولا استحقاق وكل ما عرض أو وقع عليه اسم من الأسماء إنما وقع على الأعيان من كونها مظاهر فما وقع اسم الأعلى وجود الحق في الأعيان والأعيان على أصلها لا استحقاق لها فهذا شرح قوله ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يشهد له بصدق النسبة أنه عين بلا حكم وكونه مظهرا حكما لا عينا

[ما في الوجود إلا الله وأعيان معدومة]

فالوجود لله وما يوصف به من أية صفة كانت إنما المسمى بها هو مسمى الله فافهم إنه ما ثم مسمى وجودي إلا الله فهو المسمى بكل اسم والموصوف بكل صفة والمنعوت بكل نعت وأما قوله سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ من أن يكون له شريك في الأسماء كلها فالكل أسماء الله أسماء أفعاله أو صفاته أو ذاته فما في الوجود إلا الله والأعيان معدومة في عين ما ظهر فيها وقد اندرج في هذا الفصل إن فهمت جميع ما ذكرناه في تقسيم الضميرين المنصوب والمرفوع فالوجود له والعدم لك فهو لا يزال موجودا وأنت لا تزال معدوما ووجوده إن كان لنفسه فهو ما جهلت منه وإن كان لك فهو ما علمت منه فهو العالم والمعلوم‏

[الاسم الذي يستدعيه تأييد الدعوة]

والذي يقصده أكثر الناس بقولهم أي اسم منح الله الرسول من أسمائه هو الاسم الذي يستدعيه تأييد دعوته وهو المعبر عنه بالسلطان والإعجاز أثره وإن منحه النبي فهو الاسم الذي يتأيد به في حصول الرتبة النبوية وصحتها وقد يكون لكل شخص اسم يمنحه بحسب ما تقتضيه رتبته من مقام نبوته أو رسالته غير أن الاسم الواهب هو الذي يعطي ذلك إلا إذا كان المقام مكتسبا فقد يعطيه الاسم الكريم أو الجواد أو السخي انتهى الجزء الحادي والثمانون (بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال الحادي والعشرون) أي شي‏ء حظوظ الأولياء من أسمائه‏

الجواب هنا تفصيل هل يريد بالاسم الذي أوجب لهم هذه الحظوظ أو الاسم الذي يتولاهم فيها أو الاسم الذي تنتجه هذه الحظوظ

[أقسام الحظوظ وأنواع الأسماء الخاصة بها]

فإن أراد الاسم أو الأسماء التي أوجبت لهم هذه الحظوظ فالحظوظ على قسمين حظوظ مكتسبة وحظوظ غير مكتسبة ولكل واحد من القسمين اسم يخصه من حيث ما يوجبها ومن حيث ما يتولاها ومن حيث ما تنتجه فما كان من الحظوظ المكتسبة فالأسماء التي توجبها هي الأسماء التي تعطيهم الأعمال التي اكتسبوها بها وهي مختلفة كل عمل بحسب اسمه فكل عامل إذا كان عارفا يعلم الاسم الذي يخص تلك الحركة العلمية من الأسماء الإلهية ويطول التفصيل فيها والأسماء التي تتولاهم في حال وجودها لهم فهي بحسب ما هو ذلك الحظ فالحظ يطلب بذاته من يتولاه من الأسماء والحظوظ مختلفة وكذلك الأسماء التي توجبها الحظوظ وتنتجها فهي بحسب الحظوظ أيضا فتختلف الأسماء باختلاف الحظوظ وعلى هذا النسق الكلام في الحظوظ التي هي غير مكتسبة من التفصيل‏

(السؤال الثاني والعشرون) وأي شي‏ء علم المبدأ

الجواب سأل بلفظ في العامة يعطي البدء وفي الخاصة يعطي موجب‏

النسخ في مذهب من يراه فلنتكلم على الأمرين معا ليقع الشرح باللسانين فيعم الجواب‏

[البدء افتتاح وجود الممكنات على التتالى‏]

اعلم أن علم البدء علم عزيز وأنه غير مقيد وأقرب ما تكون العبارة عنه أن يقال البدء افتتاح وجود الممكنات على التتالي والتتابع لكون الذات الموجدة له اقتضت ذلك من غير تقييد بزمان إذ الزمان من جملة الممكنات الجسمانية فلا يعقل إلا ارتباط ممكن بواجب لذاته فكان في مقابلة وجود الحق أعيان ثابتة موصوفة بالعدم أزلا وهو الكون الذي لا شي‏ء مع الله فيه إلا أن وجوده أفاض على هذه الأعيان على حسب ما اقتضته استعداداتها فتكونت لأعيانها لا له من غير بينية تعقل أو تتوهم وقعت في تصورها الحيرة من الطريقين من طريق الكشف ومن طريق الدليل الفكري والنطق عما يشهده الكشف بإيضاح معناه يتعذر فإن الأمر غير متخيل فلا يقال ولا يدخل في قوالب الألفاظ بأوضح مما ذكرناه‏

[البدء كان عن نسبة أمر فيه رائحة جبر]

وسبب عزة ذلك الجهل بالسبب الأول وهو ذات الحق ولما كانت سببا كانت إلها لمألوه لها حيث لا يعلم المألوه أنه مألوه فمن أصحابنا من قال إن البدء كان عن نسبة القهر وقال بعض أصحابنا بل كان عن نسبة القدرة والشرع يقول عن نسبة أمر والتخصيص في عين ممكن دون غيره من الممكنات المميزة عنده والذي وصل إليه علمنا من ذلك ووافقنا الأنبياء عليه أن البدء عن نسبة أمر فيه رائحة جبر إذ الخطاب لا يقع إلا على عين ثابتة معدومة عاقلة سميعة عالمة بما تسمع بسمع ما هو سمع وجود ولا عقل وجود ولا علم وجود فالتبست عند هذا الخطاب بوجوده فكانت مظهرا له من اسمه الأول الظاهر وانسحبت هذه الحقيقة على هذه الطريقة على كل عين عين إلى ما لا يتناهى‏

[البدء حالة مستصحبة قائمة لا تنقطع‏]

فالبدء حالة مستصحبة قائمة لا تنقطع بهذا الاعتبار فإن معطي الوجود لا يقيده ترتيب الممكنات فالنسبة منه واحدة فالبدء ما زال ولا يزال فكل شي‏ء من الممكنات له عين الأولية في البدء ثم إذا نسبت الممكنات بعضها إلى بعض تعين التقدم والتأخر لا بالنسبة إليه سبحانه فوقف علماء النظر مع ترتيب الممكنات حين وقفنا نحن مع نسبتها إليه والعالم كله عندنا ليس له تقييد إلا بالله خاصة والله يتعالى عن الحد والتقييد فالمقيد به تابع له في هذا التنزيه فأولية الحق هي أوليته إذ لا أولية للحق بغير العالم لا يصح نسبتها ولا نعته بها بل هكذا جميع النسب الأسمائية كلها

فالعبد ملك إذ قد تسمى *** في عين حال بما تسمى‏

والملك عبد في عين حال *** إذا تسمى بما أسمي‏

فإنه بي ولست أعني *** عني لكونى أصم أعمى‏

عن كل عين سوى عياني *** لكونه أظهرته الأسماء

هذه طريقة البدء

[البداء هو ظهور الابتداء وابتداء الظهور]

وأما إذا أراد البدا وهو أن يظهر له ما لم يكن ظهر هو مثل قوله ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وهو قوله وسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ فيكون الحكم الإلهي بحسب ما يعطيه الحال وقد كان قرر الأمر بحال معين بشرط الدوام لذلك الحال في توهمنا فلما ارتفع الدوام الحالي الذي لو دام أوجب دوام ذلك الأمر بدا من جانب الحق حكم آخر اقتضاه الحال الذي بدا من الكون فقابل البدا بالبداء فهذا معنى علم البدا له على الطريقة الأخرى قال تعالى وبَدا لَهُمْ من الله ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ‏

يقول صلى الله عليه وسلم اتركوني ما تركتكم‏

وكانت الشرائع تنزل بقدر السؤال فلو تركوا السؤال لم ينزل هذا القدر الذي شرع ومعقول ما يفهم من هذا علم البدا وبعد أن علمت هذا فقد علمت علم الظهور وعلم الابتداء فكأنك علمت علم ظهور الابتداء أو ابتداء الظهور فإن كل نسبة منهما مرتبطة بالأخرى فإن كان ظهور الابتداء فما حضرة الإخفاء التي منها ظهر هذا الابتداء فلا شك أنه لم يكن يصح هذا الوصف إلا له ففيه خفي وبه ظهر فحالة ظهوره عن ذلك الخفاء هو المعبر عنه بالابتداء وإن كان ابتداء الظهور وفهل له نسبة لي القدم إذ لم يكن له حالة الظهور فما نسبة القدم إليه قلنا عينه الثابتة حال عدمه هي له نسبة أزلية لا أول لها وابتداء الظهور عبارة عما اتصفت به من الوجود الإلهي إذ كانت مظهر الحق فهو المعبر عنه بابتداء الظهور فإن تعدد الأحكام على المحكوم عليه مع أحدية العين إنما ذلك راجع إلى نسب واعتبارات فعين الممكن لم تزل ولا تزال على حالها من الإمكان فلم يخرجها كونها مظهرا حتى انطلق عليها الاتصاف بالوجود عن حكم الإمكان فيها فإنه وصف ذاتي لها والأمور لا تتغير عن حقائقها باختلاف الحكم عليها لاختلاف‏

النسب أ لا ترى قوله وقَدْ خَلَقْتُكَ من قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئاً وقوله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فنفى الشيئية عنه وأثبتها له والعين هي العين لا غيرها

(السؤال الثالث والعشرون) ما معنى قوله عليه السلام كان الله ولا شي‏ء معه‏

الجواب لا تصحبه الشيئية ولا تنطلق عليه وكذلك هو ولا شي‏ء معه فإنه وصف ذاتي له سلب الشيئية عنه وسلب معية الشيئية لكنه مع الأشياء وليست الأشياء معه لأن المعية تابعة للعلم فهو يعلمنا فهو معنا ونحن لا نعلمه فلسنا معه‏

[الزمان والآن والوجود والإمكان‏]

فاعلم إن لفظة كان تعطي التقييد الزماني وليس المراد هنا به ذلك التقييد وإنما المراد به الكون الذي هو الوجود فتحقيق كان إنه حرف وجودي لا فعل يطلب الزمان ولهذا لم يرد ما يقوله علماء الرسوم من المتكلمين وهو قولهم وهو الآن على ما عليه كان فهذه زيادة مدرجة في الحديث ممن لا علم له بعلم كان ولا سيما في هذا الموضع ومنه كانَ الله عَفُوًّا غَفُوراً وغير ذلك مما اقترنت به لفظة كان ولهذا سماها بعض النحاة هي وأخواتها حروفا تعمل عمل الأفعال وهي عند سيبويه حرف وجودي وهذا هو الذي تعقله العرب وإن تصرفت تصرف الأفعال فليس من أشبه شيئا من وجه ما يشبهه من جميع الوجوه بخلاف الزيادة بقولهم وهو الآن فإن الآن ندل على الزمان وأصل وضعه لفظة تدل على الزمان الفاصل بين الزمانين الماضي والمستقبل ولهذا قالوا في الآن إنه حد الزمانين فلما كان مدلولها الزمان الوجودي لم يطلقه الشارع في وجود الحق وأطلق كان لأنه حرف وجودي وتخيل فيه الزمان لوجود التصرف من كان ويكون فهو كائن ومكون كقتل يقتل فهو قاتل ومقتول وكذلك كن بمنزلة اخرج فلما رأوا في الكون هذا التصرف الذي يلحق الأفعال الزمانية تخيلوا أن حكمها حكم الزمان فأدرجوا الآن تتمة للخبر وليس منه فالمحقق لا يقول قط وهو الآن على ما عليه كان فإنه لم يرد ويقول على الله ما لم يطلقه على نفسه لما فيه من الإخلال بالمعنى الذي يطلبه حقيقة وجود الحق خالق الزمان فمعنى ذلك الله موجود ولا شي‏ء معه أي ما ثم من وجوده واجب لذاته غير الحق والممكن واجب الوجود به لأنه مظهره وهو ظاهر به والعين الممكنة مستورة بهذا الظاهر فيها فاتصف هذا الظهور والظاهر بالإمكان حكم عليه به عين الظهر الذي هو الممكن فاندرج الممكن في واجب الوجود لذاته عينا واندرج الواجب الوجود لذاته في الممكن حكما فتدبر ما قلناه‏

[لا ينبغي لنا أن نشرح ما ليس بذوق لنا]

واعلم أن كلامنا في شرح ما ورد إنما هو على قول الولي إذا قال مثل هذا اللفظ أو نطق به من مقام ولايته لا من مقام الرتبة التي منها بعث رسولا فإن الرسول إذا قال مثل هذا اللفظ في المعرفة بالله من مقامه الاختصاصي فلا كلام لنا فيه ولا ينبغي لنا أن نشرح ما ليس بذوق لنا وإنما كلامنا فيه من لسان الولاية فنحن نترجم عنها بأعلى وجه يقتضيه حالها هذا غاية الولي في ذلك‏

[المعية والشيئية]

ولا شك أن المعية في هذا الخبر ثابتة والشيئية منفية والمعية تقتضي الكثرة والموجود الحق هو عين وجوده في نسبته إلى نفسه وهويته وهو عين المنعوت به مظهره فالعين واحدة في النسبتين فهذه المعية كيف تصح والعين واحدة فالشيئية هنا عين المظهر لا عينه وهو معها لأن الوجود يصحبها وليست معه لأنها لا تصحب الوجود وكيف تصحبه والوجوب لهذا الوجود ذاتي ولا ذوق للعين الممكنة في الوجوب الذاتي فهو يقتضيها فيصح إن يكون معها وهي لا تقتضيه فلا يصح أن تكون معه فلهذا نفى الشي‏ء أن يكون مع هوية الحق لأن المعية نعت تمجيد ولا مجد لمن هو عديم الوجوب الوجودي لذاته فإن الشي‏ء لا يكون مع الشي‏ء إلا بحكم الوعيد أو الوعد بالخير وهذا لا يتصور من الدون للأعلى فالعالم لا يكون مع الله أبدا سواء اتصف بالوجود أو العدم والواجب الوجود الحق لذاته يصح له نعت المعية مع العالم عدما ووجودا

(السؤال الرابع والعشرون) ما بدء الأسماء

الجواب إطلاق هذا اللفظ في الطريق يقتضي أمرين الواحد سؤال عن أول الأسماء والثاني سؤال عما تبتدئ به الأسماء من الآثار وهذان الأمران فرعان عن مدلول لفظ الأسماء ما هو هل هو موجود أو عدم أو لا وجود ولا عدم وهي النسب فلا تقبل معنى الحدوث ولا القدم فإنه لا يقبل هذا الوصف إلا الوجود أو العدم‏

[الذات والأسماء والنسب والمظاهر]

فاعلم إن هذه الأسماء الإلهية التي بأيدينا هي أسماء الإلهية التي سمى بها نفسه من كونه متكلما فنضع الشرح الذي كنا نوضح به مدلول تلك الأسماء على هذه الأسماء التي بأيدينا وهو المسمى بها من حيث الظاهر ومن حيث كلامه وكلامه علمه وعلمه ذاته فهو مسمى بها من حيث ذاته والنسب لا تعقل للموصوف بالأحدية من‏

جميع الوجوه إذا فلا تعقل الأسماء إلا بأن تعقل النسب ولا تعقل النسب إلا بأن تعقل المظاهر المعبر عنها بالعالم فالنسب على هذا تحدث بحدوث المظاهر لأن المظاهر من حيث هي أعيان لا تحدث ومن حيث هي مظاهر هي حادثة فالنسب حادثة فالأسماء تابعة لها ولا وجود لها مع كونها معقولة الحكم‏

[الواحد الأحد هو أول الأسماء]

فإذا ثبت هذا فالقائل ما بدء الأسماء هو القائل ما بدء النسب والنسبة أمر معقول غير موجود بين اثنين فأما إن نتكلم فيها من حيث نسبتها إلى الأول أو من حيث ما دل الأثر عليها فإن نظرنا فيها من حيث المسمى بها لا من حيث دلالة أثرها كان قوله ما بدء الأسماء معناه ما أول الأسماء فلنقل أول الأسماء الواحد الأحد وهو اسم واحد مركب تركيب بعلبك ورامهرمز والرحمن الرحيم لا نريد بذلك اسمين وإنما كان الواحد الأحد أول الأسماء لأن الاسم موضوع للدلالة وهي العلمية الدالة على عين الذات لا من حيث نسبة ما يوصف بها كالاسماء الجوامد للأشياء وليس أخص في العلمية من الواحد الأحد لأنه اسم ذاتي له يعطيه هذا اللفظ بحكم المطابقة

[الله اسم للمرتبة لا للذات‏]

فإن قلت فالله أولى بالأولية من الواحد الأحد لأن الله ينعت بالواحد الواحد ولا ينعت بالله قلنا مدلول الله يطلب العالم بجميع ما فيه فهو له كاسم الملك أو السلطان فهو اسم للمرتبة لا للذات والأحد اسم ذاتي لا يتوهم معه دلالة على غير العين فلهذا لم يصح أن يكون الله أول الأسماء فلم يبق إلا الواحد حيث لا يعقل منه إلا العين من غير تركيب ولو تسمى بالشي‏ء لسميناه الشي‏ء وكان أول الأسماء لكنه لم يرد في الأسماء الإلهية يا شي‏ء ولا فرق بين مدلول الواحد والشي‏ء فإنه دليل على ذات غير مركبة إذ لو كانت مركبة لم يصح اسم الواحد ولا الشي‏ء عليه حقيقة فلا مثل له ولا شبه يتميز عنه شخصيته فهو الواحد الأحد في ذاته لذاته‏

[الأعيان الثابتة ونسبتها إلى أول الأسماء]

ومع هذا فقد قررنا إن الأسماء عبارة عن نسب فما نسبة هذا الاسم الأول ولا أثر له منه يطلبه قلنا أما النسبة التي أوجبت له هذا الاسم فمعلومة وذلك أن في مقابلة وجوده أعيانا ثابتة لا وجود لها إلا بطريق الاستفادة من وجود الحق فتكون مظاهره في ذلك الاتصاف بالوجود وهي أعيان لذاتها ما هي أعيان لموجب ولا لعلة كما إن وجود الحق لذاته لا لعلة وكما هو الغني لله تعالى على الإطلاق فالفقر لهذه الأعيان على الإطلاق إلى هذا الغني الواجب الغني بذاته لذاته وهذه الأعيان وإن كانت بهذه المثابة فمنها أمثال وغير أمثال متميزة بأمر وغير متميزة بأمر يقع فيه الاشتراك فلا يصح على كل عين منها اسم الواحد الأحد لوجود الاشتراك والمثلية فلهذا سمينا هذه الذات الغنية على الإطلاق بالواحد الأحد لأنه لا موجود إلا هي فهي عين الوجود في نفسها وفي مظاهرها وهذه نسبة لا عن أثر إذ لا أثر لها في كون الأعيان الممكنات أعيانا ولا في إمكانها

[الوهاب هو أول اسم ظهر أثره في الأعيان الثابتة]

وأما إذا كان قوله ما بدء الأسماء بمعنى ما تبتدئ به الأسماء من الآثار في هذه الأعيان فيطلب هذا السؤال أمرين الأمر الواحد ما يبتدئ به في كل عين عين والأمر الآخر ما يبتدئ به على الإطلاق في الجملة ومعناه ما أول اسم يطلب أن يظهر أثره في هذه الأعيان فاعلم إن ذلك الاسم هو الوهاب خاصة في الجملة وفي عين عين لا فرق وهو اسم أحدثته الهبات لهذه الأعيان من حيث فقرها فلما انطلق عليها اسم مظهر وقد كانت عرية عن هذا الاسم ولم يجب على الغني أن يجعلها مظاهر له طلبت هذه النسبة الاسم الوهاب ولهذا لا نجعله تعالى علة لشي‏ء لأن العلة تطلب معلولها كما يطلب المعلول علته والغني لا يتصف بالطلب إذا فلا يصح أن يكون علة والوهب ليس كذلك فإنه امتنان على الموهوب له وإن كان الوهب له ذاتيا فإنه لا يقدح في غناه عن كل شي‏ء والذي يبتدئ به من الوهب إعطاء الوجود لكل عين حتى وصفها بما لا تقضيه عينها فأول ما يبتدئ به من الأعيان ما هو أقرب مناسبة للأسماء التي تطلب التنزيه ثم بعد ذلك يظهر سلطان الأسماء التي تطلب التشبيه فالأسماء التي تطلب التنزيه هي الأسماء التي تطلب الذات لذاتها والأسماء التي تطلب التشبيه هي الأسماء التي تطلب الذات لكونها إلها فأسماء التنزيه كالغني والأحد وما يصح أن ينفرد به وأسماء التشبيه كالرحيم والغفور وكل ما يمكن أن يتصف به العبد حقيقة من حيث ما هو مظهر لا من حيث عينه لأنه لو اتصف به من حيث عينه لكان له الغني ولا غنى له أصلا

[الأعيان التي هي المظاهر لا يزول عنها اسم الفقر]

فإذا اتصفت هذه الأعيان التي هي المظاهر بمثل الغني وتسمت بالغنى فيكون معنى ذلك الغني بالله عن غيرها من الأعيان لا إن العين غني بذاته وكذا كل اسم تنزيه فلها هذه الأسماء من حيث ما هي مظاهر فإن كان المسمى لسان الظاهر فيها فهو كونه إلها فهو أقرب نسبة إلى الذات من لسان المظهر إذا تسمى بالغني فالمظهر لا يزول عنه اسم‏

الفقر مع وجود اسم الغني المقيد له والظاهر فيه إذا تسمى بالغنى يصح له لأنه يعطي جودا ومنة وهو الوهاب الذي يعطي لينعم وقد يعطي ليعبد فلا يكون هذا عطاء تنزيه بل هو عطاء عوض ففيه طلب قال تعالى وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فإعطاء هذا الخلق إعطاء طلب لا إعطاء هبة ومنة وإعطاء الوهب إعطاء إنعام لا لطلب شكر ولا عوض يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ويَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وإِناثاً وهو الخنثى ثم وصف نفسه في ذلك بأنه عَلِيمٌ قَدِيرٌ وهو وصف يرجع إليه ما طلب منهم في ذلك عوضا كما طلب في قوله وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فمنزلة خلقهم له ما هو منزلة خلقهم لهم فخلقهم لهم من أسماء التنزيه وخلقهم له من أسماء التشبيه وهذا القدر كاف في الغرض‏

(السؤال الخامس والعشرون) ما بدء الوحي‏

الجواب إنزال المعاني المجردة العقلية في القوالب الحسية المقيدة في حضرة الخيال في نوم كان أو يقظة وهو من مدركات الحس في حضرة المحسوس مثل قوله فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا وفي حضرة الخيال‏

كما أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم في صورة اللبن وكذا أول رؤياه قالت عائشة أول ما بدي‏ء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا خرجت مثل فلق الصبح‏

وهي التي أبقى الله على المسلمين وهي من أجزاء النبوة

[النبوة التي ارتفعت والنبوة التي أبقيت‏]

فما ارتفعت النبوة بالكلية ولهذا قلنا إنما ارتفعت نبوة التشريع فهذا معنى لا نبي بعده وكذلك من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه فقد قامت به النبوة بلا شك فعلمنا إن قوله لا نبي بعده أي لا مشرع خاصة لا أنه لا يكون بعده نبي فهذا مثل قوله إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ولم يكن كسرى وقيصر إلا ملك الروم والفرس وما زال الملك من الروم ولكن ارتفع هذا الاسم مع وجود الملك فيهم وتسمى ملكهم باسم آخر بعد هلاك قيصر وكسرى كذلك اسم النبي زال بعد رسول الله صلى الله

عليه وسلم فإنه زال التشريع المنزل من عند الله بالوحي بعده صلى الله عليه وسلم فلا يشرع أحد بعده شرعا إلا ما اقتضاه نظر المجتهدين من العلماء في الأحكام فإنه بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم صح فحكم المجتهد من شرعه الذي شرعه صلى الله عليه وسلم الذي يعطي المجتهد دليله وهو الذي أذن الله به فما هو من الشرع الذي لم يأذن به الله فإن ذلك كفر وافتراء على الله‏

[الرؤيا الصادقة والوحى‏]

فإن قلت هذا الذي بدي‏ء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين نقول إنه بدء الوحي قلنا لا شك ولا خفاء عند المؤمنين والأولياء أن محمدا صلى الله عليه وسلم خصه الله بالكمال في كل فضيلة فمن ذلك أن خصه بكمال الوحي وهو استيفاء أنواعه وضروبه وهوقوله عليه السلام أوتيت جوامع الكلم‏

وبعث عامة فما بقي ضرب من الوحي إلا وقد نزل عليه به فلما كان بهذه المثابة وبدي‏ء صلى الله عليه وسلم بالرؤيا في وحيه ستة أشهر علمنا إن بدء الوحي الرؤيا وإنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة لكونها ستة أشهر وكانت نبوته ثلاثا وعشرين سنة فستة أشهر جزء من ستة وأربعين ولا يلزم أن يكون لكل نبي فقد يوحى لنبي لا من بدء الوحي الذي هو الرؤيا بل بضرب آخر من الوحي فلما بدي‏ء بالرؤيا صلى الله عليه وسلم قلنا الرؤيا بدء الوحي بلا شك لأن الكمال الذي وصف به نفسه صلى الله عليه وسلم في المقام أعطى أن يكون بدء الوحي ما بدي‏ء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا ينبغي أن يكون فإن البدء عندنا هو ما يناسب الحس أولا ثم يرتقي إلى الأمور المجردة الخارجة عن الحس فلم تكن إلا الرؤيا نوما كان أو يقظة والوحي هنا تشريع الشرائع من كونه نبيا أو رسولا كيف ما كان‏

[الإلهام والوحى‏]

وهذا كله إذا كان سؤاله عن الوحي المنزل على البشر فإن كان سؤاله عن بدء الوحي من حيث الوحي أو عن بدء الوحي في حق كل صنف ممن يوحى إليه كالملائكة وغير البشر من الجنس الحيواني مثل قوله وأَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وغير الجنس الحيواني مثل عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فإنه كان بوحي ومثل قوله وأَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ومثل قوله ونَفْسٍ وما سَوَّاها وهي نفس كل مكلف وما ثم إلا مكلف لقوله فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها فدخل الملك بالتقوى في هذه الآية إذ لا نصيب له في الفجور وكذلك سائر نفوس ما عدا الإنس والجان فالإنس والجن ألهموا الفجور والتقوى كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وهَؤُلاءِ من عَطاءِ رَبِّكَ وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً فإن أراد بدء الوحي في كل صنف صنف وشخص شخص فهو الإلهام فإنه لا يخلو عنه موجود وهو الوحي وهذا جواب عن بدء الوحي من حيث الوحي ومن حيث شخص شخص‏

(السؤال السادس والعشرون) ما بدء الروح‏

الجواب أهل الطريق يطلقون لفظ الروح على معان مختلفة فيقولون فلان فيه روح أي أمر رباني يحيي به من قام به يعني قلبه ويطلقون الروح على الذي سئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلقون الروح ويريدون به الروح الذي ينفخ فيه عند كمال تسوية الخلق والذي مدار الطريق عليه هو الروح الذي يجده أهل الله عند الانقطاع إليه بالهمم والعبادة فأكثر ما يقع عنه السؤال منهم غالبا فيكون قوله ما بدء الروح أي ما ابتداء حصوله في قلب العارف‏

[نفس الرحمن وبدء الروح الذي يجده العارفون‏]

فتقول إن بدء الروح في نفوس أهله الذين أهلهم الله لتحصيله إن نفس الرحمن إذا تحكمت في نفوسهم المجاهدات التي تعطيهم رؤية الأغيار عرية عن رؤية الله فيها وأنها حائلة وقاطعة بين الله وبين هذا العبد فيكون صاحب هذه المجاهدة صاحب قبض وهم وغم وحجب يريد رفعها فتهب عليه من نفس الرحمن في باطنه ما يؤديه إلى رؤية وجه الحق في هذه القواطع على زعمه وفي هذه الحجب والأشياء التي يجاهد نفسه في قطع ما يتعرض إليه منها في طريقه فيريه ذلك النفس وجه الحق في كل شي‏ء وهو العين والحافظ عليه وجودها فلم ير شيئا خارجا عن الحق فزال تعبه من حيث ما يريد قطعها ويتألم عند ذلك ألما شديدا حيث يتوهم عدم تلك المعرفة ثم يعقب ذلك سرور عظيم لوجود هذا النفس فيحيي به معناه ويصير به روحا وهو قوله أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً من أَمْرِنا ما هو تحت كسبك ولا تعلق لك خاطر بتحصيله ما كُنْتَ تَدْرِي ما الْكِتابُ ولا الْإِيمانُ ولكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي به من نَشاءُ من عِبادِنا فهذا العارف ممن شاء من عباده فيقال فيه عند ذلك إنه ذو روح ويقال فيه إنه حي وقد التحق بالأحياء وهو قوله أَ ومن كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي به في النَّاسِ ومن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً وهو هذا الروح فَما لَهُ من نُورٍ فكان بجعل الله ولم يضفه إلى الاكتساب فإنه مجهول العين لعدم الذوق فهذا معنى بدء الروح الذي يجده العارفون في الطريق وهو مقصود السائلين وهو نور من حضرة الربوبية لا من غيرها وأصله من الروح الذي هو من أَمْرِ رَبِّي أي من الروح الذي لم يوجد عن خلق فإن عالم الأمر كل موجود لا يكون عند سبب كوني يتقدمه ولكل موجود منه شرب وهو الوجه الخاص الذي لكل موجود عن سبب وعن غير سبب فعن هذا الروح يكون هذا الروح المسئول عنه الذي يجده أهل هذا الطريق‏

(السؤال السابع والعشرون) ما بدء السكينة

الجواب مطالعة الأمر بطريق الإحاطة من كل وجه وما لم يكن ذلك فالسكينة لا تصح قال إبراهيم عليه السلام أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَ ولَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فجعل الطمأنينة بدء السكينة لما اختلفت عليه وجوه الأحياء فكانت تجاذبه من كل ناحية فلما أشهده الله الكيفية سكن عما كان يجده من القلق لتلك الجذبات التي للوجوه المختلفة

[حصول المطلوب أو اليأس منه هو بدء السكينة]

قال بعضهم‏

إنما أجزع مما اتقى *** فإذا حل فما لي والجزع‏

وكذا أطمع فيما أبتغي *** فإذا فات فما لي والطمع‏

فحصول المطلوب أو الياس من تحصيله بدء السكينة فيما يطلب وكذلك على ما يليق به يكون ما يخاف منه فاعلم ذلك‏

[التجلي الذي هو ذوق هو بدء جعل السكينة في القلب‏]

فإذا أكمل الإنسان شرائط الايمان وأحكمها حصل من الحق تجل لقلب هذا المؤمن الذي هو بهذه الصفة يسمى ذلك التجلي ذوقا هو بدء جعل السكينة في قلبه لتكون تلك السكينة له بابا أو سلما إلى حصول أمر مغيب يقع له الايمان به فيكون معه وجود السكون لما أعطاه الأمر الأول لكونه يصير أمرا معتادا مثل سكون من تعود الأسباب إلى الأسباب ولا يكون ذلك عن غيب أصلا بل عن ذوق وهو المعاينة فإن الإنسان إذا كان عنده قوت يومه سكنت نفسه لما يعطيه قلق يومه لمعاينة ما عنده بحصوله تحت ملكه فإن حصل الايمان عنده بهذه المثابة تحت حكمه فهو صاحب سكينة وإن كان الإنسان تحت حكم الايمان نازعه العيان فلم تحصل سكينة

[المعاني التي تتصف بها القلوب وعلاماتها]

واعلم أن المعاني التي تتصف بها القلوب قد يجعل الله علامة على حصولها في نفوس من شاء من عباده أن يحصلها فيه علامات من خارج تسمى تلك العلامة باسم ذلك المعنى الذي يحصل في نفسه من الله وإنما يسميه به ليعلم أن تلك العلامة لحصول هذا المعنى نصبت مثل قوله تعالى في تابوت بنى إسرائيل إن الله قد جعل فيه سكينة وهي صورة على شكل حيوان من الحيوانات اختلف الناس في أي‏

صورة حيوان كانت ولا فائدة لنا في ذكر ما ذكروه في صورتها فكانت تلك الصورة إذا هفت أو ظهرت منها حركة خاصة بصروا فسكن قلبهم عند رؤية تلك العلامة من تلك الصورة التي سماها سكينة وإن السكينة المعلومة إنما محلها القلوب فلم يجعل لهذه الأمة علامة خارجة عنهم على حصولها فليس لهم علامة في قلوبهم سوى حصولها فهي الدليل على نفسها ما تحتاج إلى دليل من خارج كما كان في بنى إسرائيل‏

[السكينة هي سكون النفس للموعود أو للحاصل‏]

فبدء السكينة قد بيناه وأما السكينة فهي الأمر الذي تسكن له النفس لما وعدت به أو لما حصل في نفسه من طلب أمر ما وسميت سكينة لأنها إذا حصلت قطعت عنه وجود الهبوب إلى غير ما سكنت إليه النفس ومنه سمي السكين سكينا لكون صاحبه يقطع به ما يمكن قطعه به وهذا اللفظ مشتق من السكون وهو الثبوت وهو ضد الحركة فإن الحركة نقلة فالسكينة تعطي الثبوت على ما سكنت إليه النفس ولو سكنت إلى الحركة هذا حقيقتها ولا يكون ذلك إلا عن مطالعة أو مشاهدة فتنزل عليهم وهم مؤمنون فتنقلهم بنزولها عن رتبة ما كانوا به مؤمنين إلى مقام معاينة ذلك وهو تضاعف إيمانهم بالعيان لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أ لا ترى إلى قوله تعالى إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ إلا أن الأمنة هي السكينة لا غيرها والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(السؤال الثامن والعشرون) ما العدل‏

الجواب العدل هو الحق المخلوق به السموات والأرض فسهل ابن عبد الله وغيره يسميه العدل وأبو الحكم عبد السلام بن برجان يسميه الحق المخلوق به لأنه سمع الله يقول ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وما خَلَقْنَا السَّماواتِ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أي بما يجب لذلك المخلوق مما تقتضيه حالة خاصة بقوله تعالى ثُمَّ هَدى‏ أي بين أنه أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ أي ما خلقه إلا بالحق وهو ما يجب له‏

[نسبة الممكنات فيما يجب لها من الوجود ليست واحدة]

فالعالم على الحقيقة هو الله الذي علم ما تستحقه الأعيان في حال عدمها وميز بعضها عن بعض بهذه النسبة الإحاطية ولو لا ذلك لكانت نسبة الممكنات في قضية العقل فيما يجب لها من الوجود نسبة واحدة وليس الأمر كذلك ولا وقع كذلك بل علم سبحانه ما يتقيد من الممكنات في وجوده بأمس لا يمكن عنده أن يوجده اليوم ولا في غد فإنه من تمام خلقه تعيين زمانه وهو القدر وهي الأقدار أي مواقيت الإيجاد فهو سبحانه يخلق من غير حكم قدر عليه في خلقه والمخلوقات تطلب الأقدار بذاتها ف أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ من زمانه فيمن يتقيد وجوده بالزمان ومن حاله فيمن يتقيد وجوده بالحال ومن صفته فيمن يتقيد وجوده بالصفة فإن قلت فيه مختار صدقت وإن قلت حكيم صدقت وإن قلت لم يوجد هذه الأمور على هذا الترتيب إلا بحسب ما أعطاه العلم صدقت وإن قلت ذاته اقتضت أن يكون خلق كل شي‏ء على ما هو عليه ذلك الشي‏ء في ذاته ولوازمه وأعراضه لا تتبدل ولا تتحول ولا في الإمكان أن يكون ذلك اللازم أو العارض لغير ذلك الممكن صدقت فبعد أن أعلمتك صورة الأمر على ما هو عليه فقل ما تشاء فإن قولك من جملة من أعطى خلقه في ظهوره منك فهو من جملة الأعراض في حقك وله صفة ذاتية ولازمة وعرضية من حيث نفسه فاعلم ذلك‏

[الميل إلى الحق عدل وعنه جور]

وأما تحقيق هذا الاسم لهذه النسبة فاعلم أن العدل هو الميل يقال عدل عن الطريق إذا مال عنه وعدل إليه إذا مال إليه وسمي الميل إلى الحق عدلا كما سمي الميل عن الحق جورا بمعنى إن الله خلق الخلق بالعدل أي أن الذات لها استحقاق من حيث هويتها ولها استحقاق من حيث مرتبتها وهي الألوهية فلما كان الميل مما تستحقه الذات لما تستحقه الألوهية التي تطلب المظاهر لذاتها سمي ذلك عدلا أي ميلا من استحقاق ذاتي إلى استحقاق إلهي لطلب المألوه ذلك الذي يستحقه ومن أعطى المستحق ما يستحقه سمي

عادلا وعطاؤه عدلا وهو الحق فما خلق الله الخلق إلا بالحق وهو إعطاؤه خلقه ما يستحقونه وليس وراء هذا البيان وبسط العبارة ما يزيد عليها في الوضوح‏

(السؤال التاسع والعشرون) ما فضل النبيين بعضهم على بعض وكذلك الأولياء

الجواب قال تعالى ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ وآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وقال في حق الناس ورَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ هذا عموم في الناس فدخل الأولياء في عموم هذه الآية وقال في حق المؤمنين والعلماء يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ‏

[اختلاف العلماء في التفاضل بين الأنبياء]

فاختلف أصحابنا في مثل هذا فذهب ابن قسي إلى أن كل واحد منهم فاضل مفضول ففضل هذا هذا بأمر ما وفضله المفضول من ذلك الأمر بأمر آخر فهو فاضل بوجه ومفضول بوجه لمن فضل عليه فادى إلى التساوي في الفضلية فصاحب‏

هذا القول ما حرر الأمر على ما يقتضيه وجه الحق فيه وذلك أن تنظر المراتب فإن كانت تقتضي الفضيلة فتنظر أية مرتبة هي أعم من الأخرى وأعظم فالمتصف بها أفضل ففضل أرباب المراتب بفضل المراتب فقد يزيد ويفضل بعض الناس غيره بشي‏ء ما فيه ذلك الفضل فإن الفضل في هذا الوجه لا ينظر من حيث إنه زيادة ولكن ينظر من حيث اعتبار زيادات لها شرف في العرف والعقل كالعلم والنجارة والخياطة والعلم بالأحكام الشرعية والعلم بما ينبغي لجلال الله وكل واحد منهم لا يعلم علم الآخر فيقال قد فضل النجار على الموحد بالدليل بالنجارة هذا لا يقال على جهة الفخر والمدح بل على جهة الزيادة ويقال فضل العالم بالله النجار على طريق الشرف والفخر فمثل هذه المفاضلة هي التي تعتبر وهي أن يزيد كل واحد على صاحبه برتبة تقتضي المجد والشرف فهذا معنى قوله فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ بما يقتضيه الشرف‏

[لا تصح مفاضلة بين الأسماء الإلهية]

ونحن نجمع إلى ذلك الزيادة فنقول في قوله فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ أي جعلنا عند كل واحد من صفات المجد والشرف ما لم نجعل عند الآخر فقد زاد بعضهم على بعض في صفات الشرف والمراتب التي فضلوا بها بعضهم على بعض ما فيها مفاضلة عندنا لارتباطها بالأسماء الإلهية والحقائق الربانية ولا تصح مفاضلة بين الأسماء الإلهية لوجهين الواحد أن الأسماء نسبتها إلى الذات نسبة واحدة فلا مفاضلة فيها فلو فضلت المراتب بعضها بعضا بحسب ما استندت إليه من الحقائق الإلهية لوقع الفضل في أسماء الله فيكون بعض الأسماء الإلهية أفضل من بعض وهذا لا قائل به عقلا ولا شرعا ولا يدل عموم الاسم على فضله لأن الفضلية إنما تقع فيما من شأنه أن يقبل فلا يتعمل في القبول أو فيما يجوز أن يوصف به فلا يتصف به والوجه الآخر أن الأسماء الإلهية راجعة إلى ذاته والذات واحدة والمفاضلة تطلب الكثرة والشي‏ء لا يفضل نفسه فإذا المفاضلة لا تصح فمعقول فضلنا بعض النبيين على بعض أي أعطينا هذا ما لم نعط هذا وأعطينا هذا أيضا ما لم نعط من فضله ولكن من مراتب الشرف ف مِنْهُمْ من كَلَّمَ الله وآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ فمنهم من فضل بأن خلقه بيديه وأسجد له الملائكة ومنهم من فضل بالكلام القديم الإلهي بارتفاع الوسائط ومنهم من فضل بالخلة ومنهم من فضل بالصفوة وهو إسرائيل يعقوب فهذه كلها صفات شرف ومجد لا يقال إن خلته أشرف من كلامه ولا إن كلامه أفضل من خلقه بيديه بل كل ذلك راجع إلى ذات واحدة لا تقبل الكثرة ولا العدد فهي بالنسبة إلى كذا خالقة وبالنسبة إلى كذا مالكة وبالنسبة إلى كذا عالمة إلى ما نسبت من صفات الشرف والعين واحدة

[المسألة الطفولية أو المفاضلة بين الملائكة والبشر]

وأما المسألة الطفولية التي بين الناس واختلافهم في فضل الملائكة على البشر فإني سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الواقعة فقال لي إن الملائكة أفضل فقلت له يا رسول الله فإن سألت ما الدليل على ذلك فما أقول فأشار إلى أن قد علمتم أني أفضل الناس وقد صح عندكم وثبت وهو صحيح إني قلت عن الله تعالى أنه قال من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم‏

وكم ذاكر لله تعالى ذكره في ملأ أنا فيهم فذكره الله في ملأ خير من ذلك الملإ الذي أنا فيهم فما سررت بشي‏ء سروري بهذه المسألة فإنه كان على قلبي منها كثير وإن تدبرت قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ومَلائِكَتُهُ‏

[لا مفاضلة ولا أفضل من جهة الحقائق‏]

وهذا كله بلسان التفصيل وأما جهة الحقائق فلا مفاضلة ولا أفضل لارتباط الأشخاص بالمراتب وارتباط المراتب بالأسماء الإلهية وإن كان لها الابتهاج بذاتها وكمالها فابتهاجها بظهور آثارها في أعيان المظاهر أتم ابتهاجا لظهور سلطانها كما تعطي الإشارة في قول القائل المترجم عنها حيث نطق بلسانها من كناية نحن المنزل عن الله في كلامه وهي كناية تقتضي الكثرة

نحن في مجلس السرور ولكن *** ليس إلا بكم يتم السرور

فمجلس السرور لها حضرة الذات وتمام السرور لها ما تعطيه حقائقها في المظاهر وهو قوله بكم وذلك لكمال الوجود والمعرفة لا لكمال الذات إن عقلت‏

(السؤال الثلاثون) خلق الله الخلق في ظلمة

الجواب هذا مثل قوله والله أَخْرَجَكُمْ من بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والْأَبْصارَ والْأَفْئِدَةَ فهذه أنوار فيك تدرك بها الأشياء فما أدركت إلا بما جعل فيك وما جعل فيك سوى أنت فله تعالى مما أنت الوجود وأنت من ذلك الوجود المدرك به المعدوم الموجود وما لا يتصف بالعدم‏

ولا بالوجود وهو إدراك الأفئدة مما ذكر فالممكنات على عدم تناهيها في ظلمة من ذاتها وعينها لا نعلم شيئا ما لم تكن مظهرا لوجوده وهو ما يستفيده الممكن منه وهو قوله تعالى عَلى‏ نُورٍ من رَبِّهِ‏

[أنتم في الظلمة فيكم وأنتم في الوجود فيه‏]

فخلق هنا بمعنى قدر قال تعالى وخَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فقدرهم ولم يكونوا مظهرا لكن كانوا قابلين لتقديره فأول أثر إلهي في الخلق التقدير قبل وجودهم وأن يتصفوا بكونهم مظاهر للحق فالتقدير الإلهي في حقهم كإحضار المهندس ما يريد إبرازه مما يخترعه في ذهنه من الأمور فأول أثر في تلك الصورة إنما هو ما تصوره المهندس على غير مثال وآية هذا المقام قوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي انتقالكم من وجود الدنيا إلى وجود الآخرة أقرب في العلم إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ من انتقالكم من حال عدم إلى حال وجود فأنتم في الظلمة فيكم وأنتم في الوجود فيه غير أن لكم انتقالات في وجوده وظلمتكم تستصحبكم لا تفارقكم أبدا وآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ ولم يقل نجعلهم في ظلمة بل زوال عين النور الذي هو الوجود هو عين كونكم مظلمين أي تبقي أعيانكم لا نور لها أي لا وجود لها ولو لم تكن الظلمة نسبة عدمية وهي كون ذواتكم العينية معدومة لكانت الظلمة من جملة الخلق فكانت الظلمة تستدعي أن تكون في ظلمة والكلام في تلك الظلمة كالكلام في الأولى ويتسلسل فإن قوله خلق الله الخلق في ظلمة قد يريد بالخلق هنا المخلوقات والظلمة إذا كانت أمرا وجوديا فهي مخلوقة فتكون أيضا في ظلمة وإذا كان الخلق هنا مصدرا كأنه قال قدر الله التقدير في ظلمة أي في غير موجودين يعني تلك الأعيان وانظر في قوله تعالى يَخْلُقُكُمْ في بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً من بَعْدِ خَلْقٍ في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ‏

[الشيئية الثابتة والشيئية المنفية]

ثم إن الله تعالى في الوجود الأخروي إذا أراد الله بتبديل الأرض كان الخلق في الظلمة دون الجسر فالظلمة تصحيهم بين كل مقامين إذا أراد الله أن يوجدهم في عالم آخر أي ينشئهم نشأة أخرى لم تكن في أعيانهم فيعلمون بتغير الأحوال عليهم أنهم تحت حكم قهار فيكونون في حال وجودهم مثل حالهم في العدم ولهذا نبه الحق سبحانه عقولنا بقوله تعالى أَ ولا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ من قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئاً أي قدرناه في حال شيئيته المتوجه عليها أمره إلى شيئية أخرى لقوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ يعني في حال عدمه أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ كلمة وجودية من التكوين فسماه شيئا في حال لم تكن فيه الشيئية المنفية بقوله ولَمْ تَكُ شَيْئاً فلا بد أن يعقل العارف ما الشيئية الثابتة له في حال عدمه في قوله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ وما الشيئية المنفية عنه في حال عدمه في قوله ولَمْ تَكُ شَيْئاً فالظلمة التي خلق الله فيها الخلق نفي هذه الشيئية عنهم والنفي عدم محض لا وجود فيه وقد ذكر المفسرون معنى قوله في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ وليس المقصود إلا ما ذكره صاحب السؤال وأما الآية فمعلوم أمرها عند العلماء بالله في خلق مخصوص وهو الخلق في الرحم لا غير انتهى الجزء الثاني والثمانون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال الحادي والعشرون) فما قصتهم هناك يعني قصة المخلوقين‏

الجواب قصتهم هناك الانتظار لما يكسوهم الحق من حلل نور الوجود لكل مخلوق نور على قدره ينفق منه وهو النور الذي يمشون فيه يوم القيامة

[النور المبطون في الأعيان والنور المبطون في ظلمة الليل‏]

فإن يوم القيامة ليس له ضوء جملة واحدة والناس لا يسعون فيه إلا في أنوارهم ولا يمشي مع أحد منهم غيره في نوره كما

قال عليه السلام بشر المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة

وهو الجمع بين النورين بين نورهم المبطون في أعيانهم الظاهر هناك وبين النور المبطون في ظلمة الليل الذي ينوب عنه السراج في نفي تلك الظلمة عن طريق الماشي‏

[المسجد بيت الله يسعى إليه لمناجاته‏]

والمسجد بيت الله يسعى إليه لمناجاته كذلك هذا النور لا يكون لهم إلا في الوقت الذي يدعون فيه إلى رؤية ربهم الذي ناجوه هنا فيمشون في ذلك الوقت في النور الذي كان مبطونا في الظلمة التي سعوا فيها في صلاة الصبح والعشاء إلى المساجد وانتظارهم هو انتظار حال فإنهم غير موصوفين في تلك الظلمة بالعلم لأن الاتصاف بالعلم تابع للوجود وهم غير موجودين بل هم في شيئيتهم القابلة لقول التكوين‏

[الظلمة ظرف للخلق‏]

ولما جعل الظلمة ظرفا للخلق كذلك قال هناك فأتى بما يدل على الظرف فهم قابلون للتقدير وإن كان قوله في ظلمة في موضع الحال من الخالق فيكون المراد به العماء الذي ما فوقه هواء وما تحته‏

هواء الذي‏

أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة للحق تعالى حين قيل له أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق فقال صلى الله عليه وسلم كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء

فنزه أن يكون تصريفه للأشياء على الأهواء فإنه لما كنى عن ذلك الوجود بما هو اسم للسحاب محل تصريف الأهواء نفى أن يكون فوق ذلك العماء هواء أو تحته هواء فله الثبوت الدائم لا على هواء ولا في هواء فإن السؤال وقع بالاسم الرب ومعناه الثابت يقال رب بالمكان إذا أقام فيه وثبت فطابق الجواب‏

[العماء كالوجود: قديم في القديم حادث في المحدث‏]

ولم يصف الحق نفسه في مخلوقاته إلا بقوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ وقال كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فتخيل من لا فهم له تغير الأحوال عليه وهو يتعالى ويتقدس عن التغيير بل الحالات هي متغيرة ما هو يتغير بها فإنه الحاكم ولا حكم عليه فجاء الشارع بصفة الثبوت الذي لا تقبل التغيير فلا تصرف آياته يد الأهواء لأن عماءه لا يقبل الأهواء وذلك العماء هو الأمر الذي ذكرنا أنه يكون في القديم قديما وفي المحدث محدثا وهو مثل قولك أو عين قولك في الوجود إذا نسبته إلى الحق قلت قديم وإذا نسبته إلى الخلق قلت محدث فالعماء من حيث هو وصف للحق هو وصف إلهي ومن حيث هو وصف للعالم هو وصف كياني فتختلف عليه الأوصاف لاختلاف أعيان الموصوفين‏

[الكلام القديم والذكر المحدث‏]

قال تعالى في كلامه القديم الأزلي ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فنعته بالحدوث لأنه نزل على محدث لأنه حدث عنده ما لم يكن يعلمه فهو محدث عنده بلا شك ولا ريب وهذا الحادث هل هو محدث في نفسه أو ليس بمحدث فإذا قلنا فيه إنه صفة الحق التي يستحقها جلاله قلنا بقدمها بلا شك فإنه يتعالى أن تقوم الصفات الحادثات به فكلام الحق قديم في نفسه قديم بالنسبة إليه محدث أيضا كما قال عند من أنزل عليه كما أنه أيضا من وجوه قدمه نسبته إلى الحدوث بالنظر إلى من أنزل عليه فهو الذي أيضا أوجب له صفة القدم إذ لو ارتفع الحدوث من المخلوق لم يصح نسبة القدم ولم تعقل فلا تعقل النسب التي لها أضداد إلا بأضدادها فقصة الخلق في الظلمة التهيؤ والقبول في الأعيان لظهور الحق في صور الوجود لهذه الأعيان‏

(السؤال الثاني والثلاثون) وكيف صفة المقادير

الجواب المقادير هي الصفات الذاتية للأشياء فلا صفة لها فهي الحدود المانعة من هو متصف بها أن تكون صفة لغيره وعندي في حد الحد نظر

[مراتب الحدود الثلاث الذاتية الرسمية اللفظية]

فإن أراد بقوله صفة المقادير المنع ويجعله صفة من حيث إنك تعبر عنها بأمر هو عينها بعد علمك بهذا فقل إن هذا صفة المقدار وإن أردت الحقيقة فلا صفة للمقادير لأن الشي‏ء لا يكون صفة لنفسه فإن قلت فالصفات النفسية ما هي بأمر زائد على الذات قلنا صدقت قال فإذا قد وصفت الشي‏ء بنفسه قلت إن كان غير مركب فالوصف فيه عين إطلاق لفظ يكون شرحا للفظ آخر عند السامع يقع به الإفهام عنده وإن كان الشي‏ء مركبا فذلك الوصف للمجموع وحكم الشي‏ء من كونه مجموعا غير حكمه من كونه غير مجموع فأنت إنما ذكرت آحاد ذلك المجموع المعقول من هذه الجمعية أمرا ما هو عين كل مفرد من هذا المجموع فهذا الشي‏ء الموصوف بصفاته النفسية إنما تلك أسماء آحاده أ لا ترى الذات لا توصف رأسا فإنها لذاتها هي ذات ولذاتها لا تقبل الوصف ثم لما قلت الله من حيث المرتبة استحق أن يوصف من حيث هذا الاسم بما يطلبه هذا الاسم من الحقائق التي تعينها المحدثات المعبر عنها بالأسماء فما ثم شي‏ء يوصف بنفسه إلا من حيث شرح لفظ بلفظ آخر ولذا قسمنا الحدود إلى ثلاث مراتب ذاتية ورسمية ولفظية فالمقادير جمع مقدار والأقدار جمع قدر فلا يلتبس عليك المقادير بالأقدار فبعض المقادير محل تأثير الأقدار فاعلم فحدود الأمور الذاتية عين مقاديرها فالوزن القدر والموازين المقادير وبها توزن الأشياء فالأمور لا تعلم إلا بحدودها ومن لا حد له فذلك حده فقد علم‏

(السؤال الثالث والثلاثون) فما سبب علم القدر الذي طوى عن الرسل فمن دونهم‏

الجواب في السؤال حذف وهو أن يقول ما سبب طي علم القدر الذي طوى عن الرسل فمن دونهم‏

[علم القدر لا يعلم وقد يعلم سره وتحكمه في الخلائق‏]

فإن كان هذا الرجل يقول بفضل أفضل البشر على أفضل الملائكة فكأنه قال الذي طوى عن كل ما سوى الله وإن كان يرى أن أفضل الملائكة أفضل من أفضل البشر فقوله فمن دونهم لا يلزم أن من هو أفضل من الرسل طوى عنه علم القدر فقد يمكن عنده أن يكون من هو أعلى يعلم ذلك فبقي الجواب عما يقتضيه الأمر في نفسه هل ثم من يعلم علم القدر أم لا قلنا لا ولكن قد يعلم سره وتحكمه في الخلائق وقد أعلمنا به فعلمناه بحمد الله وأن مظاهر الحق في أعيان الممكنات المعبر عنها بالعالم هي‏

آثار القدر وهي علامة على وجود الحق ولا دليل أدل على الشي‏ء من نفسه فلم يعلم الحق بغيره بل علم بنفسه ونسبة الوجود إلى هذه الأعيان قد قلنا إن ذلك أثر القدر فنعلم القدر بأثره ونعلم الحق بوجوده وذلك لأن القدر نسبة مجهولة خاصة والحق وجود فيصح تعلق العلم بالحق ولا يصح تعلق العلم بالقدر فإن علمنا بظهور المظهر في العين هو عين علمنا بالحق والقدر مرتبة بين الذات وبين الحق من حيث ظهوره لا يعلم أصلا وحكمه في المظاهر حكم الزمان في عالم الأجسام فلهذا يطلقه أكثر المحققين على الأوقات المعقولة

[الأزل لا يقبل السؤال عن العلل‏]

وقد أعلمناك أن الزمان نسبة معقولة غير موجودة ولا معدومة وهو في الكائنات فالوقت أعز مقاما في امتناع العلم به أو تصوره فلا ينال أبدا وقد كان العزيز رسول الله عليه السلام كثير السؤال عن القدر إلى أن قال له الحق تعالى يا عزيز لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة ويقرب منه السؤال عن علل الأشياء في تكويناتها فأفعال الحق لا ينبغي أن تعلل فإنه ما ثم علة موجبة لتكوين شي‏ء إلا عين وجود الذات وقبول عين الممكن لظهور الوجود فالأزل لا يقبل السؤال عن العلل وإن ذلك لا يصدر إلا من جاهل بالله‏

[علم القدر هو المعلوم المجهول‏]

فالسبب الذي لأجله طوى علم القدر هو أن له نسبة إلى ذات الحق ونسبة إلى المقادير فعز أن يعلم عز الذات وعز أن يجهل لنسبة المقادير فهو المعلوم المجهول فأعطى التكليف في العالم فاشتغل العالم بما كلفوا ونهوا عن طلب العلم بالقدر ولا يعلم إلا بتقريب الحق وشهوده شهودا خاصا لعلم هذا المسمى قدرا فأولياء الله وعباده لا يطلبون علمه للنهي الوارد عن طلبه فمن عصى الله وطلبه من الله وهو لا يعلم بالنظر الفكري فلم يبق إلا أن يعلم بطريق الكشف الإلهي والحق لا يقرب من عصاه بمعصيته وطالب هذا العلم قد عصاه في طلبه فلا ينال من طريق الكشف وما ثم طريق آخر يعلم به علم القدر فلهذا كان مطويا عن الرسل فمن دونهم وإن نزع أحد إلى أن السائل اعتبر بسؤاله معنى الرسالة فمن حيث إنهم رسل طوى عنهم في هذه المرتبة ومن دونهم من أرسل إليهم وذلك هو التكليف فسد الله باب العلم بالقدر في حال الرسالة فإن علموه فما علموه من كونهم رسلا بل من كونهم من الراسخين في العلم فقد ينال على هذا لو لا ما بيناه من أن مرتبته بين الذات والمظاهر فمن علم الله علم القدر ومن جهل الله جهل القدر والله سبحانه مجهول فالقدر مجهول فمن المحال أن يعرف المألوه الله لأنه لا ذوق له في الألوهة فإنه مألوه ولله ذوق في المألوهية لكونه يطلبها في المألوه كما يطلبه المألوه فمن هناك وصف الحق نفسه بما وصف به مظاهره من التعجب والضحك والنسيان وجميع الأوصاف التي لا تليق إلا بالممكنات‏

[سر القدر عين تحكمه في المقادير كما الوزن متحكم في الموزون‏]

فسر القدر عين تحكمه في المقادير كما إن الوزن متحكم في الموزون والميزان نسبة رابطة بين الموزون والوزن بها يتعين مقدار الموزون ومقادير الموزونات على اختلافها فالحق وضع الميزان وقال وما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ويستحقه من أنزل إليه فكل شي‏ء بقضائه أي بحكمه وقدره أي وزنه وهو تعيين وقت حالا كان وقته أو زمانا أو صفة أو ما كان فظهر إن سبب طي علم القدر سبب ذاتي والأشياء إذا اقتضت الأمور لذواتها لا للوازمها أو أعراضها لم يصح أن تتبدل ما دامت ذواتها والذوات لها الدوام في نفسها لا لنفسها فوجود العلم بها محال‏

(السؤال الرابع والثلاثون) لأي شي‏ء طوى‏

الجواب هذا سؤال اختبار إن كان السائل عالما فإنه من المعلومات ما يعلل ومنها ما لا يعلل هذا في المعلومات فكيف ما لا يعلم كيف يصح أن يعلل الجهل به‏

[الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما لا يصح وقوعه‏]

وأما من يرى أن القدر معلوم لمن فوق مرتبة الرسل من الملائكة أو من شاء الله من خلقه الذي لا علم لنا بأجناس خلقه فيكون طيه حتى لا يشارك الحق في علم حقائق الأشياء من طريق الإحاطة بها إذ لو علم أي معلوم كان بطريق الإحاطة من جميع وجوهه كما يعلمه الحق لما تميز علم الحق عن علم العبد بذلك الشي‏ء ولا يلزمنا على هذا الاستواء فيما علم منه فإن الكلام فيما علم منه على ذلك فإن العبد جاهل بكيفية تعلق العلم مطلقا بمعلومه فلا يصح أن يقع الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما ومن المعلومات العلم بالعلم وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا الله فلو علم القدر علمت أحكامه ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شي‏ء وما احتاج إلى الحق في شي‏ء وكان الغني له على الإطلاق فلما كان الأمر بعلم القدر يؤدي إلى هذا طواه الله عن عباده فلا يعلم فكل شخص في العالم على جهل من نفسه وعلم فمن حيث جهله يفتقر ويسأل ويخضع ويتضرع ويعلمه بجهله يقع منه هذا الوصف هذا إذا اتفق أن يكون ممكنا العلم به وقد قررنا أنه محال لذاته كما يعلم أنه ليس للحق من‏

الصفات النفسية سوى واحدة لأحديته وهي عين ذاته فليس له فصل مقوم يتميز به عما وقع له من الاشتراك فيه مع غيره بل له الأحدية الذاتية التي لا تعلل ولا تكون علة فهي الوجود وما هي‏

[أسنى ما تمدح به الإنسان العلم بالقدر]

ومن الأسباب التي لأجلها طوى علم ذلك عن الإنسان لكون ذات الإنسان تقتضي البوح به لأنه أسنى ما يمدح به الإنسان ولا سيما الرسل فحاجتهم إليه آكد من جميع الناس لأن مقام الرسالة يقتضي ذلك وما ثم علم ولا آية أقرب دلالة على صدقهم من مثل هذا العلم‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وصف ربه به مما أوحى إليه به أنه لا شي‏ء أحب إلى الله تعالى من أن يمدح‏

ولا مدحة فوق المدحة بمثل هذا ثم إن الله خلق آدم على صورته فلا شي‏ء أحب إلى العبد من أن يمدح ويثنى عليه وأسنى ما يمدح به العبد العلم بالله وعلمه بالقدر علمه بالله فلو فتح للعبد الإنساني العلم بالقدر وقد أمر بالغيرة فيه وطيه عمن لا ينبغي أن يظهر عليه وكان الإنسان وهو مجبول على حب المدح والرسالة تعطي الرغبة في هداية الخلق أجمعين ولا طريق للهداية أوضح من هذا الفن فالذي كانوا يلقونه من الكتم من الألم والعذاب في أنفسهم لا يقدر قدره فخفف الله عن الرسل مثل هذا الألم فطواه عنهم فإن جميع العالم ممن له قوة على إيصال ما في نفسه من الأمور إلى الخلق يكتمون علم مثل هذا وغيره إذا كان عندهم إلا الجن والإنس فإن النشأة من هذه القوي العنصرية تقتضي لهم ذلك فمن كتم منهم فإنما يكتم على كره مما ينبغي أن يمدح به إذا بثه ولو لا إن البهائم لم تعط لها قوة التوصيل لأعلمت بما تشاهده من الأمور الغيبية التي أمر الله من يعلمها بسترها مثل خوار الميت على نعشه وعذاب القبر وحياة الشهداء فكل دابة تسمعه وتصغي يوم الجمعة شفقا من الساعة ولكن لما كوشفت على مثل هذا أعطيت الخرس عن التوصيل فكتمها الأشياء اضطراري لا اختياري فطواه الله عن الثقلين لذلك فإنه من الأسرار المكتومة فهذا من الأسباب التي طوى لها علم القدر

(السؤال الخامس والثلاثون) متى ينكشف لهم سر القدر

الجواب سر القدر غير القدر وسره عين تحكمه في الخلائق وإنه لا ينكشف لهم هذا السر حتى يكون الحق بصرهم فإذا كان بصرهم بصر الحق ونظروا للأشياء ببصر الحق حينئذ انكشف لهم علم ما جهلوه إذ كان بصر الحق لا يخفى عليه شي‏ء

[لا ينكشف للعبد سر القدر حتى يكون الحق منه مل‏ء البصر]

قال تعالى إِنَّ الله لا يَخْفى‏ عَلَيْهِ شَيْ‏ءٌ في الْأَرْضِ ولا في السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ في الْأَرْحامِ لكونها مظلمة تمدح بإدراك الأشياء فيها كيف يشاء من أنواع الصور والتصوير لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ أي المنيع الذي نسب لنفسه الصورة لا عن تصوير ولا تصور الحكيم بما تعطيه الاستعدادات المسواة لقبول الصور فيعين لها من الصور ما شاء مما قد علم أنها مناسبة له‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى أنه قال ما تقرب أحد بأحب إلي من أداء ما افترضته عليه لأنها عبودية اضطرار ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل وهي عبودية اختيار حتى أحبه‏

إذ جعلها نوافل فاقتضت البعد من الله فلما ألزم عبودية الاختيار نفسه لزوم عبودية الاضطرار أحبه فهو معنى قوله تعالى حتى أحبه‏

ثم قال فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به‏

الحديث فإذا كان الحق لهذه الحالة بصر العبد كيف يخفى عليه ما ليس يخفى فأعطته النوافل واللزوم عليها أحكام صفات الحق وأعطته الفرائض أن يكون كله نورا فينظر بذاته لا بصفته فذاته عين سمعه وبصره فذلك وجود الحق لا وجوده والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(السؤال السادس والسابع والثلاثون) أين ينكشف لهم ولمن ينكشف منهم‏

الجواب في حال الانفعال عنهم والاتحاد بهم‏

[المظاهر: أقسامها وعلاماتها]

وذلك أن من المظاهر من يعلم أنه مظهر ومن المظاهر من لا يعلم أنه مظهر فيتخيل أنه عن الحق أجنبي وعلامة من يعلم أنه مظهر أن تكون له مظاهر حيث شاء من الكون كقضيب البان فإنه كان له مظاهر فيما شاء من الكون لا حيث ما شاء من الكون وإن من الرجال من يكون له الظهور فيما شاء من الكون لا حيث شاء ومن كان له الظهور حيث شاء من الكون كان له الظهور فيما شاء من الكون فتكون الصورة الواحدة تظهر في أماكن مختلفة وتكون الصور الكثيرة على التعاقب تلبس الذات الواحدة في عين المدرك لها فإذا حصل الإنسان في المكان الذي يعرف فيه تجلى الحق في الصور المختلفة للشخص الواحد أو الأشخاص الكثيرين فمعرفته بتلك الحيثية لا تكون إلا

ذوقا ومن عرف مثل هذا ذوقا كان متمكنا من الاتصاف بمثل هذه الصفة وهذا هو علم سر القدر الذي ينكشف لهم إذا كانوا في هذا المنزل وبهذه القوة

(السؤال الثامن والثلاثون) ما الإذن في الطاعة والمعصية من ربنا

الجواب قال تعالى إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فالإذن الذي تشترك فيه الطاعة والمعصية هو الأذن الإلهي في كون المأذون فيه فعلا لا من طريق الحكم لأن حكمه في الأشياء بالطاعة والمعصية هو عين علمه بها بهذه الحالة فلا يكون مرادا فلا يكون الحكم مأمورا به والمحكوم به وعليه هو المراد والمأمور به فلا يصح الأذن في الطاعة والمعصية من حيث إنها طاعة ومعصية

[الكل من عند الله وليس الكل من الله‏]

قال تعالى وإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ من عِنْدِ الله وإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ من عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ من عِنْدِ الله من حيث إنها فعل فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فأنكر عليهم أن تكون السيئة من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما قال في موسى يَطَّيَّرُوا بِمُوسى‏ ومن مَعَهُ فقال لهم وما أَصابَكَ من سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ لا من محمد صلى الله عليه وسلم فاحتجاجنا في مسألتنا إنما هو بقوله قُلْ كُلٌّ من عِنْدِ الله فأضاف الكل إلى الله والكل خير وهو بيده والشر ليس إليه فأوهم السائل المسئول بلفظ الطاعة والمعصية ليرى ما عنده من العلم فإنه سؤال ابتلاء منه لمدعي علم الحقائق من طريق الكشف وقد قررنا هذا الفصل في كتاب المعرفة لنا

(السؤال التاسع والثلاثون) وما العقل الأكثر الذي قسمت العقول منه لجميع خلقه‏

الجواب لما كان في نفس الأمر يقتضي أن يكون مراتب المعلومات من الممكنات ثلاثا مرتبة للمعاني المجردة عن المواد التي من شأنها أن تدرك بالعقول بطريق الأدلة والبداية ومرتبة من شأنها أن تدرك بالحواس وهي المحسوسات ومرتبة من شأنها أن تدرك بالعقل أو الحواس وهي المتخيلات وهي تشكل المعاني في الصور المحسوسة تصورها القوة المصورة الخادمة للعقل يقتضي ذلك أمر يسمى الطبيعة فيما ينشأ منها من الأجسام الإنسانية والجنية

[حضرة الخيال وتوضيح أسباب السعادة على ألسنة الرسل‏]

فلما إن شاء الله أن يوضح للمكلفين من عباده أسباب سعادتهم على ألسنة رسله من البشر إليهم بوساطة الروح العلوي المنزل بذلك على قلوب بعض البشر المسمين رسلا وأنبياء أجرى المعاني في المخاطبات مجرى المحسوسات في الصور التي تقبل التجزي والانقسام والقلة والكثرة وجعل محل ذلك حضرة الخيال فحصروا المعاني في الخطاب فتلقتها بالتشبيه العقول كما تتلقى بالمحسوسات التي شبهت بها هذه المعاني التي ليس من شأنها بالنظر إلى ذاتها أن تكون متحيزة أو منقسمة أو قليلة أو كثيرة أو ذات حد ومقدار وكيف وكم وجعل لنا الدليل على قبول ما أتى به من هذا القبيل في هذه الصور ما يراه النائم في نومه من العلم في صورة اللبن فيشربه حتى يرى الري يخرج من أظفاره فقيل له ما أولته يا رسول الله يريد ما تؤول إليه صورة ما رأيت فقال العلم ومعلوم أن العلم ليس بجسم يسمى لبنا ولا هو لبن وإنما هو معنى مجرد عن الصور التي من شأنها أن تدركها الحواس‏

[تقسيم العقول على الناس‏]

فكان منها ما قال الشارع في تقسيم العقول على الناس كما تقسم الحبوب فمن الناس من حصل له من العقل الممثل في الصور التي من شأنها أن تكال القفيز والقفيزين والأكثر والأقل والمد والمدين والأكثر من ذلك والأقل ليبين بهذا تفاضل الناس في العقول لأنه المشهود عندنا لأنا نرى أشخاصا كلهم يتصفون بأنهم عقلاء ذوو أحلام فمنهم من يدرك عقله غوامض الأسرار والمعاني ويحمل صورة الكلمة الواحدة من الحكيم على خمسين وجها ومائة وأكثر وأقل من المعاني الغامضة والعلوم العالية المتعلقة بالجناب الإلهي أو الروحاني أو الطبائع أو العلم الرياضي أو الميزان المنطقي وعقل شخص ينزل عن هذه الدرجة إلى ما هو أقل وآخر ينزل دون هذا الأقل وعقل آخر يعلو فوق هذا الأكبر فلما شاهدنا تفاوت العقول احتجنا أن نقسمها على الأشخاص تقسيم الذوات التي تقبل الكثرة والقلة ويسمى المعنى القابل لهذه القسمة المعنوية الممثلة العقل الأكثر أي الذي قسمت منه هذي العقول التي في العقلاء من الموجودات بحسب ما بينهم من التفاوت‏

[صورة تكوين العقول من العقل الأكثر]

وصورة تكوين العقول من هذا العقل الأكبر في تحقيق الأمر بطريق التمثيل والتشبيه الأقرب إلى المناسب بالسراج الأول فتوقد منه جميع الفتائل فتتعدد السرج بعدد الفتائل وتقبل الفتائل من نور ذلك السراج بحسب استعداداتها ففتيلة طبيعية في غاية النظافة صافية الدهن وافرة الجسم يكون قبولها أعظم في اتساع النور وفي‏

كمية جسم النور وأكبر من فتيلة نزلت عن هذه في الصفة من النظافة والصفاء فكان التفاوت بين الأنوار بحسب استعدادات الفتائل ومع هذا فلم ينقص من السراج الأول شي‏ء بل هو على كماله كما كان وكل سراج من هذه السرج يضاهيه ويقول أنا مثله وبأي شي‏ء فضل علي وأنا يؤخذ مني كما يؤخذ منه ويصول ويقول وما يرى فضله عليه من وجه إنه الأصل وله التقدم والثاني إنه في غير مادة ولا واسطة بينه وبين ربه وما عداه فلم يظهر له وجود إلا به وبالمواد التي قبلت الاشتعال منه فظهرت أعيان العقول هذا كله غاب عنها بل ما لها فيه ذوق كيف يدرك من لا وجود له إلا بين أب وأم حقيقة من كان وجوده عن غير واسطة

[العقول عاجزة عن إدراك العقل الأول وخالقه‏]

وإذا كانت العقول تعجز عن إدراك العقل الأول التي ظهرت عنه فعجزها عن إدراك خالق العقل الأول وهو الله تعالى أعظم فإنه أول ما خلق الله العقل وهو الذي ظهرت منه هذه العقول بوساطة هذه النفوس الطبيعية فهو أول الآباء وسماه الله في كتابه العزيز الروح وأضافه إليه فقال في حق النفوس الطبيعية وحق هذا الروح وحق هذه الأرواح الجزئية التي لكل نفس طبيعية فَإِذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ من رُوحِي وهو هذا العقل الأكبر ولهذا يقال فيه العقل الغريزي معناه الذي اقتضته هذه النشأة الطبيعية باستعدادها الذي هو عبارة عن تسويتها وتعديلها لقبول هذا الأمر

[الواحد أصل كل متكثر]

واعلم أن أصل كل متكثر الواحد فالأجسام ترجع إلى جسم واحد والأنفس ترجع إلى نفس واحدة والعقول ترجع إلى عقل واحد ولكن لا يكون من الواحد الكثرة بمجرد أحديته بل بنسب إذا تأملت ما ذكرناه وجدته كذلك فيكون كان ذلك الواحد انقسم إلى هذه الكثرة لا أنه انقسم في نفسه إما لكونه لا يقبل القسمة كالنفوس والعقول والأصل المرجوع إليه وإما لكونه في قوته أن تكون منه هذه الكثرة من غير أن ينقص منه من حيث جسميته كالجسوم التي يتولد عنها الحيوان بماء أو ريح فذلك الماء أو الريح ليس هو من حد هذا الجسم الذي تكون عنه ما تكون‏

(السؤال الأربعون) ما صفة آدم عليه السلام‏

الجواب إن شئت صفته الحضرة الإلهية وإن شئت مجموع الأسماء الإلهية وإن شئت‏

قول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته‏

فهذه صفته فإنه لما جمع له في خلقه بين يديه علمنا أنه قد أعطاه صفة الكمال فخلقه كاملا جامعا ولهذا قبل الأسماء كلها فإنه مجموع العالم من حيث حقائقه فهو عالم مستقل وما عداه فإنه جزء من العالم‏

[نسبة الإنسان إلى الحق في الدنيا وفي الآخرة]

ونسبة الإنسان إلى الحق من جهة باطنه أكمل في هذه الدار الدنيا وأما في النشأة الآخرة فإن نسبته إلى الحق من جهة الظاهر والباطن وأما الملك فإن نسبته من جهة الظاهر إلى الحق أتم ولا باطن للملك ولكن إلى الحق من حيث هو مسمى الله لا من حيث ذاته فإنه من حيث ذاته هو لذاته ومن حيث مسمى الله يطلب العالم فكان العالم لم يعلم من الحق سوى المرتبة وهي كونه ألها ربا ولهذا لا كلام له فيه إلا في هذه النسب والإضافات‏

[حكم الظاهر على الإنسان‏]

وسمي بآدم لحكم ظاهره عليه فإنه ما عرف منه سوى ظاهره كما أنه ما عرف من الحق سوى الاسم الظاهر وهو المرتبة الإلهية فالذات مجهولة وكذلك كان آدم عند العالم من الملائكة فمن دونهم مجهول الباطن وإنما حكموا عليه بالفساد أي بالإفساد من ظاهر نشأته لما رأوها قامت من طبائع مختلفة متضادة متنافرة فعلموا أنه لا بد أن يظهر أثر هذه الأصول على من هو على هذه النشأة فلو علموا باطنه وهو حقيقة ما خلقه الله عليه من الصورة لرأوا الملائكة جزءا من خلقه فجهلوا أسماءه الإلهية التي نالها بهذه الجمعية لما كشف له عنه فأبصر ذاته فعلم مستنده في كل شي‏ء ومن كل شي‏ء

[الإنسان للعالم كالروح من الجسد]

فالعالم كله تفصيل آدم وآدم هو الكتاب الجامع فهو للعالم كالروح من الجسد فالإنسان روح العالم والعالم الجسد فبالمجموع يكون العالم كله هو الإنسان الكبير والإنسان فيه وإذا نظرت في العالم وحده دون الإنسان وجدته كالجسم المسوي بغير روح وكمال العالم بالإنسان مثل كمال الجسد بالروح والإنسان منفوخ في جسم العالم فهو المقصود من العالم واتخذ الله الملائكة رسلا إليه ولهذا سماهم ملائكة أي رسلا من المالكة وهي الرسالة فإن أخذت الشرف بكمال الصورة قلت الإنسان أكمل وإن أخذت الشرف بالعلم بالله من جانب الحق لا من طريق النظر فالأفضل والأشرف من شرفه الله بقوله هذا أفضل عندي فإنه لا تحجير عليه في إن يفضل من شاء من عباده فإن العلم بالله الذي يقع به الشرف لا حد له ينتهي إليه‏

(السؤال الحادي والأربعون) ما توليته‏

الجواب إن الله تولاه بثلاث منها توليته في خلقه بيديه ومنها

بما علمه من الأسماء التي ما تولى بها ملائكته ومنها الخلافة وهي قوله إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً فإن كان قوله خَلِيفَةً لقوله وفي الْأَرْضِ إِلهٌ فهو نائب الحق في أرضه وعليه يقع الكلام وإن أراد بالخلافة أنه يخلف من كان فيها لما فقد فما نحن بصدد ذلك وكان المقصود النيابة عن الحق بقوله خَلِيفَةً لقولهم من يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ وهذا لا يقع إلا ممن له حكم ولا حكم إلا لمن له مرتبة التقدم وإنفاذ الأوامر

[الخلافة التي هي بمعنى النيابة عن الله في خلقه‏]

فأما مقصود السائل فإنه يريد الخلافة التي هي بمعنى النيابة عن الله في خلقه فأقامه بالاسم الظاهر وأعطاه علم الأسماء من حيث ما هي عليه من الخواص التي يكون عنها الانفعالات فيتصرف بها في العالم تصرفها فإنه لكل اسم خاصة من الفعل في الكون يعلمها من يعلم علم الحروف وترتيبها من حيث ما هي مرقومة ومن حيث ما هي متلفظ بها ومن حيث ما هي متوهمة في الخيال‏

[خاصيات الحروف مرقومة وملفوظة ومتوهمة في الخيال‏]

فمنها ما له أثر في العالم الأعلى وتنزيل الروحانيات بها إذا ذكرت أو كتبت في عالم الحس ومنها ما له أثر في العالم الجبروتي من الجن الروحاني ومنها ما يؤثر ذكره في خيال كل متخيل وفي حس كل ذي حس ومنها ما له أثر في الجانب إلا حي الأعلى الذي هو موضع النسب ولا يعرف هذا التأثير الواحد وأسماءه إلا الأنبياء والمرسلون سلام الله عليهم وهي أسماء التشريع والعمل بتلك الشرائع هو المؤثر في هذا الجناب النسبي وهو جناب عزيز لا يشعر به جعله الحق سبحانه موضع أسراره ومجلى تجلياته وهو الذي يعطي النزول والاستواء والمعية والفرح والضحك والمقدار وما يفهم منه من الآلات التي لا تكون إلا لذوات المقادير والكميات والكيفيات‏

[آدم نائب عن الاسم إله وهذا الاسم هو باطنه‏]

وقال تعالى وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إِلهٌ فجاء بالهوية بما ينبغي أن يظهر به في السموات من الألوهية بالاسم الذي يخصها وفي الْأَرْضِ إِلهٌ بالاسم الذي ينبغي أن يظهر به في الأرض من كونه إلها فكان آدم نائبا عن هذا الاسم وهذا الاسم هو باطنه وهو المعلم له علم التأثيرات التي تكون عن الأسماء الإلهية التي تختص بالأرض حيث كانت خلافته فيها وهكذا هو كل خليفة فيها ولهذا قال جَعَلَكُمْ خَلائِفَ في الْأَرْضِ أي يخلف بعضنا بعضا فيها في تلك المرتبة مع وجود التفاضل بين الخلفاء فيها وذلك لاختلاف الأزمان واختلاف الأحوال فيعطي هذا الحال والزمان من الأمر ما لا يعطيه الزمان والحال الذي كان قبله والذي يكون بعده ولهذا اختلفت آيات الأنبياء باختلاف الأعصار فآية كل خليفة ورسول من نسبة ما هو الظاهر والغالب على ذلك الزمان وأحوال علمائه أي شي‏ء كان من طب أو سحر أو فصاحة وما شاكل هذا وهو قوله ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يقول للخلفاء لِيَبْلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وهاتان الصفتان لا تكونان إلا لمن بيده الحكم والأمر والنهي‏

[خلافة السلطنة والملك هي التولية الإلهية]

فهذا النسق يقوي أنه أراد خلافة السلطنة والملك وهي التولية الإلهية وأعظم تأثيراتها الفعل بالهمة من حيث إن النفس ناطقة لا من حيث الحرف والصوت المعتاد في الكلام اللفظي فإن الهمة من غير نطق النفس بالنطق الذي يليق بها وإن لم يشبه نطق اللسان لا يكون عنها انفعال بوجه من الوجوه عند جماعة أصحابنا وأوقعهم في هذا الإشكال حكم النيابة عن الله الذي إذا أراد شيئا وهو المعبر فينا بالهمة أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وهو المعبر عنه فينا بالنطق أو الكلام بحسب ما يليق بالمنسوب إليه ذلك فما اكتفى سبحانه في حق نفسه بالإرادة حتى قرن معها القول وحينئذ وجد التكوين ولا يمكن أن يكون النائب عنه وهو الخليفة بأبلغ في التكوين ممن استخلفه فلهذا لم يقتصروا على الهمة دون نطق النفس‏

[لا بد من أمور ثلاث لوجود التكوين والإنتاج في المعلوم‏]

وأما نحن فنقول بهذا في موطنه وهو صحيح غير أن الذات غاب عنهم ما تستحقه لكون المرتبة لا تعقل دونها فكان كون المرتبة إنما هو عن الذات بلا شك لأن الذات تطلبها طلبا ذاتيا لا طلبا يتوقف على همة وقول بل عين همتها وقولها هو عين ذاتها فكون الألوهة لها هو ما يكون عن ذات الخليفة من حيث إنها ذات خليفة فهي الذات الخلافية لا ذات الخلق التي هي نشأة جسمه وروحه ومع هذا فلا بد من النسب الثلاث لوجود التكوين عقلا في موازين العلوم وشرعا فأما في العقل فأصحاب الموازين يعرفون ذلك وأما في الشرع فإنه قوله إِنَّما قَوْلُنا فهذا الضمير الذي هو النون من قولنا عين وجود ذاته تعالى وكناية عنه فهذا أمر واحد وقوله إِذا أَرَدْناهُ أمر ثان وقوله أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ أمر ثالث فذات مريده قائلة يكون عنها التكوين بلا شك فالاقتدار الإلهي على التكوين لم يقم إلا من اعتبار ثلاثة أمور شرعا وكذلك هو الإنتاج في العلوم بترتيب المقدمات‏

وإن كانت كل مقدمة مركبة من محمول وموضوع فلا بد أن يكون أحد الأربعة يتكرر فيكون في المعنى ثلاثة وفي التركيب أربعة فوقع التكوين عن الفردية وهي الثلاثة لقوة نسبة الفردية إلى الأحدية فبقوة الواحد ظهرت الأكوان فلو لم يكن الكون عينه لما صح له ظهور فالوجود المنسوب إلى كل مخلوق هو وجود الحق إذ لا وجود للممكن لكن أعيان الممكنات قوابل لظهور هذا الوجود فتدبر ما ذكرناه في هذه التولية التي سأل عنها سمينا وابن سمي أبينا محمد بن علي الترمذي في كتاب ختم الأولياء له وهي هذه المسائل التي أذكرها في هذا الباب‏

(السؤال الثاني والأربعون) ما فطرته يعني فطرة آدم أو الإنسان‏

الجواب إن أراد فطرته من كونه إنسانا فله جواب أو من كونه خليفة فله جواب أو من كونه إنسانا خليفة فله جواب أو من كونه لا إنسان ولا خليفة فله جواب وهو أعلاها نسبة

[فطرة الإنسان من حيث كونه حقا مطلقا]

فإنه إذا كان حقا مطلقا فليس بإنسان ولا خليفة كما

ورد في الخبر كنت سمعه وبصره‏

فأين الإنسانية هنا إذ لا أجنبية وأين الخلافة هنا وهو الأمر بنفسه فأثبتك ومحاك وأضلك وهداك أي حيرك فيما بين لك فما تبينت إلا الحيرة فعلمت إن الأمر حيرة فعين الهدى متعلقة الضلال فقال أنت وما أنت وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ وما رمى إلا محمد فما رمى إلا الله فأين محمد فمحاه وأثبته ثم محاه فهو مثبت بين محوين محو أزلي وهو قوله وما رَمَيْتَ ومحو أبدى وهو قوله ولكِنَّ الله رَمى‏ وإثباته قوله إِذْ رَمَيْتَ فإثبات محمد في هذه الآية مثل الآن الذي هو الوجود الدائم بين الزمانين بين الزمان الماضي وهو نفي عدم محقق وبين الزمان المستقبل وهو عدم محض وكذلك ما وقع الحس والبصر الأعلى رمى محمد فجعله وسطا بين محوين مثبتا فأشبه الآن الذي هو عين الوجود والوجود إنما هو وجود الله لا وجوده فهو سبحانه الثابت الوجود في الماضي والحال والاستقبال فزال عنه التقييد المتوهم فسبحان اللطيف الخبير ولهذا قال ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً فجاء بالخبرة أي قلنا هذا اختبارا للمؤمنين في إيمانهم لنا في ذلك من تناقص الأمور الذي يزلزل إيمان من في إيمانه نقص عما يستحقه الايمان من مرتبة الكمال الذي في أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فهذا الجواب عن الوجه الرابع الذي هو أصعب الوجوه قد بان‏

[فطرة الإنسان من كونه إنسانا ومن كونه خليفة ومن كونه إنسانا خليفة]

فأما فطرته من حيث ما هو إنسان ففطرته العالم الكبير وأما فطرته من حيث ما هو خليفة ففطرته الأسماء الإلهية وأما فطرته من حيث ما هو إنسان خليفة ففطرته ذات منسوب إليها مرتبة لا تعقل المرتبة دونها ولا تعقل هي دون المرتبة قال تعالى فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ وهو قوله كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما والفطر الشق وقال تعالى فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله وهو الفطرة كما أنه لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ الله وهو قوله ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي قولنا واحد لا يقبل التبديل وقال صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة

فالألف واللام هنا للعهد أي الفطرة التي فطر الله الناس عليها وقد تكون الألف واللام لجنس الفطر كلها لأن الناس أي هذا الإنسان لما كان مجموع العالم ففطرته جامعة لفطر العالم‏

[فطرة آدم فطر جميع العالم‏]

ففطرة آدم فطر جميع العالم فهو يعلم ربه من حيث كل علم نوع من العالم من حيث هو عالم ذلك النوع بربه من حيث فطرته وفطرته ما يظهر به عند وجوده من التجلي الإلهي الذي يكون له عند إيجاده ففيه استعداد كل موجود من العالم فهو العابد بكل شرع والمسبح بكل لسان والقابل لكل تجلى إذا وفي حقيقة إنسانيته وعلم نفسه فإنه لا يعلم ربه إلا من علم نفسه فإن حجبه شي‏ء منه عن درك كله فهو الجاني على نفسه وليس بإنسان كامل ولهذا

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثيرون ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية

يعني بالكمال معرفتهم بهم ومعرفتهم بهم هو عين معرفتهم بربهم فكانت فطرة آدم علمه به فعلم جميع الفطر ولهذا قال وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وكل يقتضي الإحاطة والعموم الذي يراد به في ذلك الصنف وأما الأسماء الخارجة عن الخلق والنسب فلا يعلمها إلا هو لأنه لا تعلق لها بالأكوان وهوقوله عليه السلام في دعائه أو استأثرت به في علم غيبك‏

يعني من الأسماء الإلهية وإن كان معقول الأسماء مما يطلب الكون ولكن الكون لا نهاية لتكوينه فلا نهاية لأسمائه فوقع الإيثار في الموضع الذي لا يصح وجوده إذ كان حصر تكوين ما لا يتناهى محال وأما الذات من حيث هي فلا اسم لها إذ ليست محل أثر ولا معلومة لأحد ولا ثم اسم يدل عليها معرى عن نسبة ولا بتمكين فإن الأسماء للتعريف والتمييز وهو باب ممنوع لكل ما سوى الله فلا يعلم الله إلا الله‏

[الأسماء الإلهية بنا ولنا ومدارها علينا]

فالأسماء بنا ولنا ومدارها علينا وظهورها فينا وأحكامها عندنا وغاياتها إلينا وعباراتها عنا وبداياتها منا

فلولاها لما كنا *** ولولانا لما كانت‏

بها بنا وما بنا *** كما بانت وما بانت‏

فإن خفيت لقد جلت *** وإن ظهرت لقد زانت‏

انتهى الجزء الثالث والثمانون (بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال الثالث والأربعون) ما الفطرة

الجواب النور الذي تشق به ظلمة الممكنات ويقع به الفصل بين الصور فيقال هذا ليس هذا إذ قد يقال هذا عين هذا من حيث ما يقع به الاشتراك‏

[بالفطرة تميز وجود الممكنات من أعيانهم‏]

ف الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ هو قوله الله نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ والعالم كله سماء وأرض ليس غير ذلك وبالنور ظهرت قوله وبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ والله مظهرها فهو نورها فظهور المظاهر هو الله فهو فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ ففطر السماء والأرض به فهو فطرتها والفطرة التي فطر الناس عليها فكل مولود يولد على الفطرة أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ فما فطرهم إلا عليه ولا فطرهم إلا به فبه تميزت الأشياء وانفصلت وتعينت والأشياء في ظهورها الإلهي لا شي‏ء فالوجود وجوده والعبيد عبيده فهم العبيد من حيث أعيانهم وهم الحق من حيث وجودهم فما تميز وجودهم من أعيانهم إلا بالفطرة التي فصلت بين العين ووجودها وهو من أغمض ما يتعلق به علم العلماء بالله كشفه عسير وزمانه يسير

(السؤال الرابع والأربعون) لم سماه بشرا

الجواب قال تعالى ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ على جهة التشريف الإلهي فقرينة الحال تدل على مباشرة خلقه بيديه بحسب ما يليق بجلاله فسماه بشرا لذلك إذ اليد بمعنى القدرة لا شرف فيها على من شرف عليه واليد بمعنى النعمة مثل ذلك فإن النعمة والقدرة عمت جميع الموجودات فلا بد أن يكون لقوله بِيَدَيَّ أمر معقول له خصوص وصف بخلاف هذين وهو المفهوم من لسان العرب الذي نزل القرآن بلغتهم فإذا قال صاحب اللسان إنه فعل هذا بيده فالمفهوم منه رفع الوسائط

[نسبة آدم في الجسوم الإنسانية نسبة العقل الأول في الموجودات الإبداعية]

فكانت نسبة آدم في الجسوم الإنسانية نسبة العقل الأول في العقول ولما كانت الأجسام مركبة طلبت اليدين لوجود التركيب ولم يذكر ذلك في العقل الأول لكونه غير مركب فاجتمعا في رفع الوسائط وليس بعد رفع الوسائط في التكوين مع ذكر اليدين إلا أمر من أجله سمي بشرا وسرت هذه الحقيقة في البنين فلم يوجد أحد منهم إلا عن مباشرة أ لا ترى وجود عيسى عليه السلام لما تمثل لها الروح بشرا سويا فجعله واسطة بينه تعالى وبين مريم في إيجاد عيسى تنبيها على المباشرة بقوله بَشَراً سَوِيًّا قال تعالى ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وأَنْتُمْ عاكِفُونَ في الْمَساجِدِ وبشرة الشي‏ء ظاهره والبشرى إظهار علامة حصولها في البشرة

[كن للشي‏ء بالحرفين وخلق آدم باليدين‏]

فقوله للشي‏ء كن بالحرفين الكاف والنون بمنزلة اليدين في خلق آدم فأقام القول للشي‏ء مقام المباشرة وأقام الكاف والنون مقام اليدين وأقام الواو المحذوفة لاجتماع الساكنين مقام الجامع بين اليدين في خلق آدم وأخفى ذكره كما خفيت الواو من كن غير أن خفاءها في كن لأمر عارض وخفاء الجامع بين اليدين لاقتضاء ما تعطيه حقيقة الفعل وهو قوله ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ والْأَرْضِ وهو حال الفعل لأنه ليس في حقائق ما سوى الله ما يعطي ذلك المشهد فلا فعل لأحد سوى الله ولا فعل عن اختيار واقع في الوجود فالاختيارات المعلومة في العالم من عين الجبر فهم المجبورون في اختيارهم والفعل الحقيقي لا جبر فيه ولا اختيار لأن الذات تقتضيه فتحقق ذلك‏

[البشر والمباشرة وكمال الوجود]

فلمباشرة الوجود المطلق الأعيان الثابتة لظهور الوجود المقيد سمي الوجود المقيد بشرا واختص به الإنسان لأنه أكمل الموجودات خلقا وكل نوع من الموجودات ليس له ذلك الكمال في الوجود فالإنسان أتم المظاهر فاستحق اسم البشر دون غيره من الأعيان‏

[كلام للبشر ذو ثلاث صور]

وأما قوله تعالى وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْياً أَوْ من وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ فسمى المكلم هنا بشرا بهذه الضروب كلها من الكلام لما يباشره من الأمور الشاغلة له عن اللحوق برتبة الروح التي له من حيث روحانيته‏

فإن ارتقى عن درجة البشرية كلمه الله من حيث ما كلم الأرواح إذ كانت الأرواح أقوى في التشبه لكونها لا تقبل التحيز والانقسام وتتجلى في الصور من غير أن يكون لها باطن وظاهر فما لها سوى نسبة واحدة من ذاتها وهي عين ذاتها والبشر من نشأته ليس كذلك فإنه على صورة العالم كله ففيه ما يقتضي المباشرة والتحيز والانقسام وهو مسمى البشر وفيه ما لا يطلب ذلك وهو روحه المنفوخ فيه وعلى بشريته توجهت اليدان فظهرت الشفعية في اليدين في نشأته فلا يسمع كلام الحق من كونه بشرا إلا بهذه الضروب التي ذكرها أو بأحدها فإذا زال في نظره عن بشريته وتحقق بمشاهدة روحه كلمه الله بما يكلم به الأرواح المجردة عن المواد مثل قوله تعالى في حق محمد صلى الله عليه وسلم وفي حق الأعرابي فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله وما تلاه عليه غير لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأقام محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الصورة مقام الروح الأمين الذي نزل بكلام الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وهو قوله أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا يعني لذلك البشر فَيُوحِيَ إليه بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ الله تعالى مما أمره أن يوحى به إليه فقوله إِلَّا وَحْياً يريد هنا إلها ما بعلامة يعلم بها أن ربه كلمه حتى لا يلتبس عليه الأمر أَوْ من وَراءِ حِجابٍ يريد إسماعه إياه لحجاب الحروف المقطعة والأصوات كما سمع الأعرابي القرآن المتلو الذي هو كلام الله أو حجاب الآذان أيضا من السامع أو حجاب بشريته مطلقا فيكلمه في الأشياء كما كلم موسى من جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ... في الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ من الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى‏ إِنِّي أَنَا الله فوقع الحد بالجهة وتعين البقعة لشغله بطلب النار الذي تقتضيه بشريته فنودي في حاجته لافتقاره إليها والله قد أخبر أن الناس فقراء إلى الله فتسمى الله في هذه الآية باسم كل ما يفتقر إليه غيرة إلهية أن يفتقر إلى غير الله فتجلى الله له في عين صورة حاجته فلما جاء إليها ناداه منها فكان في الحقيقة فقره إلى الله والحجاب وقع بالصورة التي وقع فيها التجلي فلو لا ما ناداه ما عرفه وفي مثل هذا يقع التجلي الإلهي في الآخرة الذي يقع فيه الإنكار وقوله إنه على أي عليم بما تقتضيه المراتب التي ذكرها وأنزلها منزلتها وقوله حكيم يريد بإنزال ما علمه منزلته ولو بدل الأمر لما عجز عن ذلك ولكن كونه عليا حكيما يقضي بأن لا يكون الأمر إلا كما وقع ولما أخبر نبيه بهذه المراتب كلها التي تطلبها البشرية قال له وكذلك أي ومثل ذلك أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً من أَمْرِنا يعني الروح الأمين الذي نزل به على قلبك الذي هو روح القدس أي الطاهر عن تقييد البشر فقد علمت معنى البشر الذي أردنا أن نبينه لك بما تقتضيه هذه اللفظة باللسان العربي‏

(السؤال الخامس والأربعون) بأي شي‏ء نال التقدمة على الملائكة

الجواب إن الله قد بين ذلك بقوله تعالى وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها يعني الأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد حقائق الأكوان ومن جملتها الأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد الملائكة والملائكة لا تعرفها

[التجليات الإلهية للأسماء هي كالمواد الصورية للأرواح‏]

ثم أقام المسمين بهذه الأسماء وهي التجليات الإلهية التي هي للأسماء كالمواد الصورية للأرواح فقال للملائكة أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ يعني الصور التي تجلى فيها الحق إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وهل سبحتموني بهذه الأسماء التي تقتضيها هذه التجليات التي أتجلاها لعبادي وإِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم ونقدس لك ذواتنا عن الجهل بك فهل قدستم ذواتكم لنا من جهلكم بهذه التجليات وما لها من الأسماء التي ينبغي أن تسبحونى بها فقالت الملائكة لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا فمن علمهم بالله أنهم ما أضافوا التعليم إلا إليه تعالى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بما لا يعلم الْحَكِيمُ بترتيب الأشياء مراتبها فأعطيت هذا الخليفة ما لم تعطنا مما غاب عنا فلو لا أن رتبة نشأته تعطي ذلك ما أعطت الحكمة أن يكون له هذا العلم الذي خصصته به دوننا وهو بشر

[عالم آدم على عدد ما في نشأته من الحقائق‏]

فقال لآدم أَنْبِئْهُمْ (بِأَسْمائِهِمْ) بأسماء هؤلاء الذين عرضناهم عليهم فأنبأ آدم الملائكة بأسماء تلك التجليات وكانت على عدد ما في نشأة آدم من الحقائق الإلهية التي تقتضيها اليدان الإلهية مما ليس من ذلك في غيره من الملائكة شي‏ء فكان هؤلائك المسمون المعروضة على الملائكة تجليات إلهية في صورة ما في آدم من الحقائق فأولئك هم عالم آدم كلهم فلما علمهم آدم عليه السلام قال لهم الله أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وهو ما علا من علم الغيوب والْأَرْضِ وهو ما في الطبيعة من الأسرار وأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ أي ما هو من الأمور ظاهر وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي ما تخفونه على أنه باطن مستور فأعلمتكم أنه أمر نسبي بل هو ظاهر لمن يعلمه‏

[سجود الملائكة لآدم سجود لله من أجل آدم‏]

ثم قال لهم بعد التعليم اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود المتعلمين للمعلم من أجل ما علمهم فلآدم هنا لام العلة والسبب‏

أي من أجل آدم فالسجود لله من أجل آدم سجود شكر لما علمهم الله من العلم به وبما خلقه في آدم عليه السلام فعلموا ما لم يكونوا يعلمون فنال التقدمة عليهم بكونه علمهم فهو أستاذهم في هذه المسألة وبعده فما ظهرت هذه الحقيقة في أحد من البشر إلا في محمد صلى الله عليه وسلم‏

فقال عن نفسه إنه أوتي جوامع الكلم‏

وهو قوله في حق آدم عليه السلام الْأَسْماءَ كُلَّها وكلها بمنزلة الجوامع والكلم بمنزلة الأسماء ونال التقدمة بها وبالصورة التي خلقه الله عليها

قال عليه السلام إن الله خلق آدم على صورته‏

بالنشأة من أجل اليدين وجعله بالخلافة على صورته وهي المنزلة فأعطته الصورتان التقدم حيث لم يكن ذلك لغيره من المخلوقات فليس فوق هذه المنزلة منزلة لمخلوق فلا بد أن يكون له التقدمة على من سواه وكذلك الأمر الذي أعطاه هذا يتقدم على جميع الأمور كلها

(السؤال السادس والأربعون) كم عدد الأخلاق التي منحه عطاء

الجواب ثلاثمائة خلق وهي التي‏

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن لله ثلاثمائة خلق من تخلق بواحد منها دخل الجنة

ولهذا قال في الثلاثمائة إنهم على قلب آدم عليه السلام يعني هذه الأخلاق التي منح الله آدم فمن كملت نشأته من بنيه قبل هذه الثلاثمائة من الخلق ومن لم يكمل كمال آدم فله منها على قدر ما أعطى من الكمال فمنهم الكامل والأكمل‏

[الأخلاق الإلهية خارجة عن الاكتساب‏]

وهذه الأخلاق خارجة عن الاكتساب لا تكتسب بعمل بل يعطيها الله اختصاصا ولا يصح التخلق بها لأنه لا أثر لها في الكون وإنما هي إعدادات بأنفسها لتجليات إلهية على عددها لا يكون شي‏ء من تلك التجليات إلا لمن له هذه الأخلاق فناهيك من أخلاق لا نعلق لها لمن كان عليها واتصف بها إلا بالله خاصة ليس بينها وبين المخلوقين نسب أصلا

فقول النبي صلى الله عليه وسلم من تخلق بواحد منها

أراد من اتصف بشي‏ء منها أي من قامت به‏

[الأخلاق على ثلاثة أقسام‏]

فإن الأخلاق على أقسام ثلاثة منها أخلاق لا يمكن التخلق بها إلا مع الكون كالرحيم وأخلاق يتخلق بها مع الكون ومع الله كالغفور فإنه يقتضي الستر لما يتعلق بالله من كونه غيورا ويتعلق بالكون وأخلاق لا يتخلق بها إلا مع الله خاصة وهي هذه الثلاثمائة ولها من الجنات جنة مخصوصة لا ينالها إلا أهل هذه الأخلاق وتجلياتها لا تكون لغيرها من الجنات ولكن هذه الأخلاق هي لهم كالخلوق الذي يتطيب به الإنسان فإنه وجود الريح من الطيب لا تعمل فيه للمتطيب به فإنه يقتضي تلك الريح لذاته والتخلق تعمل في تحصيل الخلق وهذا ليس كذلك فالثناء على الطيب لا على من قام به فكذلك هذا الخلق إذا رى‏ء على عبد قد اتصف به لم يقع منه ثناء عليه أصلا وإنما يقع الثناء على الخلق خاصة فكل خلق تجده بهذه المثابة فهو من هذه الأخلاق الثلاثمائة فإن الكرم خلق من أخلاق الله ولكن إذا تخلق به العبد أثنى عليه بأنه كريم وكذلك الرحمة يقال فيه رحيم وهذه الأخلاق لا ينطلق على من اتصف بها اسم فاعل جملة واحدة لكن ينطلق عليه اسم موصوف بها وسبب ذلك لأنه لا تعلق لها بالكون إلا بحكم الاشتراك كالغفور ولا بحكم الاختصاص كالشديد العقاب ويعطيها الاسم الوهاب من عين المنة لا غير

(السؤال السابع والأربعون) كم خزائن الأخلاق‏

الجواب على عدد أصناف الموجودات وأعيان أشخاصها فهي غير متناهية من حيث ما هي أشخاص ومتناهية من حيث ما هي خزائن وما سميت خزائن لكون الأخلاق مخزونة فيها اختزانا وجوديا وإنما جعلت خزائن لما تتضمنه في حكم من اتصف بها من الصفات التي لا نهاية لوجودها وهي خزائن في خزائن‏

[أصول خزائن الأخلاق‏]

وأصلها الذي ترجع إليه الجامع للكل ثلاث خزائن خزانة تحوي على ما تقتضيه الذوات من حيث ما هي ذوات وخزانة تحوي على ما تقتضيه النسب الموجبة للأسماء من حيث ما هي نسب وخزانة تحوي على ما تقتضيه الأفعال من حيث إنها أفعال لا من حيث المفعولات ولا الانفعالات ولا الفاعلية وكل خزانة من هذه الخزائن الثلاث تنفتح إلى خزائن وتلك الخزائن إلى خزائن هكذا إلى غير نهاية فهي تدخل تحت الكم بوجه ولا تدخل تحت الكم بوجه فما حصل منها في الوجود حصره الكم‏

(السؤال الثامن والأربعون) إن لله مائة وسبعة عشر خلقا ما تلك الأخلاق‏

الجواب إن هذه الأخلاق مخصوصة بالأنبياء عليهم السلام ليس لمن دونهم فيها ذوق ولكن لمن دونهم تعريفاتها فتكون عن تلك التعريفات أذواق ومشارب لا يحصيها إلا الله علما وعددا

[الأخلاق الأربعة التي للرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنين‏]

فمن هذه الأخلاق خلق الجمع الدال على التفريق والجمع الذي‏

يتضمن التفريق والفرق الذي يتضمن الجمع ويظهر هذا الخلق من حضرة العزة والإبانة والحكمة والكرم ومن هذه الأخلاق خلق النور المستور وهو من أعز المعارف إذ لا يتمكن في النور أن يكون مستورا فإنه لذاته يخرق الحجب ويهتك الأستار فما هذا الستر الذي يحجبه إلا إن ذلك الحجاب هو أنت كما قال العارف‏

فأنت حجاب القلب عن سر غيبه *** ولولاك لم يطبع عليه ختامه‏

ومن هذه الأخلاق خلق اليد وهو القوة وهو مخصوص بالقلوب وأصحابها وهو على مراتب ومن هذه الأخلاق خلق إعدام الأسباب في عين وجودها وهو على مراتب وقفت منها في الأندلس على مائة مرتبة لا توجد في الكمال إلا في روحانية ذلك الإقليم فإنه لكل جزء من الأرض روحانية علوية تنظر إليه ولتلك الروحانية حقيقة إلهية تمدها وتلك الحقيقة هي المسماة خلقا إلهيا وأما بقية الأخلاق فلها مراتب دون هذه التي ذكرناها في الإحاطة والعموم ولكل خلق من هذه الأخلاق درجة في الجنة لا ينالها إلا من له هذا الخلق وهذه الأربع التي ذكرناها منها للرسل ومنها للأنبياء ومنها للأولياء ومنها للمؤمنين وكل طبقة من هؤلاء الأربع على منازل بعددهم فمنها ما يشاركهم فيها الملأ الأعلى ومنها ما تختص به تلك الطبقة وذلك أن كل أمر يطلب الحق ففيه يقع الاشتراك وكل أمر يطلب الخلق فهو يختص بذلك النوع من الخلق يقتصر عليه‏

[الأخلاق التي لا يعلمها إلا الله والتي تعينها أسماء الإحصاء]

ومن الباقي أربعة عشر خلقا لا يعلمها إلا الله والباقي من الأخلاق تعينها أسماء الإحصاء وهي أسماء لا يعرفها إلا ولي أو من سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة وأما من طريق النقل فلا يحصل بها علم وأما الثلاثة عشر فيختص بعلمها سبحانه وما بقي فيعلمه أهل الجنة وهم في العلم بها على طبقات وأعني بأهل الجنة الذين هم أهلها فإنه لله سبحانه أهل هم أهله لا يصلحون لغيره كما

ورد في الخبر أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته وللجنة أهل هم أهلها لا يصلحون إلا لها

لا يصلحون لله وإن جمعتهم حضرة الزيارة ولكن هم فيها بالعرض وللنار أهل هم أهلها لا يصلحون لله ولا للجنة ولكل أهل فيما هم فيه نعيم بما هم فيه ولكن بعد نفوذ أمر سلطان الحكم العدل القاضي إلى أجل مسمى وكل طائفة لها شرب وذوق في هذه الأخلاق المذكورة في هذا الباب‏

[انقسام الأخلاق على طبقات ثلاث‏]

فانقسمت هذه الأخلاق على هؤلاء الطبقات الثلاث كل خلق منها يدعوهم إلى ما يقتضيه أمره وشأنه من نار أو جنان أو حضور عنده حيث لا أين ولا كيف وللمعاني المجردة منها أخلاق ولعالم الحس منها أخلاق ولعالم الخيال منها أخلاق فجنة محسوسة لمعنى دون حس وجنة معنوية لحس دون معنى وحضور مع الحق معنوي لحس دون معنى وحضور مع الحق محسوس لمعنى ونار محسوسة لمعنى دون حس ونار معنوية لحس دون معنى وتتفاضل مشارب هؤلاء الطبقات فيها فمنهم التام والأتم والكامل والأكمل‏

[المنعم بعذابه المعذب بنعيمه‏]

فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في كل حضرة فإنه كلما أثبتناه من أعيان أكوان في نار وجنان فليس إلا الحق إذ هي مظاهره فالنعيم به لا يصح أصلا في غير مظهر فإنه فناء ليس فيه لذة فإذا تجلى في المظاهر وقعت اللذات والآلام وسرت في العالم ويرحم الله من قال‏

فهل سمعتم بصب *** سليم طرف سقيم‏

منعم بعذاب *** معذب بنعيم‏

فبه النعيم وبه العذاب فلا يوجد النعيم أبدا إلا في مركب وكَذلِكَ الْعَذابُ وأما النعيم والعذاب البسيط فلا حكم له في الوجود فإنه معقول غير موجود

[أهل المظاهر وأهل أحدية الذات‏]

فأهل المظاهر هم أهل النعيم والعذاب وأهل أحدية الذات لا نعيم عندهم ولا عذاب قال أبو يزيد ضحكت زمانا وبكيت زمانا وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي وقيل له كيف أصبحت قال لا صباح لي ولا مساء إنما المساء والصباح لمن تقيد بالصفة ولا صفة لي‏

(السؤال التاسع والأربعون والموفي خمسين) كم للرسل سوى محمد صلى الله عليه وسلم منها وكم لمحمد صلى الله عليه وسلم منها

الجواب كلها إلا اثنين وهم فيها على قدر ما نزل في كتبهم وصحفهم إلا محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه جمعها كلها بل جمعت له عناية أزلية قال تعالى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ فيما لهم به من هذه الأخلاق‏

[المصطفى من الخلق واحد هو منهم وليس منهم‏]

فاعلم أن الله تعالى لما خلق الخلق خلقهم أصنافا وجعل في كل صنف خيارا واختار من الخيار خواص وهم المؤمنون واختار من المؤمنين‏

خواص وهم الأولياء واختار من هؤلاء الخواص خلاصة وهم الأنبياء واختار من الخلاصة نقاوة وهم أنبياء الشرائع المقصورة عليهم واختار من النقاوة شرذمة قليلة هم صفاء النقاوة المروقة وهم الرسل أجمعهم واصطفى واحدا من خلقه هو منهم وليس منهم هو المهيمن على جميع الخلائق جعله عمدا أقام عليه قبة الوجود جعله أعلى المظاهر وأسناها صح له المقام تعيينا وتعريفا فعلمه قبل وجود طينة البشر وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاثر ولا يقاوم هو السيد ومن سواه سوقة

قال عن نفسه أنا سيد الناس ولا فخر

بالراء والزاي روايتان أي أقولها غير متبجح بباطل أي أقولها ولا أقصد الافتخار على من بقي من العالم فإني وإن كنت أعلى المظاهر الإنسانية فإنا أشد الخلق تحققا بعيني فليس الرجل من تحقق بربه وإنما الرجل من تحقق بعينه لما علم إن الله أوجده له تعالى لا لنفسه وما فاز بهذه الدرجة ذوقا إلا محمد صلى الله عليه وسلم وكشفا إلا الرسل وراسخو علماء هذه الأمة المحمدية ومن سواهم فلا قدم لهم في هذا الأمر

[الغرض والغاية من الإيجاد العالم‏]

وما سوى من ذكرنا ما علم أن الله أوجده له تعالى بل يقولون إنما أوجد العالم للعالم فرفع بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وهو غني عن العالمين هذا مذهب جماعة من العلماء بالله وقالت طائفة من العارفين إن الله أوجد الإنس له تعالى والجن وأوجد ما عدا هذين الصنفين للإنسان وقد روى في ذلك خبر إلهي عن موسى صلى الله عليه وسلم أن الله أنزل في التوراة يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي فلا تهتك ما خلقت من أجلي فيما خلقت من أجلك‏

وقال تعالى وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وتقتضي المعرفة بالله أن الله خلق العالم وتعرف إليهم لكمال مرتبة الوجود ومرتبة العلم بالله لا لنفسه سبحانه وهذه الوجوه كلها لها نسب صحيحة ولكن بعضها أحق من بعض وأعلاها ما ذهبنا إليه ثم يلي ذلك خلقه لكمال الوجود وكمال العلم بالله وما بقي فنازل عن هاتين المرتبتين‏

[من عرف النسب فقد عرف الله ومن جهلها فقد جهله‏]

واعلم أن كل خلق ينسب إلى جناب الحضرة الإلهية فلا بد من مظهر يظهر فيه ذلك الخلق فأما أن يعود من المظهر التخلق به على جناب الحق أو يكون متعلقة مظهر آخر يقتضيه في عين ممكن ما من الممكنات لا يكون إلا هكذا وأما الحق من حيث هو لنفسه فلا خلق فمن عرف النسب فقد عرف الله ومن جهل النسب فقد جهل الله ومن عرف أن النسب تطلبها الممكنات فقد عرف العالم ومن عرف ارتفاع النسب فقد عرف ذات الحق من طريق السلب فلا يقبل النسب ولا تقبله وإذا لم يقبل النسب لم يقبل العالم وإذا قبل النسب كان عين العالم قال تعالى واعْبُدْ رَبَّكَ نسبة خاصة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فتعلم من عبده ومن العابد والمعبود قال تعالى ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ صِراطِ الله الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الْأَرْضِ أَلا إِلَى الله تَصِيرُ الْأُمُورُ وإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ لا تعبد أنت فإن عبدته من حيث عرفته فنفسك عبدت وإن عبدته من حيث لم تعرفه فنسبته إلى المرتبة الإلهية عبدت وإن عبدته عينا من غير مظهر ولا ظاهر ولا ظهور بل هو هو لا أنت وأنت أنت لا هو فهو قوله فاعبده فقد عبدته وتلك المعرفة التي ما فوقها معرفة فإنها معرفة لا يشهد معروفها فسبحان من علا في نزوله ونزل في علوه ثم لم يكن واحدا منهما ولم يكن إلا هما لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏

(السؤال الحادي والخمسون) أين خزائن المنن‏

الجواب في الاختيار المتوهم المنسوب إليه وإليك فأنت مجبور في اختيارك فأين الاختيار وهو ليس بمجبور وأمره واحد فأين الاختيار ولو شاء الله فما شاء وإِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وليس بمحل للحوادث بل الأعيان محل الحوادث وهو عين الحوادث عليها فإنها محال ظهوره‏

[لا أينية لخزائن المنن‏]

ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرَّحْمنِ ... من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ والذكر كلامه وهو الذي حدث عندهم وكلامه علمه وعلمه ذاته فهو الذي حدث عندهم فهو خزائن المنن والمنن ظهور ما حدث عندهم فيهم وهو لا أين له فلا أينية لخزائن المنن‏

[العالم خزائن المنن وفينا الحق اختزن‏]

ولما كانت المنن متعددة طلب عين كل نسبة منه خزانة فلهذا تعددت الخزائن بتعدد المنن وإن كانت واحدة بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنكم مؤمنون فهذه سنتان منة الهدى ومنة الايمان وجميع نعمه الظاهرة والباطنة مننه وإذا كان هو عين المنة فأنت الخزانة فالعالم خزائن المنن الإلهية ففينا اختزن مننه سبحانه فما هو لنا بأين ونحن له أين فمن‏

لا أينية له هو نحن فأعياننا أين لظهوره‏

[حقيقة المكان لا تقبل المكان‏]

فحقيقة المكان لا تقبل المكان ودع عنك من يقول المتمكن في المكان مكان لمكانه وفرض بين التمكن والمكان حركتين متضادتين تعطي حقيقة المكانية لكل واحد منهما وهذا من قائله توهم من أجل ما ذهب إليه والحقيقة هي ما قررناه من أن المكان لا يقبل المكان فلا أين للأين لمن هو أين له وهذا كله في المظاهر الطبيعية وأما في المعاني المجردة عن المواد فهي المظاهر القدسية للأسماء التي لا تقبل نسب التشبيه فالعلم بها أن لا علم كما روى عن الصديق أنه قال في مثل ما ذكرناه العجز عن درك الإدراك إدراك فانقلب التنزيه عن الأين لمن يقبل التشبيه فلا تشبيه في العالم ولا تنزيه فإن الشي‏ء لا يتنزه عن نفسه ولا يشبه بنفسه فقد تبينت الرتب وعلم ما معنى النسب والحمد لله وحده أن علم عبده‏

(السؤال الثاني والخمسون) أين خزائن سعى الأعمال‏

الجواب ذوات العمال فإن أراد تجسد هذا السعي فخزانته الخيال وإن أراد أين يختزن ففي سدرة المنتهى فإن أراد ما لها من الخزائن الإلهية فخزانة الاسم الحفيظ العليم‏

[تعداد خزائن السعي وأقسام العاملين‏]

واعلم أن خزائن هذا السعي خمس خزائن لا سادسة لها وعباد الله رجلان عامل ومعمول به فالمعمول به ليس هو مقصودنا في هذا الباب من هذا الفصل وإنما مقصودنا سعى الأعمال من حيث نسبتها إلى العاملين والعاملون ثلاثة عامل هو حق وعامل بحق وعامل هو خلق وكل له سعى في العمل بحسب ما أضيف إليه فإن الله قد نسب الهرولة إليه وهي ضرب من السعي سريع وقد قال إن الله لا يمل حتى تملوا ثبت هذا في الحديث الصحيح‏

[سعى العمل الذي هو الحق‏]

فأما سعى العمل الذي هو حق فالعمل يطلب الأجر بنفسه ليجود به على عامله والعامل هنا ما يعطي حقيقته قبول الأجر ولا بد من الأجر فيكون إذا الأجر الثناء لا غير فإنه يقبل الثناء هذا العامل الذي هو حق ولا يقبل القصور ولا الحور ولا الولدان ولا التجليات فإن كان العمل مما يتضمن الحسن والقبح أو لا حسن ولا قبح فلا يضاف العمل إلى هذا العامل من حيث ما هو محكوم عليه بحسن أو قبح أو لا حسن ولا قبح بل يضاف إليه معرى عن الحكم بنفي أو إثبات وصاحبه أكمل الناس نعيما في الجنة ولذة وأرفعهم درجة وما له من الجنات من حيث هذا العمل سوى جنة عدن والعمل يطلب نصيبه في جميع الجنان من حيث ما هو عمل لا غير فيعود به على صاحبه بل يكون له مركبا إلى كل درجة في جميع الجنات وهو المراد بقوله تعالى عنه نَتَبَوَّأُ من الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ إلى هنا وقوله فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ليس هم هؤلاء بل العاملون بحق وبخلق إلا أن يريد بقوله فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الثناء فهو لهم فإن لفظة نعم وبئس للمدح والذم والعامل هنا حق والثناء له حق ونعم كلمة محمدة ومدح فيكون بهذا التأويل تمام الآية له والتبوؤ في الجنات للعمل لا له فالمحل الذي ظهر فيه العمل وهو أنت هو الذي يتبوأ من الجنة بعناية عمله الظاهر فيه ما شاء إذ الصورة الطبيعية منه تطلب النعيم المحسوس والمتخيل فلهذا أبيحت الجنات له بحكم مشيئته بشفاعة العمل الحق فخزائن هذا السعي كلها أنوار مباحها ومندوبها وواجبها ومحظورها ومكروهها في حكم الظاهر المقرر عند علماء الرسوم ممن ليس له كشف منهم وهو عند علماء الرسوم الذين لهم الكشف الأتم في معرفة الشرائع أعني هذا الذي ظهر فيه هذا العمل على هذه الصفة ما تصرف إلا فيما حسنه الشرع وقبله ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏

[سعى من كان عمله بحق‏]

وأما سعى من كان عمله بحق فيقرب من هذا أنه لما شاهد ذاته عاملة وهو من أهل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ومن أهل لا حول ولا قوة إلا بالله نقص عن ذلك الأول فكان صاحب كشف في عمله لاخذ الحق بناصيته في جميع ما يتصرف فيه فامتلأت خزائنه الخمسة عندنا والستة عند أبي حنيفة نورا خالصا ونورا غير خالص ونورا مزيلا لظلمة كانت قبله فكان ممتزج الأحوال فلو لا عناية هذا الحضور والكشف في حال السعي لما تم له هذا السعد الذي حصل له من إزالة ظلمته فهذان الصنفان من أصحاب الأعمال في النور ف لَهُمْ أَجْرُهُمْ ونُورُهُمْ‏

[من كان سعى عامله خلق‏]

وأما من كان سعى عامله خلق فترفع له خزائن الواجبات أعني الفرائض في العمل والترك والمندوبات في العمل والترك ممتلئة نورا مشوبا بكون دون أنوار من ذكرناهم وترفع لهم خزائن المباحات فارغة في العمل والترك إلا من ترك المباح أو عمله لكونه مباحا ففيها نور يليق بهذا النوع فكأنه نور من وراء حجاب مثل ضوء الشمس من خلف السحاب الرقيق فإن نظر إلى تضمن ذلك المباح ترك محظور أو مكروه ولم يخطر له ترك واجب أو مندوب فإن نوره يكون أتم قليلا وأضوأ من النور الأول المعرى‏

عن هذا الخاطر فإن خطر له أن ذلك المباح يتضمن ترك مندوب أو واجب من واجب يوجبه على نفسه كمن نذر صيام يوم لا بعينه وله إن شاء أن يصومه في هذا اليوم وهو صوم واجب ولكن لا في هذا اليوم ولا بد وإن صامه في هذا اليوم المباح له ترك الصوم فيه فقد أدى واجبا فإن نوره في خزانته هذه بين النورين المتقدمين وترفع له خزائن المحظورات في العمل والترك والمكروهات في العمل والترك أما خزائن المحظورات ظلمة محضة وأما خزائن المكروهات فسدفة فإن كان حصره في وقت المحظور الايمان به أنه في محظور وكذلك في المكروه فيكون خزائن المحظور ممتلئة سدفة وخزائن المكروه كالأسفار والشفق وما ثم عامل في المؤمنين أو الموحدين إلا هؤلاء خاصة وأما من سوى المؤمن أو الموحد فلا كلام لنا معه في هذا الفصل من حيث قصد السائل‏

[لكل عامل مدخل إلى خزائن سعى الأعمال بحسب سعيه‏]

وأما من حيث سعى الأعمال فإن لكل عامل مدخلا في هذا الفصل بحسب سعيه من معطل ومشرك وكافر وجاحد ومنافق ومأثم شقي سوى هؤلاء الخمسة وفي الكلام على مناهجهم تفصيل يطول وكل يجري في طلقه إلى أجل مسمى وما منهم إلا من يقول أنا من الأشياء فلا بد لي من الرحمة فإن قائلها ليس من صفته التقييد إذ لو تقيد لخرج عنه ما لا يمكن أن يكون إلا به فمن المحال خروج شي‏ء عنه فمن المحال تقييده فمنا من تفيض عليه الرحمة من خزائن الوجوب ومنا من تفيض عليه الرحمة من خزائن المنن التي ذكرناها فالكل طامع والمطموع فيه واسع إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أ ترى هذه السعة الربانية تضيق عن شي‏ء هي لم تضق عن الممكنات إذ كانت في الشر المحض فكيف تضيق عن الممكنات إذ هي في الشر المشوب هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى‏ فيخصه بالرحمة الموجبة بالصفة الموجبة فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ممن لم يتق فيخصه برحمته المطلقة وهي رحمة الامتنان ولا تتقيد بحصر فهذا جواب خزائن سعى الأعمال على الإيجاز والبيان‏

(السؤال الثالث والخمسون) من أين تعطي الأنبياء

الجواب الأنبياء على نوعين أنبياء تشريع وأنبياء لا تشريع لهم وأنبياء التشريع على قسمين أنبياء تشريع في خاصتهم كقوله إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ وأنبياء تشريع في غيرهم وهم الرسل عليهم السلام أما الأنبياء الذين هم الرسل فمن حضرة الملك الذي هو ملك الملك وأما الأنبياء غير المرسلين فمن حضرة الاختصاص وأما الأنبياء الذين لا يوحي إليهم الروح المخصوص بذينك الصنفين فمن حضرة الكرم والكل من عين المنة والرحمة وهو الجامع‏

[الدائرة العظمى العامة التي هي النبوة المطلقة]

فأما الدائرة العظمى العامة التي هي النبوة المطلقة فمن أعطيها من حيث إطلاقها فلا يعرف أحد ما لديه وما أتحفه به ربه وهو أيضا لا يعرف قدر ذلك لأنه لا يقابله ضد فيها فيتميز عنه وأما من أعطى منها من باب الرحمة به وتولى الحق بضرب من العطف عليه تعليمه فتعرف إليه بعوارفه ثم عرفه من غيبه ما شاء أن يعرفه كخضر الذي قال فيه آتَيْناهُ رَحْمَةً من عِنْدِنا أي رحمناه فأعطيناه هذا العلم الذي ظهر به وإن أراد تعالى أنه أعطاه رحمة من عنده جعلها فيه ليرحم بها نفسه وعباده فيكون في حق الغلام رحمة أن حال بينه وبين ما كان يكتسبه لو عاش من الآثام إذ قد كان طبع كافرا وأما رحمته بالملك الغاصب حتى لا يتحمل وزر غصبه تلك السفينة من هؤلاء المساكين فالرحمة إنما تنظر من جانب الرحيم بها لا من جانب صاحب الغرض فإنه جاهل بما ينفعه كالطبيب يقطع رجل صاحب الأكلة رحمة به لبقاء نفسه فالرحمة عامة من الرحيم الراحم ولم أر أحدا أعطى النبوة المطلقة التي لا تشريع لها إلا إن كان وما عرفته فهذا لا يبعد فإني رأيت من أولياء الله تعالى ما لا أحصيهم عددا أنفعنا الله بهم وأما من أعطى النبوة المقيدة بالشرع الخاص به فما على الأرض منهم اليوم أحد ولا يراهم أحد إلا في الموافقة وهي المبشرات وأما النبوة المقيدة بالشرائع ففي الزمان منهم اليوم الياس وإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وإدريس وعيسى واختلف في الخضر بين النبوة والولاية فقيل هو نبي وقيل ولي‏

(السؤال الرابع والخمسون) أين خزائن المحدثين من الأولياء

الجواب في حضرة الحق من الحضرات الإلهية وفي المظاهر الإلهية مما وقعت عليه العين أو بعض الحواس من صامت معتاد وناطق‏

تحدثني في ناطق ثم صامت *** وغمز عيون ثم كسر حواجب‏

[من حديث الله مع خلقه‏]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفصل إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فإن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

فهذا من حديث الله مع خلقه وقال تعالى فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله‏

فكلم الله الأعرابي بلسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي تلا عليه القرآن والقرآن كلام الله قال تعالى ما يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ لأنه حدث عندهم وإن كان قديما في نفس الأمر من حيث إنه كلام الله وقال صلى الله عليه وسلم في عمر إنه من المحدثين إن يكن في هذه الأمة منهم أحد

وأريد حديثه تعالى مع أوليائه لا مع الأنبياء والرسل فإن الأذواق تختلف باختلاف المراتب فنحن لا نتكلم إلا فيما لو ادعيناه لم ينكر علينا لأن باب الولاية مفتوح ولهذا سأل عن خزائن المحدثين من الأولياء

[الحديث المحادثة الخطاب المناجاة المسامرة]

فأكمل المحدثين من فهم عن الله ما حدثه به في كل شي‏ء وهم أهل السماع المطلق من الحق فإن أجابوه به فهو حديث وإن أجابوه بهم فهي محادثة وإن سمعوا حديثه به فليس بحديث في حقهم وإنما هو خطاب أو كلام وأهل الحقائق يمنعون المحادثة ولا يمنعون المناجاة فإن الحق لا يحدث عنده شي‏ء فهو سبحانه يحدث من شاء من عباده ولا يحدثه منهم أحد لكن يناجونه ويسامرونه كالمتهجدين هم أهل المسامرة فالعالم خزائن المحدثين من الأولياء إذا سمعوا بهم فالمحدثون أنزل الدرجات في مقامات الأولياء وهم عند العامة في الرتبة العليا لأن علومهم ليست عن ذوق وإنما هي علوم نقل أو علوم فكر لا غير

[حديث الله في الصوامت‏]

فأما حديث الله في الصوامت فهو عند العامة من علماء الرسوم حديث حال أي يفهم من حاله كذا وكذا حتى أنه لو نطق لنطق بما فهمه هذا الفاهم منه قال القوم في مثل هذا قالت الأرض للوتد لم تشقني قال الوتد لها سلي من يدقني فهذا عندهم حديث حال وعليه خرجوا قوله تعالى وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وقوله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ والْأَرْضِ والْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها إباية حال وأما عند أهل الكشف فيسمعون نطق كل شي‏ء من جماد ونبات وحيوان يسمعه المقيد بإذنه في عالم الحس لا في الخيال كما يسمع نطق المتكلم من الناس والصوت من أصحاب الأصوات فما عندنا في الوجود صامت أصلا بل الكل ناطق بالثناء على الله كما أنه ليس عندنا في الوجود ناطق أصلا من حيث عينه بل كل عين سوى الله صامتة لا نطق لها إلا أنها لما كانت مظاهر كان النطق للظاهر قالت الجلود أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فالكلام في المظاهر هو الأصل والصمت فيها عرض يعرض في حق المحجوب والصمت في الأعيان هو الأصل والكلام المسموع منها عرض يعرض في حق المحجوب فلأصحاب الحرف والصوت عذر عند هؤلاء ولمنكر الصوت والحرف عذر أيضا عندهم انتهى الجزء الرابع والثمانون (بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال الخامس والخمسون) ما الحديث‏

الجواب ما يتلقاه السامع إذا سمعه به لا بربه فذلك هو الحديث لا غير فإن سمعه بربه فليس ذلك بحديث ومعنى قوله سمعه بربه‏

قول الله تعالى كنت سمعه الذي يسمع به‏

[لكل اسم إلهى نسبة كلام‏]

فاعلم أن وصفه بأنه سميع هو عينه لا أمر زائد واعلم أن تحقيق هذا أنه لكل اسم إلهي نسبة كلام والإنسان محل لاختلاف الأحوال عليه عقلا وحسا وذلك أن الألوهية تعطي ذلك لذاتها فإنها بالنسبة إلى العالم بهذه الصفة قال تعالى يَسْئَلُهُ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ فكل حال في الكون فهو عين شأن إلهي وقد تقرر في العلم الإلهي أنه تعالى لا يتجلى في صورة واحدة لشخصين ولا في صورة واحدة لشخص مرتين وكل تحل له كلام فذلك الكلام لهذا الحال من هذا التجلي هو المعبر عنه بالحديث فالحديث لا يزال أبدا غير أنه من الناس من يفهم أنه حديث ومن الناس من لا يعرف ذلك بل يقول ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أن ذلك من حديث الحق معه في نفسه لأنه حرم عين الفهم عن الله فيما يحسب أنه خاطر

[الخواطر كلها من الحديث الإلهي‏]

والذين قسموا الخواطر إلى أربعة فذلك التقسيم لا يقع في الحديث فإن الحديث حديث في كل قسم وإنما الأقسام وقعت في الذوات التي فهم منها ما أريد بالحديث فيقال خاطر شيطاني وهو حديث رباني وقول إلهي لما أراده الحق قال له كن فكان فناجاه الاسم البعيد كما يتلقاه من الحديث الإلهي في الخاطر الملكي الاسم القريب كما يتلقاه من الحديث الإلهي في الخاطر النفسي الاسم المريد كما يتلقاه من الحديث الإلهي في الخاطر الرباني الاسم الحفيظ فهذه الخواطر كلها من الحديث الإلهي الذي لا يشعر به إلا رجال الله‏

[الكلام كله حادث قديم‏]

فالعالم كله على طبقاته لا يزالون في الحديث فمن‏

رزق الفهم عنه تعالى وعرفه فذلك المحدث وهو من أهل الحديث وعلم أن كل ما سمعه حديث بلا شك وإن اختلفت ألقابه كالسمر والمناجاة والمناغاة والإشارات فالكلام كله حادث قديم حادث في السمع قديم في السمع فافهم‏

(السؤال السادس والخمسون) ما الوحي‏

الجواب ما تقع به الإشارة القائمة مقام العبارة من غير عبارة فإن العبارة تجوز منها إلى المعنى المقصود بها ولهذا سميت عبارة بخلاف الإشارة التي هي الوحي فإنها ذات المشار إليه والوحي هو المفهوم الأول والإفهام الأول ولا أعجل من أن يكون عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه فإن لم تحصل لك هذه النكتة فلست صاحب وحي أ لا ترى أن الوحي هو السرعة ولا سرعة أسرع مما ذكرناه‏

[إن الله إذا تكلم بالوحي كأنه سلسة على صفوان‏]

فهذا الضرب من الكلام يسمى وحيا ولما كان بهذه المثابة وأنه تجل ذاتي لهذا ورد في الخبر أن الله إذا تكلم بالوحي كأنه سلسلة على صفوان صعقت الملائكة ولما تجلى الرب للجبل تدكدك الجبل وهو حجاب موسى فإنه كان ناظرا إليه طاعة لأمر الله فلاح له عند تدكدك الجبل الأمر الذي جعل الجبل دكا ف خَرَّ مُوسى‏ صَعِقاً حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ القائل رَبُّكُمْ قالت الملائكة الحق قالت الحقيقة وهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ هذه النسبة من حيث هويته‏

[الوحى ما يسرع أثره من كلام الحق في نفس السامع‏]

فالوحي ما يسرع أثره من كلام الحق تعالى في نفس السامع ولا يعرف هذا إلا العارفون بالشئون الإلهية فإنها عين الوحي الإلهي في العالم وهم لا يشعرون فافهم وقد يكون الوحي إسراع الروح الإلهي الأمري بالإيمان بما يقع به الإخبار والمفطور عليه كل شي‏ء مما لا كسب له فيه من الوحي أيضا كالمولود يتلقى ثدي أمه ذلك من أثر الوحي الإلهي إليه كما قال ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ولكِنْ لا تُبْصِرُونَ ولا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبِيلِ الله أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ ولكِنْ لا تَشْعُرُونَ وقال تعالى وأَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي من الْجِبالِ بُيُوتاً ومن الشَّجَرِ ومِمَّا يَعْرِشُونَ فلو لا ما فهمت من الله وحيه لما صدر منها ما صدر

[الوحى أقوى سلطانا في نفس الموحى إليه من طبعه‏]

ولهذا لا يتصور المخالف إذا كان الكلام وحيا فإن سلطانه أقوى من أن يقاوم وأَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ في الْيَمِّ وكذا فعلت ولم تخالف مع أن الحالة توذن أنها ألقته في الهلاك ولم تخالف ولا ترددت ولا حكمت عليها البشرية بأن إلقائه في اليم في تابوت من أخطر الأشياء فدل على أن الوحي أقوى سلطانا في نفس الموحى إليه من طبعه الذي هو عين نفسه قال تعالى ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ وحبل الوريد من ذاته فيا أيها الولي إذا زعمت أن الله أوحى إليك فانظر في نفسك في التردد أو المخالفة فإن وجدت لذلك أثرا بتدبير أو تفصيل أو تفكر فلست صاحب وحي فإن حكم عليك وأعماك وأصمك وحال بين فكرك وتدبيرك وأمضى حكمه فيك فذلك هو الوحي وأنت عند ذلك صاحب وحي وعلمت عند ذلك أن رفعتك وعلو منصبك أن تلحق بمن تقول إنه دونك من حيوان ونبات وجماد

[الإنسان من حيث مجموعه جاهل بالله حتى يتعلم ومن حيث تفضيله عالم به‏]

فإن كل ما سوى مجموع الإنسان مفطور على العلم بالله إلا مجموع الإنسان والجان فإنه من حيث تفصيله مفطور على العلم بالله كسائر ما سواهما من المخلوقات من ملك ونبات وحيوان وجماد فما من شي‏ء فيه من شعر وجلد ولحم وعصب ودم وروح ونفس وظفر وناب إلا وهو عالم بالله تعالى بالفطرة بالوحي الذي تجلى له فيه وهو من حيث مجموعيته وما لجمعيته من الحكم جاهل بالله حتى ينظر ويفكر ويرجع إلى نفسه فيعلم أن له صانعا صنعه وخالقا خلقه فلو أسمعه الله نطق جلده أو يده أو لسانه أو رجله لسمعه ناطقا بمعرفته بربه مسبحا لجلاله ومقدسا يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا فالإنسان من حيث تفصيله عالم بالله ومن حيث جملته جاهل بالله حتى يتعلم أي يعلم بما في تفصيله فهو العالم الجاهل فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ من قُرَّةِ أَعْيُنٍ فالإنسان من حيث تفصيله صاحب وحي ومن حيث جملته لا يكون في كل وقت صاحب وحي‏

(السؤال السابع والخمسون) ما الفرق بين النبيين والمحدثين‏

الجواب التكليف فإن النبوة لا بد فيها من علم التكليف ولا تكليف في حديث المحدثين جملة ورأسا هذا إن أراد أنبياء الشرائع فإن أراد أصحاب النبوة المطلقة فالمحدثون أصحاب جزء منها

[النبي الذي لا شرع له فيما يوحى إليه به‏]

فالنبي الذي لا شرع له فيما يوحى إليه به هو رأس الأولياء وجامع المقامات مقامات ما تقضيه الأسماء الإلهية مما لا شرع فيه من شرائع أنبياء التشريع الذين يأخذون بوساطة الروح الأمين من عين الملك والمحدث ما له سوى الحديث وما ينتجه من الأحوال والأعمال والمقامات فكل نبي محدث وما كل محدث نبي‏

وهؤلاء هم أنبياء الأولياء

[الأنبياء الذين لهم الشرائع‏]

وأما الأنبياء الذين لهم الشرائع فلا بد من تنزل الأرواح على قلوبهم بالأمر والنهي وما عدا ما ينزلون به من الأمر والنهي مثل العلوم الإلهية والإخبارات عن الكوائن والأمور الغائبة فذلك خارج عن نبوة الشرائع وهو من أحوال الأنبياء على العموم ويناله المحدث‏

[كان الخضر في حكمه على شرع رسول غير موسى‏]

فإن ظهر من أصحاب النبوة المطلقة حكم من الأحكام الظاهرة من أنبياء الشرائع من قتل أو أخذ مال أو فعل من الأفعال يناقض حكم شرع الزمان المقرر فاعلم أن هذا النبي الذي ما له شرع ليس ذلك من شرع نزل إليه وخوطب به بل لا يزال تابعا لرسول قد شرع له ما شرع وإنما اتفق أنه أخبر باتباع شرع رسول قد شرع له مما لم يشرع لرسول آخر وحكمه في حق هذا الرسول يعارض حكم الرسول الآخر فإذا اجتمع هذا الشخص الذي هو بهذه المثابة مع رسول من الرسل كالخضر مع موسى عليه السلام فحكم في قتل الغلام بما حكم وأنكر عليه موسى قتل نفس زكية في ظاهر الشرع بغير نفس مما لم يكن ذلك حكمه في شرعه فقال له لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي ينكره شرعي وقال له الخضر ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يعني في كل ما جرى منه فكان الخضر في حكمه على شرع رسول غير موسى فحكم بما حكم به مما يقتضيه شرع الرسول الذي اتبعه ومن شرع ذلك الرسول حكم الشخص بعلمه فحكم بعلمه في الغلام أنه كافر فلم يكن حكم الخضر فيه من حيث إنه صاحب شرع منزل وإنما حكم فيه مثل حكم القاضي عندنا بشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى هذا الحد تصدر الأحكام من أنبياء الأولياء

[هل يتصور أن يحكم أنبياء الأولياء بما يخالف شرع محمد]

فإن قيل هذا يجوز في زمان وجود الرسل واليوم فما ثم شرع إلا واحد فهل يتصور أن تحكم أنبياء الأولياء بما يخالف شرع محمد صلى الله عليه وسلم قلنا لا نعم فأما قولنا لا فإنه لا يجوز أن يحكم برأيه وأما قولنا نعم فإنه يجوز للشافعي أن يحكم بما يخالف به حكم الحنفي وكلاهما شرع محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قرر الحكمين فخالفت شرعه بشرعه فإذا اتفق أن تخبر أنبياء الأولياء فيما يعلمهم الحق من أحكام شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يشهدون الرسول صلى الله عليه وسلم فيخبرهم بالحكم في أمر يرى خلافه أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة لحديث رووه صح عندهم من طريق النقل فوقفت عليه أنبياء الأولياء وعلمت من طريقها الذي ذكرناه أن شرع محمد يخالف هذا الحكم وأن ذلك الحديث في نفس الأمر ليس بصحيح وجب عليهم إمضاء الحكم بخلافه ضرورة كما يجب على صاحب النظر إذا لم يقم له دليل على صحة ذلك الحديث وقام لغيره دليل على صحته وكلاهما قد وفي الاجتهاد حقه فيحرم على كل واحد من المجتهدين أن يخالف ما ثبت عنده وكل ذلك شرع واحد فمثل هذا يظهر من أنبياء الأولياء بتعريف الله أنه شرع هذا الرسول فيتخيل الأجنبي فيه أنه يدعي النبوة وأنه ينسخ بذلك شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكفره وقد رأينا هذا كثيرا في زماننا وذقناه من علماء وقتنا فنحن نعذرهم لأنه ما قام عندهم دليل صدق هذه الطائفة وهم مخاطبون بغلبة الظنون وهؤلاء علماء بالأحكام غير ظانين بحمد الله فلو وفوا النظر حقه لسلموا له حاله كما يسلم الشافعي للمالكي حكمه ولا ينقضه إذا حكم به الحاكم غير أنهم رضي الله عنهم لو فتحوا هذا الباب على نفوسهم لدخل الخلل في الدين من المدعي صاحب الغرض فسدوه وقالوا إن الصادق من هؤلاء لا يضره سدنا هذا الباب ونعم ما فعلوه ونحن نسلم لهم ذلك ونصوبهم فيه ونحكم لهم بالأجر التام عند الله ولكن إذا لم يقطعوا بأن ذلك مخطئ في مخالفتهم فإن قطعوا فلا عذر لهم فإن أقل الأحوال أن ينزلوهم منزلة أهل الكتاب لا نصدقهم ولا نكذبهم فإنه ما دل لهم دليل على صدقهم ولا كذبهم بل ينبغي أن يجروا عليهم الحكم الذي ثبت عندهم مع وجود التسليم لهم فيما ادعوه فإن صدقوا فلهم وإن كذبوا فعليهم فعلى هذا تجري الأحكام من أنبياء الأولياء لا أنهم أرباب شرائع بل أتباع ولا بد ولا سيما في هذا الزمان الذي ظهرت فيه دولة محمد صلى الله عليه وسلم‏

[المحدثون رتبتهم الحديث لا غير]

والمحدثون ليست لهم هذه الرتبة بل رتبتهم الحديث لا غير فهم ناظرون في كل شي‏ء آخذون من عين كل شي‏ء من كون كل شي‏ء مظهر حق غير أنهم لا يتعدون حدود الله جملة فإن صدر منهم ما هو في الظاهر تعد لحد من حدود الله فذلك الحد هو بالنسبة إليك حد وبالنسبة إليه مباح لا معصية فيه وأنت لا تعلم وهو عَلى‏ بَيِّنَةٍ من رَبِّهِ في ذلك فما أتى محرما من هذه صفته فإنه ممن قيل له اعمل ما شئت فما عمل إلا ما أبيح له عمله فإنه أمر لا على جهة الوعيد مثل قوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهذا وعيد وإنما قولنا فيمن قيل له اعمل ما شئت‏

فقد غفرت لك فعمل على كشف وتحقق وهذا ثابت في شرعنا بلا شك فأهل الحديث أيضا لهم في مثل هذا قدم ولكن ليس هم مخصوصين به بل يشاركهم فيه من ليس بمحدث من الأولياء وقد عرفت صفة المحدثين فيما قبل وصفة النبيين فقف عند ذلك والله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏

(السؤال الثامن والخمسون) أين مكانهم منهم‏

الجواب مكان التابع من المتبوع وهو المشي على الأثر قال شيخنا محمد بن قائد رأيت في دخولي عليه أثر قدم أمامي فغرت فقيل لي هذه قدم نبيك فسكن ما بي‏

[الدولة المحمدية جامعة لأقدام النبيين والمرسلين‏]

فاعلم أن هذه الدولة المحمدية جامعة لأقدام النبيين والمرسلين عليهم السلام فأي ولي رأى قدما أمامه فتلك قدم النبي الذي هو له وارث‏

[أما قدم محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لا يطأ أثره أحد كما لا يكون على قلبه أحد]

وأما قدم محمد صلى الله عليه وسلم فلا يطأ أثره أحد صلى الله عليه وسلم كما لا يكون أحد على قلبه فالقدم التي رآها محمد بن قائد أو يراها كل من يراها فتلك قدم النبي الذي هو له وارث ولكن من حيث ما هو محمدي لا غير ولهذا قيل له قدم نبيك ولم يقل له هذه قدم محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان الشيخ فهم منه ما ذكرناه فهو من أهل الحديث والكمال وإن كان فهم منه قدم محمد صلى الله عليه وسلم فذلك صدع أصاب عين فهمه ولهذا قال السائل أين مكانهم منهم ولم يقل منه والمكان هنا يعني به المكانة

[الشيخ عبد القادر كان صاحب حال لا صاحب مقام‏]

وحكي عن عبد القادر الجيلي أنه قال حين قيل له ما قاله هذا الشي‏ء كنت في المخدع ومن عندي خرجت له النوالة يعني الخلعة التي أعطى لأنه سئل عنه فقال ما رأيته في الحضرة فقيل ذلك لعبد القادر فلذلك قال كنت في المخدع وسمي النوالة وكان كما قال وإنما قال في المخدع ولم يسم مكان صونه وعينه بهذا الاسم ليعلم بخداع الله محمد بن قائد حيث حكم بأنه ما رأى عبد القادر في الحضرة في معرض النفاسة عليه فإن حضرة محمد بن قائد في هذه الواقعة هي حضرته التي تختص به من حيث معرفته بربه لا حضرة الحق من حيث ما يعرفه عبد القادر أو غيره من الأكابر فستر عنه مقام عبد القادر خداعا فهم ذلك عبد القادر فقال كنت في المخدع وقوله أن من عنده خرجت النوالة له يدل على أن عبد القادر كان شيخه في تلك الحضرة وعلى يديه استفادها وجهل ذلك محمد بن قائد فإن الرجال في ذلك كانوا تحت قهر عبد القادر فيما يحكى لنا من أحواله وأحوالهم وكان يقول هذا عن نفسه فيسلم له حاله فإن شاهده يشهد له بصدق دعواه فإنه كان صاحب حال مؤثرة ربانية مدة حياته لم يكن صاحب مقام وما انتقل إلى حال أبي السعود وإن كان تلميذه إلا عند موته وهي الحال الكبرى وكانت هذه الحال مستصحبة لأبي السعود طول حياته فكان عبدا محضا لم تشب عبوديته ربوبية فاعلم ذلك‏

[لا يرث أحد نبيا على الكمال وإلا كان مثله‏]

ثم لتعلم أن مكان كل واحد من نبيه الذي هو وارثه إنما مكانه منه على الحال التي أثمر له طريقه فإنه لا يرث أحد نبيا على الكمال إذ لو ورثه على الكمال لكان هو رسولا مثله أو نبي شريعة تخصه يأخذ عمن يأخذ عنه وليس الأمر كذلك إلا أن الروح الذي يلقي على ذلك النبي تمتد منه رقيقة ملكية لقلب هذا الرجل الوارث في صورة حالة مشوبة في ظاهرها بصورة ذلك الملك وتسمى تلك الروحانية باسم ذلك الملك وتخاطب هذا الوارث ويخاطبها هذا الوارث بقدر حاله وينطلق على تلك الرقيقة اسم ذلك الروح وربما بعض الورثة يتخيل أنه عين الروح الذي كان يلقي على ذلك النبي وأنه الروح عينه والصور مختلفة وليس الأمر كذلك والخطاب من حيث الصورة لا من حيث الروح وتتعين المرتبة بالصورة

[معرفة الإنسان بنفسه ومرتبته لا تعلم إلا من الصورة]

فمعرفة الإنسان بنفسه ومرتبته لا تعلم إلا من الصورة ومن هنا يتخيل من لا تمكن له في المعارف الإلهية ذوقا إنه نبي أو قد نال درجة أنبياء الشرائع ولهذا قال بعض السادة من رجال الله جعلك الله محدثا صوفيا ولا جعلك صوفيا محدثا فإن الغالب أن تكون بحكم الأصل المتقدم إلا أن يعصم الله فمعرفة المكان الذي لنا من الأنبياء واجب علينا العلم به لئلا نكون ممن ليس عليه في ذلك ولا سيما والله يقول ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ولَوْ كانَ في الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ من السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا ولو كان رجلا لظهر في صورة ملك للالتباس المطلوب الذي هو صورة عملهم ليعلم أنه ما أتى عليهم إلا منهم فما جنوا إلا ثمرة أعمالهم هذا هو الحق‏

(السؤال التاسع والخمسون) أين سائر الأولياء

الجواب في النور خلف حجاب السبحات الوجهية من الأنوار والظلم في نور ممتزج بينهما كنور الأسحار وهو السدفة وأما المؤمنون فإنهم في النور العام المبطون في ظلم الحجب ومنه‏

تخلص الأولياء إلى هذا النور الممتزج والأكابر أحرقتهم أنوار السبحات وخواص الأكابر أحرقهم نور البصر

[علم الأولياء علم الصفات الذاتية منسوبة إلى الحق‏]

فالأولياء لا يتجاوز علمهم الصفات الذاتية من حيث ما هي منسوبة إلى الحق الموصوف بها لا من حيث ما دلت عليها دلائل الآثار فهم يعرفون العالم من الله ويعرفون الله بالله ومن دونهم يعرفون الله من العالم وأما العالم فلا يعرفه من نفسه إلا أكابر الرجال الذين لا يعرفون الأشياء أو المعلومات إلا من نفوسها وأعيانها فلا يتخذون دليلا على الشي‏ء أو المعلوم سوى نفس ذلك المعلوم وذلك لارتفاع المناسبات ولسريان الأحدية في كل معلوم فكما أنه لا مناسبة بين الله وبين خلقه كذلك لا مناسبة بين أعيان العالم والمظاهر فلا يعرفون شيئا بشي‏ء ولا معلوما بمعلوم غيره وسائر الأولياء ما لهم هذه المرتبة

[لا يجتمع الدليل والمدلول ولا يعرف الشي‏ء بغيره‏]

وكيف يعرف الشي‏ء بغيره ولا يجتمع الدليل والمدلول فإن أحدهما إذا انتفى بوجود الآخر جهلت المناسبة المتخيلة فذلك المدلول إنما عرفته حين ظهر لك بنفسه وأما حين نظرك في الدليل على زعمك فلا علم لك إلا بذات الدليل لأن ذاته عرفتك بذاته لا بما جعلته دليلا عليه فإن المدلول في حين علمك بالدليل لست بعالم به فهذا الذي جعل أكابر الرجال لا يتخذون أمر الأمر وإنما يتخذون كل أمر لنفسه وعينه فيعلمون هؤلاء الله بالله والعالم بالعالم والأسماء بالأسماء فلا فكر لهم في استنباط شي‏ء كما لسائر الأولياء فلهم الشهود الدائم فأينية سائر الأولياء في الأدلة فلا يشهدون مدلولا أبدا وعلى هذا جرت أحكامهم‏

[أينية الأولياء في القيامة ويوم الزور الأعظم‏]

وأما أينيتهم في القيامة فهم الذين لا يخافون ولا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ لأنهم ما لهم تبع وهم في أنفسهم آمنون فتغبطهم الأنبياء في ذلك الموطن خاصة وأما أينيتهم في الكثيب يوم الزور الأعظم فلهم الكراسي عليها يقعدون والمنابر والأسرة والمراتب لغيرهم ولكن من حيث هم رسل وأنبياء ومؤمنون‏

[الأكابر في العلم بالله لهم قوة على التحول‏]

وأما الأكابر في العلم بالله فإن لهم قوة على التحول في رقايق لتحول التجلي في الصور فيبعثون لكل تجل في صورة رقيقة صورية من ذواتهم تشاهد ما يشاهده أهل الجمع وهم في تلك الحال في قصورهم ينعمون في صور أجسامهم الطبيعية ومع الله من حيث كونه إحدى الذات بحقائقهم وفي الكثيب عند الرؤية برقائقهم المعنوية التي أوجدوها لصور التجلي ومن سواهم فحالهم إذا كانوا في الجنان لا يكونون في الكثيب وإذا كانوا في الكثيب لا يكونون في الجنان فتفقدهم جواريهم وولدانهم وأكابر القوم لا يفقدهم شي‏ء من ملكهم فهؤلاء بأيديهم ملكوت ملكهم‏

(السؤال الستون) ما خوض الوقوف‏

الجواب دخول بعضهم في بعض طلبا للتخلص مما هم فيه من شدة ذلك اليوم وكربه‏

[أصناف الخائضين في الوقوف‏]

فمنهم الخائض في طلب من يشفع له ومنهم الخائض في طلب من يتكرم عليه لينقذه من هول ذلك اليوم ومنهم الخائض في طلب من يشهد له ومنهم الخائض في طلب الخصم لطلب القصاص ومنهم الخائض ليختفي ويستتر من خصمائه ومنهم الخائض ليستتر حياء من معارفه وعلى هذا كان يعمل شيخنا أبو عمران موسى بن عمران الميرتلي قلت له يوما لم تقلل من معارفك فقال ربما لا أكون هناك بذاك فاستحى من معارفي فإذا لم أر من أعرف هان على بعض الحال ومنهم الخائض ليعرف بمنزلته لما هو فيه من المكانة عند ربه لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وأمثال هذا هو خوض الوقوف إذا تأملت‏

[الذين كانوا يخوضون في آيات الله مستهزءين‏]

وأما الطائفة التي كانت تخوض في آيات الله وكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ فإن الله يخوض بهم في غمرات أعمالهم كما كانوا في الدنيا في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ يكونون في الآخرة في خوضهم يحزنون إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا من الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وإِذَا انْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ فهذا خوضهم في الدنيا وما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا من الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ الصورة بالصورة فهذا خوضهم في الوقوف قال تعالى يوصينا ويحذرنا ممن هذه صفته وإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ... حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إذا أقمتم معهم وهم بهذه المثابة وإن لم تخض معهم قال تعالى أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها يا عِبادِيَ (الَّذِينَ آمَنُوا) إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ فهؤلاء في الوقوف يخاض بهم حيث يكرهون كما خاضوا هنا حيث يكره الحق منهم والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(السؤال الحادي والستون) كيف صار أمره كَلَمْحِ الْبَصَرِ

الجواب الضمير في أمره يعود على الوقوف‏

[الكيفيات لانتقال ولكن تقال بضرب من التشبيه‏]

فاعلم أن الكيفيات لا تنقال ولكن تقال بضرب من التشبيه فإن أمره واحدة أي كلمة واحدة مثل لمح البصر فإن اللمحة

الواحدة من البصر نعم من أحكام المرئيات من حيث الرائي إلى الفلك الأطلس جميع ما يحوي عليه ما أدركه البصر في تلك اللمحة من الذوات والأعراض القائمة بها من الأكوان والألوان وفي العبادات كل مصل والخلق كله مصل من حيث دعي يناجي ربه في الآن الواحد كذلك أمره في الوقوف مع كون ذلك بالمقدار الزماني خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من أيام الدنيا وهو يوم ذي المعارج ويوم الرب من يوم ذي المعارج مثل نصف خمس الخمس‏

[أمر الله في الأيام وان اختلفت مقاديرها مثل لمح البصر]

فالأيام وإن اختلفت مقاديرها وعدها اليوم الشمسي فإن أمر الله فيها مثل لمح البصر للافهام والتوصيل وربما هو في القلة أقل من هذا المقدار بل مقداره الزمان الفرد المتوهم الذي هو يوم الشأن فالشأن بالنظر إلى الحق واحد منه وبالنظر إلى قوابل العالم كله شئون لو لا الوجود حصرها لقلنا إنها لا نهاية لها فانظر الحكم الواحد من الحاكم كيف تعدد وعظم بحيث لا يمكن أن يحصره عدد من حيث العالم وإنما يحصيه من أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً وأَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً

[الذي يصدر منه الأمر لا يتقيد]

فكما صارت الخمسون ألف سنة كيوم واحد وفي يوم واحد كذلك صار أمره كَلَمْحِ الْبَصَرِ وسبب ذلك أن الذي يصدر منه الأمر لا يتقيد فهو في كل مأمور بحيث أمر فينفذ الأمر بحكمه دفعة واحدة وهذا إذا لم يبعد في المحدثات وجوده بهذه السعة فما ظنك بالأمر الحق فإن الهواء حكمه في كل شي‏ء من العالم الطبيعي أسرع من لمح البصر وهو واحد كالإنسان الواحد وكذلك الروح الامري في العقول وفي الأجسام الطبيعية فمثل هذا لا يستبعده إلا من لا علم له بالأمور والحقائق ولا سيما وإن أعاد الضمير في سؤاله من أمره على الضمير المذكور في سورة القمر وما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وهو الذي أراد والله أعلم مع أنه يسوغ أن يعود على الوقوف وعلى الخوض فإن الزمان الواحد يجمع الخائضين في خوضهم والله الهادي من شاء إِلَى الْحَقِّ وإِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ‏

(السؤال الثاني والستون) أمر الساعة كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ‏

الجواب سميت الساعة ساعة لأنها تسعى إلينا بقطع هذه الأزمان لا بقطع المسافات وبقطع الأنفاس فمن مات وصلت إليه ساعته وقامت قيامته إلى يوم الساعة الكبرى التي هي لساعات الأنفاس كالسنة لمجموع الأيام التي تعينها الفصول باختلاف أحكامها

[قدرة الله في الوجود الخيال‏]

فأمر الساعة وشأنها في العالم أقرب من لمح البصر فإن عين وصولها عين حكمها وعين حكمها عين نفوذ الحكم في المحكوم عليهم وعين نفوذه عين تمامه وعين تمامه عين عمارة الدارين فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ ولا يعرف هذا القرب إلا من عرف قدرة الله في وجود الخيال في العالم الطبيعي وما يجده العالم به من الأمور الواسعة في النفس الفرد والطرفة ثم يرى أثر ذلك في الحس بعين الخيال فيعرف هذا القرب وتضاعف السنين في الزمن القليل من زمان الحياة الدنيا ومن وقف على حكاية الجوهري رأى عجبا وهو من هذا الباب‏

[حكاية الجوهري‏]

فإن قلت وما حكاية الجوهري قلنا ذكر عن نفسه أنه خرج بالعجين من بيته إلى الفرن وكانت عليه جنابة فجاء إلى شط النيل ليغتسل فرأى وهو في الماء مثل ما يرى النائم كأنه في بغداد وقد تزوج وأقام مع المرأة ست سنين وأولدها أولادا غاب عني عددهم ثم رد إلى نفسه وهو في الماء ففرغ من غسله وخرج ولبس ثيابه وجاء إلى الفرن وأخذ الخبز وجاء إلى بيته وأخبر أهله بما أبصره في واقعته فلما كان بعد أشهر جاءت تلك المرأة التي رأى أنه تزوجها في الواقعة تسأل عن داره فلما اجتمعت به عرفها وعرف الأولاد وما أنكرهم وقيل لها متى تزوج فقالت منذ ست سنين وهؤلاء أولاده مني فخرج في الحس ما وقع في الخيال‏

[من مسائل ذى النون المصري التي تخيلها العقول‏]

وهذه من مسائل ذي النون المصري الستة التي تحيلها العقول فلله قوى في العالم خلقها مختلفة الأحكام كاختلاف حكم العقل في العامة من حكم البصر من حكم السمع من حكم الطعم وغير ذلك من القوي التي في عامة الناس فاختص الله أولياءه بقوى لها مثل هذه الأحكام فلا ينكرها إلا جاهل بما ينبغي للجناب الإلهي من الاقتدار وفي معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه كفاية في هذا الباب مع بعد هذه المسافات التي قطعها في الزمان القليل‏

(السؤال الثالث والستون) ما كلام الله تعالى لعامة أهل الوقوف‏

الجواب يقول لهم ما جئتم به فيقع في أسماع السامعين ذلك مختلفا باختلاف أحوالهم فتختلف أحوالهم بأسماعهم بل تختلف أسماعهم بحسب أحوالهم في الموقف ولا يحصل في سمع واحد منهم ما حصل في سمع الآخر وهو السؤال عن النفس الذي قبض فيه ولا يكون هذا الكلام‏

إلا لأهل الوقوف خاصة الذين هم في هول ذلك اليوم وأما المتصرفون فيه كالأنبياء والرسل والدعاة إلى الله وكالمستريحين من أهل المنابر الذين لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وكالمصونين في سرادقات الجلال خلف حجاب الأنس فهؤلاء كلهم وأمثالهم ما هم من أهل الوقوف فأهل الوقوف هم الذين ينتظرون حكم الله فيهم فيجيبونه عند هذا الكلام بما فهم كل واحد منهم‏

(السؤال الرابع والستون) ما كلامه للموحدين‏

الجواب يقول لهم فيما ذا وحدتموني وبما ذا وحدتموني وما الذي اقتضى لكم توحيدي‏

[انتفاء ادعاء التوحيد بأى وجه أو في أي وجه‏]

فإن كنتم وحدتموني في المظاهر فأنتم القائلون بالحلول والقائلون بالحلول غير موحدين لأنه أثبت أمرين حال ومحل وإن كنتم وحدتموني في الذات دون الصفات والأفعال فما وحدتموني فإن العقول لا تبلغ إليها والخبر من عندي فما جاءكم بها وإن كنتم وحدتموني في الألوهة بما تحمله من الصفات الفعلية والذاتية من كونها عينا واحدة مختلفة النسب فبما ذا وحدتموني هل بعقولكم أو بي وكيفما كان فما وحدتموني لأن وحدانيتي ما هي بتوحيد موحد لا بعقولكم ولا بى فإن توحيدكم إياي بي هو توحيدي لا توحيدكم وبعقولكم كيف يحكم علي بأمر من خلفته ونصبته‏

[اقتضاءات التوحيد]

وبعد أن ادعيتم توحيدي بأي وجه كان أو في أي وجه كان فما الذي اقتضى لكم توحيدي إن كان اقتضاه وجودكم فأنتم تحت حكم ما اقتضاه منكم فقد خرجتم عني فأين التوحيد وإن كان اقتضاه أمري فأمري ما هو غيري فعلى يدي من وصلكم إن رأيتموه مني فمن الذي رآه منكم وإن لم تروه مني فأين التوحيد يا أيها الموحدون كيف يصح لكم هذا المقام وأنتم المظاهر لعيني وأنا الظاهر والظاهر يناقض الهوية فأين التوحيد لا توحيد في المعلومات فإن المعلومات أنا وأعيانكم والمحالات والنسب فلا توحيد في المعلومات فإن قلتم في الوجود فلا توحيد فإن الوجود عين كل موجود واختلاف المظاهر يدل على اختلاف وجود الظاهر فنسبة عالم ما هي نسبة جاهل ولا نسبة متعلم فأين التوحيد وما ثم إلا المعلومات أو الموجودات‏

[التوحيد لا يضاف ولا يضاف إليه‏]

فإن قلت لا معلوم ولا مجهول ولا موجود ولا معدوم وهو عين التوحيد قلنا بنفس ما علمت أن في تقسيم المعلومات من يقبل هذا الوصف فقد دخل تحت قسم المعلومات فأين التوحيد فيا أيها الموحدون استدركوا الغلط فما ثم إلا الله والكثرة في ثم وما هم سواه فأين التوحيد فإن قلتم التوحيد المطلوب في عين الكثرة قلنا فذلك توحيد الجمع فأين التوحيد فإن التوحيد لا يضاف ولا يضاف إليه استعدوا أيها الموحدون للجواب عن هذا الكلام إذا وقع السؤال فإن كان أهل الشرك لا يغفر لهم فبحقيقة ما نالوا ذلك لأنه لو غفر لهم ما قالوا بالشريك فشاهدوا الأمر على ما هو عليه فإن قلت فمن أين جاءهم الشقاء وهم بهذه المثابة وإن عدم المغفرة في حقهم ثناء عليهم قلنا لأنهم عينوا الشريك فأشقاهم توحيد التعيين فلو لم يعينوا لسعدوا ولكن هم أرجى من الموحدين لدرجة العلم جعلنا الله ممن وحده بتوحيد نفسه جل علاه‏

(السؤال الخامس والستون) ما كلامه للرسل‏

الجواب ما قاله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ فأووا إلى لا عِلْمَ لَنا فعلموا أنهم لما وجهوا دعوا إلى الله تعالى أممهم ظاهرا وباطنا بدعوة واحدة فلو كلفوا الظواهر لم يكن قولهم لا عِلْمَ لَنا جوابا

[المقصود للشرع هو الباطن بشرط مخصوص‏]

ومن هنا لم يصح جميع فروع أحكام الشريعة من المنافق لأنه ما أجاب بباطنه لدعوته مثل ما أجاب بظاهره وصحت فروع أحكام الشريعة من العاصي المؤمن بباطنه فعلمنا أن المقصود للشرع الباطن ولكن بشرط مخصوص وهو أن يعم الايمان جميع فروع الأحكام وأصولها فإن آمن ببعض وكفر ببعض فلا يعتبر مثل ذلك الايمان وهو الكافر حقا

[اعتقاد القربة وأنواعها]

فَيَقُولُ الله تعالى للرسل ما ذا أُجِبْتُمْ إذا كان كلامه لهم في حق ما كلفهم من الدعوة إليه فإن أراد السائل ما كلامه للرسل فيما يختص بذواتهم من كونهم عبيدا مقربين فيكلمهم بما يكلم به المقربين من عباده فكلامه للرسل المقربين ممن اعتقدتم القربة هل اعتقدتم أن اقترابكم إلينا أو إلى سعادتكم أو إلى معرفة ذواتكم أو إلى معرفتي‏

[الاقتراب إلى الحق وتناقضاته‏]

فإن اعتقدتم اقترابكم إلينا فقد حددتموني وأنا لا حد لي وهذا اللسان الذي أذكره في هذا الفصل إنما هو كلام الحق لمن دعا إلى الله على بصيرة كما قال أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا ومن اتَّبَعَنِي فهذا لسان من اتبعه في دعوته إلى الله نيابة عنه فكأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله على بصيرة من حيث دعا الرسول لأنهم ورثة وإنما قلنا هذا لأن‏

كلامه للرسل لا يعرفه إلا الرسل ولا ذوق لنا فيه ولو عرفنا به ما عرفناه ولو عرفناه لكنا رسلا مثلهم ولا حظ لنا في رسالتهم ولا في نبوتهم وكلامنا لا يكون إلا عن ذوق فالجواب عن هذا السؤال إذا أراد الرسل ترك الجواب فأردنا أن نفيد أصحابنا في أن نتكلم في كلامه تعالى للرسل الذين هم الورثة رسل رسل الله لما دعوا إلى الله على بصيرة وشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله على بصيرة بينه وبين من اتبعه فاعلموا من أين نتكلم وفيمن أتكلم وعمن نبين ثم نرجع إلى ما كنا بسبيله فنقول فيقول فقد حددتموني وأنا لا حد لي فنقول هذا الذي تقول لسان العلم وأنت خاطبتنا بلسان الايمان فآمنا

فقلت من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا

فما حددناك إلا بحدك فأنت حددت نفسك بنا وحددتنا بك وإلا فمن أين لنا أن نحد ذواتنا فكيف أن نحدك وجعلت الايمان بما ذكرناه قربة إليك فهذا كلامك ولسان الايمان ونحن لا جراءة لنا على أن نقول ما قلته عن نفسك فيقول صدقتم هذا لسان الايمان‏

[الاقتراب إلى السعادة وإلى معرفة الذات ومشاكله‏]

فتقول طائفة منهم اقتربنا إلى سعادتنا فيقول سعادتكم قائمة بكم وما برحت معكم في حال طلبكم القربة إليها فإن لم تعلموا ذلك فقد جهلتم وإن علمتموه فما صدقتم إذا فلا قربة فإن قالت طائفة إنما اعتقدنا القربة إلى معرفة ذواتنا فيقول لهم الشي‏ء لا يجهل نفسه لكنه لا يعرف أنه يعرف نفسه لأن معرفة الشهود تحجب عن معرفة المشهود فطلبكم القربة من معرفة ما هو معروف لا يصح‏

[اعتقاد القربة من معرفة الحق واستحالة ذلك‏]

فإن قالت طائفة ولا بد أن تقول إنما اعتقدنا القربة من معرفتك فيقول لهم كيف يعرف من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فلو كان شيئا لجمعتهما الشيئية فيقع التماثل فيها إذا فلا شيئية له فليس هو شيئا ولا هو لا شي‏ء فإن لا شي‏ء صفة المعدوم فيماثله المعدوم في أنه لا شي‏ء وهو لا يماثل فليس مثله شي‏ء وليس مثله لا شي‏ء ومن هو بهذه المثابة كيف يعرف فبطل اقترابكم إلى معرفتي فبطل أن يكونوا من المقربين فيقولون لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فيقول أنتم رسل وحقيقة الرسول أن يكون بين مرسل ومرسل إليه وهو حامل إليهم رسالة ليعملوا بحكم ما تقتضيه تلك الرسالة فالرسول لما كانت مرتبته البينية كان أقرب من المرسل إليهم إلى الاسم الذي أرسله وكان المرسل إليهم أقرب إلى الاسم القابل لما جاء به الرسول من الرسول فالكل من المقربين فإن لم يقبلوا الرسالة كان الرسول من المقربين وكان المرسل إليهم غير متصفين بالقربة فكانوا من المبعدين‏

(السؤال السادس والستون) إلى أين يأوون يوم القيامة من العرصة

الجواب إلى ساق العرش ويوم القيامة له مواطن كثيرة فالرسل يأوون يوم القيامة من العرصة في كل موطن إلى الموضع الذي يكون فيه تجلى الحكم الإلهي الذي يليق بذلك الموطن فموطن للسؤال وموطن للموازين وموطن لاخذ الكتب وموطن للصراط وموطن للحوض‏

[تكون الرسل في مواطن يوم القيامة بين يدي الحق كالوزغة بين يدي الملك‏]

فمواطن القيامة تكون الرسل فيها بين يدي الحق سبحانه كالوزغة بين يدي الملك وأقربهم منزلة من هو أدنى من قاب قوسين وهو التقاء قطري الدائرة ثم يأوون في السؤال العام إلى لا علم لنا وفي السؤال الخاص بحسب ما يقتضيه ذلك السؤال من الجواب وللحق سؤال في كل عرصة من عرصات القيامة فيأوون إلى الاسم الذي يتضمن الجواب عن ذلك السؤال الخاص‏

(السؤال السابع والستون) كيف مراتب الأنبياء والأولياء يوم الزيارة

الجواب أن الناس إذا جمعهم الله يوم الزيارة في جنة عدن على كثيب المسك الأبيض نصب لهم منابر وأسرة وكراسي ومراتب‏

[أنبياء الشرائع والأنبياء الاتباع‏]

فالأنبياء على رتبتين أنبياء شرائع وأنبياء أتباع فأنبياء الشرائع في الرتبة الثانية من الرسل والأنبياء الأتباع في الرتبة الثالثة والرتبة الثالثة تنقسم قسمين قسم يسمى أنبياء وقسم يسمى أولياء والرتبة للأولياء بالاسم العام‏

[رؤية العلم ورؤية الإيمان‏]

فإذا كان يوم الزيارة فكل نبي أخذ معرفة ربه من ربه إيمانا لم يشبها بنظر فكري فإنه يشاهد ربه بعين إيمانه والولي التابع له في إيمانه بربه يراه بمرآة نبيه فإن كان هذا الولي حصل معرفة ربه بنظره واتخذ ذلك قربة من حيث إيمانه فله يوم الزيارة رؤيتان رؤية علم ورؤية إيمان وكذلك إن كان النبي له في معرفته بربه نظر فكري له رؤيتان رؤية علم ورؤية إيمان‏

[أولياء الفترات‏]

فإن كان الولي من أولياء الفترات ولم يحصل له في معرفته بربه من المعارف الإلهية التي جاءت بها الرسل وكانت معرفتهم بربهم إما عن نظر وإما عن تجل إلهي لقلبه أو كلاهما فمثل هؤلاء يكونون بما هم أهل نظر في مرتبة أهل النظر في الرؤية وإن كانت‏

معرفتهم عن كشف إلهي فإن لهؤلاء صفا على حدة يتميزون به عن سائر الخلق‏

[الرؤية يوم الزيارة تابعة للاعتقاد]

والجامع لهذا الباب أن الرؤية يوم الزيارة تابعة للاعتقادات في الدنيا فمن اعتقد في ربه ما أعطاه النظر فما أعطاه الكشف وما أعطاه تقليد رسوله فإنه يرى ربه في صورة وجه كل اعتقاد ربط عليه إلا أنه في تقليد نبيه يراه بصورة نبيه من حيث ما أعلمه ذلك الرسول مما أوحى به إليه في معرفته بربه فلمثل هذا ثلاث تجليات بثلاثة أعين في الآن الواحد وكذلك حكم صاحب النظر وحده أو صاحب الكشف وحده أو صاحب التقليد وحده‏

[الأولياء الذين لا يحكم عليهم مقام‏]

فتتميز مراتب الأولياء الأتباع في الزيارة بتقديم الأنبياء عليهم والطبقتان اللتان ليستا بأنبياء ولا أتباع فهم أولياء الله لا يحكم عليهم مقام يتميزون عن الجميع بالنسب الصحيح إلى ربهم غير أن أصحاب النظر منهم في الرتبة دون أصحاب الكشف فبين الحق وبينهم في الرؤية حجاب فكرهم كلما أرادوا أن يرفعوا ذلك الحجاب لم يستطيعوا كاتباع الأنبياء كلما هموا برفع حجب الأنبياء عنهم حتى يروه دون هذه الواسطة لم يستطيعوا ذلك فلا تكون الرؤية الخالصة من الشوب إلا للأنبياء الرسل أهل الشرائع ولأهل الكشف خاصة ومن حصل له هذا المقام مع كونه تابعا أو صاحب نظر جمع له على قدر ما عنده ولو كان على ألف طريق‏

[العلم الإلهي الواسع‏]

وأما الرجال الذين صوبوا اعتقاد كل معتقد بما وصله إليه وعلمه وقرره فإنه يوم الزيارة يرى ربه بعين كل اعتقاد فالناصح نفسه ينبغي له أن يبحث في دنياه على جميع المقالات في ذلك ويعلم من أين أثبت كل واحد ذو مقالة مقالته فإذا ثبت عنده من وجهها الخاص بها الذي به صحت عنده وقال بها في حق ذلك المعتقد ولم ينكرها ولا ردها فإنه يجني ثمرتها يوم الزيارة كانت تلك العقيدة ما كانت وهذا هو العلم الإلهي الواسع‏

[لم يخرج عن الله نظر ناظر ولا يصح أن يخرج‏]

والأصل في صحة ما ذكرناه أن كل ناظر في الله تحت حكم اسم من أسماء الله فذلك الاسم هو المتجلي له وهو المعطي له ذلك الاعتقاد بتجليه له من حيث لا يشعر والأسماء الإلهية كلها نسبتها إلى الحق صحيحة فرؤيته في كل اعتقاد مع الاختلاف صحيحة ليس فيها من الخطاء شي‏ء هذا يعطيه الكشف الأتم فلم يخرج عن الله نظر ناظر ولا يصح أن يخرج وإنما الناس حجبوا عن الحق بالحق لوضوح الحق فهذه الطائفة التي هي بهذه المثابة من العلم بالله صف يوم الزيارة بمعزل إذا انصرفوا من الزيارة يتخيل كل صاحب اعتقاد أنه منهم لأنه يرى صورة اعتقاده فيها كصورته فهو محبوب لجميع الطوائف من يكون بهذه الصفة وكذلك كان في الدنيا وهذا القول الذي ذكرناه لا يعرفه إلا الفحول من أهل الكشف والوجود وأما أصحاب النظر العقلي فلا يشمون منه رائحة فاجعل بالك لما ذكرناه واعمل عليه تعطي الألوهية حقها وتكون ممن أنصف ربه في العلم به فإن الله يتعالى أن يدخل تحت التقييد أو تضبطه صورة دون غيرها ومن هنا تعرف عموم السعادة لجميع خلق الله واتساع الرحمة التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ انتهى الجزء الخامس والثمانون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال الثامن والستون) ما حظوظ الأنبياء من النظر إليه‏

الجواب لا أدري فإني لست بنبي فذوق الأنبياء لا يعلمه سواهم إن أراد الأنبياء الذين خصهم الله بالتشريع العام والخاص بهم فإن أراد أنبياء الأولياء فحظهم منه على قدر ما عندهم من وجوه الاعتقادات في الله فإن حصل على الجميع فحظه ما للجميع فهو في النعيم العام فيلتذ بلذة كل معتقد فما أعظمها من لذة وإن حصل على البعض فلذاته بحسب ما حصل له وإن انفرد بأمر واحد فحظه ما انفرد به من غير مزيد فافهم ما ذكرناه‏

(السؤال التاسع والستون) ما حظوظ المحدثين من النظر إليه‏

الجواب الحجاب الأقرب فإذا شاهد ربه حصل لهم في المشاهدة من الحظ مثل ما يحصل لهم من الكلام إلا أن المحدثين يتميزون في الرؤية عن سائر الخلق بأن التجلي يتنوع عليهم في المشهد الواحد وسائر الخلق ليس لهم هذا المقام فإنه مخصوص بالمحدثين‏

(السؤال السبعون) ما حظوظ سائر الأولياء من النظر إليه‏

الجواب الأولياء على مراتب فتختلف حظوظهم باختلاف مراتبهم فولى حظه من النظر إليه لذة عقلية وولي حظه من ذلك لذة نفسية وولي حظه من ذلك لذة حسية وولي حظه من ذلك لذة خيالية وولي حظه من ذلك لذة مكيفة وولي حظه من ذلك لذة غير مكيفة وولي حظه من ذلك‏

لذة ينقال تكييفها وولي حظه من ذلك لذة لا ينقال تكييفها فهم درجات عند الله كما كانوا في الدنيا كما قال تعالى هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ الله والله بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ‏

(السؤال الحادي والسبعون) ما حظوظ العامة من النظر إليه‏

الجواب حظوظ العامة من النظر إليه على قدر ما فهموه ممن قلدوه من العلماء على طبقاتهم فمنهم من ألقى إليه عالمه ما عنده ومنهم من ألقى إليه عالمه على قدر ما علم من عقله وقبوله فإن الفطر مختلفة متفاضلة بحسب ما ألقى الله عندها فإنها أقسام أصلها المزاج الذي ركبه الله عليه وهو السبب في اختلاف نظر العلماء بأفكارهم في المعقولات فيكون حظهم في لذة النظر حظهم فيما تخيل لهم‏

[فالعامة حظوظهم خيالية]

فالعامة حظوظهم خيالية لا يقدرون على التجريد عن المواد في كل ما يلتذون به من المعاني في الدنيا والبرزخ والآخرة بل قليل من العلماء من يتصور التجريد الكلي عن المواد ولهذا أكثر الشريعة جاءت على فهم العامة وتأتي فيها تلويحات للخاصة مثل قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وسُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ‏

(السؤال الثاني والسبعون) أن الرجل منهم ينصرف بحظه من ربه فيذهل أهل الجنان عن نعيمهم اشتغالا بالنظر إليه‏

الجواب ذلك للباس الرائي صورة ما رأى‏

[نعيم الأكوان في ظلال الجنان وبهجة الكيان إذا التقى العينان‏]

وسبب ذلك أن المقام عظيم في قلب كل طائفة وأنه أعظم مما هم فيه من نعيم الأكوان في الجنان فإذا دعوا إلى الزيارة وبقي الأزواج الجنانيون من الحور والولدان وأشجار الجنان وأنهارها وجميع ما فيها مما يتنعم به من الطيور والمراكب وغير ذلك والكل حيوان فإنها الدار الحيوان فإذا دعي صاحب المنزل ذكرا كان أو أنثى من الثقلين بقي أهل ذلك المنزل مترقبين ما يأتون به إليهم من الخلع الإلهية التي أورثهم النظر إليه وبأي صورة يرجعون إليهم من ذلك المقام الأعظم إذ كان ذلك مشاهدة الملك فإذا وردوا عليهم من الزيارة إذا قال الجليل لملائكته ردوهم إلى قصورهم وقد غشيهم من نور الرؤية ما غشاهم مما لا مناسبة بين ذلك وبين الجمال والبهاء الذي كانوا فيه قبل الزيارة مع تعظيم المقام الذي مشوا إليه في قلوب أهل المنزل ثم إنهم إذا رجعوا إليهم بصفة ما يشاهدونه في الرؤية أشرق الجنان بأنوارهم على مقدارهم بصورة ما رأوه فيجدون من الزيارة ما لم يكن عندهم ولا كانوا عليه فهذا هو السبب في ذهولهم‏

[حظ كل شخص من ربه على مقدار علمه وعقده‏]

وحظ كل شخص من ربه على مقدار علمه وعقده في درجات العقائد واختلافاتها وكثرتها وقلتها كما قد تقرر قبل في هذه الفصول فاعلم ذلك والله الهادي وفي سوق الجنة علم ما أشرنا إليه‏

(السؤال الثالث والسبعون) ما المقام المحمود

الجواب هو الذي يرجع إليه عواقب المقامات كلها وإليه تنظر جميع الأسماء الإلهية المختصة بالمقامات وهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر ذلك لعموم الخلق يوم القيامة وبهذا صحت له السيادة على جميع الخلق يوم العرض‏

قال صلى الله عليه وسلم أنا سيد الناس يوم القيامة

[المقام المحمود لآدم في الدنيا ولمحمد في الآخرة]

وكان قد أقيم فيه آدم صلى الله عليه وسلم لما سجدت له الملائكة فإن ذلك المقام اقتضى له ذلك في الدنيا وهو لمحمد صلى الله عليه وسلم في الآخرة وهو كمال الحضرة الإلهية وإنما ظهر به أولا أبو البشر لكونه كان يتضمن جسده بشرية محمد صلى الله عليه وسلم وهو الأب الأعظم في الجسمية والمقرب عند الله وأول هذه النشأة الترابية الإنسانية فظهرت فيه المقامات كلها حتى المخالفة إذ كان جامعا للقبضتين قبضة الوفاق وقبضة الخلاف فما تحرك من آدم لمخالفة النهي إلا النسمة المجبولة على المخالفة فكانت مخالفته نهي الله من تحرك تلك النسمة التي كان يحملها في ظهره فإن المقام يقتضي له ذلك وسألت شيخنا أبا العباس عن ذلك فقال ما عصى من آدم عليه السلام إلا ما كان من أولاده المخالفين في ظهره‏

[من المقام المحمود يفتح باب الشفاعة]

وكانت العاقبة لمحمد صلى الله عليه وسلم في الدار الآخرة فظهر في المقام المحمود ومنه يفتح باب الشفاعات فأول شفاعة يشفعها عند الله تعالى في حق من له أهلية الشفاعة من ملك ورسول ونبي وولي ومؤمن وحيوان ونبات وجماد فيشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه لهؤلاء أن يشفعوا فكان محمودا بكل لسان وبكل كلام فله أول الشفاعة ووسطها وآخرها يقول الله شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين فيقتضي سياق الكلام أن يكون أرحم الراحمين يشفع أيضا فلا بد ممن يشفع عنده وما ثم إلا الله‏

[إن الله يشفع من حيث أسماؤه‏]

فاعلم إن الله يشفع من حيث أسماؤه فيشفع اسمه أرحم‏

الراحمين عند اسمه القهار والشديد العقاب ليرفع عقوبته عن هؤلاء الطوائف فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط وقد نبه الله تعالى على هذا المقام فقال تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً فالمتقي إنما هو جليس الاسم الإلهي الذي يقع منه الخوف في قلوب العباد فسمى جليسه متقيا منه فيحشره الله من هذا الاسم إلى الاسم الإلهي الذي يعطيه الأمان مما كان خائفا منه وهو الرحمن فقال يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي يأمنون مما كانوا يخافون منه ولهذا يقول في الشفاعة وبقي أرحم الراحمين فبهذه النسبة تنسب الشفاعة إلى الحق من الحق من حيث آثار أسمائه وهذا هو مأخذ العارفين من الأولياء

[جمع المحامد كلها لمحمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يوم القيامة]

فلا يجمع المحامد يوم القيامة كلها إلا محمد صلى الله عليه وسلم فهذا الذي عبر عنه بالمقام المحمود قال صلى الله عليه وسلم في هذا المقام فأحمده بمحامد لا أعلمها الآن وهذا يدلك أن علوم الأنبياء والأولياء أذواق لا عن فكر ونظر فإن الموطن يقتضي هنالك بآثاره أسماء إلهية يحمد الله بها ما يقتضيه موطن الدنيا فلهذا

قال لا أعلمها الآن‏

وهذا المقام هو الوسيلة لأن منه يتوصل إلى الله فيما توجه فيه من فتح باب الشفاعة وهو شفاعته في الجميع أ لا تراه صلى الله عليه وسلم يقول في الوسيلة إنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لرجل واحد وأرجو أن أكون أنا فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة فجعل الشفاعة ثواب السائل ولهذا سمي المقام المحمود الوسيلة وكان ثوابهم في هذا السؤال أن يشفعوا وهذا هو منصب إلهي جامع من عين ملك الملك قال تعالى أَلا إِلَى الله تَصِيرُ الْأُمُورُ وقال وإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فكان المرجع إليه فكذلك ترجع المقامات كلها والأسماء إلى هذا المقام المحمود

قال صلى الله عليه وسلم أوتيت جوامع الكلم‏

(السؤال الرابع والسبعون) بأي شي‏ء ناله‏

الجواب‏

قال صلى الله عليه وسلم لكل نبي دعوة مستجابة فاستعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي‏

لعلمه بموطن الآخرة أكثر من علم غيره من الأنبياء

[شريعة محمد تتضمن جميع الأعمال التي تصح أن تشرع‏]

فاعلم أنه لما كان المقام المحمود إليه ترجع المقامات كلها وهو الجامع لها لم يصح أن يكون صاحبه إلا من أوتي جوامع الكلم لأن المحامد من صفة الكلام ولما كان بعثه عاما كانت شريعته جامعة جميع الشرائع فشريعته تتضمن جميع الأعمال كلها التي تصح أن تشرع‏

[جنات الأعمال ما بين الثمانين إلى السبعين‏]

واعلم أن جنات الأعمال ما بين الثمانين إلى السبعين لا تزيد ولا تنقص والايمان بضع وسبعون بابا أدنى ذلك إماطة الأذى عن الطريق وأرفعه قول لا إله إلا الله قال تعالى في حق العاملين نَتَبَوَّأُ من الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فلم يحجر بهذا لمن عمل بكل عمل فإن الإنسان في الدنيا أي عمل عمله من الأعمال أعمال الايمان لا يحجر عليه إذا شاء عمله‏

[ظهور محمد بجميع شعب الإيمان‏]

فلما ظهر صلى الله عليه وسلم بجميع شعب الايمان كلها التي هي بعدد الجنات العملية إما بالفعل وإما بالدلالة عليها فإنه الذي سنها لأمته فله أجر من عمل بها ولا يخلو واحد من الأمة أن يعمل بواحدة منها فهي في ميزانه صلى الله عليه وسلم من حيث العمل بها فيتبوأ من الجنة حيث يشاء وهذا لا يصلح إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه عنه ظهرت السنن الإلهية فبهذا نال المقام المحمود وبجوامع الكلم وبالبعثة العامة فإنه بالعناية الأخروية صحت له هذه المقامات في الدنيا وباتصافه بهذه الأحوال في الدنيا نال تلك المقامات الأخروية فهو دور بديع مختلف الوجوه حتى يصح الوجود عنه‏

(السؤال الخامس والسبعون) كم بين حظ محمد صلى الله عليه وسلم وحظوظ الأنبياء عليهم السلام‏

الجواب إما بينه وبين الجميع فحظ واحد وهو عين الجمعية لما تفرق فيهم وإما بينه وبين كل واحد منهم فثمانية وسبعون حظا ومقاما إلا آدم فإنه ما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما إلا ما بين الظاهر والباطن فكان في الدنيا محمد صلى الله عليه وسلم باطن آدم عليه السلام وآدم عليه السلام ظاهر محمد صلى الله عليه وسلم وبهما كان الظاهر والباطن وهو في الآخرة آدم عليه السلام باطن محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد صلى الله عليه وسلم ظاهر آدم وبهما يكون الظاهر والباطن في الآخرة فهذا بين حظ محمد صلى الله عليه وسلم وبين حظوظ الأنبياء عليهم السلام وأكثر أصحابنا يمنعون معرفة التوقيت في ذلك وهو غلط منهم‏

[الحظوظ محصورة من حيث الأعمال‏]

وفي هذا الفصل تفصيل عظيم تبلغ فصول التفصيل فيه إلى مائة ألف تفصيل وأربعة وعشرين ألف تفصيل بعدد الأنبياء عليهم السلام لأنه يحتاج إلى تعيين كل نبي ومعرفة ما بين حظ محمد صلى الله عليه‏

وسلم وبين ذلك النبي والحظوظ محصورة من حيث الأعمال في تسعة وسبعين وقد يكون للنبي من ذلك أمر واحد ولآخر أمران ولآخر عشر العدد وتسعه وثمنه وأقل من ذلك وأكثر والمجموع لا يكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يبعث بعثا عاما سوى محمد صلى الله عليه وسلم وما سواه فبعثه خاص لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً ولَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً

(السؤال السادس والسبعون) ما لواء الحمد

الجواب لواء الحمد هو حمد الحمد وهو أتم المحامد وأسناها وأعلاها مرتبة

[اللواء علامة على مرتبة الملك ووجود الملك‏]

لما كان اللواء يجتمع إليه الناس لأنه علامة على مرتبة الملك ووجود الملك كذلك حمد المحامد تجتمع إليه المحامد كلها فإنه الحمد الصحيح الذي لا يدخله احتمال ولا يدخل فيه شك ولا ريب إنه حمد لأنه لذاته يدل فهو لواء في نفسه أ لا ترى لو قلت في شخص إنه كريم أو يقول عن نفسه ذلك الشخص إنه كريم يمكن أن يصدق هذا الثناء ويمكن أن لا يصدق فإذا وجد العطاء من ذلك الشخص بطريق الامتنان والإحسان شهد العطاء بذاته بكرم المعطي فلا يدخل في ذلك احتمال فهذا معنى حمد الحمد فهو المعبر عنه بلواء الحمد وسمي لواء لأنه يلتوي على جميع المحامد فلا يخرج عنه حمد لأن به يقع الحمد من كل حامد وهو عاقبة العاقبة فافهم ولما كان يجمع ألوان المحامد كلها لهذا عم ظله جميع الحامدين‏

[آدم فمن دونه تحت لواء محمد ص‏]

قال صلى الله عليه وسلم آدم فمن دونه تحت لوائي‏

وإنما قال فمن دونه لأن الحمد لا يكون إلا بالأسماء وآدم عالم بجميع الأسماء كلها فلم يبق إلا أن يكون من هناك تحته ودونه في الرتبة لأنه لا بد أن يكون مثنيا باسم ما من تلك الأسماء ولما كانت الدولة في الآخرة لمحمد صلى الله عليه وسلم المؤتي جوامع الكلم وهو الأصل فإنه صلى الله عليه وسلم أعلم بمقامه فعلمه وآدم بين الماء والطين لم يكن بعد فكان آدم لما علمه الله الأسماء في المقام الثاني من مقام محمد صلى الله عليه وسلم فكان قد تقدم لمحمد صلى الله عليه وسلم علمه بجوامع الكلم والأسماء كلها من الكلم ولم تكن في الظاهر لمحمد صلى الله عليه وسلم عين فتظهر بالأسماء لأنه صاحبها فظهر ذلك في أول موجود من البشر وهو آدم فكان هو صاحب اللواء في الملائكة بحكم النيابة عن محمد صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم عليه بوجود الطينة فمتى ظهر محمد صلى الله عليه وسلم كان أحق بولايته ولوائه فيأخذ اللواء من آدم يوم القيامة بحكم الأصالة فيكون آدم فمن دونه تخت لوائه وقد كانت الملائكة تحت ذلك اللواء في زمان آدم فهم في الآخرة تحته فتظهر في هذه المرتبة خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجميع‏

(السؤال السابع والسبعون) بأي شي‏ء يثنى على ربه حتى يستوجب لواء الحمد

الجواب بالقرآن وهو الجامع للمحامد كلها ولهذا سمي قرآنا أي جامعا وهو قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «ملك» مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏

[الحمد العرفي العقلي والحمد الشرعي‏]

وما أنزلت على أحد قبله ولا ينبغي أن تنزل الأعلى من له هذا المقام فإنه سبحانه لا ينبغي أن يحمد إلا بما يشرع أن يحمد به من حيث ما شرعه لا من حيث ما تطلبه الصفة الحمدية من الكمال فذلك هو الثناء الإلهي ولو حمد بما تعطيه الصفة لكان حمدا عرفيا عقليا ولا ينبغي مثل هذا الحمد لجلاله‏

(السؤال الثامن والسبعون) ما ذا يقدم إلى ربه من العبودية

الجواب العبودة وهو انتساب العبد إليه ثم بعد ذلك تكون العبودية وهو انتسابه إلى المظهر الإلهي‏

[امتثال العبد من عينيته ومخالفته من مظهريته‏]

فبالعبودة يمتثل الأمر دون مخالفة وهو إذا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من غير تردد فإنه ما ثم إلا العين الثابتة القابلة بذاتها للتكوين فإذا حصلت مظهرا وقيل لها افعل أو لا تفعل فإن خالفت فمن كونها مظهرا وإن امتثلت ولم تتوقف فمن حيث عينها إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏

[بعبودية العبودة يتقدم محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إلى الله يوم القيامة]

فبهذه العبودية يتقدم إلى الله في ذلك اليوم أ لا تراه يسجد من غير أن يؤمر بالسجود لكن السجود في ذلك اليوم هو المأمور بالتكوين ولم يكن له محل الأعين محمد صلى الله عليه وسلم فتكون السجود في ذاته لأمر الحق له بتكوينه فسجد به محمد صلى الله عليه وسلم من غير أمر إلهي ورد عليه بالسجود فيقال له ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع ثم بعد ذلك في موطن آخر يؤمر الخلق بالسجود ليتميز المخلص من غير المخلص فذلك سجود العبودية

[العارفون بالله يعبدون ربهم من حيث العبودة]

فالعارفون بالله في هذه الدار يعبدون ربهم من حيث العبودة فما لهم نسبة إلا إليه سبحانه ومن سواهم فإنهم ينسبون إلى العبودية فيقال قد قاموا بين يديه في مقام العبودية فهذا الذي يقدمه من العبودية إلى ربه وكل محقق بهذه المثابة يوم القيامة

(السؤال التاسع والسبعون) بأي شي‏ء يختمه حتى يناوله مفاتيح الكرم‏

الجواب يختمه بالعبودية وهو انتسابه إلى العبودة كما قررنا وهي الدرجة الثانية فإن هذا المقام ما هو سوى درجتين درجة العبودة وهي العظمى المقدمة ودرجة العبودية وهي الختام لأنه ما أمر بما يقتضيه أمر العبودة إلا بعد وجوده فأمر ونهي بوساطة هذا التركيب فأطاع وعصى وأناب وآمن وكفر ووحد وأشرك وصدق وكذب ولما وفي حق الدرجة الثانية بما تستحقه العبودية من امتثال أوامر سيده ونواهيه ناوله مفاتح الكرم برد ما قدم إليه‏

(السؤال الثمانون) ما مفاتيح الكرم‏

الجواب سؤالات السائلين منا ومنه وبنا وبه‏

[السؤال الذي هو منا وبنا]

فأما منا وبنا فسؤال ذاتي لا يمكن الانفكاك عنه وصورة مفتاح الكرم في مثل هذا وقوفك على علمه بأنه بهذه المثابة وغيرك ممن هو مثلك بجهله ولا يعرفه فتكرم عليك بأن عرفك كيف أنت وما تستحقه ذاتك أن توفي به بما لا يمكن انفكاكها عنه‏

[و السؤال الذي هو منه وبه‏]

وأما منه وبه فإن سؤال السائل بما هو عارض له أي عرض له ذلك بعد تكوينه وذلك أنه لما كان مظهرا للحق وكان الحق منه هو الظاهر فسأل من جعله مظهرا بلسان الظاهر فيه فهذا سؤال عارض عرض له بعد أن لم يكن فعبر عن مثل هذا السؤال بمفتاح الكرم أي من كرم الله تعالى إن سأل نفسه بنفسه وأضاف ذلك إلى عبده فهو بمنزلة ما هو الأمر عليه بأنه يخلق في عباده طاعته ويثني عليهم بأنهم أطاعوا الله ورسوله وما بأيديهم من الطاعة شي‏ء غير أنهم محل لها

[اجتماع إبليس بحمد ص‏]

سأل إبليس الاجتماع بمحمد صلى الله عليه وسلم فلما أذن له قيل له أصدقه وحفت به الملائكة وهو في مقام الصغار والذلة بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم فقال له يا محمد إن الله خلقك للهداية وما بيدك من الهداية شي‏ء وخلقني للغواية وما بيدي من الغواية شي‏ء فصدقه‏

[ما يفتح به من العطايا الإلهية]

قال تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي من أَحْبَبْتَ ولكِنَّ الله يَهْدِي من يَشاءُ وقال فَأَلْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها وقال كُلٌّ من عِنْدِ الله وقال ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ثم أثنى مع هذا عليهم فقال التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ يا ليت شعري ومن خلق التوبة فيهم والعبادة والحمد والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحفظ لحدود الله إلا الله فمن كرمه أنه أثنى عليهم بخلق هذه الصفات والأفعال فيهم ومنهم ثم أثنى عليهم بأن أضاف ذلك كله إليهم إذ كانوا محلا لهذه الصفات المحمودة شرعا أ ليس هذا كله مفاتيح الكرم فإنه يفتح بها من العطايا الإلهية

ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

[الأعمال التي هي عين مفاتيح الكرم‏]

قال تعالى تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يا ليت شعري ومن أقامهم من المضاجع حين نوم غيرهم إلا هو يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطَمَعاً يا ليت شعري ومن أنطق ألسنتهم بالدعاء ومن خوفهم وطمعهم إلا هو أ ترى ذلك من نفوسهم لا والله إلا من مفاتيح كرمه فتح بها عليهم ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فمما رزقهم التجافي عن المضاجع وعن دار الغرور ومما رزقهم الدعاء والابتهال ومما رزقهم الخوف منه والطمع فيه فأنفقوا ذلك كله عليه فقبله منهم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ عالمة ما أُخْفِيَ لَهُمْ أي لهؤلاء الذين هم بهذه المثابة من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فكانت هذه الأعمال عين مفاتيح الكرم لمشاهدة ما أخفي لهم فيهم وفي هذه الأعمال من قرة أعين فكلما هو في خزائن الكرم فإن مفاتيحه تتضمنه فهو فيها مجمل وهو في الخزائن مفصل فإذا فتح بالأعمال تميزت الرتب وعرفت النسب وجاءت كل حقيقة تطلب حقها وكل علم يطلب معلومه‏

(السؤال الحادي والثمانون) على من توزع عطايا ربنا

الجواب على من حسن السيرة من الولاة

[الولاية العامة تولية القلب على القوى المعنوية والحسية]

وكل شخص وال بالولاية العامة وهي تولية القلب على القوي المعنوية والحسية في نفسه والولاية كل من له ولاية خارجة عن نفسه من أهل وولد ومملوك وملك فتوزع العطايا على قدر الولاية وقدر ما عاملهم به من حسن السيرة فيهم فإن كان الوالي من العلماء بالله الذين يكون الحق سمعهم وبصرهم فليس له حظ في هذه العطايا فإنها عطايا غني لفقراء وإنما يعطي من هذه صفته عطاء غني لغني ظاهر في مظهر فقير لما أعطى عن فقر ذاتي فأخذ هذا المعطى له من الاسم الله لا من الاسم الرب فما أعظم الغفلة على قلوب العباد هيهات متى تبلغ البشر درجة من لا يوصف بالغفلة وهم الملأ الأعلى الذين يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ في غير ليل ولا نهار يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وهُمْ لا يَسْأَمُونَ وكفى بالبشرية نقصا

[العطايا تختلف باختلاف المستحقين‏]

واعلم أن‏

العطايا تختلف باختلاف المستحقين فمنهم من يكون عطاؤه هو ومنهم من يكون عطاؤه معرفته بنفسه ومنهم من يكون عطاؤه ما هو منه فإن كان المستحق يقول بالاستحقاق الذاتي فلا يلزمه إلا شكر إيجاد العين حيث كان مظهرا له جل وتعالى وإن كان يقول بالاستحقاق العرضي وهو يرى أنه تعالى جعل له استحقاقا فهذا يتضاعف عليه الشكر فإنه دون الأول في المرتبة وإن كان المستحق يرى الاستحقاق للظاهر في مظهر ما من حيث ما هو ظاهر لذلك المظهر ولا يرى أن عينه تستحق شيئا فهذا لا يجب عليه شكر إلا إن أوجبه على نفسه كإيجاب الحق على نفسه في مثل قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فتتوزع العطايا على مقادير من توزع عليهم في العلم والعمل والحال والزمان والمكان والقصد وملازمة العمل ومغبته قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ قال فرعون لموسى وهارون فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى‏ قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ وهو الذي يستحقه فالرب هو القاسم العطايا

(السؤال الثاني والثمانون) كم أجزاء النبوة

الجواب أجزاء النبوة على قدر آي الكتب المنزلة والصحف والأخبار الإلهية من العدد الموضوع في العالم من آدم إلى آخر نبي يموت مما وصل إلينا ومما لم يصل على أن القرآن يجمع ذلك كله‏

فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيمن حفظ القرآن إن النبوة أدرجت بين جنبيه‏

فهي وإن كانت مجموعة في القرآن فهي مفصلة معينة في آي الكتب المنزلة مفسرة في الصحف متميزة في الأخبار الإلهية الخارجة عن قبيل الصحف والكتب ويجمع النبوة كلها أم الكتاب ومفاتحها بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

[كلمات الله لا تنقطع وهي الغذاء العام لجميع الموجودات‏]

فالنبوة سارية إلى يوم القيامة في الخلق وإن كان التشريع قد انقطع فالتشريع جزء من أجزاء النبوة فإنه يستحيل أن ينقطع خبر الله وأخباره من العالم إذ لو انقطع لم يبق للعالم غذاء يتغذى به في بقاء وجوده قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ولَوْ أَنَّ ما في الْأَرْضِ من شَجَرَةٍ أَقْلامٌ والْبَحْرُ يَمُدُّهُ من بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ الله وقد أخبر الله أنه ما من شي‏ء يريد إيجاده إلا يقول له كن فهذه كلمات الله لا تنقطع وهي الغذاء العالم لجميع الموجودات فهذا جزء واحد من أجزاء النبوة لا ينفد فأين أنت من باقي الأجزاء التي لها

(السؤال الثالث والثمانون) ما النبوة

الجواب النبوة منزلة يعينها رفيع الدرجات ذو العرش ينزلها العبد بأخلاق صالحة وأعمال مشكورة حسنة في العامة تعرفها القلوب ولا تنكرها النفوس وتدل عليها العقول وتوافق الأغراض وتزيل الأمراض فإذا وصلوا إلى هذه المنزلة فتلك منزلة الإنباء الإلهي المطلق لكل من حصل في تلك المنزلة من رفيع الدرجات ذي العرش‏

[نبوة التشريع‏]

فإن نظر الحق من هذا الواصل إلى تلك المنزلة نظر استنابة وخلافة ألقى الروح بالأنباء من أمره على قلب ذلك الخليفة المعتنى به فتلك نبوة التشريع قال تعالى وكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً من أَمْرِنا وقال يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ من أَمْرِهِ عَلى‏ من يَشاءُ من عِبادِهِ فهي عامة لأن من نكرة أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ نبوة خاصة نبوة تشريع يُلْقِي الرُّوحَ من أَمْرِهِ عَلى‏ من يَشاءُ من عِبادِهِ مثل ذلك لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ نبوة تشريع لا نبوة عموم نَزَلَ به الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ من الْمُنْذِرِينَ فالإنذار مقرون أبدا بنبوة التشريع ولهذه النبوة هي تلك الأجزاء التي سأل عنها والتي وردت في الأخبار

[النبوة العامة]

وأما النبوة العامة فاجزاؤها لا تنحصر ولا يضبطها عدد فإنها غير مؤقتة لها الاستمرار دائما دنيا وآخرة وهذه مسألة أغفلها أهل طريقنا فلا أدري عن قصد منهم كان ذلك أو لم يوقفهم الله عليها أو ذكروها وما وصل ذلك الذكر إلينا والله أعلم بما هو الأمر عليه ولقد حدثني أبو البدر التماشكي البغدادي رحمه الله عن الشيخ بشير من ساداتنا بباب الأزج عن إمام العصر عبد القادر أنه قال معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوا فأما قوله أوتيتم اللقب أي حجر علينا إطلاق لفظ النبي وإن كانت النبوة العامة سارية في أكابر الرجال وأما قوله وأوتينا ما لم تؤتوا هو معنى قول الخضر الذي شهد الله تعالى بعدالته وتقدمه في العلم وأتعب الكليم المصطفى المقرب موسى عليه السلام في طلبه مع العلم بأن العلماء يرون أن موسى أفضل من الخضر

فقال له يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت‏

فهذا عين معنى قوله أوتينا ما لم تؤتوا وإن أراد رضي الله عنه بالأنبياء

هنا أنبياء الأولياء أهل النبوة العامة فيكون قد صرح بهذا القول إن الله قد أعطاه ما لم يعطهم فإن الله قد جعلهم فاضلا ومفضولا فمثل هذا لا ينكر

(السؤال الرابع والثمانون) كم أجزاء الصديقية

الجواب بضع وسبعون جزءا على عدد شعب الايمان الذي يجب على الصديق التصديق بها

[الصديقية للأتباع والأنبياء أصحاب الشرائع صديقون‏]

وليست الصديقية إلا للاتباع والأنبياء أصحاب الشرائع صديقون بخلاف أنبياء الأولياء الذين كانوا في الفترات وإنما كانت الأنبياء أصحاب الشرائع صديقين لأن أهل هذا المقام لا يأخذون التشريع إلا عن الروح الذي ينزل بها على قلوبهم وهو تنزيل خبري لا تنزيل علمي فلا يتلقونه إلا بصفة الايمان ولا يكشفونه إلا بنوره فهم صديقون للأرواح التي تنزل عليهم بذلك وكذلك كل من يتلقى عن الله ما يتلقاه من كون الحق في ذلك الإلقاء مخبرا فإنما يتلقاه من جانب الايمان ونوره لا من التجلي فإن التجلي ما يعطي الايمان بما يعطيه وإنما يعطي ذلك بنور العقل لا من حيث هو مؤمن‏

[أجزاء الصديقية محصورة وغير محصورة]

فأجزاء الصديقية على ما ذكرناه لا تنحصر فإنه ما يعلم ما يعطي الله في إخباراته لمن أخبرهم فأجزاء الصديقة المحصورة هو ما وردت به الأخبار الإلهية بأن اعتقاد ذلك الخبر قربة إلى الله على التعيين وهي متعلقة بالاسم الصادق لا بد من ذلك فيتصور هنا من أصول طريق الله وأنه ما ثم إلا صادق فإنه ما ثم مخبر إلا الله فينبغي أن لا يكذب بشي‏ء من الأخبار

[الصديق من لا يكذب بشي‏ء من الأخبار]

قلنا الصديق من لا يكذب بشي‏ء من الأخبار إذا تلقى ذلك من الصادق ولكن الصديق إن كان من العلم بالله بحيث أن يعلم أنه ما ثم مخبر إلا الله فيلزمه التصديق بكل خبر على حسب ما أخبر به المخبر فإذا أخبر الصادق الحق بأن قوما كذبوا في أمر أخبروا به صدق الله في خبره أنهم كذبوا في كل ما أخبر به أنهم كذبوا فيه وإن الكذب هي صفة بالنسبة إليهم لا بالنسبة إلى الخبر فإن الخبر إذا نسبته إلى الصادق كان صدقا وإذا نسبته إلى الكاذب فيه كان كذبا وإذا نسبته إلى الكاذب لا فيه كان محتملا والذي يرى أن المخبر هو الله الصادق فإن ذلك الخبر في ذلك الحال هو صدق والمؤمن به صديق ثم أخبر الصادق الحق أن ذلك الخبر الذي نسبته إلي بأنه صدق أنسبه إلى الذي ظهر على لسانه نسبة كذب فاعتقد أنه كذب فيعتقد فيه أنه بالنسبة إلى ذلك الشخص لكونه محلا لظهور عين هذا الخبر كذب لأن مدلوله العدم لا الوجود فالصدق أمر وجودي والكذب أمر عدمي‏

[صورة الصدق في الكذب‏]

وصورة الصدق في الكذب إن المخبر الكاذب ما أخبر إلا بأمر وجودي صحيح العين في تخيله إذ لو لم يتخيله لحصول المعنى عنده لما صح أن يخبر عنه بما أخبر فهو صادق في خبره ذلك والمؤمن به صديق ثم أخبر الحق عن ذلك الخبر أنه بالنسبة إلى الحس كذب وما تعرض إلى الخيال كما لم يتعرض المخبر في خبره ذلك إلى الحس وإنما السامع ليس له في أول سماعه الأخبار إلا أول مرتبة وهي الحس ثم بعد ذلك يرتقي في درجات القوي فاعتقد بعد هذا بأخبار الحق عنه أن ذلك كذب في الحس إنه كذب في الحس أي ليس في الحس منه صورة من حيث الحكم الظاهر فهو صديق للخبر الحق فما للوجود كذب ولا في العدم صدق فإن الصدق أصله الصادق وهو الوجود المحض الذي لا نسبة للعدم إليه والكذب هو العدم المحض الذي لا نسبة للوجود إليه وأما الكذب النسبي بالنظر إلى الخيال يكون صدقا وبالنظر إلى الظاهر على شرط مخصوص يكون كذبا فالصديق يتعلق به من حيث نسبته إلى ما هو موجود به والعامة تتعلق به من حيث أنه لا وجود له في المرتبة التي يطلبها فيه من يكذبه فاعلم ذلك‏

[الصفة التي بها تحصل الصديقية للصديق‏]

فإن شئت قلت بعد هذا إن للصديقية أجزاء منحصرة وإن شئت قلت لا تدخل تحت الجصر أجزاؤها وإن أردت بأجزاء الصديقية الصفة التي بها تحصل الصديقية للصديق فهذا سؤال آخر يمكن أن يسأل عنه فالجواب عن مثل هذا الوجه أن من أجزائها سلامة العقل والفكر الصحيح والخيال الصحيح والايمان بصدق المخبر وإن أحاله العقل الذي ليس بسليم عند أهل هذه الصفة والقول باستحالات الإمكان في الأعيان الممكنات بالنظر إلى ما تقتضيه ذات الواجب الوجود لذاته أو إلى سبق العلم منه عند من يقول بذلك فإذا كان بهذه المثابة حصلت له الصديقية ويكون هذا المجموع أجزاءها لأنها ليست بزائدة على عين المجموع وهذا هو النور الأخضر

(السؤال الخامس والثمانون) ما الصديقية

الجواب نور أخضر بين نورين يحصل بذلك النور شهود عين ما جاء به المخبر من خلف حجاب الغيب بنور الكرم‏

[المؤمن هو معطى الأمان ومصدق الصادقين‏]

وذلك أن اسم الله المؤمن الذي تسمى الله لنا به في كتابه من حيث هو

نور أعني الكتاب فقال عز من قائل هُوَ الله الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ إلا إن المؤمن هنا له وجهان معطي الأمان ومصدق الصادقين من عباده عند من لم يثبت صدقهم عنده ولهذا قال تعالى حكاية عما يقوله الصادق يوم القيامة لربه قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ليثبت صدقي عند من أرسلتني إليهم فيما أرسلتني به فجاء بلفظ يدل على أنه وقع وهو عند العامة ما وقع فإنه يوم القيامة وما أخبر الله إلا بالواقع‏

[الحضرة الإلهية متعلقها الحال الدائم‏]

فلا بد أن يكون ثم حضرة إلهية فيها وقوع الأشياء دائما لا تتقيد بالماضي فيقال قد وقعت ولا بالمستقبل فيقال تقع ولكن متعلقها الحال الدائم وبين القلوب وبين هذه الحضرة حجاب التقييد فإذا كوشف العبد على خلوصه من التقييد وظهر بصورة حق في حضرة مطلقة شهد ما يقال فيه يقع واقعا وشهد ما يقال فيه واقعا فلم يزل واقعا ولا يزال واقعا فعنه تقع الحكايات الإلهية بأنه يقع مثل قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ فعلق بالمستقبل وقوله عز وجل أَتى‏ أَمْرُ الله فأتى بالماضي وكلا التقييدين يدل على العدم‏

[الحال له الوجود والعدم لا يقع فيه شهود]

والحال له الوجود والعدم لا يقع فيه شهود ولا تمييز فلا بد أن يكون المخبر عنه بأنه كان كذا أو يكون كذا له حالة وجودية في حضرة إلهية عنها تقع الإخبارات والواقف فيها يسمى صديقا وهي بنفسها الصديقية ولها اطلاع من خلف حجاب هذا الهيكل المظلم في حق شخص والهيكل المنور في حق شخص فإن وجدت عينا مفتوحة سليمة من الصدع أبصرت هذه العين بهذا النور من هذه الحضرة صدق المخبرين كانوا من كانوا فيسمون صديقين بذلك وتسمى هذه الحالة صديقية وللملإ الأعلى منها شرب وللرسل فيها شرب وللأنبياء فيها شرب وللأولياء فيها شرب وللمؤمنين فيها شرب ولغير المؤمنين من جميع أهل النحل والملل شرب فيسعد بها قوم ويشقى بها قوم لشروط تتعلق بها ولوازم بها يقال مؤمن وكافر ومشرك وموحد ومعطل ومثبت ومقر وجاحد وصادق وكاذب فقد عمت الصديقية جميع الهياكل المنورة والمظلمة والنورية والنارية والطبيعية العنصرية ولا يشعر بها إلا الأكابر من الرجال وهم العارفون بسريانها في الموجودات‏

[الخروج عن حضرة الصديقية والسمو إلى ذروة المعاينة]

فإذا نظرت أرباب هذه الهياكل أنفسها مجردة عن هياكلها خرجت عن حضرة الصديقية وكانت من أهل المعاينة فصارت ترى من بعد ما كانت كأنها ترى فالحق سبحانه من كونه مؤمنا له حضرة الصديقية فبها يصدق الحق عباده المؤمنين بقوله وقَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فصدقهم في كونهم ما عبدوا سواه في الهياكل المسماة شركاء قال تعالى قُلْ سَمُّوهُمْ وقال إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها وبهذا يصدق العباد في الأخبار كلها من غير توقف فلها حكم في الطرفين فإن في هذا الذي قلناه آية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ما فيه آية لقوم يتفكرون ولا لقوم يعلمون على الإطلاق إلا إن أراد بيعلمون يعقلون فالصديقية مستندها من الأسماء الإلهية المؤمن وكذلك أثرها في المخلوقات الايمان وكذلك أسماؤهم المؤمنون الصديقون لهم النور لصدقهم إذ لو لا النور لما عاينوا صدق المخبر وصدق الخبر من خلف حجاب هذا الهيكل ف طُوبى‏ لَهُمْ ثم طوبى وحُسْنُ مَآبٍ انتهى الجزء السادس والثمانون (بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال السادس والثمانون) على كم سهم ثبتت العبودية

الجواب على تسعة وتسعين سهما على عدد الأسماء الإلهية التي من أحصاها دخل الجنة لكل اسم إلهي عبودية تخصه بها يتعبد له من يتعبد من المخلوقين ولهذا لا يعلم هذه الأسماء الإلهية إلا ولي ثابت الولاية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ثبت عندنا أنه عينها وقد يحصيها بعض الناس ولا يعلم أنها هي التي ورد فيها النص كما يكون وليا ولا يعلم أنه ولي ومن رجال الله من عرفهم الله بها من أجل ما يطلبه كل اسم منها من عبودية هذا العبد فيعين له هذا الولي العارف من العبودية بحسب الاسم الذي له الحكم عليه في وقته‏

[إحصاء الأسماء الإلهية ودخول الجنة المعنوية والحسية]

فمن أحصى هذه الأسماء الإلهية دخل الجنة المعنوية والحسية فأما المعنوية فبما ذا تطلبه هذه الأسماء من العلم بالعبودية التي تليق بها وأما الحسية فبما ذا تطلبه هذه الأسماء من الأعمال التي تطلبه من العباد فلا بد من تمييزها وكيف يعرف اسم لعبودية من لا يعلم من الله ما يطلبه منه فبهذا النظر يكون للعبودية سهام ويكون عددها ما ذكرناه‏

[العاملون بالعبودية رجلان‏]

والعاملون بهذه العبودية رجلان رجل يعمل بها من حيث شرعه ومن عمل بها من حيث شرعه فقد عمل بها من حيث عقله ورجل‏

عمل بها من حيث عقله ومن عمل بها من حيث عقله قد لا يعمل بها من حيث شرعه فالعامل بها من حيث عقله ينسبها إلى هياكل منورة أو عقول مجردة عن المواد لا بد من ذلك والعامل بها من حيث شرعه ينسبها إلى الله سبحانه وينسبها من حيث آثارها وما تنظر إليه لوضع الوسائط بينك وبينها إلى الهياكل النورية والعقول المجردة عن المواد وأما العامة فلا يعرفونها إلا لله خاصة أو للأسباب القريبة المعتادة المحسوسة خاصة لا يعلمون غير هذا

[الوقوف مع الرب على قدم العبودية المحضة]

وما رأيت ولا سمعت عن أحد من المقربين أنه وقف مع ربه على قدم العبودة المحضة فالملأ الأعلى يقول أَ تَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها والمصطفون من البشر يقولون رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ويقولون رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ من الْكافِرِينَ دَيَّاراً ويقولون إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض من بعد اليوم‏

وهذا كله لغلب الغيرة عليهم واستعجال لكون الإنسان خلق عجولا فهي حركة طبيعية أظهرت حكمها في الوقت فانحجب عن صاحبها من العبودة بقدر استصحاب مثل هذا الحكم لصاحبها

[نور العبودية على السواء من نور الربوبية]

وكل ما كان يقدح في مقام ما ويرمي به ذلك المقام فإن صاحب ذلك المقام لم يتصف في تلك الحال بالكمال الذي يستحقه وإن كان من الكمل فنور العبودية على السواء من نور الربوبية فإنه من أثره وعلى قدر ما يقدح في العبودية يقدح في الربوبية وإن كان مثل هذا القدح لا يقدح ولا يؤثر في السعادة الطبيعية ولكن يؤثر في السعادة العلمية وأعم الدرجات في ذلك درجتان درجة العجلة التي خلق الإنسان عليها ودرجة الغفلة التي جبل الإنسان عليها ولو لا إن الملأ الأعلى له جزء في الطبيعة ومدخل من حيث هيكله النوري ما وصفهم الحق بالخصام في قوله ما كانَ لِي من عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى‏ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ولا يختصم الملأ الأعلى إلا من حيث المظهر الطبيعي الذي يظهر فيه كظهور جبريل في صورة دحية وكذلك ظهورهم في الهياكل النورية المادية وهي هذه الأنوار التي تدركها الحواس فإنها لا تدركها إلا في مواد طبيعية عنصرية وأما إذا تجردت عن هذه الهياكل فلا خصام ولا نزاع إذ لا تركيب ومهما قلت اثنان كان وقوع الخصام لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا

[الوحدة من جميع الوجوه هي الكمال الذي لا يقبل النقص ولا الزيادة]

فالوحدة من جميع الوجوه هو الكمال الذي لا يقبل النقص ولا الزيادة فانظر من حيث هي لا من حيث الموحد بها فإن كانت عين الموحد بها فهي نفسها وإن لم تكن عين الموحد بها فهو تركيب فما هو مقصودنا ولا مطلب الرجال ولهذا اختلفت أحكام الأسماء الإلهية من حيث هي أسماء فأين المنتقم والشديد العقاب والقاهر من الرحيم والغافر واللطيف فالمنتقم يطلب وقوع الانتقام من المنتقم منه والرحيم يطلب رفع الانتقام عنه وكل ينظر في الشي‏ء بحسب حكم حقيقته فلا بد من المنازعة لظهور السلطان فمن نظر إلى الأسماء الإلهية قال بالنزاع الإلهي ولهذا قال تعالى لنبيه وجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فأمره بالجدال الذي تطلبه الأسماء الإلهية وهو قوله بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كما

ورد في الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه‏

فإذا جادل بالإحسان جادل كأنه يرى ربه ولا يرى ربه مجادلا إلا إذا رآه من حيث ما تطلبه الأسماء الإلهية من التضاد فاعلم ذلك‏

[حجابا الغفلة والعجلة]

وما منعني من تحصيل هذا المقام إلا الغفلة لا غير فليس بيني وبينه أ الغفلة وهو حجاب لا يرفع وأما حجاب العجلة فأرجو بحمد الله أنه قد ارتفع عني وأما حجاب الغفلة فمن المحال رفعه دائما مع وجود التركيب حيث كان في المعاني أو في الأجسام ولو ارتفع هذا الحجاب لبطل سر الربوبية في حق هذا الشخص وهو الذي أشار إليه سهل بن عبد الله أو من كان يقوله إن للربوبية سرا لو ظهر لبطلت الربوبية لكنه ممكن الحصول بالنظر إلى نفسه ولكن لا أدري هل تقتضي الذات تحصيله وظهوره في الوجود أم لا غير أني أعلم أنه ما وقع ومع هذا فلا أقطع يأسي من تحصيله مع علمي باستحالة ذلك وينبغي للناصح نفسه أن يقارب هذا المقام جهد الاستطاعة وأما القائلون بالتشبه بالحضرة الإلهية جهد الطاقة وهو التخلق بالأسماء إنه عين المطلوب والكمال فهو صحيح في باب السلوك لا في عين الحصول وأما في عين الحصول فلا تشبه بل هو عين الحق والشي‏ء لا يشبه نفسه فأعلى المظاهر مظاهر الجمع وهو عين التفريق‏

(السؤال السابع والثمانون) ما يقتضي الحق من الموحدين‏

الجواب أن لا مزاحمة

[هو الظاهر من حيث المظاهر وهو الباطن من حيث الهوية]

وذلك أن الله لما تسمى بالظاهر والباطن نفى المزاحمة إذ الظاهر لا يزاحم الباطن والباطن لا يزاحم الظاهر وإنما المزاحمة أن يكون ظاهران أو باطنان فهو الظاهر من حيث المظاهر وهو الباطن من حيث الهوية فالمظاهر متعددة من حيث أعيانها لا من حيث‏

الظاهر فيها فالأحدية من ظهورها والعدد من أعيانها

[و إن تعدد المظاهر فما تعدد الظاهر]

فيقتضي الحق من الموحدين الذين وصفوا بصفة التوحيد أن يوحدوه من حيث هويته وإن تعددت المظاهر فما تعدد الظاهر فلا يرون شيئا إلا كان هو المرئي والرائي ولا يطلبون شيئا إلا كان هو الطالب والطلب والمطلوب ولا يسمعون شيئا إلا كان هو السامع والسمع والمسموع فلا تزاحم فلا منازعة فإن النزاع لا يحمله إلا التضاد وهو المماثل والمنافر وهو عين المماثل هنا إذ قد يكون الضدان ما ليس بمثلين بخلاف المخالف فإن حكم المخالف لا يقع منه مزاحمة ولا منازعة

[خلق الله للتفاحة تحمل اللون والطعم والرائحة ولا مزاحمة في الجوهر]

ولهذا نفى الحق أن تضرب له الأمثال لأنها أضداد تنافي حقيقة ما ينبغي له ولا ينافيه ما سمي به حيث نفى التشبيه فقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ خلق الله التفاحة تحمل اللون والطعم والرائحة ولا مزاحمة في الجوهر الذي لا ينقسم ويستحيل وجود لونين أو طعمين أو ريحين في ذلك الجزء الذي لا ينقسم فلا يصح إلهان لأنهما مثلان ويصح وجود جميع الأسماء للعين الواحدة لأنها خلاف والخلاف قابل للاجتماع بخلاف المماثل فإذا استحال الاجتماع فلحكم الضدية لا لحكم الخلاف إذ الاجتماع لا يناقض الخلاف فكل اجتماع يطلب الخلاف وما كل خلاف يطلب الاجتماع‏

[ما يقتضيه الحق من الموحدين عدم المزاحمة ليبقى الرب ربا والعبد عبدا]

وإنما يقتضي الحق من الموحدين عدم المزاحمة ليبقى الرب ربا والعبد عبدا فلا يزاحم الرب العبد في عبوديته ولا يزاحم العبد الرب في ربوبيته مع وجود عين الرب والعبد فالموحد لا يتخلق بالأسماء الإلهية فإن قلت فيلزم أن لا يقبل ما جاء من الحق من اتصافه بأوصاف المحدثات من معية ونزول واستواء وضحك فهذه أوصاف العباد وقد قلت أن لا مزاحمة فهذه ربوبية زاحمت عبودية قلنا ليس الأمر كما زعمت ليس ما ذكرت من أوصاف العبودية وإنما ذلك من أوصاف الربوبية من حيث ظهورها في المظاهر لا من حيث هويتها فالعبد عبد على أصله والربوبية ربوبية على أصلها والهوية هوية على أصلها فإن قلت فالربوبية ما هي عين الهوية قلنا الربوبية نسبة هوية إلى عين والهوية لنفسها لا تقتضي نسبة وإنما ثبوت الأعيان طلبت النسب من هذه الهوية فهو المعبر عنها بالربوبية

[النقطة المفروضة في الخط]

فاقتضى الحق من الموحدين أن يوحدوا كل أمر لترتفع المزاحمة فيزول النزاع فيصح الدوام للعالم فيتعين عند ذلك ما معنى الأزل بمعقولية الأبد وهو قولك لا يزال فلو لا النقطة المفروضة في الخط التي تشبه الآن ما فرق بين الأزل والأبد كما لا نفرق بين الماضي والمستقبل بانعدام الآن من الزمان إلا إن النقطة هي الربوبية ففرقت بين الهوية والأعيان وهو المسمى المظاهر إلا إن النقطة أنت فتميز هو وأنا بأنت فإذا علمت هذا فأنت موحد

[أعط الحق ما يقتضيه منك إذا اقتضاه‏]

فأعط الحق ما يقتضيه منك إذا اقتضاه فإن قال لك أ ليس قد تبين لك في المرتبة الأخرى أنه ما ثم إلا الله وبينت في ذلك ما بينت فلما ذا نزعت هنا هذا المنزع قلنا لأنك سميت نفسك مقتضيا منا من كوننا موحدين أمرا ما لا يقتضي أنت ما يعطيك نحن نحن ما أعطيناك إنما أعطينا للمقتضي فلا تكلمنا بغير لغتنا إذ أنت القائل وما أَرْسَلْنا من رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ يكون المقتضي في هذا الفصل مشهودنا ويخاطبنا اسم آخر ليس مشهودنا هذا خطاب ابتلاء وتمحيص‏

(السؤال الثامن والثمانون) عن الحق المقتضي ما الحق‏

الجواب سمي الحق حقا لاقتضائه من عباده من حيث أعيانهم ومن حيث كونهم مظاهر ما يستحق إذ لا يطلب الحق إلا بالحق وهو العلم الحاصل بعد العين وهو ما يجب على المقتضي منه ما يعطيه إذا طلبه منه كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجبها فصارت حقا عليه قال وكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ فهو الحق لا غيره وهو المستحق والمحق وهو الذي تجب عليه الحقوق من حيث إيجابه لا من حيث ذاته‏

[الأعيان مظاهر ظهر الحق فيها]

فالأعيان لو لا ما تستحق أن تكون مظاهر ما ظهر الحق فيها ولم يكن حكيما لما كان يلزم من الخلل في ذلك ولو لم تكن الهوية تستحق الظهور في هذه المظاهر العينية لظهور سلطان الربوبية ما ظهرت في هذه الأعيان لأن الشي‏ء لا يظهر في نفسه لنفسه فلا بد من عين يظهر فيها لها فيشهد نفسه في المظهر فيسمى مشهودا وشاهدا فإن الأعيان لا تستحق ولهذا قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ولم يقل إن الأعيان تستحق الرحمة فالأعيان ليس لها استحقاق إلا أن تكون مظاهر خاصة

[عين الحق أعيان الخليقة]

فقل للحق إن الحق ما هو *** سواه فهو حق في الحقيقة

فلم أنظر بعيني غير عيني *** فعين الحق أعيان الخليقة

[الحق المخلوق به‏]

الحق هويته الحق اسمه خلق هو المخلوق به خلق كل شي‏ء حقه أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ وما خَلَقْنَا السَّماواتِ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وبِالْحَقِّ نَزَلَ إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً ونَذِيراً وقُلِ الْحَقُّ من رَبِّكُمْ الحق طلب الحقوق فبالحق يطلب الحق فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ‏

[الحق الوجود والضلال في النسبة]

فالحق الوجود والضلال الحيرة في النسبة فالحق المنزل والحق التنزيل والحق المنزل والحق من الله من حيث هو ربنا ومن صرف عن الحق إلى أين يذهب فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أصحاب العلامات والدلائل‏

[المعطى الآخذ والآخذ المعطى‏]

فالحق المسئول عنه في هذا السؤال هو المقتضي الذي يقتضي من الموحدين لما ذكرناه فسمي حقا لوجوب وجوده لنفسه فاقتضاؤه إنما اقتضى من نفسه فإنه إنما اقتضاه من الظاهر في مظهره وهويته هي الظاهرة في المظهر الذي به كانت رتبة الربوبية فما اقتضى إلا منه وما كان المقتضي إلا هو والذي اقتضى هو حق وهو عين الحق فإن أعطى فهو الآخذ وإن أخذ فهو المعطي فمن عرفه عرف الحق‏

(السؤال التاسع والثمانون) وما ذا بدؤه‏

الجواب الضمير يعود على الحق وبدؤه من الاسم الأول الذي تسمى الحق به قال تعالى هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ وهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ فسمى لنا نفسه أولا فبدؤه أولية الحق وهي نسبة لأن مرجع الموجودات في وجودها إلى الحق فلا بد أن تكون نسبة الأولية له فبدؤه نسبة الأولية له ونسبة الأولية له لا تكون إلا في المظاهر

[الذات الأزلية لا توصف بالأولية]

فظهوره في العقل الأول الذي هو القلم الأعلى وهو أول ما خلق الله فهو الأول من حيث ذلك المظهر لأنه أول الموجودات عنه فالذات الأزلية لا توصف بالأولية وإنما يوصف بها الله تعالى قال الله تعالى سَبَّحَ لِلَّهِ فهو المسبح ما في السَّماواتِ والْأَرْضِ من حيث أعيانهم وهُوَ الْعَزِيزُ المنيع الحمى من هويته الْحَكِيمُ بمن ينبغي أن يسبح له الضمير يعود على الله من لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ ولهذا يسبحه أهلهما لأنهم مقهورون محصورون في قبضة السموات والأرض يُحْيِي ويُمِيتُ يحيي العين ويميت الوصف فالعين لها الدوام من حيث حييت والصفات تتوالى عليها فيميت الصفة بزوالها عن هذه العين ويأتي بأخرى وهُوَ الضمير يعود على الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ أي شيئية الأعيان الثابتة يقول إنها تحت الاقتدار الإلهي هُوَ الْأَوَّلُ الضمير يعود على الله من لله والأول خبر الضمير الذي هو المبتدأ وهو في موضع الصفة لله ومسمى الله إنما هو من حيث المرتبة وأول مظهر ظهر القلم الإلهي وهو العقل الأول والعين ما كانت مظهرا إلا بظهور الحق فيها فهي أول والكلام في الظاهر في المظهر لأن به يتميز

[الأول هو الله والعقل حجاب عليه‏]

فالأول هو الله والعقل حجاب عليه ومجن تتوالى الصفات عليه ولما كانت الأعيان كلها من كونها مظاهر نسبتها إلى الألوهية نسبة واحدة من حيث ما هي مظاهر تسمى بالآخر فهو الآخر آخرية الأجناس لا آخرية الأشخاص وهو الأول بأولية الأجناس وأولية الأشخاص لأنه ما أوجد إلا عينا واحدة وهو القلم أو العقل كيفما شئت سميته ولما كان العالم له الظهور والبطون من حيث ما هو مظاهر كان هو سبحانه الظاهر لنسبة ما ظهر منه والباطن لنسبة ما بطن منه وهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ شيئية الأعيان وشيئية الوجود من حيث أجناسه وأنواعه وأشخاصه فقد تبين أن بدأه عين وجود العقل الأول‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم أول ما خلق الله العقل‏

وهو الحق الذي خالق به السموات والأرض وقد مشى معنا هذا في سؤاله في العدل في السؤال الثامن والعشرين من هذه السؤالات‏

(السؤال التسعون) أي شي‏ء فعله في الخلق‏

الجواب إن كان قوله في الخلق من كونهم مقدرين فالإيجاد وهو حال الفعل وإن كان قوله في الخلق من كونهم موجودين فحال الفناء

[الإنسان مخلوق على الصورة]

وذلك أن الله تعالى قال للإنسان أَ ولا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ من قَبْلُ أي قدرناه ولَمْ يَكُ شَيْئاً نبهه على أصله فأنعم عليه بشيئية الوجود وهو عين وجود الظاهر فيه وإنما خاطب الإنسان وحده لأنه المعتبر الذي وجد العالم من أجله وإلا فكل ممكن بهذه المنزلة هذا الذي تعطيه نشأته لكونه مخلوقا على الصورة الإلهية وأنه مجموع حقائق العالم كله فإذا خاطبه فقد خاطب العالم كله وخاطب أسماءه كلها وأما الوجه الآخر الذي ينبغي أيضا أن يقال وهو دون هذا في كونه مقصودا بالخطاب وذلك أنه ما ادعى أحد الألوهية سواه من جميع المخلوقات وأعصى الخلائق إبليس وغاية جهله إنه رأى نفسه خيرا من آدم لكونه من نار لاعتقاده أنه أفضل العناصر وغاية معصيته أنه أمر بالسجود لآدم فتكبر في نفسه عن السجود لآدم لما ذكرناه وأبى‏

فعصى الله في أمره فسماه الله كافرا فإنه جمع بين المعصية والجهل والإنسان ادعى أنه الرب الأعلى فلهذا خص بالخطاب في قوله أَ ولا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ فلذا قلنا الفناء أي أحاله على هذه الصفة أن يكون مستحضرا لها

[الفعل الإلهي الخاص بكل مخلوق‏]

وأما الفعل الخاص بكل خلق فهو إعطاؤه ما يستحقه كل خلق مما تقضيه الحكمة الإلهية وهو قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ أي بين أنه تعالى أعطى كل شي‏ء خلقه حتى لا يقول شي‏ء من الأشياء قد نقصني كذا فإن ذلك النقص الذي يتوهمه هو عرض عرض له لجهله بنفسه وعدم إيمانه إن كان وصل إليه قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فإن المخلوق ما يعرف كماله ولا ما ينقصه لأنه مخلوق لغيره لا لنفسه فالذي خلقه إنما خلقه له لا لنفسه فما أعطاه إلا ما يصلح أن يكون له تعالى والعبد يريد أن يكون لنفسه لا لربه فلهذا يقول أريد كذا وينقصني كذا فلو علم أنه مخلوق لربه لعلم أن الله خلق الخلق على أكمل صورة تصلح لربه أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين وهذه المسألة مما أغفلها أصحابنا مع معرفة أكابرهم بها وهي مما يحتاج إليها في المعرفة المبتدي والمنتهي والمتوسط فإنها أصل الأدب الإلهي الذي طلبه الحق من عباده وما علم ذلك إلا القائلون رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وعِلْماً وأما الذين قالوا أَ تَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ فما وقفوا على مقصود الحق من خلقه الخلق ولو لم يكن الأمر كما وقع لتعطل من الحضرة الإلهية أسماء كثيرة لا يظهر لها حكم‏

[كل أمر يظهر في العالم إنما هو لإظهار حكم اسم إلهى‏]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم‏

فنبه إن كل أمر يقع في العالم إنما هو لإظهار حكم اسم إلهي وإذا كان هكذا الأمر فلم يبق في الإمكان أبدع من هذا العالم ولا أكمل فما بقي في الإمكان إلا أمثاله إلى ما لا نهاية له فاعلم ذلك فهذا فعله في الخلق وأما الجواب العام في هذه المسألة أن يقال فعله في الخلق ما هو الخلق عليه في جميع أحواله‏

(السؤال الحادي والتسعون) وبما ذا وكل يعني الحق‏

الجواب وكل بتمشية أوامر الله وإنفاذ كلماته لا غير فهو مخصوص بالشرائع الإلهية سنها من سنها كما قال تعالى ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ فذمهم لما لم يرعوها فقال فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها وقال صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها

[الخير ثوابه بذاته والشرع مبين توقيت الثواب‏]

فالخير يطلب الثواب بذاته والشرع مبين للناس توقيت ذلك الثواب كقوله من جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وقال الله لداود يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ لمن تقدمك أو نيابة عنا بالاسم الظاهر الذي لنا فقد خلعناه عليك لتظهر به في خلقي فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فعرفنا إن الحق سبحانه قد وكل الحق بتمشية دينه فقال لخلفائه احكموا بما يقتضيه أمر هذا الوكيل ولا تتبعوا الهوى وهو إرادة النفوس التي يخالفها حكم الحق الموكل بتمشية الكلمات الإلهية المشروعة وكل مخاطب راع ومسئول عن رعيته فكان العدل صفة هذا الحق الذي وكله الله أن يصرفها في المخلوقات بمساعدة الخلفاء والله المرشد

(السؤال الثاني والتسعون) وما ثمرته يعني فيمن حكم به من الخلفاء

الجواب الوقوف دائما مع العبودة هذه ثمرته ولكن جوائح الربوبية تمنع من ظهور هذه الثمرة ولا سيما في البشر ولكن له ثمرة أخرى دون هذه الثمرة وهو أن يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه ثم إن له في كل شخص من الثمر بحسب ما أمضاه في سلطانه من أحكامه وأما ثمرته التي يعمل عليها ولها أكثر العقلاء من أهل الله فتهيؤ مراداتهم بمجرد الهمم فمنهم من ينال ذلك في الدنيا ومنهم من يدخر له ذلك إلى يوم القيامة

[مقام راحة الأبد]

فإن أكابر الرجال مع معرفتهم بما خلقوا له لو وقفوا مع التكوين قوبلوا ولكنهم تركوا الحق يتصرف في خلقه كما هو في نفس الأمر وأبوا أن يكونوا محلا لظهور التصريف وإن ظهر عليهم من ذلك شي‏ء فما هو عن قصد منهم لذلك ولكن الله أجراه لهم وأظهره عليهم لحكمة علمها الحق وهؤلاء عن ذلك بمعزل وأما إن يقصدوا ذلك فلا يتصور منهم إلا أن يكونوا مأمورين كالرسل عليهم السلام فذلك إلى الله وهم لا يَعْصُونَ الله ما أَمَرَهُمْ فإنهم معصومون من إضافة الأفعال إليهم إذا ظهرت منهم فيقولون هي للظاهر من أسمائه في مظاهره فما لنا وللدعوى فنحن لا شي‏ء في حال كوننا مظاهر له وفي غير هذه الحال وهذا المقام يسمى راحة الأبد والقائم فيه مستريح وهذا هو الذي وفي الربوبية حقها

[الحكم للمرتبة لا للعين‏]

لأن الحكم للمرتبة لا للعين أ لا ترى أن السلطان تمشي أوامره في مملكته فلا يعصى ويخاف ويرجى وما

هو لكونه إنسانا فإن الإنسانية عينه وإنما هو لكونه سلطانا وهي المرتبة فالعاقل من الناس يرى أن المتحكم في المملكة إنما هي المرتبة لا عينه إذ لو كان ذلك لكونه إنسانا فلا فرق بينه وبين كل إنسان وهكذا كل المظاهر فرجال الله ينظرون أنفسهم من حيث أعيانهم لا من حيث كونهم مظاهر فكانت المرتبة هي الحاكمة لا هم وهذه هي ثمرة الحق التي جنوها حين حكموا به وفازوا بالعبودة والعبودية عبادة الفرائض وعبادة النوافل‏

(السؤال الثالث والتسعون) وما المحق‏

الجواب معطي الحق وهو الموصوف بالحكم العدل وذلك أني أنبهك على تحقيق هذا الأمر فاعلم أن المحق إذا كان هو معطي الحق فليس إلا الله ومقصود الطائفة من المحق أن يكون الصادق الدعوى في طلب الحق الذي يستحقه وهي مسألة صعبة فإن الله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ وهو ما يستحقه فقد أعطى كل شي‏ء استحقاقه فهذا الطالب ما يستحقه كيف يصح أن يكون ممنوعا عنه ما يستحقه مع قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ‏

[الطالب المحق لا يطلب ما لا تستحقه ذاته‏]

فلنقل اعلم أن قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ إنما هو مما يقوم ذات ذلك الشي‏ء من الفصول المقومة لذاته وأما ما تطلبه تلك الفصول من اللوازم والأعراض فما أعطاه ذلك لأن أعراض كل ذات لا يتناهى ما دام موصوفا بالبقاء في الوجود وما لا يمكن فيه التناهي لا يصح أن يدخل في الوجود بل على التتالي والتتابع فالطالب المحق هو الذي لا يطلب ما لا تستحقه ذاته من لوازمها وأعراضها كمن ليس من حقيقته أن يقبل التفكر فيطلب أن يتصف بالفكر فما هو محق في طلبه فإذا طلبه الإنسان إذا كان الغالب عليه الوقوف مع المحسوسات فله أن يطلب الاشتغال بالتفكر في خلق السموات والأرض وجميع الآيات فهو محق في طلبه صادق الدعوى في نفي التفكر عنه لاستيلاء الغفلة عليه فهذا هو المحق الذي لا يعارض طلب حقه الذي يستحق بذاته طلبه قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فقد تبين لك كيف ينبغي لك أن تسأل وما ذا تسأل فيه ومن أوصاف المحق أن لا يسأل إلا من بيده قضاء ذلك الحق المسئول فإن لم يفعل فقد شكى إلى غير مشتكى‏

[سد باب الرسالة والنبوة لا الولاية]

كان شيخنا أبو العباس بن العريف الصنهاجى يقول في دعائه اللهم إنك سددت باب النبوة والرسالة دوننا ولم تسد باب الولاية اللهم مهما عينت أعلى رتبة في الولاية لأعلى ولي عندك فاجعلني ذلك الولي فهذا من المحقين الذين طلبوا ما يمكن أن يكون حقا لهم وإن كانت النبوة والرسالة مما يستحقه الإنسان عقلا لكون ذاته قابلة لها لكن لما علم أن الله قد سد بابها شرعا وسد باب نبوة الشرائع لم يسألها وسأل ما يستحقه فإن الله ما حجر الولاية علينا

[سؤال الوسيلة]

ومن هذا الباب سؤال الوسيلة وإن لم يكن مثلها لكن يقرب منها وإنما ألحقناها بها في التشبيه لقرينة حال وهي درجة في الجنة لا ينالها أولا تنبغي إلا لرجل واحد قال صلى الله عليه وسلم وأرجو أن أكون أنا فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة فلو سأل واحد منا ربه الوسيلة في حق نفسه لما سأل ما لا يستحقه لأنه ربما لا ينالها إلا شخص هو على صفة مخصوصة والله يقول لنا وابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ إلا أنه لم يقل منه فقد يمكن أن يكون هذه من التوسل وتلك الصفة إما موهوبة أو مكتسبة ولم يعينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حجرها على واحد بعينه ولم يقل إنها لا تنبغي إلا لمن هو أفضل عند الله من البشر ونحن نعلم أنه أفضل الناس عند الله بما نص على نفسه فكان يكون ذلك تحجيرا ولم ينص أيضا في وحدانية ذلك الشخص هل هو واحد لعينه أو واحد تلك الصفة فتكون الأحدية لتلك الصفة ولو ظهرت في ألف لكان كل واحد من الألف له الوسيلة لأن تلك الصفة تطلبها فلما لم يقع من الشارع شي‏ء من هذا كله ساغ لنا أن نطلبها لأنفسنا ولكن يمنعنا من ذلك الإيثار وحسن الأدب مع الله في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اهتدينا بهديه وقد طلب منا أن نسأل الله له الوسيلة فتعين علينا أدبا وإيثارا ومروءة ومكارم خلق أن لو كانت لنا لوهبناها له إذ كان هو الأولى بالأفضل من كل شي‏ء لعلو منصبه وما عرفناه من منزلته عند الله‏

[قيمة المثل في الحكم المشروع‏]

ونرجوا بهذا أن يكون لنا في الجنة ما يماثل تلك الدرجة مثل قيمة المثل عندنا في الحكم المشروع في الدنيا وذلك أن بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم أخوة الايمان وإن كان هو السيد الذي لا يقاوم ولا يكاثر ولكن قد انتظم معنا في سلك الايمان فقال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وثبت في الشرع أن الإنسان إذا دعي لأخيه بظهر الغيب قال الملك له ولك بمثله ولك بمثليه‏

فإذا دعونا له بالوسيلة وهو غائب عنا قال الملك ولك بمثله فهي له والمثل للداعي فينال من درجات مجموعه ما يناله صاحب الوسيلة من الوسيلة مثل قيمة المثل لأن الوسيلة لا مثل لها أي ما ثم درجة

واحدة تجمع ما جمعت الوسيلة وإن كانت ما جمعت الوسيلة متفرقا في درجات متعددة ولكن للوسيلة خاصية الجمع‏

(السؤال الرابع والتسعون) فأين محل من يكون محقا

الجواب في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ فإن الحقوق ما يطلبها المحق إلا وهو في المقعد الصدق لأنه صادق ولا تطلب الحقوق إلا عند من يعلم أنه قادر على إيصالها وملك ماضي الكلمة في ملكه فلهذا قلنا في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ فاجتمع هذا المحق مع المتقي في هذا المحل والمتقي في جَنَّاتٍ ونَهَرٍ وإن كان المحق كذلك ولكن لما كان الفرق بين المتقي وبين هذا معلوما لم تكن الجنات كالجنات ووقع الاشتراك في كونه محقا مع المتقي فالمتقي ما نال المقعد الصدق إلا من كونه محقا عند مليك مقتدر حضرة بقاء العين والاقتدار والتأييد

[أماكن المحقين بحسب الحضرات‏]

ولهم أماكن مختلفة بحسب الحضرات التي ينزلونها من حضرات الأسماء محلهم الاسم الصادق والحق والناصر وما في معنى هذه الأسماء فأي اسم من هؤلاء الأسماء نظر إليه كان محله وأما في الذاتيات فمحله الواجبات وأما في الألوهية فمحلها بالظفر بالمطلوب وأما في العبودية فمحلها عبودية الفرائض وأما في الأحوال فالتأثير وأما في المقامات فالصدق وأما في الجنان فارتفاع الحجب وأما في الدنيا فالفعل بالهمة وأما في المعارف فإن يكون مع الحق من حيث أمره ومع عالمه من حيث عدله ووفائه فيعين كل طالب حق فمقامه لا يتزلزل ولا ينخرم فإن له في كل حضرة مقعدا ومجلسا فحيث حل فهو بيته فلا يفطر إن كان صائما ولا يقصر الصلاة فإنه مقيم غير مسافر لأن السفر فيه لا يجوز فيه القصر ولا الفطر فهو كمثل عائشة قالت لا أقصر فإني أم المؤمنين فحيث ما حللت حللت عند نبي فإنا في بيتي والسفر إليه بخلاف ذلك فإنه يقصر ويفطر فهو فطر الصائمين‏

(السؤال الخامس والتسعون) ما سكينة الأولياء

الجواب إذا اتبع الولي الأسباب وقطعها سببا سببا وولى مملكة جابرقينا وجابرسينا وجمع له بين المشرقين والمشارق والمغربين والمغارب واطلع على المشرق والمغرب ووفى المقامات حقها وأعطى الأنبياء حقهم وأنبياء الشرائع حقهم وأنصف الملأ الأعلى وأحال الأسماء الإلهية على الأسماء الإلهية ولم يتوجه لمخلوق عليه حق فإنه غير وارث ولا رسول ولا إمام ولا صاحب منصب يخاف عليه فيه عدله أو جوره ويرجى فيه فضله وجهل قدره ولم يعرف حقه وتمنى الرسل في موطن ما أن تكون مثله وجمع هذا كله فتلك سكينة الأولياء التي يسكنون إليها فهم العرائس المصانون رجال أي رجال يسكنون إليها ولا تحصل لهم دائما لكن لهم اختلاسات فيها كالبروق فهي تشبه المشاهد الذاتية في كونها لا بقاء لها فإن المواطن تحكم عليهم وطبيعتهم تطلبهم‏

[العبودية المحضة التي لا يتخللها شوب من الربوبية]

فإن اتفق أن تحصل لأحد وقتا ما قصيرا أو طويلا فإن الدوام محال فيكون الولي في تلك الحال ناظرا لمن يطلب طبيعته فيكون كالمتفرج ويرى الظاهر فيه المسئول ذلك إما يعطيها ما سألته وإما يمنعها وهو مهيمن على ذلك من حيث عينه إلا أن هذه هي العبودة المحضة التي لا يتخللها شوب من الربوبية

(السؤال السادس والتسعون) ما حظ المؤمنين من قوله الظاهر والباطن والأول والآخر

الجواب كل مصدق بأمر لم يعلمه إلا من الذي أخبره به فقد بطن عنه ما صدقه فيه وظهر له ما صدقه فيه عند إخباره وحظه من الأول أن لا يتوقف في تصديقه عند سماعه الخبر منه وحظه من الآخر أن لا يتردد فيما صدقه فيه إن قدح فيه نظره عند التفكر فيما أخبره به المخبر

[الإيمان نور شعشعاني والمؤمنون فيه على قسمين‏]

وذلك أن الايمان نور شعشعاني ظهر عن صفة مطلقة لا تقبل التقييد فإذا خالط هذا النور بشاشة القلوب كان حكمه ما ذكرناه من الظاهر والباطن والأول والآخر والمؤمنون فيه على قسمين مؤمن عن نظر واستدلال وبرهان فهذا لا يوثق بإيمانه ولا يخالط نوره بشاشة القلوب فإن صاحبه لا ينظر إليه إلا من خلف حجاب دليله وما من دليل لأصحاب النظر إلا وهو معرض للدخل فيه والقدح ولو بعد حين فلا يمكن لصاحب البرهان أن يخالط الايمان بشاشة قلبه وهذا الحجاب بينه وبينه والمؤمن الآخر الذي كان برهانه عين حصول الايمان في قلبه لا أمر آخر وهذا هو الايمان الذي يخالط بشاشة القلوب فلا يتصور في صاحبه شك لأن الشك لا يجد محلا يعمره فإن محله الدليل ولا دليل فما ثم على ما يرد الدخل ولا الشك بل هو في مزيد

[المؤمن على نوعين‏]

ثم إن المؤمن على نوعين مؤمن له عين فيه نور بذلك العين إذا اجتمع بنور الايمان أدرك المغيبات التي متعلقها الايمان ومؤمن ما لعينه نور سوى نور الايمان فنظر إليه به ونظر إلى غيره به‏

فالأول يمكن أن يقوم بعينه أمر يزيل عنه النور الذي إذا اجتمع بنور الايمان أدرك الأمور التي ألزمه الايمان القول بها وهو المؤمن الذي لا دليل له وينظر الأشياء بذاته فيدخله الشك ممن يشككه فإن فطرته تعطي النظر في الأدلة إلا أنه لم ينظر فإذا نبه تنبه فمثل هذا إن لم يسرع إليه الذوق وإلا خيف عليه والمؤمن الآخر هو بمنزلة الجسد الذي قد تسوت بنيته واستوت آلات قواه وتركبت طبقات عينه غير أنه ما نفخ فيه الروح فلا نور لعينه فإذا كان الإنسان بهذه المثابة من الطمس فنفخ فيه روح الايمان فأبصرت عينه بنور الايمان الأشياء فلا يتمكن له إدخال الشكوك عليه جملة ورأسا فإنه ما لعينه نور سوى نور الايمان والضد لا يقبل الضد فما له نور في عينه يقبل به الشك والقدح فيما يراه وهكذا هي الأذواق وهذه فائدتها ومتى لم يكن الايمان بهذه المثابة والفطرة بهذه المثابة وإلا فقليل أن يجي‏ء منه ما جاء من الأنبياء والأولياء من الصدق بالإلهيات‏

[الفطرة الذكية والفطرة المطموسة]

فالفطرة الذكية التي تقبل النظر في المعقولات من أكبر الموانع لحصول ما ينبغي أن يحصل من العلم الإلهي والفطرة المطموسة هي القابلة التي لا نور لعينها من ذاتها إلا من نور الايمان فلا تعطي فطرته النظر في الأمور على اختلافها ومما يعضد ما قلناه حديث إبار النخل وحديث نزوله بأصحابه يوم بدر وقوله ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ أي ما لي علم ولا نظر بغير ما يوحى إلي وهذا باب لا يعرفه إلا أهل الله ومنزلة الأنبياء فيما يأخذونه من الغيب بطريق الايمان من الملائكة منزلة المؤمنين مع ما يأخذونه من الأنبياء فالأنبياء مؤمنون بما يلقي إليهم الروح والروح مؤمن بما يلقي إليه من يلقي إليه‏

[حظ المؤمن من الظاهر والباطن والأول والآخر]

فحظ المؤمن كان من كان من الظاهر ما ألقى إليه وحظه من الباطن ما استتر به وحظه من الأول علم الخواطر الإلهية وحظه من الآخر إلحاق بقية الخواطر بالخواطر الإلهية وهو تتميم قوله وهُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏

(السؤال السابع والتسعون) ما حظ المؤمنين من قوله كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏

الجواب المؤمن هو الذي ذكرناه الذي لا نور لعين بصيرته إلا نور الايمان فكل شي‏ء عنده هالك عن شيئيته شيئية ثبوته وشيئية وجوده إلا وجهه وجه الشي‏ء ذاته وحقيقته ووجهه مظهره أي ظهوره في الأعيان فأما شيئية ذاته فهي المستثناة لا بد من ذلك وأما وجهه في المظهر فبعض أصحابنا يدخلها في كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ وبعض أصحابنا لا يدخلها هنالك فأما من أدخلها في الهلاك فاعتبر مظهرا خاصا وأما من لم يدخلها في الهلاك فاعتبر أنها لا تخلو عن مظهر ما

[إطلاق لفظ الشيئية على ذات الحق‏]

وأما نحن فلا نثبت إطلاق لفظ الشيئية على ذات الحق لأنها ما وردت ولا خوطبنا بها والأدب أولى والأولى أن يكون هنا وجهه مثل إطلاق الأول يريد المظهر لا هويته والمظهر له مناسبة بينه وبين الوجه الظاهر فيه فلذلك صح الاستثناء قال تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ فسماه شيئا في حال هلاكه فكل شي‏ء موصوف بالهلاك لأن هالك خبر المبتدأ الذي هو كل شي‏ء أي كل ما ينطلق عليه اسم شي‏ء فهو هالك وإن كان مظهرا فهو في حال كونه مظهرا في شيئية عينه وهي هالكة فهو هالك في حال اتصافه بالوجود كما هو هالك في حال اتصافه بالهلاك الذي هو العدم‏

[العدم للممكن ذاتي‏]

فإن العدم للممكن ذاتي أي من حقيقة ذاته أن يكون معدوما والأشياء إذا اقتضت أمورا لذواتها فمن المحال زوالها فمن المحال زوال حكم العدم عن هذه العين الممكنة سواء اتصفت بالوجود أو لم تتصف فإن المتصف بالوجود ما هو عين الممكن وإنما هو الظاهر في عين الممكن الذي سمي به الممكن مظهرا لوجود الحق فكل شي‏ء هالك فلهذا نفينا عن الحق إطلاق لفظ الشي‏ء عليه ويكون الاستثناء استثناء منقطعا مثل قوله فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس‏

[الممكن قبل الوجود بالترجيح‏]

أ لا ترى لما استحق الحق الوجود لذاته استحال عليه العدم كذلك إذا استحق الممكن العدم لذاته استحال وجوده فلهذا جعلناه مظهرا قلنا في كتاب المعرفة إن الممكن ما استحق العدم لذاته كما يقوله بعض الناس وإنما الذي استحقه الممكن تقدم اتصافه بالعدم على اتصافه بالوجود لذاته لا العدم ولهذا قبل الوجود بالترجيح إذن فالعدم المرجح عليه الوجود ليس هو العدم المتقدم على وجوده وإنما هو العدم الذي له في مقابلة وجوده في حال وجوده أن لو لم يكن الوجود لكان العدم فذلك العدم هو المرجح عليه الوجود في عين الممكن هذا هو الذي يقتضيه النظر العقلي‏

[الوجود في الممكن ليس عين الموجود]

وأما مذهبنا فالعين الممكنة إنما هي ممكنة لأن تكون مظهر إلا لأن تقبل الاتصاف بالوجود فيكون الوجود عينها إذن فليس الوجود في الممكن عين الموجود بل هو حال لعين الممكن به يسمى الممكن موجودا مجازا لا حقيقة لأن الحقيقة تأبى أن يكون‏

الممكن موجودا فلا يزال كل شي‏ء لك كما لم يزل لم يتغير عليه نعت ولا تغير على الوجود نعت فالوجود وجود والعدم عدم والموصوف بأنه موجود موجود والموصوف بأنه معدوم معدوم هذا هو نفس أهل التحقيق من أهل الكشف والوجود

[الشخص الذي هو وجه كله‏]

ثم يندرج في هذه المسألة الوجه الذي له الأمام وهو الوجه المقيد بالنظر وبه تميز عن الخلف فإذا كان الشخص يرى من خلفه مثل ما يرى من أمامه كان وجها كله بلا قفا فلا يهلك من هذه صفته لأنه يرى من كل جهة فلا يهلك لأن العين تحفظه بنظرها فمن أي جهة جاءه من يريد إهلاكه لم يجد سبيلا إليه لكشفه إياه كما يتقي صاحب الوجه المقيد من يأتيه من إمامه انتهى الجزء السابع والثمانون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال الثامن والتسعون) كيف خص ذكر الوجه‏

الجواب لأن السبحات له فهي مهلكة والمهلك لا يكون هالكا

[الحقائق لا تتصف بالهلاك‏]

فاعلم أن الحقائق لا تتصف بالهلاك ووجه الشي‏ء حقيقته وإنما يتصف بالهلاك الأمور العوارض للحقائق من نسبة بعضها إلى بعض فهي أعني الأمور العوارض حقيقتها أن تكون عوارض فلا يهلك وجهها عن كونها عوارض فاتصاف من عرضت له نسبة ما ثم بها زالت تلك النسبة بحصول نسبة أخرى فازالة تلك النسبة العارضة تسمى هلاكا ويسمى ذلك المحل المنسوب إليه ذلك العارض بزواله هالكا وما ثم إلا حقائق فما ثم إلا وجوه غير هالكة وما ثم إلا نسب فما ثم إلا هالك فانظر كيف شئت وأنطق بحسب ما تنظر فلهذا خص الوجه لاستحالة اتصافه بالهلاك إذ كانت الحقيقة لا تهلك‏

(السؤال التاسع والتسعون) ما مبتدأ الحمد

الجواب مبتدؤه الابتداء وهو المعنى القائم في نفس الحامد فلا بد أن يكون مقيدا من طريق المعنى أنه ابتداء حادث فلا بد له من سبب والسبب عين التقييد ومن طريق التلفظ بالحمد فمبتدؤه الإطلاق ثم بعد ذلك إن شئت قيدته بصفة فعل إلهي وإن شئت نزهته في التقييد بصفة تنزيه وما ثم أكثر من هذا

[وجوه الحمد ومعانيه‏]

وإن أراد السائل بالحمد هنا العبد فإنه عين الثناء على الحق بوجود عينه فمبتدؤه الحق الذي أوجده لما أوجده وإن أراد بالحمد ومبتدئه إضافة المبدأ إلى الحمد أي بما يبتدئ الحمد فنقول بالوجود سواء اقترنت سعادة بذلك الموجود أو شقاوة وإن أراد بالحمد حمد الحمد فمبتدؤه الوهب والمنة وإن أراد بمبتدإ الحمد حمد الحق الحمد أو حمد الحق نفسه أو حمد الحق مخلوقاته فالثناء على الثناء بأنه ثناء ثناء عليه فمبتدؤه العلم بأنه ثناء وإن أراد به حمد الحق نفسه فمبتدؤه الهوية فهو غيب لا يظهر أبدا وإن أراد به حمد الحق خلقه فمبتدؤه إضافة الخلق إليه تعالى لا إلى غيره وإن أراد بالحمد الفاتحة التي هي السورة فمبتدؤها الباء إن نظرت الحق من حيث دلالة الخلق عليه فيكون بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية من سورة الفاتحة وإن كان ينظرها من حيث الحق مجردا عن تعلق العالم به للدلالة فمبتدؤها الألف من الحمد لله فلم تتصل بأمر ولا ينبغي لها أن تتصل ولم يتصل بها فإنها تتعالى في الفاتحة أن يتصل بها فإنه ما اتصل بها في المعنى إلا أسماؤها وأسماؤها عينها فلم يتصل بها سواها فإن أراد بالحمد عواقب الثناء فمبدؤه من حيث هو عواقب رجوع أسمائه إليه فإنه لا أثر لها إلا في الظاهر في المظاهر وعلى الظاهر يقع الثناء وليس الظاهر في المظاهر غيره فلا مثنى ولا مثنى ولا مثنى عليه إلا هو والتبس على الناس ما يتعلق بالمظاهر من الثناء فلهذا قالوا ما مبتدأ الحمد والظاهر من سؤال هذا السائل أنه أراد الفاتحة لأنه قال في السؤال الذي يليه ما معنى آمين وهي كلمة شرعت بعد الفراغ من الفاتحة فهو ثناء بدعاء وكل ثناء بدعاء فهو مشوب ولهذا

قال قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل‏

فأمين المشروعة لما فيها من السؤال وهو قوله اهْدِنَا ومن طلب شيئا من أحد فلا بد أن يفتقر إليه بحال طلبه فمبتدأ الحمد على هذا هو الافتقار ولهذا سأل في الإجابة ثم إنه ما أوجب له الافتقار إليه إلا أثر غناه تعالى بما افتقر إليه فيه فمبتدأ الحمد غنى الحق عن العالمين قال الله تعالى فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وقال تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله والله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فقدم الفقر على الغني في اللفظ وغنى الحق مقدم في المعنى على فقراء الخلق إليه لا بل هما سؤالان تقدم أحدهما على الآخر فإن الغني عن الخلق‏

لله أزلا والفقر للممكن في حال عدمه إلى الله من حيث غناه أزلا والموصوفان بالأزل نفيا وإثباتا لا يتقدم أحدهما على الآخر لأن الأزل لا يصح فيه تقدم ولا تأخر فافهم‏

(السؤال الموفي مائة) ما قوله آمين‏

الجواب لما أراد الثناء بما هو دعاء في مصالح ترجع إلى الداعي لهذا قيل له قل آمين وهي تقصر وتمد قال الشاعر في القصر

تباعد مني فطحل وابن أمه *** أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

يعني حتى يتفرد مع الحق الذي لا يقبل البينية وقال الشاعر في المد

يا رب لا تسلبني حبها أبدا *** ويرحم الله عبدا قال آمينا

يعني في دعائه بالبعد بينه وبين من يقبل البينية

[الجهر والإخفاء بآمين‏]

وورد في الشرع الجهر بها والإخفاء لأن الأمر ظاهر وباطن فالباطن يطلب الإخفاء والظاهر يطلب الجهر غير أن الظاهر أعم فإذا جهر بها فقد حصل حظ الباطن وإذا أسر بها لم يعلم الظاهر ما جرى والباطن خصوص والأسرار بها خاص لخاص والظاهر عموم فالجهر بها عام لعام وخاص من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وكل مذكور في ملأ فهو مذكور في النفس وما كل ما هو مذكور في النفس يكون مذكورا في الملإ

قوله عليه السلام أو استأثرت به في علم غيبك هي أسماء لا يعلمها إلا هوفعلم السر أتم وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فالمفاتيح العلم بها خاص له والغيب قد يظهر على غيبه من يرتضيه من رسله إِلَّا من ارْتَضى‏ من رَسُولٍ فالسر بها أتم مقاما من الجهر بها والجهر بها أعم منفعة من السر السر بها

[معنى آمين‏]

آمين معناه أجب دعاءنا لا بل معناه قصدنا إجابتك فيما دعوناك فيه يقال أم فلان جانب فلان إذا قصده ولا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي قاصدين وخفف أمين للسرعة المطلوبة في الإجابة والخفة تقتضي الإسراع في الأشياء

[من وافق تأمينه تأمين الملائكة]

فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة فقد غفر له ولم يقل فقد أجيب لأنه لو أجيب لما غفر له لأن المهدي ما له ما يغفر أي فمن أمن مثل تأمين الملائكة هذا معنى الموافقة لا الموافقة الزمانية وقد تكون الموافقة الزمانية فيحويهم زمان واحد عند قولهم آمين والملائكة لا يخلو قولها في آمين هل يقولونها متجسدين أو يقولونها غير متجسدين فإن قالتها متجسدة فربما يريد الموافقة الزمانية خاصة لأن التجسد يحكم عليهم بالإتيان بلفظة آمين أي بترتيب هذه الحروف وإن قالتها غير متجسدة فلم تبق الموافقة إلا أن يقولها العبد بالحال التي يقولها الملك‏

[الحال التي يقول بها العبد آمين‏]

والحال هنا على أقسام الحال الواحدة أن يقولها بربه فإن الملك يقولها كذلك أو يقولها بحاله التي تقتضيها ذاته فالإنسان إذا قالها كذلك قالها من حيث روحانيته إلا من حيث حسه أو يقولها بحكم النيابة فالملك قد يقولها كذلك أو يقولها وهو هو فالملك قد يقولها كذلك وقول الإنسان بحكم النيابة هو قوله بحكم الصورة التي خلق عليها فينبغي للإنسان أن يقولها بكل حال يقولها الملك من هذه الأقسام التي ذكرناها فإذا قالها غفر الله له ولا بد أن يستره الله عن كل أمر يضاد الهداية بما تنتج لا بد من ذلك لأن نتيجة الهداية سعادة وقد يكون في حياته الدنيا غير مهدي والعناية قد سبقت فيجني ثمرة الهداية فلهذا لم يقل أجيب وقال غفر فهذا معنى قوله آمين وكل داع بحسب ما دعا فإن الله يستجيب له بأمر سعادي لا بما عينه فقد أجابه بما فيه سعادته إذ هي المطلوب الأعم في كل دعاء داع‏

(السؤال الحادي ومائة) ما السجود

الجواب السجود من كل ساجد مشاهدة أصله الذي غاب عنه حين كان فرعا عنه فلما اشتغل بفرعيته عن أصليته قيل له اطلب ما غاب عنك وهو أصلك الذي عنه صدرت فسجد الجسم إلى التربة التي هي أصله وسجد الروح إلى الروح الكل الذي عنه صدر وسجد السر لربه الذي به نال المرتبة والأصول كلها غيب أ لا تراها قد ظهرت في الشجر أصولها غيب فإن التكوين غيب لا يشاهده أحد الجنين يتكون في بطن أمه فهو غيب حيوان آخر يتكون في البيض فإذا كمل تشقق عنه الحق أصل وجود الأشياء وهو غيب لها

[معنى السجود وصوره المختلفة]

السجود تحية الملوك لما كان السوقة دون الملك فالملك له العلو والعظمة فإذا دخل عليه من دونه سجد له أي منزلتنا منك منزلة السفل من العلو فإنهم نظروا إليه من حيث مكانته ومرتبته لا من حيث نشأته فإنهم على السواء في النشأة سجدت الملائكة لمرتبة العلم‏

فكان سجودها لا علم لنا وهو الجهل سجدت الظلال لمشاهدتها من خرجت عنه وهي الأشخاص يتستر ظل الشخص عن النور بأصله الذي انبعث عنه لئلا يفنيه النور فلم يكن له بقاء إلا بوجود الأصل فلا بقاء للعالم إلا بالله السلطان ظل الله في أرضه العرش ظل الله يوم القيامة العرش عين الملك يقال ثل عرش الملك إذا اختل ملكه عليه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ أي على ملكه سجود القلب إذا سجد لا يرفع أبدا لأن سجوده للأسماء الإلهية لا للذات فإنها هي التي جعلته قلبا فهي تقلبه من حال إلى حال دنيا وآخرة فلهذا سمته قلبا فإذا تجلى له الحق مقلبا فيرى أنه في قبضة مقلبه وهو الأسماء الإلهية التي لا ينفك مخلوق عنها فهي المتحكمة في الخلائق فمن مشاهد لها وهو الذي سجد قلبه ومن غير مشاهد لها فلا يسجد قلبه وهو المدعي الذي يقول أنا وعلى من هذه صفته يتوجه الحساب والسؤال يوم القيامة والعقاب إن عوقب ومن سجد قلبه فلا دعوى له فلا حساب ولا سؤال ولا عقاب فلا حالة أشرف من حالة السجود لأنها حالة الوصول إلى علم الأصول فلا صفة أشرف من صفة العلم فإنه معطي السعادة في الدارين والراحة في المنزلتين أصل الأعداد الواحد فلا وجود لها إلا به وبه بقاؤها فمن لا علم له بأحدية خالقه كثرت آلهته وغاب عن معرفته بنفسه فجهل ربه‏

فصار عبد الكل رب *** فهو محل لكل ذنب‏

والسجود يقتضي الديمومية ولهذا قال الشيخ أيضا لسهل بن عبد الله إلى الأبد لأن السجود الخضوع والإسجاد إدامة النظر وكل من تطأطأ فقد سجد وقلن له اسجد لليلى فأسجدا أي طأطأ البعير لها لتركبه والتطاطؤ لا يكون إلا عن رفعة والرفعة في حق كل ما سوى الله خروج عن أصله فقيل له اسجد أي تطأطأ عن رفعتك المتوهمة واخضع من شموخك بأن تنظر إلى أصلك فتعرف حقيقتك فإنك ما تعاليت حتى غاب عنك أصلك فطلبك على أصلك طلبك الغيب عينه ومن عرف أصله عرف عينه أي نفسه ومن عرف نفسه عرف ربه ومن عرف نفسه لم يرفع رأسه ومن عرف ربه رفع رأسه فإنه مخلوق على صورة ربه ومن نعوت ربه الرفيع فلا بد أن يرفع نفسه وبعد هذه الرفعة يقال له اسجد فيسجد وجهه فيسجد قلبه فيرفع وجهه من السجود فلا يدوم فإن القبلة التي سجد لها لا تدوم والجهة التي سجد لها لا تدوم فرفع لرفع المسجود له وسجد القلب فلم يرفع لأنه سجد لربه فقبلته ربه وربه لا يزول ولا ترتفع عن الوجود ربوبيته فالقلب لا يرفع رأسه من سجوده أبدا لأن قبلته لا ترتفع فهذا معنى السجود

(السؤال الثاني ومائة) ما بدؤه‏

الجواب بدؤ السجود الذي أسجدك تنوع الحالات وتغيراتها عليك فنبهك ذلك على النظر في السبب الموجب لذلك فطلبت فعلمت أنك معلول وكل معلول فلا قيام له بنفسه فإن المريض لا يمرض نفسه وما كل ما تقام فيه من تغير الأحوال يرضيك وإذا لم يرضك فقد أمرضك فلا بد من ممرض ومن طلب الممرض فقد افتقر فعلمت أنك فقير وإذا افتقرت فهو كسر فقار ظهرك لم يتمكن لك أن ترفع رأسك فأنت موصوف بالسجود دائما فهذا بدء السجود وإن أراد بقوله ما بدؤه يعني ما بدؤه فيك أي ما هو أول شي‏ء يعطيك السجود من منحه فنقول القربة والقربة مؤذنة ببعد متقدم وكل ذلك يؤدي إلى الحد ولا حد فإنه البعيد القريب‏

[عوارف التقريب ومنح السجود في حضرة الحبيب‏]

فاعلم أن الهوية المسماة بالبعيد القريب هي التي أعطتك السجود وبدأك بها منحة ولكن من كونها تسمى بالبعيد القريب فنقلتك من النعت لبعيد إلى النعت القريب فنقلتك من البعد إلى القربة قال الله تعالى واسْجُدْ واقْتَرِبْ ولم يقل غير ذلك من الأحوال تدل على إن أول شي‏ء يمنحك السجود هو القربة ثم بعد ذلك تعطي من مقام القربة ما يليق بالمقربين من الملائكة والنبيين فتلك عوارف التقريب والتقريب منحة السجود والسجود منحة النظر في تغير الأحوال والنظر في تغير الأحوال حكم تغير الأحوال وتغير الأحوال كونك على الصورة كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ وكونك على الصورة كونك مظهرا للأسماء الإلهية وكونك مظهرا للأسماء الإلهية أعطاك الرفعة ولاتصافك بالرفعة أمرت بالسجود فاعلم‏

(السؤال الثالث ومائة) ما قوله العزة إزاري‏

الجواب لما أنعم الحق على عباده حين دعاهم إلى معرفته بالتنزل بضرب الأمثال لهم ليحصلوا بذلك القدر الذي أراد منهم أن يعلموا منه مثل قوله مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ لقوله الله نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ فجعل النور نفسه لأنه خبر المبتدأ أي صفته وهويته النور من حيث إنه الله النور وأين نور

المصباح من قوله الله نُورُ وكذلك الخبر إن الله تعالى إذا تكلم بالوحي كأنه سلسلة على صفوان وأين كلام الحق تعالى من ضرب سلسلة على صفوان كذلك‏

قوله العزة إزاري‏

فأنزل نفسه لعباده منزلة من يقبل الاتصاف بالإزار وإن مراده من علمهم به في مثل هذا ما يناسب الإزار وما يستره الإزار

[الإزار يتخذ لثلاثة أمور]

واعلم أن الإزار يتخذ لثلاثة أمور الواحد للتجمل والثاني للوقاية والثالث للستر والمقصود في هذا الخبر من الثلاثة الوقاية خاصة لأجل قوله العزة فإن العزة تطلب هنا الامتناع من الوصول إليه لأن الإزار بقي موضع الغيرة أن تطلع إليه الأبصار ولما كانت العزة منيعة الحمى أن يتصف بها على الحقيقة خلق من المخلوقات أو مبدع من المبدعات لاستصحاب الذلة للمخلوقات والمبدعات وهي تناقض العزة فلما اتزر الحق بالعزة منع العقول أن تدرك قبول الأعيان للإيجاد الذي اتصفت به وتميزت لأعيانها فلا يعلم ما سوى الله صورة إيجاده ولا قبوله ولا كيف صار مظهرا للحق ولا كيف وصفه بالوجود فقيل فيه موجود وقد كان يقال فيه معدوم‏

فقال الحق العزة إزاري‏

أي هي حجاب علي ما من شأن النفوس أن تتشوف إلى تحصيله ولهذا

قال من نازعني واحدا منهما قصمته‏

فأخبر أنه ينازع في مثل هذه الصفات التي لا تنبغي إلا له مثل العزة والعظمة والكبرياء والعزة القهر الذي نجده عن إدراك السر الذي به ظهور العالم‏

(السؤال الرابع ومائة) ما قوله والعظمة ردائي‏

الجواب أن الله قد نبه أن العظمة التي تلبسها العقول رداء يحجبها عن إدراك الحق عند التجلي فليست العظمة صفة للحق على التحقيق وإنما هي صفة للقلوب العارفة به فهي عليها كالرداء على لابسه وهي من خلفه تحجبها تلك العظمة عن الإدلال عليه وتورثها الإذلال بين يديه ومن الدليل على أن يوصف العظيم بالعظمة أنه راجع إلى العالم به لا إليه أن المعظم إذا رآه من لا يعرفه لا يجد لذلك النظر في قلبه هيبة ولا تعظيما لجهله به والذي يعلم مكانته ومنزلته له على قلبه سلطان العلم به فيورثه ذلك العلم عظمة في قلبه فهو الموصوف بالعظمة لا العظيم‏

[العظمة حال للرائى لا للمرئى‏]

وقد ورد خبر ذكره أبو نعيم الحافظ في دلائل النبوة أن جبريل أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسرى به في شجرة فيها كوكرى طائر فقعد جبريل في الواحد وقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخر فلما وصلا إلى السماء الدنيا تدلى إليهما شبه الرفرف درا وياقوتا فأما جبريل فغشي عليه وأما محمد صلى الله عليه وسلم فبقي على حاله ما تغير عليه شي‏ء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمت فضل جبريل علي في العلم‏

لأنه علم ما رأى وأنا ما علمته فالعظمة التي حصلت في قلب جبريل إنما كانت من علمه بما تدلى إليه فقلب جبريل هو الموصوف بتلك العظمة فهي حال للرائي لا للمرئي ولو كانت العظمة حالة للمرئي لعظمة كل من رآه والأمر ليس كذلك وقد ورد في الحديث الصحيح أن الله يتجلى يوم القيامة لهذه الأمة وفيها منافقوها فيقول أنا ربكم فيستعيذون منه ولا يجدون له تعظيما وينكرونه لجهلهم به فإذا تجلى لهم في العلامة التي يعرفونه بها أنه ربهم حينئذ يجدون عظمته في قلوبهم والهيبة

فلهذا قلنا في‏

قوله العظمة ردائي‏

أي هي رداؤه الذي تلبسه عقول العلماء به وجعلها رداء ولم يجعلها ثوبا فإن الرداء له كمية واحدة والثوب مؤلف من كميات مختلفة ضم بعضها إلى بعض كالقميص وكذلك أيضا الإزار مثل الرداء ولم يقل السراويل لأن ذلك أقرب إلى الأحدية من الثوب المؤلف لتنوع الشكل‏

(السؤال الخامس ومائة) ما الإزار

الجواب حجاب الغيرة والستر على تأثير القدرة الإلهية في الحقيقة الخامسة الكلية الظاهرة في القديم قديمة وفي المحدثات محدثة وهو ظهور الحقائق الإلهية والصور الربانية في الأعيان الثابتة الموصوفة بالإمكان التي هي مظاهر الحق فلا يعلم نسبة هذا الظهور إلى هذا المظهر إلا الله سبحانه وتعالى فالحجاب الذي حال بيننا وبين هذا العلم هو المعبر عنه بالإزار وهي كلمة كن ولا أريد به حرف الكاف والواو والنون وإنما أريد به المعنى الذي به كان هذا الظهور

(السؤال السادس ومائة) ما الرداء

الجواب العبد الكامل المخلوق على الصورة الجامع للحقائق الإمكانية والإلهية وهو المظهر الأكمل الذي لا أكمل منه الذي قال فيه أبو حامد ما في الإمكان أبدع من هذا العالم لكمال وجود الحقائق كلها فيه وهو العبد الذي ينبغي أن يسمى خليفة ونائبا وله الأثر الكامل في جميع الممكنات وله المشيئة التامة وهو

أكمل المظاهر واختلف العلماء هل يصح أن يكون منه في الوجود شخصان فصاعدا أو لا يكون إلا شخص واحد فإن كان شخص واحد فمن هو ذلك الشخص ومن أي قسم هو من أقسام الموجودات هل من البشر أو من الجن أو من الملائكة

[الإنسان الكامل مستهلك في الحق والحق مستهلك فيه‏]

وإنما سماه رداء لأنه مشتق من الردي المقصور وهو الهلاك لأنه مستهلك في الحق استهلاكا كليا بحيث أن لا يظهر له وجود عين مع ظهور الانفعالات الإلهية عنه فلا يجد في نفسه حقيقة ينسب بها شيئا من تلك الانفعالات إليه فيكون حقا كله وهوقوله صلى الله عليه وسلم واجعلني نورا

أي يظهر في كل شي‏ء ولا أظهر بشي‏ء وقد يستهلك الحق فيه فلا ينسب بوجوده شي‏ء إلى الحق وهو الوجه الذي اعتمد عليه من أثبت الحق المخلوق به كأبي الحكم بن برجان وسهل بن عبد الله التستري وغيرهما وإليه أشرنا بقولنا

أنا الرداء أنا السر الذي ظهرت *** بي ظلمة الكون إذ صيرتها نورا

فالمرتدي هو الهالك بهذا الرداء فانظر من هو المرتدي فاحكم عليه بأنه مستهلك فيه فتجد حقيقة ما ذكرناه فكل مرتد محجوب بردائه عن إدراك الأبصار قال تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لأن الرداء يحجب الأبصار عنه ولا يحجبه عنها فهو يدركها ولا تدركه فالأبصار تدرك الرداء والرداء هو الذي استهلك المرتدي فيه بظهوره إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏

(السؤال السابع ومائة) ما الكبر

الجواب ما ظهر عن دعاوى الخلق في حضرة الربوبية من أنا على طبقات القائلين بها الكبر حال من أحوال القلوب من حيث ما هي عالمة بمن ينبغي أن ينسب إليه الكبرياء فإن الحق معلوم عند كل موجود ويتبع العلم الكبرياء فمن كان أعلم به كان كبرياء الحق في قلبه أعظم ممن ليس في قلبه ما يوجب ذلك فلو كان الكبرياء صفة للذات لكانت الذات مركبة وإن كان عين الذات وتجلى سبحانه وسلب العلم به في تجليه لم يجد المتجلي له أثر كبر عنده لهذا المتجلي لجهله به فإن رزقه العلم به تبعه الكبر

[الكبر حجاب بين العبد وبين الحق‏]

والعلم مما يوصف به العالم لا المعلوم كذلك الكبر يوصف به من يوصف بالعلم بمن يكون الكبرياء من أثره في قلب هذا الشخص ولهذا قد ورد الكبرياء ردائي فهو حجاب بين العبد وبين الحق يحجب العبد أن يعرف كنه المرتدي به وهو نفسه فأحرى أن يعرف ربه ومع هذا فلا يضاف الكبر إلا لغير لابسه فإنه حالة عجيبة وكذلك العظمة فإن الحق ما هي صفته لا ذاتية ولا معنوية فإنه يستحيل على ذاته قيام صفات المعاني بها ويستحيل أن تكون صفة نفسية من أجل ما ورد من إنكار الخلق له في تجليه مع كونه هو هو وإذا بطل الوجهان فلم يبق إلا أن تكون صفة للمتجلي له وهو الكون أو حالة تعقل بين المتجلي والمتجلي له لا يتصف بها المتجلي له لأن العبودة تقابل الكبر وتضادها ومحال أن تقوم بنفسها بينهما فلم يبق إلا أن تكون من أوصاف العلم فتكون نسبة كبر وتعظيم وعزة تتصف بها نسبة علم بمعلوم محقق من حيث ما يؤدي إليه ذلك العلم من وجود هذه النسب ذوقا وشربا كما تقول في التشبيه وضرب المثل سواد مشرق وعلم حسن فوصف السواد بالإشراق والعلم بالحسن وهو وصف من لا قيام له بنفسه بما لا قيام له بنفسه فلذلك جعلنا الكبرياء والعظمة حالة تابعة للعلم بالمعظم والمكبر في نفس من عظمه وكبره‏

(السؤال الثامن ومائة) ما تاج الملك‏

الجواب تاج الملك علامة الملك وتتويج الكتاب السلطاني خط السلطان فيه والوجود كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ويجهله من ليس بمقرب وتتويج هذا الكتاب إنما يكون بمن جمع الحقائق كلها وهي علامة موجدة

[الإنسان الكامل تاج الملك‏]

فالإنسان الكامل الذي يدل بذاته من أول البديهة على ربه هو تاج الملك وليس إلا الإنسان الكامل وهو

قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته‏

وهُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ والظَّاهِرُ والْباطِنُ فلم يظهر الكمال الإلهي إلا في المركب فإنه يتضمن البسيط ولا يتضمن البسيط المركب فالإنسان الكامل هو الأول بالقصد والآخر بالفعل والظاهر بالحرف والباطن بالمعنى وهو الجامع بين الطبع والعقل ففيه أكثف تركيب وألطف تركيب من حيث طبعه وفيه التجرد عن المواد والقوي الحاكمة على الأجساد وليس ذلك لغيره من المخلوقات سواه ولهذا خص بعلم الأسماء كلها وبجوامع الكلم ولم يعلمنا الله أن أحدا سواه أعطاه هذا إلا الإنسان الكامل وليس فوق الإنسان‏

مرتبة إلا مرتبة الملك في المخلوقات وقد تلمذت الملائكة له حين علمهم الأسماء ولا يدل هذا على أنه خير من الملك ولكنه يدل على أنه أكمل نشأة من الملك فلما كان مجلى الأسماء الإلهية صح له أن يكون للكتاب مثل التاج لأنه أشرف زينة يتزين بها الكتاب وبذلك التتويج ظهرت آثار الأوامر في الملك كذلك بالإنسان الكامل ظهر الحكم الإلهي في العالم بالثواب والعقاب وبه قام النظام وانخرم وفيه قضى وقدر وحكم‏

(السؤال التاسع ومائة) ما الوقار

الجواب حمل أعباء التجلي قبل حصوله والفناء فيه كسكرات الموت قبل حلوله‏

[للتجلى مقدمات كطلوع الفجر لطلوع الشمس‏]

وذلك أن للتجلي مقدمات كطلوع الفجر لطلوع الشمس وكما ورد في الخبر عن مقدمات تجلى الرب للجبل بما ينزل من الملائكة والقوي الروحانية في الضباب وهي أثقال التجلي التي تتقدمه من الوقر وهو الثقل وإذا حصل الثقل ضعف الإسراع والحركة فسمى ذلك السكون وقارا أي سكون عن ثقل عارض لا عن مزاج طبيعي فإن السكون الكائن عن الأمر الذي يورث الهيبة والعظمة في نفس الشخص يسمى وقارا وسكينة والسكون الطبيعي الذي يكون في الإنسان من مزاجه لغلبة البرد والرطوبة على الحرارة واليبس لا يسمى وقارا إنما الوقار نتيجة التعظيم والعظمة ولا سيما إن تقدم التجلي خطاب إلهي فصاحبه أشد وقارا لأن خطاب الحق بوساطة الروح يورث هيبة ولا سيما إن كان قولا ثقيلا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كصلصلة الجرس يجد منه مشقة عظيمة ويورثه سكونا وغشيا مع الواسطة فكيف به إذا خاطبه الحق بارتفاع الوسائط مثل موسى عليه السلام ومن كلمه الله‏

[حال لإنسان بعد حصول التجلي‏]

فإذا كان هذا وأمثاله من مقدمات التجلي الإلهي فكيف يكون حال الإنسان بعد حصول التجلي من الوقار أ لا ترى إلى ما يحصل في قلوب الناس من هيبة الصالحين المنقطعين إلى الله الذين لم تجر العادة عند العامة برؤيتهم فإذا وقع نظرهم عليهم ظهر عليهم من الوقار والسكينة والخمود برؤيتهم ما لا يقدر قدره إلا الله وهو إجلال المتجلي يقول بعضهم‏

كأنما الطير منهم فوق أرؤسهم *** لا خوف ظلم ولكن خوف إجلال‏

وقال آخر

اشتاقه فإذا بدا *** أطرقت من إجلاله‏

لا خيفة بل هيبة *** وصيانة لجماله‏

فهذا الإطراق هو عين الوقار وقال تعالى وعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وقال عليه السلام فلا تأتوها وأنتم تسعون يعني الجمعة وائتوها وعليكم السكينة والوقار

أي امشوا مشي المثقلين وهذا لا يكون إلا إذا تجلى لهم في جلال الجمال‏

(السؤال العاشر والمائة) وما صفة مجالس الهيبة

الجواب لما كانت الهيبة تورث الوقار سأل عن صفة مجلسه أي ما صفته في قعوده بين يديه فمن صفته عدم الالتفات واشتغال السر بالمشاهد وعصمة القلب من الخواطر والعقل من الأفكار والجوارح من الحركات وعدم التمييز بين الحسن والقبيح وأن تكون أذناه مصروفة إليه وعيناه مطرقتين إلى الأرض وعين بصيرته غير مطموسة وجمع الهم وتضاؤله في نفسه واجتماع أعضائه اجتماعا يسمع له أزيز وإن لا يتأوه مع جمود العين عن الحركة وأن لا تعطيه المباسطة الإدلال‏

[ليكن سمع الجليس حيث قيده الحق‏]

فإن جالسة بتقييد جهة كما كلمه بتقييد جهة من حضرة مثالية ك جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ... في الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ من الشَّجَرَةِ فليكن سمعه بحيث قيده فإن أطلق سمعه لأجل حقيقة أخرى تعطيه عدم التقييد وهو تعالى قد قيد نفسه به في جانب خاص فقد أساء الأدب وليس هو في مجلس هيبة ولا يكون صاحب مجلس الهيبة صاحب فناء لكنه صاحب حضورا واستحضار لا يرجح ولا يجرح ولا يرفع ميزانا ولا يسمى إنسانا فإن الإنسان مجموع أضداد ومختلفات‏

(السؤال الحادي عشر ومائة) ما صفة ملك الآلاء

الجواب روحاني وذلك أن الملك لا يتصف به إلا الجماد خاصة وهو أشد الخلق طواعية لله سبحانه المعترف بأنه ملك لله سبحانه على أن جميع ما سوى الله ملك لله ولكن الفضل في الملك أن يعلم أنه ملك وأن يكون معاملته مع الله معاملة من هو ملك لله وليس ذلك إلا للمهيمين من الملائكة والجمادات وأما النبات فلم يتصف بذلك كل النبات فإن منه من لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ولكن باقي الخلائق فيهم من قام بحق كونه ملكا ومنهم من لم يقم بذلك في كل صنف وبهذا وصفهم الحق سبحانه فقال ولِلَّهِ يَسْجُدُ من في السَّماواتِ والْأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً

فالطائع في الإمكان أن يكون صاحب كره والكارة في الإمكان أن يكون طائعا فأعظم الآلاء وأتمها بل هي النعمة المطلقة أن يرزق الخلائق طاعة الله فإنهم لذلك خلقوا

[ملك الآلاء هو الذي ملكته النعمة لله‏]

فملك الآلاء هو الذي ملكته النعمة لله وهوقوله عليه السلام أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه‏

وكل ما سوى الله متغذ فكل ما سوى الله منعم عليه فكل من تعبدته نعمة الله لله فهو ملك الآلاء والآلاء من جملة الملك فيحتاج إلى نعمة وتلك النعمة عين وجودها وبقائها في المنعمين عليهم فالنعم ملك الآلاء أيضا فإذا كان ملك الآلاء المنعم عليهم ردتهم النعمة إلى الله فكان ملكهم لله بتلك النعم فهم ملك الآلاء فملك الآلاء من كان بهذه الصفة وإذا كان ملك الآلاء عبارة عن عين الآلاء فصفة هذا العين أن لا تنسب إلا إلى الله فإن نسبت إلى غير الله فذلك من جهة المنعم عليه لا من جهة النعمة والمنعم عليه هو المذموم بقدر ما أضاف من الآلاء إلى غير الله‏

[حسن استماع الجن لسورة الرحمن‏]

لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن العامة لجميع ما خلق الله دنيا وآخرة وعلوا وسفلا على الجن‏

فما قال في آية منها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلا قالت الجن ولا بشي‏ء من آلائك ربنا نكذب فمدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بحسن الاستماع حين تلاها عليهم ولم يقولوا شيئا من ذلك‏

ولم يكن سكوتهم عن جهل بأن الآلاء من الله ولا أن الجن أعرف منهم بنسبة الآلاء إلى الله ولكن الجن وفت بكمال المقام الظاهر حيث قالت ولا بشي‏ء من آلائك ربنا نكذب فإن الموطن يقتضيه ولم تقل ذلك الصحابة من الإنس حين تلاها عليهم شغلا منهم بتحصيل علم ما ليس عندهم مما يجي‏ء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فشغلهم ذلك الحرص على تعمير الزمان الذي يقولون فيه ما قالت الجن أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول من العلم فيستفيدون فهم أشد حرصا على اقتناء العلم من الجن والجن أمكن في توفية الأدب بما يقتضيه هذا الموطن من الجواب من الإنس فمدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فضلوا به على الإنس وما مدح الإنس بما فضلوا به على الجن من الحرص على مزيد العلم بسكوتهم عند تلاوته ولا سيما والحق يقول لهم وإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا والسورة واحدة في نفسها كالكلام غير التام فهم ينصتون حتى يتمها فجمع الصحابة من الإنس بين فضيلتين لم يذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فضل الجن فيما نطقوا به فإن نطقهم تصريح بالعبودية بلسان الظاهر وهم بلسان الباطن أيضا عبيد فجمعوا بين اللسانين بهذا النطق والجواب ولم يفعل الإنس من الصحابة ذلك عند التلاوة فنقصهم هذا اللسان فكان توبيخ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم تعليما بما تستحقه المواطن أعني مواطن الألسنة الناطقة ليتنبهوا فلا يفوتهم ذلك من الخير العملي فإنهم كانوا في الخير العلمي في ذلك الوقت وحكم العمل في موطنه لا يقاومه العلم فإن الحكم للموطن وحكم العلم في موطنه لا يقاومه العمل والجن غرباء في الظاهر فهم يسارعون في الظهورية ليعلموا أنهم قد حصل لهم فيه قدم لكونهم مستورين فهم إلى الباطن أقرب منهم إلى الظاهر والتلاوة كانت بلسان الظاهر والإنس في مرتبة الظاهر فحجبهم عن الجواب الذي أجابت به الجن كونهم أصحاب موطن الظاهر فذهلوا عن الجواب لقرينة حال موطنهم ولو وفوا به لكان أحسن في حقهم فنبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأكمل في موطنه وهو المعلم فنعم المؤدب‏

[ملك الآلاء في سورة الرحمن‏]

فمن أراد تحقيق ملك الآلاء فليتدبر سورة الرحمن من القرآن وينظر إلى تقديم الإنس على الجن في آيتها وقوله تعالى خَلَقَ الْإِنْسانَ أيضا فابتدأ به تقديرا ومرتبة نطقية تهمما به على الجن وإن كان الجن موجودا قبله يؤذن بأنه وإن تأخرت نشأته فهو المعتنى به في غيب ربه لأنه المقصود من العالم لما خصه به من كمال الصورة في خلقه باليدين وعلمه الأسماء والإفصاح عما علمه بقوله عَلَّمَهُ الْبَيانَ‏

[ملك الآلاء وهو ملك الشاكرين‏]

وبعض أصحابنا يطلق ملك الآلاء على ما يحصل للعبد من مزيد الشكر على نعم الله فذلك القدر لمن حصل له يسمى ملك الآلاء فهو ملك الشاكرين فمن شكر نعم الله بلسان حق وناب الحق مناب العبد من اسمه الشكور وهو شكره لعباده على ما كان منهم من شكرهم على ما أنعم عليهم ليزيدوا في الأعمال في مقابلة شكره فيكون ما جازاهم به من ذلك على قدر علم الشاكر بالمشكور والله هو الشاكر في هذا الحال وهو العالم بنفسه فالجزاء الذي يليق بهذا الشاكر لو جوزي هو الذي يحصل لهؤلاء الشاكرين الذين لهم هذا الحال فهذا الجزاء يسمى ملك الآلاء وهو أعظم الملك وهو قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ أي نعم ربها جمع آلاء وإلى ربها المضافة إليه هنا الذي يستحقها لو قبل‏

الجزاء الذي هذه صفته فتكون تلك جزاء هؤلاء وهذا من باب ما طلبه الله من عباده فقال فَاذْكُرُونِي واعْبُدُونِي وأَطِيعُونِ واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ وهذا كله جزاء من العبد في مقابلة ما أنعم الله عليه به من الوجود خاصة فكيف إذا انضاف إلى ذلك ما خلق من أجله من النعم المعنوية والحسية قال تعالى وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فعلل فيعبدوه لكونه أنعم عليهم بالإيجاد لكمال مرتبة العلم والوجود من حيث من ذكر من الأجناس فاعلم ذلك لا لكمال مرتبة الوجود والمعرفة من غير هذا التقييد فإن ذلك يكفي فيه خلق محدث واحد وإيجاد العلم المحدث فيه المتعلق بالله والكون ولكن لما كانت الأجناس منحصرة عند الله وأوجدها كلها وبقي هذان الجنسان أوقع الإخبار عنهما بما ذكر فشرحناه بما يعطيه الحال المقصودة لخالقهما تعالى بهما انتهى الجزء الثامن والثمانون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال الثاني عشر ومائة) ما صفات ملك الضياء

الجواب قال تعالى في القرآن إنه ضِياءً وذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ فكلما أضاء بالقرآن فهو ملك الضياء وكذلك جعل الشمس ضياء فكلما أضاء بالشمس في الدنيا ويوجد به عينه فهو من ملك الضياء وكل نور أعطى ضياء فهو من ملك الضياء مما لا يقابله معطي الضياء بنفسه أي نوع كان من الأنوار فضياؤه هو الضوء الذي لا يكون معه الحجاب عما يكشفه والنور حجاب‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق الحق تعالى حجابه النور

وقال نوراني أراه‏

والضياء ليس بحجاب فالضياء أثر النور وهو الظل فإن النور صيره الحجاب ضياء فهو بالنسبة إلى الحجاب ظل وإلى النور ضياء فله الكشف من كونه ضياء وله الراحة من كونه ظلا فملك الضياء ملك الكشف فهو ملك العلم وملك الراحة فهو ملك الرحمة فجمع الضياء بين الرحمة والعلم قال تعالى في منته على عبده خضر آتَيْناهُ رَحْمَةً من عِنْدِنا وهو الظل وعَلَّمْناهُ من لَدُنَّا عِلْماً وهو الضياء أي الكشف الضيائي وهو أتم الكشوف‏

[الضياء روح النور]

وإنما قلنا النور حجاب لقوله عليه الصلاة والسلام نوراني أراه أي النور لا يتمكن أن تدركه الأبصار لأنها تضعف عنه فهو حجاب على نفسه بنفسه والضياء ليس كذلك فالضياء روح النور والضياء للنور ذاتي فملك الضياء ملك ذاتي وضوء الذات الأسماء الإلهية فملك الضياء ملك الأسماء والقرآن ضياء فملكه ما أظهره القرآن فعلم الخضر في زمان موسى عليه السلام جزء من أجزاء ما يحويه صاحب القرآن المحمدي من العلوم فبالقرآن يكشف جميع ما في الكتب المنزلة من العلوم وفيه ما ليس فيها فمن أوتي القرآن فقد أوتي الضياء الكامل الذي يتضمن كل علم قال تعالى ما فَرَّطْنا في الْكِتابِ من شَيْ‏ءٍ وهو القرآن العزيز الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ وبه صح لمحمد صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فعلوم الأنبياء والملائكة وكل لسان علم فإن القرآن يتضمنه ويوضحه لأهل القرآن بما هو ضياء فهو نور من حيث ذاته لأنه لا يدرك لعزته وهو ضياء لما يدرك به ولما يدرك منه فمن أعطى القرآن فقد أعطى العلم الكامل فما ثم في الخلق أتم من المحمديين وهم خير أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏

[الحياة ضياء النور الذاتي وظل الحجاب النسبي‏]

ثم جعل الشمس ضياء لوجود روح الحياة في العالم كله وبالحياة رحم العالم فالحياة فلك الرحمة التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وكذلك نسبة الحياة إلى الذات الإلهية شرط في صحة كل نسبة نسبت إلى الله من علم وإرادة وقدرة وكلام وسمع وبصر وإدراك فلو رفعت نسبة الحياة إليه ارتفعت هذه النسب كلها فهي الرحمة الذاتية التي وسعت جميع الأسماء فهي ضياء النور الذاتي وظل الحجاب النسبي لأنه لا يعقل الإله إلا بهذه النسب وتعقل الذات نورا لا من حيث هذه النسب فكونه إلها حجاب على الذات فكانت الألوهية عين الضياء فهي عين الكشف والعلم وكانت عين الظل النسبية فكانت عين الرحمة فجمعت الألوهية بين العلم والرحمة في حق الكون وهو المألوه وفي حق الأسماء الإلهية

[ملك الضياء أرفع من ملك السماوات والأرض‏]

فما أعطاه هذا المقام الإلهي فهو ملك الضياء وهو أرفع من ملك السموات والأرض وما بينهما ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ بل لا يؤمنون وقد نبهتك على ما فيه غنية وشفاء في ملك الضياء

فالكل في ملك الضيا *** أ وليس عندهم خبر

والكل في عين الظلال *** وهو المسمى بالمقر

فالحمد لله الذي *** قد حزته بين البشر

في عصرنا هذا فهل *** في وقتنا من مدكر

يعرف ما قد قلته *** كما أتانا في الزبر

هذا هو العلم الذي *** يقضي على علم الخضر

هل كان إلا خرقه *** سفينة ذات دسر

وقتل نفس رحمة *** لو أنه يحيا كفر

وستره كنز الذي *** كان يتيما يحتقر

وعلمنا بالله لا *** بعين كون عن نظر

فأين ذا من ذاك يا *** أهل القلوب والبصر

هذا هو العلم الذي *** يقال سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ

ودونه الشمس التي *** تكسف فيه والقمر

في مقعد من صدقه *** عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ

متكئ على سرر *** وسط جنان في نهر

(السؤال الثالث عشر ومائة) ما صفات ملك القدس‏

الجواب قالت الملائكة ونُقَدِّسُ لَكَ تعني ذواتها أي من أجلك لنكون من أهل ملك القدس فالمتطهرون من البشر من أهل الله من ملك القدس وأهل البيت من ملك القدس والأرواح العلا كلها من غير تخصيص من ملك القدس فتختلف صفات ملك القدس باختلاف ما تقبله ذواتهم من التقديس ولما نعت الله اسم الملك بالاسم القدوس والملك يطلب الملك فيضاف الملك إلى القدس كما يضاف إلى الآلاء وغيرها

[ذوات ملك القدس على نوعين‏]

وذوات ملك القدس على نوعين في التقديس فمنهم ذوات مقدسة لذاتها وهي كل ذات كونية لم تلتفت قط إلى غير الاسم الإلهي الذي عنه تكونت فلم يطرأ عليها حجاب يحجبها عن إلهها فتتصف لذلك الحجاب بأنها غير مقدسة أي لا تضاف إلى القدس فتخرج عن ملك القدس وهم الذين يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ أي ينزهون ذواتهم عن التقديس العرضي بالشهود الدائم وهذا مقام ما ناله أحد من البشر إلا من استصحب حقيقته من حين خلفت شهود الاسم الإلهي الذي عنه تكونت وبقي عليها هذا الشهود حين أوجد الله لها مركبها الطبيعي الذي هو الجسم ثم استمر لها ذلك إلى حين الانتقال إلى البرزخ من غير موت معنوي وإن مات حسا وهذا والله أعلم ناله محمد صلى الله عليه وسلم‏

فإنه قال كنت نبيا وآدم بين الماء والطين‏

يريد أن العلم بنبوته حصل له وآدم بين الماء والطين واستصحبه ذلك إلى أن وجد جسمه في بلد لم يكن فيه موحد لله ولم يزل على توحيد الله لم يشرك كما أشرك أهله وقومه ثم إنه لما استقامت آلاته الحسية وتمكن من العمل بها بحسب ما وجدت له واستحكم بنيان قصر عقله وخزانة فكره واعتدلت مظاهر قواه الباطنة لم يصرفها إلا في عبادة خالقه فكان يخلو بغار حرا للتحنث فيه إلى أن أرسله الله إلى الناس كافة

فكان يذكر الله على كل أحيانه كما ذكرت عنه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها

وقد قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه وهو الصادق إنه تنام عينه ولا ينام قلبه‏

فأخبر عن قلبه أنه لا ينام عند نوم عينه عن حسه فكذلك موته إنما مات حسا كما نام حسا فإن الله يقول له إِنَّكَ مَيِّتٌ وكما أنه لم ينم قلبه لم يمت قلبه فاستصحبته الحياة من حين خلقه الله وحياته إنما هي مشاهدة خالقه دائما لا تنقطع وقد أخبر ذو النون المصري حين سئل عن قوله تعالى في أخذ الميثاق فقال كأنه الآن في أذني يشير إلى علمه بتلك الحال فإن كان عن تذكر فلم يلحق بالملائكة في هذا المقام وإن لم يكن عن تذكر بل استصحاب حال من حين أشهد إلى حين سئل فيكون ممن خصه الله بهذا المقام فلا أنفيه ولا أثبته وما عندي خبر من جانب الحق تعالى في ذلك مروي ولا غير مروي أنه ناله أحد من البشر وإنما ذكرنا ذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني أنه ناله على طريق الاحتمال لا على القطع فإنه لا علم لي بذلك والظاهر أنه تخلله في هذا المقام ما يتخلل البشر فإنه كثيرا ما أوحي إليه‏

في القرآن أن يقول قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فاستروحنا من هذا أن حكمه حكم البشر إلا ما خصه الله به من التقريب الإلهي الذي ورد وثبت عندنا وقد ثبت عنه أنه قال إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وأرضى كما يرضى البشر

والرضي والغضب من صفات النفس الحيوانية في البشر لا من صفات النفس الناطقة وإن اتصفت النفوس الناطقة بالرضى والغضب فما هو على حد ما أراده‏

بقوله أغضب كما يغضب البشر وأرضى كما يرضى البشر

وإنما قلنا بإضافة ذلك إلى النفس الحيوانية لما نشاهده من الحيوانات من ذلك وقد ثبت النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم‏

وجميع الحيوان كله من صفته المباشرة التي بحقيقتها سمي الإنسان بشرا وبهذا القدر تبين فضل الملك على الإنسان في العبادة لكونه لا يفتر لأن حقيقة نشأته تعطيه أنه لا يفتر فتقديسه ذاتي لأن تسبيحه لا يكون إلا عن حضور مع المسبح وليس تسبيحه إلا لمن أوجده فهو مقدس الذات عن الغفلات فلم تشغله نشأته الطبيعية النورية عن تسبيح خالقه على الدوام مع كونهم من حيث نشأتهم يختصمون كما أن البشر من حيث نشأته تنام عينه ولا ينام قلبه ولم يعط البشر قوة الملك في ذلك لأن الطبيعة يختلف مزاجها في الأشخاص وهذا مشهود بالضرورة في عالم العناصر فكيف بمن هو في نسبته إلى الطبيعة أقرب من نسبة العناصر إليها وعلى قدر ما يكون بين الطبيعة المجردة وبين ما يتولد عنها من وسائط المولدات يكثف الحجاب وتترادف الظلم فأين نسبة آخر موجود من الأناسي من ربه من حيث خلق جسد آدم بيديه من نسبة آدم إلى ربه من حيث خلقه بيديه‏

فآدم يقول خلقني ربي بيديه وابنه شيث يقول بيني وبين يدي ربي أبى‏

وهكذا الموجودات الطبيعية مع الطبيعة من ملك وفلك وعنصر وجماد ونبات وحيوان وإنسان وملك مخلوق من نفس إنسان وهذا الملك آخر موجود طبيعي ولا يعرف ذلك من أصحابنا إلا القليل فكيف من ليس من أهل الايمان والكشف‏

[القسم الثاني من ذوات ملك القدس‏]

وأما القسم الذي تقديسه لا من ذاته فهي كل ذات يتخلل شهودها خالقها غفلات فالأحيان التي تكون فيها حاضرة مع خالقها هي من ملك القدس وسنبين ما ذكرناه في سؤاله ما القدس إذا أجبنا عنه بعد هذا إن شاء الله‏

[من صفات ملك القدس‏]

فمن صفات ملك القدس التباعد عن الطبيعة بالأصل والتباعد عن مشاهدة آثار الأسماء الإلهية بمشاهدة الأسماء الإلهية لا من كونها مؤثرة بل بما تستحقه الألوهية والذات فإذا كان القدس عين الملك وأضيف إلى عينه لاختلاف اللفظ واختلاف معنى الملك والقدس فإنه يدل على المبالغة في الطهارة والمبالغة في الطهر هي نسبة في الطهر ما هي عين الطهر لوجود الطهر دونها وما هي غير الطهر فإن المبالغة ليست سوى استقصاء هذه الصفة فيكون ملك القدس استقصاء وهو المبالغة فيه فيكون سؤاله عن صفاته الذاتية فإن لهذه المراتب نشأت في المعاني كالنشأة الطبيعية وقد علمت أن النش‏ء الطبيعي كما أخبر الله مخلقة وغير مخلقة أي تامة الخلق وغير تامة الخلق والغير التامة الخلق داخل في قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ فأعطى النقص خلقه أن يكون نقصا فالزيادة على النقص الذي هو عينه لو كانت لكانت نقصا فيه ولم يعط النقص خلقه فتمام النقص أن يكون نقصا

(السؤال الرابع عشر ومائة) ما القدس‏

الجواب الطهارة وهي ذاتية وعرضية فالذاتية كتقديس الحضرة الإلهية التي أعطيها الاسم القدوس فهي القدس عن إن تقبل التأثر فيها من ذاتها فإن قبول الأثر تغيير في القابل وإن كان التغيير عبارة عن زوال عين بعين إما في محل أو مكان فيوصف المحل أو المكان بالتغيير ومعنى ذلك أنه كان هذا المحل مثلا أصفر فصار أخضر أو كان ساكنا فصار متحركا فتغير المحل أي قبل الغير فالقدس والقدوس لا يقبل التغيير جملة واحدة

[القدس العرضي أو التقديس بالرياضات‏]

وأما القدس العرضي فيقبل الغير وهو النقيض وما تفاوت الناس إلا في القدس العرضي فمن ذلك تقديس النفوس بالرياضات وهي تهذيب الأخلاق وتقديس المزاج بالمجاهدات وتقديس العقول بالمكاشفات والمطالعات وتقديس الجوارح بالوقوف عند الأوامر والنواهي المشروعات ونقيض هذا القدس ما يضاده مما لا يجتمع معه في محل واحد في زمان واحد فهذا هو القدس الذي ذكرنا ملكه‏

[حظيرة القدس‏]

فالقدس العارض لا يكون إلا في المركبات فإذا اتصف المركب بالقدس فذلك المسمى حظيرة القدس أي المانعة قبول ما يناقض كونها قدسا ومهما لم تمنع فلا تكون حظيرة قدس فإن الحظر المنع وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أي ممنوعا فالقدس حقيقة إلهية سيالة سارية في المقدسين‏

لا يدرك لنورها لون مخصوص معين ولا عين تسري في حقائق الكون ليس لعالم الأرواح المنفصلين عن الظلمة عليها أثر وذلك أن الأرواح المدبرة للأجسام العنصرية لا يمكن أن تدخل أبدا حظيرة القدس ولكن العارف الكامل يشهدها حظيرة قدس فيقول العارف عند ذلك إن هذه الأرواح لا تدخل حظيرة القدس أبدا لأن الشي‏ء يستحيل أن يدخل في نفسه فهي عنده حظيرة قدس وغير العارف يشارك العارف في هذا الإطلاق فيقول إنها لا تدخل حظيرة القدس أي لا تتصف بالقدس أبدا فإن ظلمة الطبع لا تزال تصحب الأرواح المدبرة في الدنيا والبرزخ والآخرة فاختلفا في المشهد وكل قال حقا وأشار إلى معنى وما تواردوا على معنى واحد ولهذا لا يتصور الخلاف الحقيقي في هذا الطريق‏

[ملك القدس‏]

فإذا كان ملك القدس كل من اتصف بالطهارة الذاتية والعرضية والقدوس اسم إلهي منه سرت الطهارة في الطاهرات كلها فمن نظر الأشياء كلها بعين ارتباطها بالحقائق الإلهية كان ملك القدس جميع ما سوى الله من هذه الحيثية ومن نظر الأشياء من حيث أعيانها فليس ملك القدس منها إلا من كان طهوره عرضيا وأما الطهور الذاتي فلا ينبغي أن يكون ملك القدس إلا أن يكون ملك القدس عين القدس فحينئذ يصح أن يقال فيه ملك القدس‏

[طهور المطهر]

وطهور كل مطهر بحسب ما تقضيه ذاته من الطهارة فطهارة حسية وطهارة معنوية فملك القدس منه ما هو من عالم المعاني ومنه ما هو من عالم الحس وقد تورث الأسباب الحسية المطهرة طهارة معنوية وقد تورث الأسباب المعنوية المطهرة طهارة حسية فأما الأول فقوله تعالى ويُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ من السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ به ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ولِيَرْبِطَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ ويُثَبِّتَ به الْأَقْدامَ وسبب هذه الطهارة المعنوية كلها إنما هو نزول هذا الماء من السماء وأما الثاني‏

فقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة حين كان جنبا فانتزع أبو هريرة يده من يد النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما له لكونه غير طاهر لجنابة أصابته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المؤمن لا ينجس‏

فعرق المؤمن وسؤره طاهر فهذه طهارة حسية عن طهر معنوي وكذلك المقدس طهارته الحسية عن طهر معنوي فإن له التواضع وهو مسيل الحياة والعلم والحياة مطهرة والعلم كذلك فبالمجموع نال الطهارة فإن الأودية كلها طاهرة وإنما تنجس بالعرض وكل واد به شيطان فهو نجس فما يجد المؤمن فيه خير الأجل ذلك الشيطان كما

ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا واد به شيطان فارتفع عنه وصلى في موضع آخر ووادي عرنة بعرفة موقف إبليس وكذلك بطن محسر

فلهذا أمرنا بالارتفاع يوم عرفة عن بطن عرنة وأمرنا بالإسراع في بطن محسر ولهذا يعتبر الأولياء أهل الكشف ألفاظ الذكر كان شيخنا يقول الله الله فقلت له لم لا تقول لا إله إلا الله فقال أخاف أن أموت في وحشة النفي إذ كان كل حرف نفس فهذا مثل الإسراع في بطن محسر لئلا يدركه الموت في مكان غير طاهر ولأولياء الله في هذا الكشف التام نظر دقيق جعلنا الله من أهله‏

(السؤال الخامس عشر ومائة) ما سبحات الوجه‏

الجواب وجه الشي‏ء ذاته وحقيقته فهي أنوار ذاتية بيننا وبينها حجب الأسماء الإلهية ولهذا قال كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ في أحد تأويلات هذا الوجه وهذه السبحات في العموم باللسان الشامل أنوار التنزيه وهو سلب ما لا يليق به عنه وهي أحكام عدمية فإن العدم على الحقيقة هو الذي لا يليق بالذات وهنا الحيرة فإنه عين الوجوه فإذا لا ينزه عن أمر وجودي ولهذا كانت الأسماء الإلهية نسبا إن تفطنت أحدثت هذه النسب أعيان الممكنات لما اكتسبت من الحالات من هذه الذات فكل حال تلفظ باسم يدل عليه من حيث نفسه إما بسلب أو إثبات أو بهما وهي هذه الأسماء على قسمين قسم كله أنوار وهي الأسماء التي تدل على أمور وجودية وقسم كله ظلم وهي الأسماء التي تدل على التنزيه فقال إن لله سبعين حجابا أو سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه‏

[حجب الذات ووجود أعيان الممكنات‏]

فإنه لو رفع الأسماء الإلهية ارتفعت هذه الحجب ولو ارتفعت الحجب التي هي هذه الأسماء ظهرت أحدية الذات ولا يقف لأحديتها عين تتصف بالوجود فكانت تذهب وجود أعيان الممكنات فلا توصف بالوجود لأنها لا تقبل الاتصاف بالوجود إلا بهذه الأسماء ولا تقبل الاتصاف بهذه الأحكام كلها عقلا وشرعا إلا بهذه الأسماء فالممكنات من خلف هذه الحجب مما يلي حضرة الإمكان فهو تجل ذاتي أورثها الاتصاف بالوجود

من خلف حجاب الأسماء الإلهية فلم يتعلق لأعيان الممكنات علم بالله إلا من حيث هذه الأسماء عقلا وكشفا

(السؤال السادس عشر ومائة) ما شراب الحب‏

الجواب تجل متوسط بين تجليين وهو التجلي الدائم الذي لا ينقطع وهو أعلى مقام يتجلى الحق فيه لعباده العارفين وأوله تجلى الذوق وأما التجلي الذي يقع به الري فهو لأصحاب الضيق فغاية شربهم رى وأما أهل السعة فلا رى لشربهم كأبي يزيد وأمثاله فأول ما أقدم في هذا السؤال معرفة الحب وحينئذ يعرف شرابه الذي أضيف إليه وكأسه‏

[مراتب الحب‏]

فاعلم إن الحب على ثلاث مراتب حب طبيعي وهو حب العوام وغايته الاتحاد في الروح الحيواني فتكون روح كل واحد منهما روحا لصاحبه بطريق الالتذاذ وإثارة الشهوة ونهايته من الفعل النكاح فإن شهوة الحب تسري في جميع المزاج سريان الماء في الصوفة بل سريان اللون في المتلون وحب روحاني نفسي وغايته التشبه بالمحبوب مع القيام بحق المحبوب ومعرفة قدره وحب إلهي وهو حب الله للعبد وحب العبد ربه كما قال يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ ونهايته من الطرفين أن يشاهد العبد كونه مظهرا للحق وهو لذلك الحق الظاهر كالروح للجسم باطنه غيب فيه لا يدرك أبدا ولا يشهده إلا محب وأن يكون الحق مظهرا للعبد فيتصف بما يتصف به العبد من الحدود والمقادير والأعراض ويشاهد هذا العبد وحينئذ يكون محبوبا للحق وإذا كان الأمر كما قلناه فلا حد للحب يعرف به ذاتي ولكن يحد بالحدود الرسمية واللفظية لا غير فمن حد الحب ما عرفه ومن لم يذقه شربا ما عرفه ومن قال رويت منه ما عرفه فالحب شرب بلا رى قال بعض المحجوبين شربت شربة فلم أضمأ بعدها أبدا فقال أبو يزيد الرجل من يحسي البحار ولسانه خارج على صدره من العطش وهذا هو الذي أشرنا إليه‏

[الحب الطبيعي‏]

واعلم أنه قد يكون الحب طبيعيا والمحبوب ليس من عالم الطبيعة ولا يكون الحب طبيعيا إلا إذا كان المحب من عالم الطبيعة لا بد من ذلك وذلك أن الحب الطبيعي سببه نظرة أو سماع فيحدث في خيال الناظر مما رآه إن كان المحبوب ممن يدرك بالبصر وفي خيال السامع مما سمع فحمله في نشأته فصوره في خياله بالقوة المصورة وقد يكون المحبوب ذا صورة طبيعية مطابقة لما تصور في الخيال أو دون ذلك أو فوق ذلك وقد لا يكون للمحبوب صورة ولا يجوز أن يقبل الصور فصور هذا المحب من السماع ما لا يمكن أن يتصور ولم يكن مقصود الطبيعة في تصوير ما لا يقبل الصورة إلا اجتماعها على أمر محصور ينضبط لها مخافة التبديد والتعلق بما ليس في اليد منه شي‏ء فهذا هو الداعي لما ذكرناه من تصوير من ليس بصورة أو من تصوير من لم يشهد له صورة وإن كان ذا صورة وفعل الحب في هذه الصورة أن يعظم شخصها حتى يضيق محل الخيال عنها فيما يخيل إليه فتثمر تلك العظمة والكبر التي في تلك الصورة نحو لا في بدن المحب فلهذا تنحل أجساد المحبين فإن مواد الغذاء تنصرف إليها فتعظم وتقل عن البدن فينحل فإن حرقة الشوق تحرقه فلا يبقى للبدن ما يتغذى به وفي ذلك الاحتراق نمو صورة المحبوب في الخيال فإن ذلك أكلها ثم إن القوة المصورة تكسو تلك الصورة في الخيال حسنا فائقا وجمالا رائقا يتغير لذلك الحسن صورة المحب الظاهرة فيصفر لونه وتذبل شفته وتغور عينه ثم إن تلك القوة تكسو تلك الصورة قوة عظيمة تأخذها من قوة بدن المحب فيصبح المحب ضعيف القوي ترعد فرائصه ثم إن قوة الحب في المحب تجعله يحب لقاء محبوبه ويجبن عند لقائه لأنه لا يرى في نفسه قوة للقائه ولهذا يغشى على المحب إذا لقي المحبوب ويصعق ومن فيه فضلة وحبه ناقص يعتريه عند لقاء محبوبه ارتعاد وخبلان كما قال بعضهم‏

أفكر ما أقول إذا افترقنا *** وأحكم دائبا حجج المقال‏

فأنساها إذا نحن التقينا *** وأنطق حين أنطق بالمحال‏

ثم إن قوة الحب الطبيعي تشجع المحب بين يدي محبوبه له لا عليه فالمحب جبان شجاع مقدام فلا يزال هذا حاله ما دامت تلك الصورة موجودة في خياله إلى أن يموت وينحل نظامه أو تزول عن خياله فيسلو ومن الحب الطبيعي أن تلتبس تلك الصورة في خياله فتلصق بصورة نفسه المتخيلة له وإذا تقاربت الصورتان في خياله تقاربا مفرطا وتلتصق به لصوق الهواء بالناظر يطلبه المحب في خياله فلا يتصوره ويضيع ولا ينضبط له للقرب المفرط فيأخذه لذلك خبال وحيرة مثل ما يأخذ من فقد محبوبه وهذا هو الاشتياق والشوق من البعد والاشتياق من القرب المفرط كان قيس ليلى في هذا المقام حيث‏

كان يصيح ليلى ليلى في كل ما يكلم به فإنه كان يتخيل أنه فقيد لها ولم يكن وإنما قرب الصورة المتخيلة أفرطت في القرب فلم يشاهدها فكان يطلبها طلب الفاقد أ لا تراه حين جاءته من خارج فلم تطابق صورتها الظاهرة الصورة الباطنة المتخيلة التي مسكها في خياله منها فرآها كأنها مزاحمة لتلك الصورة فخاف فقدها فقال لها إليك عني فإن حبك شغلني عنك يريد أن تلك الصورة هي عين الحب فبقي يطلبها ليلى ليلى فإذا تقوت تلك الصورة في خيال المحب أثرت في المحبوب تأثير الخيال في الحس مثل الذي يتوهم السقوط فيسقط أو يتوهم أمرا ما مفزعا فيتغير له المزاج فتتغير صورة حسه كذلك هذه الصورة إذا تقوت أثرت في المحبوب فقيدته وصيرته أشد طلبا لها منها له فإن النفوس قد جبلت على حب الرئاسة والمحب عبد مملوك بحبه لهذا المحبوب فالمحبوب لا يكون له رياسة إلا بوجود هذا المحب فيعشقه على قدر عشقه رياسته وإنما يتيه عليه للطمأنينة الحاصلة في نفس المحبوب بأن المحب لا يصبر عنه وهو طالب إياه فتأخذه العزة ظاهرا وهو الطالب له باطنا ولا يرى في الوجود أحدا مثله لكونه ملكه فالمحب لا يعلل فعل المحبوب لأن التعليل من صفات العقل ولا عقل للمحب يقول بعضهم‏

ولا خير في حب يدبر بالعقل‏

وأنشدني أبو العباس المقراني وكان من المحبين لنفسه‏

الحب أملك للنفوس من العقل‏

والمحبوب يعلل أفعال المحب بأحسن التعليل لأنه ملكه فيريد أن يظهر شرفه وعلوه حتى يعلو المحبوب إذ هو المالك وهو يحب الثناء على نفسه وهذا كله فعل الحب فعل في المحبوب ما ذكرناه وفعل في المحب ما ذكرناه وهذا من أعجب الأشياء أن المعنى أوجب حكمه لمن لم يقم به وهو المحبوب فإنه أثر فيه حب المحب كما أثر في المحب كمسألة المعتزلي إن الله مريد بإرادة لم تقم بمحل بل خلقها إما في محل أو في لا محل وأراد بها وهذا خلاف المعقول إيجاب المعاني أحكامها لمن لم تقم به وكذلك الحب لا يجتمع مع العقل في محل واحد فلا بد أن يكون حكم الحب يناقض حكم العقل‏

فالعقل للنطق والتهيام للخرس‏

ثم إنه من شأن الحب الطبيعي أن تكون الصورة التي حصلت في خيال المحب على مقدار المحل الحاصلة فيه بحيث لا يفضل عنها منه ما يقبل به شيئا أصلا وإن لم يكن كذلك فما هي صورة الحب وبهذا تخالف صورة الحب سائر الصور كما كانت صورة العالم على قدر الحضرة الإلهية الأسمائية فما في الحضرة الإلهية اسم إلهي إلا وهو على قدر أثره في نش‏ء العالم من غير زيادة ولا نقصان ولهذا كان إيجاد العالم عن حب وقد ورد ما يؤيد هذا في السنة وهوقوله كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني‏

فأخبر أن الحب كان سبب إيجاد العالم فطابق الأسماء الإلهية ولو لا تعشق النفس بالجسم ما تألم عند مفارقته مع كونه ضدا له فجمع بين المقادير والأحوال لوجود النسب والأشكال فالنسب أصل في وجود الأنساب وإن كانت الأرواح تخالف الأشباح والمعاني تخالف الكلمات والحروف ولكن تدل الكلمة على المعنى بحكم المطابقة بحيث لو تجسد المعنى لما زاد على كمية الكلمة ومثل هذا النوع يسمى حبا

[الحب الروحاني‏]

وأما الحب الروحاني فخارج عن هذا الحد وبعيد عن المقدار والشكل وذلك أن القوي الروحانية لها التفات نسبي فمتى عمت النسب في الالتفاتات بين المحب والمحبوب عن نظر أو سماع أو علم كان ذلك الحب فإن نقص ولم تستوف النسب لم يكن حبا ومعنى النسب أن الأرواح التي من شأنها أن تهب وتعطي متوجهة على الأرواح التي من شأنها أن تأخذ وتمسك وتلك تتألم بعدم القبول وهذه تتألم بعدم الفيض وإن كان لا ينعدم إلا أن كونه لم تكمل شروط الاستعداد والزمان سمي ذلك الروح القابل عدم فيض وليس بصحيح فكل واحد من الروحين مستفرغ الطاقة في حب الآخر فمثل هذا الحب إذا تمكن من الحبيبين لم يشك المحب فرقة محبوبه لأنه ليس من عالم الأجسام ولا الأجساد فتقع المفارقة بين الشخصين أو يؤثر فيه القرب المفرط كما فعل في الحب الطبيعي فالمعاني لا تتقيد ولا تتحيز ولا يتخيلها إلا ناقص الفطرة فإنه يصور ما ليس بصورة وهذا هو حب العارفين الذين يمتازون به عن العوام أصحاب الاتحاد فهذا محب أشبه محبوبه في الافتقار لا في الحال والمقدار ولهذا يعرف المحب قدر المحبوب من حيث ما هو محبوب‏

[الحب الإلهي‏]

وأما الحب الإلهي فمن اسمه الجميل والنور فيتقدم النور إلى أعيان الممكنات فينفر عنها ظلمة نظرها إلى نفسها وإمكانها فيحدث لها بصرا هو بصره إذ لا يرى إلا به فيتجلى لتلك العين بالاسم الجميل فتتعشق به فيصير عين ذلك الممكن مظهرا له فيبطن العين من الممكن فيه وتفني عن نفسها فلا تعرف أنها محبة له سبحانه أو تفني عنه بنفسها مع كونها

على هذه الحالة فلا تعرف أنها مظهر له سبحانه وتجد من نفسها أنها تحب نفسها فإن كل شي‏ء مجبول على حب نفسه وما ثم ظاهر إلا هو في عين الممكن فما أحب الله إلا الله والعبد لا يتصف بالحب إذ لا حكم له فيه فإنه ما أحبه منه سواه الظاهر فيه وهو الظاهر فلا تعرف أيضا أنها محبة له فتطلبه وتحب أن تحبه من حيث إنها ناظرة إلى نفسها بعينه فنفس حبها أن تحبه هو بعينه حبها له ولهذا يوصف هذا النور بأنه له أشعة أي أنه شعشعاني لامتداده من الحق إلى عين الممكن ليكون مظهرا له بنصب الهاء لا اسم فاعل فإذا جمع من هذه صفته بين المتضادات في وصفه فذلك هو صاحب الحب الإلهي فإنه يؤدي إلى الحاقة بالعدم عند نفسه كما هو في نفس الأمر فعلامة الحب الإلهي حب جميع الكائنات في كل حضرة معنوية أو حسية أو خيالية أو متخيلة ولكل حضرة عين من اسمه النور تنظر بها إلى اسمه الجميل فيكسوها ذلك النور حلة وجود فكل محب ما أحب سوى نفسه ولهذا وصف الحق نفسه بأنه يحب المظاهر والمظاهر عدم في عين وتعلق المحبة بما ظهر وهو الظاهر فيها فتلك النسبة بين الظاهر والمظاهر هي الحب ومتعلق الحب إنما هو العدم فمتعلقها هنا الدوام والدوام ما وقع فإنه لا نهاية له وما لا نهاية له لا يتصف بالوقوع ولما كان الحب من صفات الحق حيث قال يُحِبُّهُمْ ومن صفات الخلق حيث قال ويُحِبُّونَهُ اتصف الحب بالعزة لنسبته إلى الحق ووصف الحق به وسرى في الخلق بتلك النسبة العزية فأورثت في المحل ذلة من الطرفين فلهذا ترى المحب يذل تحت عز الحب لا عز المحبوب فإن المحبوب قد يكون مملوكا للمحب مقهورا تحت سلطانه ومع هذا تجده يذل له المحب فعلمنا إن تلك عزة الحب لا عزة المحبوب قال أمير المؤمنين هارون الرشيد في محبوباته‏

ملك الثلاث الآنسات عناني *** وحللن من قلبي بكل مكان‏

ما لي تطاوعني البرية كلها *** وأطيعهن وهن في عصياني‏

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى *** وبه قوين أعز من سلطاني‏

فأضاف القوة إلى الهوى بقوله سلطان الهوى يقول الله في غير ما موضع من كتابه متلطفا بعباده يا عبادي اشتقت إليكم وأنا إليكم أشد شوقا ويخاطبهم بنزول من لطف خفي وهذا الخطاب كله لا يتمكن أن يكون منه إلا من كونه محبا ومثل ذلك يصدر من المحبين له تعالى فالمحب في حكم الحب لا في حكم المحبوب ومن هي صفته عينه فعينه تحكم عليه لا أمر زائد فلا نقص غير أن أثره في المخلوقين التلاشي عند استحكامه لأنه يقبل التلاشي فلهذا يتنوع العالم في الصور فيكون في صورة فإذا أفرط فيها الحب من حيث لا يعلم وحصل التجلي من حيث لا يظهر تلاشت الصورة وظهرت في العين صورة أخرى وهي أيضا مثل الأولى في الحكم راجعة إليه ولا يزال الأمر كذلك دائما لا ينقطع ومن هنا غلط من يقول إن العالم لا بد له من التلاشي ومن نهاية علم الله في العالم حيث وصف نفسه بالإحاطة في علمه بهم ثم إنه من كرمه سبحانه إن جعل هذه الحقيقة سارية في كل عين ممكن متصف بالوجود وقرن معها اللذة التي لا لذة فوقها فأحب العالم بعضه بعضا حب تقييد من حقيقة حب مطلق فقيل فلان أحب فلانا وفلان أحب أمرا ما وليس إلا ظهور حق في عين ما أحب ظهور حق في عين أخرى كان ما كان فمحب الله لا ينكر على محب حب من أحب فإنه لا يرى محبا إلا الله في مظهر ما ومن ليس له هذا الحب الإلهي فهو ينكر على من يحب ثم إنه ثم دقيقة من كون من قال إنه يستحيل أن يحب أحد الله تعالى فإن الحق لا يمكن أن يضاف إليه ولا إلى ما يكون منه نسبة عدم أصلا والحب متعلقة العدم فلا حب يتعلق بالله من مخلوق لكن حب الله يتعلق بالمخلوق لأن المخلوق معدوم فالمخلوق محبوب لله أبدا دائما وما دام الحب لا يتصور معه وجود المخلوق فالمخلوق لا يوجد أبدا فأعطت هذه الحقيقة أن يكون المخلوق مظهرا للحق لا ظاهرا فمن أحب شخصا بالحب الإلهي فعلى هذا الحد يكون حبه إياه فلا يتقيد بالخيال ولا بجمال ما فإنها كلها موجودة له فلا يتعلق الحب بها فقد بان الفرقان بين‏

المراتب الثلاثة في الحب واعلم أن الخيال حق كله والتخيل منه حق ومنه باطل‏

(السؤال السابع عشر ومائة) ما كأس الحب‏

الجواب القلب من المحب لا عقله ولا حسه فإن القلب يتقلب من حال إلى حال كما إن الله الذي هو المحبوب كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ فيتنوع المحب في تعلق حبه بتنوع المحبوب في أفعاله كالكأس الزجاجي الأبيض الصافي يتنوع بحسب تنوع المائع الحال فيه فلون المحب لون محبوبه وليس هذا إلا للقلب‏

فإن العقل من عالم التقييد ولهذا سمي عقلا من العقال والحس فمعلوم بالضرورة أنه من عالم التقييد بخلاف القلب‏

[أحكام الحب كثيرة ومتضادة]

وذلك أن الحب له أحكام كثيرة مختلفة متضادة فلا يقبلها إلا من في قوته الانقلاب معه فيها وذلك لا يكون إلا للقلب وإذا أضفت مثل هذا إلى الحق فهو قوله أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ وإن الله لا يمل حتى تملوا

ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‏

والشرع كله أو أكثره في هذا الباب‏

[شراب الحب هو عين الحاصل في كأس الحب‏]

وشرابه عين الحاصل في الكأس وقد بينا أن الكأس هو عين المظهر والشراب عين الظاهر فيه والشرب ما يحصل من المتجلي للمتجلي له فاعلم ذلك على الاختصار انتهى الجزء التاسع والثمانون (بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال الثامن عشر ومائة) من أين‏

الجواب من تجليه في اسمه الجميل‏

[إن الله جميل يحب الجمال‏]

قال صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال‏

وهو حديث ثابت فوصف نفسه بأنه يحب الجمال وهو يحب العالم فلا شي‏ء أجمل من العالم وهو جميل والجمال محبوب لذاته فالعالم كله محب لله وجمال صنعه سار في خلقه والعالم مظاهره فحب العالم بعضه بعضا هب من حب الله نفسه‏

[الحب صفة الموجود]

فإن الحب صفة الموجود وما في الوجود إلا الله والجلال والجمال لله وصف ذاتي في نفسه وفي صنعه والهيبة التي هي من أثر الجمال والأنس الذي هو من أثر الجلال نعتان للمخلوق لا للخالق ولا لما يوصف به ولا يهاب ولا يأنس إلا موجود ولا موجود إلا الله فالأثر عين الصفة والصفة ليست مغايرة للموصوف في حال اتصافه بها بل هي عين الموصوف‏

[لا محب ولا محبوب إلا الله‏]

وإن عقلت ثانيا فلا محب ولا محبوب إلا الله عز وجل فما في الوجود إلا الحضرة الإلهية وهي ذاته وصفاته وأفعاله كما تقول كلام الله علمه وعلمه ذاته فإنه يستحيل عليه أن يقوم بذاته أمر زائد أو عين زائدة ما هي ذاته تعطيها حكما لا يصح لها ذلك الحكم دونها مما يكون كمالا لها في ألوهيتها بل لا تصح الألوهة إلا بها وهو كونه عالما بكل شي‏ء ذكر ذلك عن نفسه بطريق المدحة لذاته ودل عليه الدليل العقلي ومن المحال أن تكمل ذاته بغير ما هي ذاته فتكون مكتسبة الشرف بغيرها

[المقام الذي فوق الفكر ومراتب العلوم‏]

ومن علمه بذاته علم العلماء بالله من الله ما لا تعلمه العقول من حيث أفكارها الصحيحة الدلالة وهذا العلم ما تقول فيه الطبعة إنه وراء طور العقل قال تعالى في عبده خضر وعَلَّمْناهُ من لَدُنَّا عِلْماً وقال تعالى عَلَّمَهُ الْبَيانَ فأضاف التعليم إليه لا إلى الفكر فعلمنا إن ثم مقاما آخر فوق الفكر يعطي العبد العلم بأمور شتى منها ما يمكن أن يدركها من حيث الفكر ومنها ما يجوزها الفكر وإن لم يحصل لذلك العقل من الفكر ومنها ما يجوزها الفكر وإن كان يستحيل أن يعينها الفكر ومنها ما يستحيل عند الفكر ويقبلها العقل من الفكر مستحيلة الوجود لا يمكن أن يكون له تحت دليل الإمكان فيعلمها هذا العقل من جانب الحق واقعة صحيحة غير مستحيلة ولا يزول عنها اسم الاستحالة ولا حكم الاستحالة عقلا

قال صلى الله عليه وسلم إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله‏

هذا وهو من العلم الذي يكون تحت النطق فما ظنك بما عندهم من العلم مما هو خارج عن الدخول تحت حكم النطق فما كل علم يدخل تحت العبارات وهي علوم الأذواق كلها

[لا أعلم من العقل ولا أجهل من العقل‏]

فلا أعلم من العقل ولا أجهل من العقل فالعقل مستفيد أبدا فهو العالم الذي لا يعلم علمه وهو الجاهل الذي لا ينتهي جهله‏

(السؤال التاسع عشر ومائة) ما شراب حبه لك حتى يسكرك عن حبك له‏

الجواب إن أراد باللام الذي في لك وله الأجلية فجوابه مغاير لجوابه إذا كانت لا للاجلية إذ يكون المعنى ما شراب حبه إياك حتى يسكرك عن حبك إياه فجواب الوجه الأول والثاني متغاير

[تغاير التجليات إنما كان من حيث ظهوره فيك‏]

نقول تغاير التجليات إنما كان من حيث ظهوره فيك فوصف نفسه بالحب من أجلك فأسكرك هذا العلم الحاصل لك من هذا التجلي عن أن تكون أنت المحب له أي المحب من أجله فلم تحب أحدا من أجله وهو أحب من أجلك فلو زلت أنت لم يتصف هو بالمحبة وأنت لا تزول فوصفه بالحب لا يزول فهذا جواب يعم الأول والثاني لفرقان بين ما يستحقه الأول منه والثاني دقيق غامض‏

[المحب لا يكون عارف والعارف لا يكون محبا]

وأما الجواب عن الثاني إن شراب حبه إياك وهو حبه إياك أن تحبه فإذا أحببته علمت حين شربت شراب حبه إياك أن حبك إياه عين حبه إياك وأسكرك عن‏

حبك إياه مع إحساسك بأنك تحبه فلم تفرق وهو تجلى المعرفة فالمحب لا يكون عارفا أبدا والعارف لا يكون محبا أبدا فمن هاهنا يتميز المحب من العارف والمعرفة من المحبة

[رمزية شراب الخمر ورمزية شراب اللبن‏]

فحبه لك مسكر عن حبك له وهو شراب الخمر الذي لو شربه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لغوت عامة الأمة وحبك له لا يسكرك عن حبه لك وهو شراب اللبن الذي شربه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الإسراء فأصاب الله به الفطرة التي فطر الله الخلق عليها فاهتدت أمته في ذوقها وشربها وهو الحفظ الإلهي والعصمة وعلمت ما لها وما له في حال صحو وسكر

[حبك إياه من حبه إياك‏]

فشراب حبه لك هو العلم بأن حبك إياه من حبه إياك فغيبك عن حبك إياه فأنت محب لا محب وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً مثل هذا البلاء في فنون من المقامات يظهر فيه كما ظهر في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميه التراب في وجوه الأعداء فأثبت أنه رمى ونفى أنه رمى فعبر عنه الترمذي بالسكر إذ كان السكران هو الذي لا يعقل‏

[مذهب الحكيم الترمذي في السكر]

فإن الترمذي كان مذهبه في في السكر مذهب أبي حنيفة وكان حنفي المذهب في الأصل قبل أن يعرف الشرع من الشارع وهو الصحيح في حد السكر ولكن من شي‏ء يتقدم هذا السكران قبل سكره من شربه طرب وابتهاج وهو الذي اتخذه غير أبي حنيفة في حد السكر وهو ليس بصحيح فكل مسكر بهذه المثابة فهو الذي يترتب عليه الحكم المشروع فإن سكر من شي‏ء لا يتقدم سكره طرب لم يترتب عليه حكم الشرع لا بحد ولا بحكم‏

(السؤال العشرون ومائة) ما القبضة

الجواب قال الله تعالى والْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ والأرواح تابعة للأجسام ليست الأجسام تابعة للأرواح فإذا قبض على الأجسام فقد قبض على الأرواح فإنها هياكلها فأخبر أن الكل في قبضته‏

[الأجسام على قسمين عنصرية ونورية]

وكل جسم أرض لروحه وما ثم إلا جسم وروح غير أن الأجسام على قسمين عنصرية ونورية وهي أيضا طبيعية فربط الله وجود الأرواح بوجود الأجسام وبقاء الأجسام ببقاء الأرواح وقبض عليها ليستخرج ما فيها ليعود بذلك عليها فإنه منها يغذيها ومنها يخرج ما فيها مِنْها خَلَقْناكُمْ وفِيها نُعِيدُكُمْ ومِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى‏ ولَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ من سُلالَةٍ من طِينٍ أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ من ماءٍ مَهِينٍ وهِيَ دُخانٌ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فهي من العناصر فهي أجسام عنصريات وإن كانت فوق الأركان بالمكان فالأركان فوقهن بالمكانة

[الممكنات إنما أقامها الحق من إمكانها]

والله يَقْبِضُ ويَبْصُطُ فيقبض منها ما يبسطها بها فلا يعطيها شيئا من ذاته فإنها لا تقبله فلا وجود لها إلا بها فالممكنات إنما أقامها الحق من إمكانها فقيامها منها بها والحق واسطة في ذلك مؤلف راتق فاتق كانتا رتقا لأنه كذا أوجدها بإمكانها ففتقناهما بإمكانهما لو لم يكن الفتق ممكنا لما قام بهما فما أثر في الممكنات إلا الممكنات لكن العمي غلب على أكثر الخلق الذين يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أ لا ترى ما هو محال لنفسه هل يقبل شيئا مما يقبله الممكن فبنفسه تمكن منه الواجب الوجود بالإيجاد فأوجده وهذه هي الإعانة الذاتية أ لا ترى الحجر إذا رميت به علوا فيقال إن حركته نحو العلو قهرية لأن طبيعته النزول إما إلى الأعظم وإما إلى المركز فلو لا أن طبيعته تقبل الصعود علوا بالقهر لما صعد فما صعد إلا بطبعه أيضا مع سبب آخر عارض ساعده الطبع بالقبول لما أراد منه‏

[ما من موجود ممكن إلا وهو مرتبط بنسبة إلهية]

فالقبضة على الحقيقة قوله إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ومن أحاط بك فقد قبض عليك لأنه ليس لك منفذ مع وجود الإحاطة وإلا فليست إحاطة وما هو محيط وصورة ذلك أنه ما من موجود سوى الله من الممكنات إلا وهو مرتبط بنسبة إلهية وحقيقة ربانية تسمى أسماء حسني فكل ممكن في قبضة حقيقة إلهية فالكل في القبضة

[القبضة تحتوي على المقبوض بأربعة عشر فصلا وخمسة أصول‏]

واعلم أن القبضة تحتوي على المقبوض بأربعة عشر فصلا وخمسة أصول عن هذه الأربعة عشر فصلا ظهر نصف دائرة الفلك وهي أربع عشرة منزلة وفي الغيب مثلها وهذه الفصول تحوي جميع الحروف إلا حرف الجيم فإنها تبرأت منه دون سائر الحروف وما علمنا لما ذا وما أدري هل هو مما يجوز أن يعلم أم لا فإن الله تعالى ما نفث في روعنا شيئا ولا رأيته لغيرنا ولا ورد في النبوات فرحم الله عبدا وقف عليه فألحقه في هذا الموضع من كتابي هذا وينسب ذلك إليه لا إلي فتحصل الفائدة بطريق الصدق حتى لا يتخيل الناظر فيه أن ذلك مما وقع لي بعد هذا فإن فتح علي به حينئذ أذكره أنه لي فإن الصدق في هذا الطريق أصل قاطع لا بد منه ولا حظ له في الكذب‏

[الأصول الخمسة متفاضلة في الدرجات‏]

وهذه الخمسة الأصول متفاضلة في الدرجات فأعلاها وأعمها هو العلم وهو الأصل الوسط وعن يمينه أصلان الحياة والقدرة وعن يساره أصلان الإرادة والقول وكل‏

أصل فله ثلاثة فصول إلا أصل القدرة فإن له فصلين خاصة وإنما سقط عنه الفصل الثالث لأن اقتداره محجور غير مطلق وهو قول العلماء وما لم يشأ أن يكون أن لو شاء أن يكون لكان كيف يكون فعلق كونه بلو فامتنع عن نفوذ الاقتدار عليه لسبب آخر فلم يكن له النفوذ وهذا موضع إبهام لا يفتح أبدا

[الأمور المبهمة وجودها في العالم ومصدرها]

ومن هنا وجد في العالم الأمور المبهمة لأنه ما من شي‏ء في العالم إلا وأصله من حقيقة إلهية ولهذا وصف الحق نفسه بما يقوم الدليل العقلي على تنزيهه عن ذلك فما يقبله إلا بطريق الايمان والتسليم ومن زاد فبالتأويل على الوجه اللائق في النظر العقلي وأهل الكشف أصحاب القوة الإلهية التي وراء طور العقل يعرف ذلك كما تفهمه العامة ويعلم ما سبب قبوله لهذا الوصف مع نزاهته بليس كمثله شي‏ء وهذا خارج عن مدارك العقول بأفكارها فالعامة في مقام التشبيه وهؤلاء في التشبيه والتنزيه والعقلاء في التنزيه خاصة فجمع الله لأهل خاصته بين الطرفين‏

[الحق عين تركيبه عين بسيطه وعين أحديته عين كثرته‏]

فمن لم يعرف القبضة هكذا فما قدر الله حق قدره فإنه إن لم يقل العبد إن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فما قدر الله حق قدره وإن لم يقل إن خلق آدم بيده فما قدر الله حق قدره وأين الانقسام من عدم الانقسام وأين المركب من البسيط فالكون يغاير مركبه بسيطه وعدده توحيده وأحديته والحق عين تركيبه عين بسيطه عين أحديته عين كثرته من غير مغايرة ولا اختلاف نسب وإن اختلفت الآثار فعن عين واحدة وهذا لا يصح إلا في الحق تعالى ولكن إذا نسبنا نحن بالعبارة فلا بد أن نغاير كان كذا من نسبة كذا وكذا من نسبة كذا لا بد من ذلك للافهام‏

(السؤال الحادي والعشرون ومائة) من الذين استوجبوا القبضة حتى صاروا فيها

الجواب الشاردون إلى ذواتهم من مرتبة الوجوب ومرتبة المحال إذ لا يقبض إلا على شارد فإنه لو لم يشرد لما قبض عليه فالقبض لا يكون إلا عن شرود أو توقع شرود فحكم الشرود حكم عليه بالقبض فيه استوجبوا أن يقبض عليهم فمنهم من قبض عليه مرتبة الوجوب ومنهم من قبض عليه مرتبة المحال‏

[الممكن إما في قبضة المحال وإما في قبضة الواجب‏]

وهنا غور بعيد والإشارة إلى بعض بيانه إن كل ممكن لم يتعلق العلم الإلهي بإيجاده لا يمكن أن يوجد فهو محال الوجود فحكم على الممكن المحال وألحقه به فكان في قبضة المحال وما تعلق العلم الإلهي بإيجاده فلا بد أن يوجد فهو واجب الوجود فحكم على الممكن الوجوب فكان في قبضة الواجب وليس له حكم بالنظر إلى نفسه فما خرج الممكن من أن يكون مقبوضا عليه إما في قبضة المحال وإما في قبضة الواجب ولم يبق له في نفسه مرتبة يكون عليها خارجة عن هذين المقامين فلا إمكان فأما محال وإما واجب وإما الغور البعيد فإن جماعة قالوا وذهبوا إلى أنه ليس في الإمكان شي‏ء إلا ولا بد أن يوجد إلى ما لا يتناهى فما ثم ممكن في قبضة المحال ولا شك أنهم غلطوا في ذلك من الوجه الظاهر وأصابوا من وجه آخر فأما غلطهم فما من حالة من الأكوان في عين ما تقتضي الوجود فتوجد إلا ويجوز ضدها على تلك العين كحالة القيام للجسم مع جواز القعود لا نفي القيام ومن المحال وجود القعود في الجسم القائم في حال قيامه وزمان قيامه فصار وجود هذا القعود بلا شك في قبضة المحال لا يتصف بالوجود أبدا من حيث هذه النسبة لهذا الجسم الخاص وهو قعود خاص وأما مطلق القعود فإنه في قبضة الواجب فإنه واقع وأما وجه الإصابة فإن متعلق الإمكان إنما هو في الظاهر في المظاهر والمظاهر محال ظهورها وواجب الظهور فيها والظاهر لا يجوز عليه خلافه فإنه ليس بمحل لخلافه وإنما المظهر هو المحل وقد قبل ما ظهر فيه ولا يقبل غيره فإذا وجد غيره فذلك ظهور آخر ومظهر آخر فإن كل مظهر لظاهر لا ينفك عنه بعد ظهوره فيه فلا يبقى في الإمكان شي‏ء إلا ويظهر إلى ما لا يتناهى فإن الممكنات غير متناهية وهذا غور بعيد التصور لا يقبل إلا بالتسليم أو تدقيق النظر جدا فإنه سريع التفلت من الخاطر لا يقدر على إمساكه إلا من ذاقه والعبارة تتعذر فيه‏

(السؤال الثاني والعشرون ومائة) ما صنيعه بهم في القبضة

الجواب المحض وهو ما هم عليه فهو يرفع ويخفض ويبسط ويقبض ويكشف ويستر ويخفى ويظهر ويوقع التحريش ويؤلف وينفر وصنيعه العام بهم التغيير في الأحوال فإنه صنع ذاتي إذ لو لم يغير لتعطل كونه إلها وكونه إلها نعت ذاتي له فتغيير الصنع في الممكنات واجب لا ينفك كما أنهم في القبضة دائما

(السؤال الثالث والعشرون ومائة) كم نظرته إلى الأولياء في كل يوم‏

الجواب بعدد ما يغير عليهم الحال من حيث هو

متوليهم لا غير وينحصر ذلك في مائة مرة من غير زيادة ولا نقصان ولكن ما دام الولي مظروفا لليوم وأما نظره للأولياء إذ أخرجوا من الأوقات فنظر دائم لا توقيت فيه ولا يقبل التوقيت فإنه لا يدخل تحت العدد ولا المغايرة ولا التمييز فإذا دخلوا أو كان حالهم الزمان فمائة مرة وكل مرة يحصل لهم في تلك النظرة ما لا يحده توقت فهو عطاء إلهي من غير حساب ولا هنداز

(السؤال الرابع والعشرون ومائة) إلى ما ذا ينظر منهم‏

الجواب إلى أسرارهم لا إلى ظواهرهم فإن ظواهرهم يجريها سبحانه بحسب الأوقات وسرائرهم ناظرة إلى عين واحدة فإن أعرضوا أو أطرفوا نقصهم في ذلك الإعراض أو تلك الطرفة ما تقتضيه النظرة وهو أكثر مما نالوه من حين أوجدهم إلى حين ذلك الأعراض‏

[الشي‏ء دوما في مزيد والمتأخر يتضمن ما تقدمه ويزيد]

قال بعض السادة فيما حكاه القشيري في رسالته لو أن شخصا أقبل على الله طول عمره ثم أعرض عنه لحظة واحدة كان ما فاته في تلك اللحظة أكثر مما ناله في عمره وذلك أن الشي‏ء في المزيد وأن المتأخر يتضمن ما تقدمه وزيادة ما تعطيه عينه من حيث ما هو جامع فيرى ما تقدم في حكم الجمع وهو يخالف حكم انفراده وحكم جمعه دون هذا الجمع الخاص ومن حيث ما تختص به هذه اللحظة من حيث ما هي لنفسها لا من حيث كونها حضرة جمع لما تقدمها فبالضرورة يفوته هذا الخير فما أشأم الإعراض عن الله‏

[العلم أشرف الصفات وأنزه السمات‏]

وفي هذا يتبين لك شرف العلم فإن العلم هو الذي يفوتك والعلم هو الذي تستفيده قال تعالى آمرا لنبيه عليه الصلاة والسلام وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فإنه أشرف الصفات وأنزه السمات‏

(السؤال الخامس والعشرون ومائة) إلى ما ذا ينظر من الأنبياء عليهم السلام‏

الجواب إن أراد العلم فإلى أسرارهم وإن أراد الوحي فإلى قلوبهم وإن أراد الابتلاء فإلى نفوسهم إلا أن نظره سبحانه على قسمين نظر بواسطة وهو قوله نَزَلَ به الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ونظر بلا واسطة وهو قوله تعالى فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ ما أَوْحى‏

[نظر الحق إلى أسرار الأنبياء وعطاياه‏]

فإذا نظر إلى أسرارهم أعطاهم من العلم به ما شاء لا غير وهو أن يكشف لهم عنهم أنهم به لا بهم فيرونه فيهم ولا يرونهم فيعلمون ما أُخْفِيَ لَهُمْ فيهم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ فتقر عيونهم بما شاهدوه ويَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ بهم في كل نظرة وهو مزيد العلم الذي أمر يطلبه لا علم التكليف فإن النقص منه هو مطلوب الأنبياء عليهم السلام ولهذا

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اتركوني ما تركتكم‏

وقوله لو قلت نعم لوجبت وما كنتم تطيقونها

[نظر الحق إلى قلوب الأنبياء وعطاياه‏]

وإذا نظر إلى قلوبهم قلب الوحي فيهم بحسب ما تقلبوا فيه فلكل حال يتقلبون فيه حكم شرعي يدعو إليه هذا النبي وسكوته عن الدعوة شرع أي أبقوا على أصولكم وهذا هو الوحي العرضي الذي عرض لهم فإن الوحي الذاتي الذي تقتضيه ذواتهم هو أنهم يسبحون بحمد الله لا يحتاجون في ذلك إلى تكليف بل هو لهم مثل النفس للمتنفس وذلك لكل عين على الانفراد والوحي العرضي هو لعين المجموع وهو الذي يجب تارة ولا يجب تارة ويكون لعين دون عين‏

[الوحى العرضي على نوعين‏]

وهو على نوعين نوع يكون بدليل أنه من الله وهو شرع الأنبياء ومنه ما لا دليل عليه وهو الناموس الوضعي الذي تقتضيه الحكمة يلقيه الحق تعالى من اسمه الباطن الحكيم في قلوب حكماء الوقت من حيث لا يشعرون ويضيفون ذلك الإلقاء إلى نظرهم لا يعلمون أنه من عند الله على التعيين لكنهم يرون أن الأصل من عند الله فيشرعونه لمتبعيهم من أهل زمانهم إذ لم يكن فيهم نبي مدلول على نبوته‏

[القيام بحدود الناموس وجزاؤه‏]

فإن هم قاموا بحدود ذلك الناموس ووقفوا عنده ورعوه جازاهم الله على ذلك بحسب ما عاملوه به في الدنيا والآخرة جزاء الشرع المقرر المدلول عليه فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فيما ابتدعوه من الرهبانية

ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها

وإن الله يصدق قول واضع الناموس الحكمي كما هو مصدق واضع الناموس الشرعي الحكمي فأما جزاؤه في الدنيا فلا شك ولا خفاء بوقوع المصلحة ووجودها في الأهل والمال والعرض وأما الآخرة فعلى هذا المجرى وإن لم يتعرض إليها صاحب الناموس الحكمي كما أنه في ناموس الحكم الإلهي أن في الآخرة لنا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويحصل لنا من غير تقدم علم به كذلك الحاصل في الآخرة جزاء لعمل الناموس الذي اقتضته الحكمة عند من ابتدعه للمصلحة فإن قال في ناموسه قال الله ويكون ممن قد علم أنه مظهر وأن لا موجود على الحقيقة إلا الله صدق وعفا الله عنه وإن كان من أهل الحجاب عن‏

هذا العلم فأمره إلى الله وهو بحسب قصده في ذلك فإنه قد يقصد الرئاسة وتكون المصلحة في حكم التبع وقد يقصد المصلحة وتكون الرئاسة تبعا وهذا الكلام لا يتصور إلا مع عدم الشرع المقرر بالدليل في تلك الجماعة وذلك المكان خاصة

[نظر الحق إلى نفوس الأنبياء وآثاره‏]

وإذا نظر إلى نفوسهم ابتلاهم بمخالفة أممهم فاختلفوا عليه واختلفوا فيما بينهم وإن اجتمعوا عليه وهذا كله إذا اتفق أن ينظر النبي إلى نفسه ولا بد له من النظر إلى نفسه فإن الجلوس مع الله لا تقتضي البشرية دوامه وإذا لم يدم فما ثم إلا النفس فيكون نظره في هذا الحال نظر ابتلاء لأن النبي في تلك الحالة صاحب دعوى إنه قد بلغ رسالة ربه وكذا ورد ما من نبي إلا وقد قال فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ به إِلَيْكُمْ وقال ألا هل بلغت‏

فأضاف التبليغ إليه ولم يقل في هذه الحال قد بلغ الله إليكم بلساني ما قد أسمعكم فلو قال هذا ما ابتلوا ببلاء النفوس وفي هذا لله حكم خفي ليعلم العبد أنه محل للتوفيق ونقيضه وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله على ما أمر به ونهي عنه فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ

(السؤال السادس والعشرون ومائة) كم إقباله على خاصته في كل يوم‏

الجواب أربعة وعشرون ألف إقبال في كل يوم يهبهم في ذلك الإقبال ما شاء ويأخذ منهم في الإقبال الثاني ما كان أعطاهم في الإقبال الأول إما أخذ قبول وإما أخذ رد غير مقبول فإن الله قد أمرهم بالأدب في كل ما يلقي إليهم عند أخذهم وكذلك إذا ردوا الأمور إليه يردونها محلاة بالأدب الإلهي فذلك داعية القبول الإلهي فإن أساءوا الأدب في الأخذ والرد عاد وبال ذلك عليهم وليسوا عند ذلك بخاصة الله فالخاصة تحضر مع الله أربعة وعشرين ألف مرة في كل يوم‏

[إقبال الحق على خاصته كل يوم بعدد أنفاسهم‏]

وإن أردت التحرير في المقال إن لم يكن عندك علم وتخرج من العهدة فقل إقباله على خاصته كل يوم بعدد أنفاسهم كانت ما كانت فمن اطلع على توقيت أنفاسه علم توقيت إقبال الله عليه في كل يوم فإن ذلك النفس من نفس الرحمن فهو عين إقبال الحق عليهم وبه تنورت هياكلهم فهو في الأجسام ريح وفي اللطائف أرواح جمع روح بفتح الراء وتسكين الواو سكونا حيا

(السؤال السابع والعشرون ومائة) ما المعية مع الخلق والأصفياء والأنبياء والخاصة والتفاوت والفرق بينهم في ذلك‏

الجواب قال الله تعالى وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فالأينية إلينا وقال لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وأَرى‏ فنبههما على أنه سمعهما وبصرهما تذكرة لهما أو أعلاما لم يتقدمه علم به عندهما فإنه‏

قد صح عندنا في الخبر أن العبد إذا أحبه ربه كان سمعه وبصره الذي يسمع به ويبصر به‏

فالنبي أولى بهذا ممن ليس بنبي وطبقات الأولياء كثيرة ولكن ما ذكر منها إلا ما قلناه فلا نتعدى بالجواب قدر ما سأل‏

[المعية تقتضي المناسبة]

فنقول إن المعية تقتضي المناسبة فلا نأخذ من الحق إلا الوجه المناسب لا الوجه الذي يرفع المناسبة ثم إننا أردنا أن نعمم الجواب بتعميم قوله تعالى أَيْنَ ما كُنْتُمْ من الأحوال ولا يخلو موجود عن حال بل ما تخلو عين موجودة ولا معدومة أن تكون على حال وجودي أو عدمي في حال وجودها أو عدمها ولهذا قال تعالى وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فإن قلت قوله كنتم لفظة معناها وجودي فالمعنى أينما كنتم من الوجود فنقول صحيح ولكن من أي الوجوه من الوجود من حيث العلم بكم وما ثم إلا هو أو من حيث الوجود الذي يتصف به عين الممكنات من حيث ما هي مظاهر فحالة منها توصف العين الممكنة بها بالعدم ولهذا نقول كان هذا معدوما ووجد والكون يناقض العدم مع صحة هذا القول فيعلم عند ذلك أن قوله تعالى أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي على أي حالة تكونون من الوصف بالعدم أو الوجود

[معية الحق مع الخلق بالعلم واللطف ومع الأصفياء بما يطلبه الاصطفاء]

ثم نقول إنه مع الخلق بإعطاء كل شي‏ء خلقا من كونهم خلقا لا غير فينجر معه إنه معهم بكل ما تطلبه ذواتهم من لوازمها ومعيته مع الأصفياء بما يعطيه الصفاء من التجلي فإنهم قد وصفهم وأنهم أصفياء فما هو معهم بالصفاء والاصطفاء وإنما هو معهم بما يطلبه الاصطفاء وقدم الخلق فإنه مقدم بالرتبة فإن الاصطفاء لا يكون إلا بعد الخلق بل هم من الخلق عند الحق بمنزلة الصفي الذي يأخذه الإمام من المغنم قبل القسمة فذلك هو نصيب الحق من الخلق وما بقي فله ولهم‏

[معية الحق مع الأنبياء بتأييد دعواهم ودعوتهم‏]

وأما معيته مع الأنبياء فبتأييد الدعوى لا بالحفظ والعصمة إلا أن أخبر بذلك في حق نبي معين فإن الله قد عرفنا إن الأنبياء قتلتهم أممهم وما عصموا ولا حفظوا فلا بد أن يكون ظرف المعية التأييد في الدعوى لإقامة الحجة على الأمم فإنه قال فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ولا يكون نبيا حتى يقدمه الاصطفاء فلهذا أخر النبوة عن الاصطفاء فإنه ما كل خلق مصطفى وما كل مصطفى نبي‏

[معية الحق مع الخاصة بالمحادثة وبرفع الوسائط]

ومعيته مع الخاصة بالمحادثة برفع الوسائط بعد تبليغ ما أمر بتبليغه مثل قوله ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ‏

من أيام التبليغ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً أي يرجع إليك الرجوع الخاص الذي يربي على مقام التبليغ فيجتمع هذا كله في الرسول وهو شخص واحد وفي كل مقام أشخاص فيكون الشخص الواحد خلقا مصطفى نبيا خاصا

[معية الذات لا تنقال فلا تعلم نسبة المعية إليها]

وأما معية الذات فلا تنقال فإن الذات مجهولة فلا تعلم نسبة المعية إليها فهو مع الخلق بالعلم واللطف ومع الأصفياء بالتولي ومع الأنبياء بالتأييد ومع الخاصة بالمباسطة والأنس‏

(السؤال الثامن والعشرون ومائة) ما ذكره الذي يقول ولَذِكْرُ الله أَكْبَرُ

الجواب ذكره نفسه لنفسه بنفسه أكبر من ذكره نفسه في المظهر لنفسه‏

[ذكر الله في الصلاة أكبر أعمالها وأكبر أحوالها]

اعلم أن الله ما قال هذا الذكر ووصفه بهذه الصفة من الكبرياء إلا في قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ أبناء عن حقيقة لأجل ما فيها من الإحرام وهو المنع من التصرف في شي‏ء مما يغاير كون فاعله مصليا فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ولا تنهى عن غيرها من الطاعات فيها مما لا يخرجك فعله عن أن تكون مصليا شرعا فيكون قوله ولَذِكْرُ الله فيها أكبر أعمالها وأكبر أحوالها إذ الصلاة تشتمل على أقوال وأفعال فتحريك اللسان بالذكر من المصلي من جملة أفعال الصلاة والقول المسموع من هذا التحريك هو من أقوال الصلاة وليس في أقوالها شي‏ء يخرج عن ذكر الله في حال قيام وركوع ورفع وخفض إلا ما يقع به التلفظ من ذكر نفسك بحرف ضمير أو ذكر صفة تسأله أن يعطيكها مثل اهدني وارزقني ولكن هو ذكر شرعا لله فإن الله سمي القرآن ذكرا وفيه أسماء الشياطين والمغضوب عليهم والمتلفظ به يسمى ذكر الله فإنه كلام الله فذكرتهم بذكر الله وهذا مما يؤيد قول من قال ليس في الوجود إلا الله فالأذكار أذكار الله‏

[الله أكبر الذاكرين وهو أكبر المذكورين‏]

ثم إن قوله تعالى ولَذِكْرُ الله هذه الإضافة تكون من كونه ذاكرا ومن كونه مذكورا فهو أكبر الذاكرين وهو أكبر المذكورين وذكره أكبر الأذكار التي تظهر في المظاهر فالذكر وإن لم يخرج عنه فإن الله قد جعل بعضه أكبر من بعض ثم يتوجه فيه قصد آخر من أجل الاسم الله فيقول ولَذِكْرُ الله بهذا الاسم الذي ينعت ولا ينعت به ويتضمن جميع الأسماء الحسنى ولا يتضمنه شي‏ء في حكم الدلالة أَكْبَرُ من كل اسم تذكره به سبحانه من رحيم وغفور ورب وشكور وغير ذلك فإنه لا يعطي في الدلالة ما يعطي الاسم الله لوجود الاشتراك في جميع الأسماء كلها هذا إذا أخذنا أكبر بطريق أفعل من كذا فإن لم نأخذها على أفعل من كذا فيكون إخبارا عن كبر الذكر من غير مفاضلة بأي اسم ذكر وهو أولى بالجناب الإلهي‏

[كل مجتهد مصيب ولكل مجتهد نصيب‏]

وإن كانت الوجوه كلها مقصودة في قوله تعالى ولَذِكْرُ الله أَكْبَرُ فإنه كل وجه تحتمله كل آية في كلام الله من فرقان وتوراة وزبور وإنجيل وصحيفة عند كل عارف بذلك اللسان فإنه مقصود لله تعالى في حق ذلك المتأول لعلمه الإحاطي سبحانه بجميع الوجوه وبقي عليه في ذلك الكلام من حيث ما يعلمه هو فكل متاول مصيب قصد الحق بتلك الكلمة هذا هو الحق الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ من بَيْنِ يَدَيْهِ ولا من خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ من حَكِيمٍ حَمِيدٍ على قلب من اصطفاه الله به من عباده فلا سبيل إلى تخطئة عالم في تأويل يحتمله اللفظ فإن مخطئه في غاية من القصور في العلم ولكن لا يلزمه القول به ولا العمل بذلك التأويل إلا في حق ذلك المتأول خاصة ومن قلده‏

(السؤال التاسع والعشرون ومائة) قوله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ما هذا الذكر

الجواب هذا ذكر الجزاء الوفاق قال تعالى جَزاءً وِفاقاً فذكر الله في هذا الموطن هو المصلي عن سابق ذكر العبد قال تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ أي يؤخر ذكره عن ذكركم فلا يذكركم حتى تذكروه ولا تذكرونه حتى يوفقكم ويلهمكم ذكره فيذكركم بذكره إياكم فتذكروه به أو بكم فيذكركم بكم وبه بالواو لا بأو فإن له الذكرين معا وقد يكون لبعض العلماء الذكران معا وقد يكون الذكر الواحد دون الآخر في حق بعض الناس‏

[أحوال ذكر النفس بالجزاء الوفاق في كل وجه‏]

وتختلف أحوال الذاكرين منا فمنا من يذكره في نفسه وهم على طبقات طبقة تذكره في نفسها والضمير من النفس يعود على الله من حيث الهو وشخص يذكره في نفسه والضمير يعود على الشخص وشخص يذكره في نفسه والضمير يعود على الله من حيث ما هو خالقها لا من حيث ما هي نفسه من كونها ظاهرة في مظهر خاص فإذا ذكره كل شخص من هؤلاء إما بوجه واحد من هذه الوجوه أو بكل الوجوه فإن الله يذكره في نفسه وقد يكون قوله ذكرته في نفسي عين ذكر هذا العبد ربه في نفسه من حيث ما هو

الضمير يعود على الله من نفسه من حيث ما هي نفسه عينا لا من حيث ما هي نفسه خلقا فيكون عين ذكر العبد هو عين ذكر الحق كما قلنا في قوله ومَكَرُوا ومَكَرَ الله وهو عين مكرهم عين مكر الله بهم لا أنه استأنف مكرا آخر ويؤيده أيضا

بقوله ذكرته في نفسي‏

يريد نفس العبد مضافة إلى الله من حيث ما هي ملك له خلقا وإيجادا ويريد أيضا ذكرته في نفسي نفس الحق لا من حيث الوجه الذي ذكره به العبد من حيث نفسه نفس الحق وهو الوجه الأول فهذه أحوال ذكر النفس بالجزاء الوفاق في كل وجه‏

[ذكر العبد الله في ملأ]

والحالة الثانية أن يذكره في ملأ فيذكره الله في ملأ خير من ذلك الملإ وقد يكون عين ذلك الملإ وتكون الخيرية بالحال فحال ذلك الملإ في ذكر هذا العبد لله دون حال ذلك الملإ في ذكر الله فيهم لهذا العبد فهو في هذه الحال خير منه في حال ذكر العبد والملأ واحد كما تتشرف الجماعة بالملك إذا كان فيها على شرفها إذا لم يكن الملك فيها وعين الجماعة واحدة فهي خير منها ولكن بشرط أن يكون كل واحد من ذلك الملإ حاله الكشف إن الله قد ذكر هذا العبد فيهم وهم يسمعون ذكر الله إياه كما سمعوا ذكر هذا العبد ربه فحينئذ يكون الشرف في الملإ الواحد يتفاضل والوجه الآخر أن يكون الملأ مغايرا لذلك الملإ فيكون خيره على هذا الملإ إما بكون الحق أسمعهم ذكره عبده وهو فيهم أو يكون خيره لأمر آخر تقتضيه مرتبته عند الله إما نشأة أو حالا أو علما وهذه أمور إن تأملتها انفتح لك منها علوم جمة من العلم الإلهي والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏

(السؤال الثلاثون ومائة) ما معنى الاسم‏

الجواب أمر يحدث عن الأثر أو أمر يكون عنه الأثر أو منه ما يكون عنه الأثر ومنه ما يحدث عن الأثر إذا لم ترد به المسمى‏

[الاسم المشتق والاسم الجامد]

فإن أردت به المسمى فمعناه المسمى كان ما كان مركبا تركيبا معنويا أو حسيا أو غير مركب معنويا أو حسيا كلفظة رحيم أي ذات راحمة فالمسمى بهذه التسمية هي عين تلك النسبة الجامعة بين ذات ورحمة حتى جعل عليها من هذه النسبة اسم فاعل وإن كانت التسمية جامدة لا يعقل منها غير الذات فليست بمركبة تركيبا معنويا فقد تكون هذه الذات مفردة معنى وفي نفسها وقد تكون مركبة حسا مثل إنسان تحته مركب حسي ومعنوي‏

[الفرق بين الاسم والرسم‏]

والاسم والرسم عند بعض أصحابنا نعتان يجريان في الأبد على حكم ما كان عليه أزلا وفرق بين الاسم والرسم وسيأتي ذكرهما في شرح معاني ألفاظ أهل الله من هذا الباب فإنه يطلبها

(السؤال الحادي والثلاثون ومائة) ما رأس أسمائه الذي استوجب منه جميع الأسماء

الجواب الاسم الأعظم الذي لا مدلول له سوى عين الجمع وفيه الْحَيُّ الْقَيُّومُ ولا بد فإن قلت فهو الاسم الله قلت لا أدري فإنه يفعل بالخاصية وهذه اللفظة إنما تفعل بالصدق إذا كان صفة للمتلفظ بها بخلاف ذلك الاسم‏

[الإنسان الكبير هو رأس الأسماء]

ولكن الظاهر من مذهب الترمذي أن رأس الأسماء الذي استوجب منه جميع الأسماء إنما هو الإنسان الكبير وهو الكامل وإذا كان هذا فهو الأولى في طريق القوم أن يشرح به رأس الأسماء فإن آدم علمه الله جميع الأسماء كلها من ذاته ذوقا فتجلى له تجليا كليا فما بقي اسم في الحضرة الإلهية الأظهر له فيه فعلم من ذاته جميع أسماء خالقه‏

(السؤال الثاني والثلاثون ومائة) ما الاسم الذي أبهم على الخلق الأعلى خاصته‏

الجواب هذا الاسم الذي استوجب منه جميع الأسماء وإن شئت قلت هو اسم مركب من عشرين وثلاثين بينهما أحد وأربعون حسا ومعنى وقد يتركب حسا لا معنى من ثمانية وثمانين ومائتين وستة عددا فإذا جمعتها على وجه مخصوص من غير إسقاط الستة كان اسما مركبا وإن أسقطت الستة كان اسما غير مركب‏

[ما أبهمه الحق على عامة خلقه لا ينبغي إذاعته‏]

ولا ينبغي أن يوضح في العامة ما أبهمه الحق على خلقه وخص به خاصته فإن هذا من غاية سوء الأدب وما أظن الترمذي قصد بهذا السؤال طلب الشرح والإيضاح لمعناه وإنما قصد اختبار المسئول أنه إن كان من أهل الله لا يوضحه فإن أوضحه فيكون قد تلقاه من أحد غلطا ممن تلقاه منه لقرينة حال وذكاء فيه وأما أهل الله فعندهم من الأدب الإلهي ما يمنعهم أن يستروا ما كشف الله أو يكشفوا ما ستره الله‏

(السؤال الثالث والثلاثون ومائة) بما نال صاحب سليمان عليه السلام ذلك وطوى عن سليمان عليه السلام‏

الجواب بجمعيته وتلمذته ليعرف الشيخ بما حصل عنده وبسببه وطوى عن سليمان بوجوده في محل التبديد في الوقت فإن الحكم للوقت ووقته أنه رسول فهو صاحب وجود مصروف العين إلى من أرسل إليه وصاحبه في جمعيته‏

على أمر واحد متحقق بها فظهر بما طوى عن سليمان العمل به تعظيما لقدر سليمان عليه السلام عند أهل بلقيس وسائر أصحابه وما طوى عن سليمان العلم به وإنما طوى عنه الأذن في التصرف به تنزيها لمقامه‏

(السؤال الرابع والثلاثون ومائة) ما سبب ذلك‏

الجواب إعلام الغير بأن التلميذ التابع إذا كان أمره بهذه المثابة فما ظنك بالشيخ فيبقى قدر الشيخ مجهولا في غاية التعظيم فلو ظهر على سليمان لتوهم إن هذا غايته ولا شك أن مشهد سليمان في ذلك الوقت والله أعلم كان مشهد أدب لا يريد أن يكون عنه شرك في التصرف كما قال أبو السعود أعطيت التصرف وتركته تظرفا في حكاية طويلة والغرض للنبي إنما هو الدلالة وظهورها على يد صاحبه أتم في حقه إذ كان هذا التابع مصدقا به وقائما في خدمته بين يديه تحت أمره ونهيه فيزيد المطلوب رغبة في هذا الرسول إذا رأى بركته قد عادت على تابعيه فيرجو هذا الداخل أن يكون له بالدخول في أمره ما كان لهذا التابع والنفس مجبولة على الطمع وحب الرئاسة والتقدم‏

(السؤال الخامس والثلاثون ومائة) ما ذا أطلع من الاسم على حروفه أو معناه‏

الجواب على حروفه دون معناه فإنه لو وقف على معناه لمنعه العمل به كما منع سليمان أ لا ترى إلى قوله تعالى في صاحب موسى فَانْسَلَخَ مِنْها فكانت عليه كالثوب وهو مثل الحرف على المعنى فعمل بها في غير طاعة الله فأشقاه الله وصاحب سليمان عمل به في طاعة الله فسعد

[خواص الأمة المحمدية بعضهم اطلع على حروف الاسم ومعناه وبعضهم على معناه‏]

وما وقف على معناه من الأمم الخالية سوى الرسل والأنبياء فإنهم وقفوا على معناه وحروفه إلا هذه الطائفة المحمدية فإنهم جمع لبعضهم بين حروفه ومعناه ولبعضهم أعطى معناه دون حروفه وليس في هذه الأمة من أعطى حروفه دون معناه وكذلك صاحب الأخدود أعطى حروفه دون معناه فإنه تلقاه من الراهب كلمات كما ورد وهي الكلمات التي ذكرناها في السؤال الثاني والثلاثين ومائة

(السؤال السادس والثلاثون ومائة) أين باب هذا الاسم الخفي على الخلق من أبوابه‏

الجواب بالمغرب‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أهل المغرب ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة

وعليه تطلع الشمس من المغرب عند ما يسد باب التوبة ويغلق ف لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ولا ما تكتسبه من خير بذلك الايمان‏

[غلق باب التوبة رحمة بالمؤمن ووبال على الكافر]

والمؤمن لا يغلق له باب وكيف يغلق دونه وقد جازه وتركه وراءه فمن عناية المؤمن غلقه حتى لا يخرج عليه بعد ما دخل منه فلا يرتد مؤمن بعد ذلك فإنه ليس له باب يخرج منه فغلق باب التوبة رحمة بالمؤمن ووبالا بالكافر

[الشرق بمنزلة الخروج إلى الدنيا والغرب بمنزلة الدخول إلى الآخرة]

وجعله الله بالمغرب لأنه محل الأسرار والكتم وهو سر لا يعلمه إلا أهل الاختصاص فلو كان هذا الباب بالشرق لكان ظاهرا عند العام والخاص ووقع به الفساد في العموم وهذا يناقض ما وجد له العالم من الصلاح وقد جاء في جانب الشرق من الذم ما جاء والشرق بمنزلة الخروج إلى الدنيا وهي دار الابتلاء للعام والخاص والغرب بمنزلة الخروج من الدنيا والدخول إلى الآخرة فإنه انتقال إلى دار التمييز والبيان ومعرفة المنازل والمراتب على ما هي عند الله تعالى فيعلم السعيد سعادته والشقي شقاوته فيظهر عند ذلك عين هذا الاسم الخفي لجميع الخلق ويحرمون الدعاء به لشغلهم بما هم فيه من الهول فيعظم في قلوبهم شدة الهول بحيث أن يظنوا أنه ما ثم دعاء يرد ما هم فيه ولو وفقوا للدعاء به لسعدوا فسبحان القدير على ما يشاء

(السؤال السابع والثلاثون ومائة) ما كسوته‏

الجواب حال الداعي به المعنوي وكسوته على الحقيقة حروفه إذا أخذت الاسم من طريق معناه فإن أخذته من طريق حروفه فحينئذ يكون كسوته حال الداعي به فإذا أقيم في شاهد الحس في التخيل أو الخيال فيكون كسوته الثوب السابغ الأصفر يلتوي فيه فإنه غير مخيط

[بقرة بنى إسرائيل‏]

أ لا ترى بقرة بنى إسرائيل صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها لا شِيَةَ فِيها فحيي بها الميت وهو أعظم الآثار إحياء الموات حياة الايمان وحياة العلم وحياة الحس وأعظم أثره في زمان الشتاء إذا وقع فيه شهر صفر في أول الشتاء إلى انتصافه فهو أسرع أثرا منه في باقي الأزمنة وباقي الشهور ويكون الثوب صوفا أو شعرا أو وبر إلا غير ذلك والريش منه وإنما قلنا هذا لأنه قد يظهر لقوم بنوع من أنواع ما ذكرناه من هذه الأنواع التي تلبس فلو ظهر في نوع واحد لعرفناكم به واقتصرنا عليه‏

[رؤية الحلاج لكسوة الاسم الخفي‏]

وقال بعضهم رأيت كسوته جلدا

أصفر قد صفر بورس أو زعفران وهكذا رآه الحسين بن منصور ولكن لم يكن سابغ الثوب وإنما ستر بعض أعضائه ستر منه قدر ستة أذرع لا غير

(السؤال الثامن والثلاثون ومائة) ما حروفه‏

الجواب الألف ولام الألف والواو والزاي والراء والدال والذال فإذا ركبت التركيب الخاص الذي تقوم به نشأة هذا الاسم ظهر عينه ولونه وطوله وعرضه وقدره وانفعل عنه جميع ما توجهه عليه هكذا هو عند الطائفة في الواقعة ولا تنقل عني أني أعلمه لما ذكرت فيه هذا لا يلزم فقد ننقل من الواقعة والكشف جميع ما سطرته ولا يلزم أن أكون به عالما وإنما قلت هذا لئلا يتوهم أني ما ذكرته إلا عن علم به ولكن مطلبى من الحق العبودة المحضة التي لا تشوبها ربوبية لا حسا ولا معنى‏

(السؤال التاسع والثلاثون ومائة) والحروف المقطعة مفتاح كل اسم من أسمائه فأين هذه الأسماء وإنما هي ثمانية وعشرون حرفا فأين هذه الحروف‏

الجواب لأنه يفتح الحرف الواحد من الأسماء الإلهية أسماء كثيرة لا يحصرها عدد وذلك لأنه إنما يفتح أسماء الأسماء التي تتركب من الحروف بحكم الاصطلاح وقد ثبت أن الحق متكلم فقد سمي نفسه من كونه متكلما بالكلام الذي نسب إليه ويليق به وهذه الأسماء التي تظهر عن الحروف أسماء تلك الأسماء فلو أن الحرف الواحد يفتح اسما واحدا لكان كما قلت من التعجب أ لا ترى في الأسماء المحفوظة في العموم كالملك والمصور والمان والمنان والمقتدر والمحيي والمميت والمقيت والمالك والمليك والمقدم والمؤخر والمؤمن والمهيمن والمتكبر والمغني والمعز والمذل فهذا حرف واحد افتتحنا به كذا كذا اسما إلهيا مع أنا لم نستوف ثم لتعلم إن كل اسم في العالم هو اسمه لا اسم غيره فإنه اسم الظاهر في المظهر وليس في وسع المخلوقين حصرها ولا إحصاؤها وجميعها مفاتيحها هذه الحروف على قلتها ولك في اختلاف اللغات أعظم شاهد وأسد دليل إن فهمت مقصود القوم‏

[أينية الأسماء في الحروف وأينية الحروف في الأنفاس‏]

وأما قوله فأين هذه الحروف فقل له في عوارض الأنفاس تعرض للنفس الرحماني ما يحدث عين الحرف ويعرض للحروف ما يحدث الأسماء فأينية الأسماء في الحروف وأينية الحروف الأنفاس وأينية الأنفاس الأرواح وأينية الأرواح القلوب وأينية القلوب عندية مقلبها وأسماء الحق لا تتعدد ولا تتكثر إلا في المظاهر وأما بالنسبة إليه فلا يحكم عليها العدد ولا أصله الذي هو الواحد فأسماؤه من حيث هو لا تتصف بالوحدة ولا بالكثرة فسؤال الإمام إنما هو عن الأسماء التي يقع بها التلفظ في عالم الحروف اللفظية ويقع بها الرقم في عالم الكتابة فتارة يراعي الرقم وتارة يراعي اللفظ وأما غيره فيجعل حروفا ثوالث وهي الحروف الفكرية وهي ما يضبطه الخيال من سماع المتلفظ بها أو أبصار الكاتب إياها

(السؤال الأربعون ومائة) كيف صار الألف مبتدأ الحروف‏

الجواب لأن له الحركة المستقيمة وعن القيومية يقوم كل شي‏ء

[إنما وقع الوجود بقيومية العلة]

فإن قلت إنما يقع التكوين بالحركة الأفقية فإنه لا يقع إلا بمرض والمرض ميل أ لا ترى إلى القائلين بحكم العقل كيف جعلوا موجد العالم علة العلل والعلة تناقض القيومية فلنقل إنما وقع الوجود بقيومية العلة فإنه لكل أمر قيومية فافهم فقيومية الألوهية تطلب المألوه بلا شك أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ‏

[ما ثم ما يناسب الألف إلا الحرف المركب وهو اللام‏]

وما ثم ما يناسب الألف إلا الحرف المركب وهو اللام فإنه مركب من ألف ونون فلما تركب حدث اللام الرقمي لا اللفظي فلام اللفظ صورته في الرقم مركب من حرفين فيفعل بالتلفظ فعل الواحد وهو عينه ويفعل بالنقش فعل الألف والنون وهكذا كل حرف مركب ويفعل فعل الراء والزاي ببعد كما يفعله النون بقرب لأن النون حرف مركب من زاى وراء وأريد حروف الرقم‏

[انفتحت في الألف الحروف كلها الرقمية واللفظية]

فابتدءوا بالألف في الرقم لما ذكرناه وانفتحت فيه أشكال الحروف كلها لأن أصل الأشكال الخط كما إن أصل الخط النقطة والخط هو الألف فالحروف منه تتركب وإليه تنحل فهو أصلها وأما الحروف اللفظية فالألف يحدثها بلا شك كما يظهر الألف عن الحرف إذا أشبعته الفتح فإنه يدل على الألف كما أنك إذا أشبعت الحرف الضم دل على ألف الميل وهو واو العلة وإنما ظهر عن الرفع المشبع لأن العلة أرفع من المعلول فما ظهر عن الحرف إلا بصفة الرفع البالغ ليعلم أنه وإن مال فإنه ما مال إلا عن رفعة رحمة بك ليوجدك مظهرا لخالقك أ لا تراه في حرف الإيجاد كيف جاء برفع الكاف المشبع فقال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فجاء بالكاف مشبعة الضم لتدل على الواو

[لا يرفع الأسباب إلا جاهل بالوضع الإلهي‏]

فإن قلت وأين الواو

قلنا غيب في السكون الذي هو الثبوت فإن الحق يستحيل عليه الحركة فلما التقى سكون الواو من كون وسكون النون اتصفت الواو بالغيب فلم تظهر ولزمت الهوية ولهذا هو الهو غيب وضمير عن غائب وبقيت النون ساكنة تدل على سكون الواو وظهرت النون على صورة الواو في السكون وهو الثبوت كقوله خلق آدم على صورته فأثبت الأسماء بوجود النون في كن أي ما ثم كائن حادث إلا عند سبب فلا يرفع الأسباب إلا جاهل بالوضع الإلهي ولا يثبت الأسباب إلا عالم كبير أديب في العلم الإلهي‏

[الحروف اللفظية والرقمية والفكرية وما ينشأ عنها من العوالم‏]

فعن الحروف اللفظية يوجد عالم الأرواح وعن الحروف الرقمية يوجد عالم الحس وعن الحروف الفكرية يوجد عالم العقل في الخيال ومن كل صنف من هذه الحروف تتركب أسماء الأسماء

(السؤال الحادي والأربعون ومائة) كيف كرر الألف واللام في آخره‏

الجواب هذا يختص بحروف الرقم المناسب المزدوج وهو نظم أ ب ت ث لا حروف وضع أبجد فإن لام ألف ما ظهر إلا في نظم أ ب ت ث فإنه ناسب بين الحروف لتناسبها في الصورة بخلاف وضع أبجد

[اللام كسوة الألف وجنته‏]

وذلك لأن اللام كسوة الألف وجنته فإنه مستور فيها بالنون الملصقة به الذي تمم وجود اللام وجعلها في آخر النظم ليس بعدها إلا الياء لأنه ظهر في عالم التركيب وهو آخر العوالم وجاء بعده بالياء فإنه لها السفل إذ كانت إنما حدثت من إشباع حركة الخفض والخفض سفل والسفل آخر المراتب فكان تنبيها أجرى على خاطر الواضع لهذه الحروف وربما لم يقصد ذلك ونحن إنما ننظر في الأشياء من حيث إن الباري واضعها لا من حيث يد من ظهرت منه فلا بد من القصد في ذلك والتخصيص فشرحنا لكون الحق هو الواضع لها لا غيره ولما

[الألف في عالم الحروف له الأولية الظاهرة والآخرية الباطنة]

كانت الأولية للالف انبغي أن تكون له الآخرية وكما له الظاهر في أول الحروف انبغي أن يكون له الباطن في آخر الحروف ليجمع بين الأول والآخر والظاهر والباطن والياء هي ألف الميل في عالم الحس الذي هو العالم الأسفل لحدوثها عن الخفض لتدل على الألف التي في لام ألف ولتدل على السبب الذي في شكل اللام إذا انفردت فإذا عانقت الألف صغرت النون في الالتواء وقابل الألف التي في اللام الألف التي في لام الألف حتى لا يكون يقابله إلا نفسه فقابل الألف الألف وربطت النون بينهما وهو ألف سر العبد الذي تألف بربه وهو من باب الامتنان الإلهي‏

[المؤمنون ما اجتمعوا على محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إلا بالله ولله‏]

قال الله تعالى ممتنا على عبده لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ولم يقل بين قلوبهم ولا بينها فجاء بهاء الهو في بينهم وجعل ميم الجمع سترا عليه ليدل على ما ينسب إليه من الجمعية من حيث كثرة الأسماء له تعالى والمراد أنه سبحانه ألف بين قلوب المؤمنين وبينه لأنهم ما اجتمعوا على محمد صلى الله عليه وسلم إلا بالله ولله فبه تألفوا لتالف محمد صلى الله عليه وسلم به فافهم لما ذا كرر لام الألف في نظم تناسب الحروف وهو نظم أ ب ت ث‏

(السؤال الثاني والأربعون ومائة) من أي حساب صار عددها ثمانية وعشرين حرفا

الجواب لأنها إنما ظهرت أعيان الحروف في العالم العنصري وفي عنصر الهواء سلطانها كما إن التراب والماء للأجسام الحيوانية كما إن عنصر النار للجان‏

[عدد الحروف العربية على عدد المنازل الفلكية]

والعالم العنصري إنما نسب إلى العناصر لأنها السبب الأقرب والعناصر إنما حدثت عن حركات الأفلاك وحركات الأفلاك إنما قطعت ثمانيا وعشرين منزلة في الفلك الذي قطعت فيه والعالم إنما صدر من نفس الرحمن لأنه نفس به عن الأسماء لما كانت تجده من عدم تأثيرها والنفس مناسب لعنصر الهواء فتشكلت المنازل الفلكية في الهواء العنصري لما ظهرت العناصر فلما جاء حكمه فيما تولد عن العناصر من المولدات ظهرت في أكمل نشأة المولدات وهو الإنسان صور الحروف ثمانية وعشرين حرفا عن ثمان وعشرين منزلة والحق فيها لام الألف خطأ لينبه على القاطع في هذه المنازل وهي الكواكب السيارة فكما عمت المنازل بقوتها وتقطع فيها إيجاد الكائنات والحوادث كذلك أوجدت هذه الحروف جميع الكلمات التي لا نهاية لها دنيا وآخرة فقد بان لك على التقريب لم كانت ثمانية وعشرين حرفا

[عجائب القلم الموضوع على شكل المنازل في طالع مخصوص والدراري في عقدة الرأس‏]

فمن تمكن له أن يضع قلما على شكل المنازل في طالع مخصوص وتكون الدراري في عقدة الرأس فإنه يكون عن ذلك القلم متى كتب به عجائب في سرعة ظهور ما يكتب له في أي شي‏ء كان حتى لو كتب به كاتب دعاء أجيب ذلك الدعاء ولم يتوقف‏

(السؤال الثالث والأربعون ومائة) ما قوله خلق آدم على صورته‏

الجواب اعلم أنه كل ما يتصوره المتصور فهو

عينه لا غيره فإنه ليس بخارج عنه ولا بد للعالم أن يكون متصورا للحق على ما يظهر عينه والإنسان الذي هو آدم عبارة عن مجموع العالم فإنه الإنسان الصغير وهو المختصر من العالم الكبير والعالم ما في قوة إنسان حصره في الإدراك لكبره وعظمه والإنسان صغير الحجم يحيط به الإدراك من حيث صورته وتشريحه وبما يحمله من القوي الروحانية فرتب الله فيه جميع ما خرج عنه مما سوى الله فارتبطت بكل جزء منه حقيقة الاسم الإلهي التي أبرزته وظهر عنها فارتبطت به الأسماء الإلهية كلها لم يشذ عنه منها شي‏ء فخرج آدم على صورة الاسم الله إذ كان هذا الاسم يتضمن جميع الأسماء الإلهية

[الإنسان يجمع جميع حقائق العالم الكبير]

كذلك الإنسان وإن صغر جرمه فإنه يتضمن جميع المعاني ولو كان أصغر مما هو فإنه لا يزول عنه اسم الإنسان كما جوزوا دخول الجمل في سم الخياط وإن ذلك ليس من قبيل المحال لأن الصغر والكبر العارضين في الشخص لا يبطلان حقيقته ولا يخرجانه عنها والقدرة صالحة أن تخلق جملا يكون من الصغر بحيث لا يضيق عنه سم الخياط فكان في ذلك رجاء لهم أن يدخلوا جنة النعيم كذلك الإنسان وإن صغر جرمه عن جرم العالم فإنه يجمع جميع حقائق العالم الكبير ولهذا يسمى العقلاء العالم إنسانا كبير ولم يبق في الإمكان معنى إلا وقد ظهر في العالم فقد ظهر في مختصره‏

[الصورة والتنزيل الخيالى‏]

والعلم تصور المعلوم والعلم من صفات العالم الذاتية فعلمه صورته وعليها خلق آدم فآدم خلقه الله على صورته وهذا المعنى لا يبطل لو عاد الضمير على آدم وتكون الصورة صورة آدم علما والصورة الآدمية حسا مطابقة للصورة ولا يقدر يتصور هذا إلا بضرب من الخيال يحدثه التخيل وأما نحن وأمثالنا فنعلمه من غير تصور ولكن لما جاء في الحديث ذكر الصورة علمنا أن الله إنما أراد خلقه على الصورة من حيث إنه يتصور لا من حيث ما يعلمه من غير تصور فاعتبر الله تعالى في هذه العبارة التخيل وإذا أدخل سبحانه نفسه في التخيل فما ظنك بمن سوى الحق من العالم‏

صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه‏

فهذا تنزيل خيالي من أجل كاف التشبيه وانظر من كان السائل ومن كان المسئول ومرتبتهما من العلم بالله ولم يكن بأيدينا إلا الأخبار الواردة بالنزول والمعية واليدين واليد والعين والأعين والرجل والضحك وغير ذلك مما ينسب الحق إلى نفسه وهذه صورة آدم قد فصلها في الأخبار وجمعها في‏

قوله خلق الله آدم على صورته‏

[الإنسان الكامل ينظر بعين الله‏]

فالإنسان الكامل ينظر بعين الله وهوقوله كنت بصره الذي يبصر به الحديث‏

كذلك يتبشبش بتبشبش الله ويضحك بضحك الله ويفرح بفرح الله ويغضب بغضب الله وينسى بنسيان الله قال تعالى نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ وينسب جميع ما ذكرناه إلى كل ذات بحسب ما تقتضيه مع علمنا بحقيقة كل صفة فإن كانت الذات المنسوب إليها معلومة علم صورة نسبة هذا المنسوب وإن جهلت الذات المنسوب إليها كنت بنسبة هذا المنسوب أجهل فهذا الوجه الذي يليق بجواب سؤال هذا السيد

[جواب سؤال الفيلسوف الإسلامي عن الصورة]

فلو سأل مثل هذا السؤال فيلسوف إسلامي أجبناه بأن الضمير يعود على آدم أي أنه لم ينتقل في أطوار الخلقة انتقال النطفة من ماء إلى إنسان خلقا بعد خلق بل خلقه الله كما ظهر ولم ينتقل أيضا من طفولة إلى صبي إلى شباب إلى كهولة ولا انتقل من صغر جرم إلى كبره كما ينتقل الصغير من الذرية بهذا يجاب مثل هذا السائل فلكل سائل جواب يليق به‏

(السؤال الرابع والأربعون ومائة) ليتمنين اثنا عشر نبيا أن يكونوا من أمتي‏

الجواب لما كانت أمته خير الأمم وعندها زيادة على أنبياء الأمم باتباعهم سنن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم ما اتبعوه لأنهم تقدموه وليس حيرا من كل أمة إلا نبيها ونحن خير الأمم فنحن والأنبياء في هذه الخيرية في سلك واحد منخرطين لأنه ما ثم مرتبة بين النبي وأمته ومحمد خير من أمته كما كان كل نبي خيرا من أمته فهو صلى الله عليه وسلم خير الأنبياء

[ثلاثة أصناف من الأنبياء يتبعون محمدا صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يوم القيامة]

فهؤلاء الاثنا عشر نبيا ولدوا ليلا وصاموا إلى أن ماتوا وما أفطروا نهارا مع طول أعمارهم سؤالا ورغبة ورجاء أن يكونوا من أمة محمد صلى الله عليه سلم فلهم ما تمنوا وهم مع من أحبوه يوم القيامة فيأتي النبي يوم القيامة وفي أمته النبي والاثنان والثلاثة ويأتي محمد صلى الله عليه وسلم وفي أمته أنبياء أتباع وأنبياء أتباع وأنبياء ما هم أنبياء أتباع فيتبع محمدا صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف من الأنبياء وهذه مسألة أعرض عن ذكرها أصحابنا لما فيها مما يتطرق إلى الأوهام الضعيفة من الإشكال‏

[جميع مراتب الأنبياء تتمنى أن تكون من أمة محمد ص‏]

وجعلهم الله اثني عشر كما جعل الفلك الأقصى اثني عشر برجا كل برج منها طالع نبي من هؤلاء الاثني عشر لتكون‏

جميع المراتب تتمنى أن تكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الاسم الظاهر ليجمعوا بينه وبين ما حصل لهم من اسمه الباطن إذ كان كل شرع بعثوا به من شرعه عليه السلام من اسمه الباطن إذ كان نبيا وآدم بين الماء والطين فقوله تعالى له‏

[هدى الأنبياء في الأولين من هدى محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الآخرين‏]

أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وما قال بهم إذ كان هداهم هداك الذي سرى إليهم في الباطن من حقيقتك فمعناه من حيث العلم إذا اهتديت بهداهم فهو اهتداؤك بهديك لأن الأولية لك باطنا والآخرية لك ظاهرا والأولية لك في الآخرية ظاهرا وباطنا

(السؤال الخامس والأربعون ومائة) ما تأويل قول موسى اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏

الجواب لما عرف موسى أن الأنبياء في النسبة إلى محمد نسبة أمته إليه وأن نسبة أمته إليه من اسمه الظاهر والباطن ونسبة الأنبياء إليه من اسمه الباطن أراد موسى أن يجمع الله له بين الاسمين في شرعه ثم إنه لما علم أنه تبع ولم يشك أراد إقامة جاهه عند محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الرسل إذ كان التباهي يوم القيامة بالتكاثر بالأمم والأتباع وليس في الرسل أكثر أتباعا من موسى عليه السلام كما

أخبر صلى الله عليه وسلم في الصحيح حين رأى سوادا أعظم فسأل فقيل له هذا موسى وأمته‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم إنه سيد الناس يوم القيامة

والسيد لا يكاثر

[الجمع بين الاسمين والحشر مع أمة سيد الكونين‏]

فإذا كان موسى بدعائه من أمة محمد في الدرجة ظاهره وباطنه مثل ما نحن زاد هو وأمته في سوادنا بلا شك وما

قال عليه السلام إني مكاثر بكم الأمم‏

إلا في أمم لم يكن لنبيها مجموع الاسمين اللذين دعا الله موسى أن يكونا له فكل من جمع بين الاسمين حشر معنا في أمته صلى الله عليه وسلم فيباهي موسى بأمته سائر الأنبياء الذين حشروا معنا فيكونون معه بمنزلة الأمراء المقدمين على العساكر فأكبرهم أميرا أكثرهم جيشا وأكثرهم جيشا أعظمهم قدرا وحرمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الترمذي إنه يكون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هو أفضل من أبي بكر الصديق عند ما يرى أنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين‏

[عيسى بن مريم من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وهو أفضل من أبى بكر]

فإنه معلوم أن عيسى عليه السلام أفضل من أبي بكر وهو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومتبعيه وإنما ذكرناه لكون الخصم يعلم أنه لا بد أن ينزل في هذه الأمة في آخر الزمان ويحكم بسنة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما حكم الخلفاء المهديون الراشدون فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويدخل بدخوله من أهل الكتاب في الإسلام خلق كثير أيضا

(السؤال السادس والأربعون ومائة) إن لله عبادا ليسوا بأنبياء يغبطهم النبيون بمقاماتهم وقربهم إلى الله تعالى‏

(الجواب) يريد ليسوا بأنبياء تشريع لكنهم أنبياء علم وسلوك اهتدوا فيه بهدى أنبياء التشريع وقد ذكرنا مقامهم ومعنى النبوة وتفاصيلها في هذا الباب وفي غيره من هذا الكتاب‏

[المسودون الوجه من السؤدد والسواد دنيا وآخرة]

غير أنهم ليس لهم أتباع لوجهين الواحد لغنائهم في دعائهم إلى الله على بصيرة عن نفوسهم فلا تعرفهم الأتباع وهم المسودون الوجه في الدنيا والآخرة من السؤدد عند الرسل والأنبياء والملائكة ومن السواد لكونهم مجهولين عند الناس فلم يكونوا في الدنيا يعرفون ولا في الآخرة يطلب منهم الشفاعة فهم أصحاب راحة عامة في ذلك اليوم‏

[المهيمون في جلال الله الذين لم تفرض عليهم الدعوة إلى الله‏]

والوجه الآخر أنهم لما لم يعرفوا لم يكن لهم أتباع فإذا كان في القيامة جاءت الأنبياء خائفة يحزنهم الفزع الأكبر على أممهم لا على أنفسهم وجاء غير الأنبياء خائفين يحزنهم الفزع الأكبر على أنفسهم وجاءت هذه الطائفة مستريحة غير خائفة لا على نفوسهم ولا يحزنهم الفزع الأكبر على أممهم إذ لم يكن لهم أمم وفيهم قال الله تعالى لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أن يرتفع الحزن والخوف فيه عنكم في حق أنفسكم وحق الأمم إذ لم تكن لكم أمة ولا تعرفتم لأمة مع انتفاع الأمة بكم ففي هذا الحال تغبطهم الأنبياء المتبوعون أولئك المهيمون في جلال الله العارفون الذين لم تفرض عليهم الدعوة إلى الله انتهى الجزء التسعون (بسم الله الرحمن الرحيم)

(السؤال السابع والأربعون ومائة) ما تأويل قول بِسْمِ الله‏

(الجواب) هو للعبد في التكوين بمنزلة كُنْ‏

للحق فبه يتكون عن بعض الناس ما شاءوا قال الحلاج بِسْمِ الله من العبد بمنزلة كُنْ من الحق ولكن بعض العباد له كُنْ دون بِسْمِ الله وهم الأكابر

جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أنهم رأوا شخصا فلم يعرفوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا ذر فإذا هو أبو ذر

ولم يقل بسم الله فكانت كن منه كن الإلهية

[من كان الحق سمعه وبصره ولسانه‏]

فإنه‏

قال الله تعالى فيمن أحبه حب النوافل كنت سمعه وبصره ولسانه الذي يتكلم ب

ه وقد شهد الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن له نافلة بقوله تعالى ومن اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ به نافِلَةً لَكَ فلا بد أن يكون سمعه الحق وبصره الحق وكلامه الحق ولم يشهد بها لأحد من الخلق على التعيين فعلامة من لم تستغرق فرائضه نوافله وفضلت له نوافل أن يحبه الله تعالى هذه المحبة الخاصة وجعل علامتها أن يكون الحق سمعهم وبصرهم ويدهم وجميع قواهم ولهذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون كله نورا فإن الله نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ‏

[الغاية المطلوبة للعبد عند الحكماء وعند الصوفية]

ولهذا تشير الحكماء بأن الغاية المطلوبة للعبد التشبه بالإله وتقول فيه الصوفية التخلق بالأسماء فاختلفت العبارات وتوحد المعنى ونحن نرغب إلى الله ونضرع أن لا يحجبنا في تخلقنا بالأسماء الإلهية عن عبودتنا

(السؤال الثامن والأربعون ومائة) قوله السلام عليك أيها النبي‏

الجواب لما كانت الأنبياء بصفة تقتضي الاعتراض والتسليم شرع للمؤمن التسليم ومن سلم لم يطلب على العلة في كل ما جاء به النبي ولا في مسألة من مسائله فإن جاء النبي بالعلة قبلها كما قبل المعلول وإن لم يجي‏ء بها سلم فقال السلام عليك أيها النبي وقد بينا معناها في باب الصلاة من هذا الكتاب في فصول التشهد وإذا قال هذا النبي فالمسلم عليه منه هو الروح‏

(السؤال التاسع والأربعون ومائة) قوله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏

الجواب يريد التسليم علينا لنا إذ فينا ما يقتضيه الاعتراض منا علينا فنلزم نفوسنا التسليم فيه لنا ولا نعترضه ولا سيما إذا رأينا أن الحكم الذي يقتضي الاعتراض صدر من الظاهر في هذا المظهر الذي هو عيني فنسلم ولا بد علينا وعلى عباد الله الصالحين للاشتراك في العطف أي لا يصح هذا العطف بعباد الله الصالحين إلا بأن يكون بتلك الصفة الصالحة وحينئذ يكون السلام علينا حقيقة وقد بينا أيضا هذا المعنى في باب الصلاة من هذا الكتاب في فصول التشهد

[الإنسان في صلاته ينبغي أن يكون أجنبيا عن نفسه بربه‏]

قال تعالى فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً من عِنْدِ الله مُبارَكَةً طَيِّبَةً فقد أمرنا بالسلام علينا لنحظى بجميع المراتب في امتثال الأمر الإلهي وهذا يدلك على أن الإنسان ينبغي أن يكون في صلاته أجنبيا عن نفسه بربه حتى يصح له أن يسلم عليه بكلام ربه فإنه قال تَحِيَّةً من عِنْدِ الله مُبارَكَةً طَيِّبَةً فهو سلام الله على عبده وأنت ترجمانه إليك‏

(السؤال الخمسون ومائة) أهل بيتي أمان لأمتي‏

الجواب‏

قال صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت‏

فكل عبد له صفات سيده وأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ الله فأضافه إليه صفة أي صفته العبودة واسمه محمد وأحمد وأهل القرآن هم أهل الله فإنهم موصوفون بصفة الله وهو القرآن والقرآن أمان فإنه شفاء ورحمة وأمته صلى الله عليه وسلم من بعث إليهم وأهل بيته من كان موصوفا بصفته فسعد الطالح ببركة الصالح فدخل الكل في رحمة الله فانظر ما تحت هذه اللفظة من الرحمة الإلهية بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قوله تعالى ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة فقال بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وما من أحد من الأمة إلا وهو مؤمن بالله وقد بينا فيما تقدم من هذا الكتاب في باب‏

سلمان منا أهل البيت‏

فأغنى عن الكلام في أهل البيت طلبا للاختصار

[أهل البيت أمان لأزواج رسول الله من الوقوع في المخالفات-]

قال تعالى لما وصف ووصى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى‏ وأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ وأَطِعْنَ الله ورَسُولَهُ ثم أعلمهم أن ذلك كله بكونهن أزواجه صلى الله عليه وسلم حتى لا ينسبن إلى قبيح فيعود ذلك العار على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فببركة أهل البيت وما أراد الله به من التطهير بقوله إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ تفعل الأزواج ما أوصيناهن به ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً من دنس الأقوال المنسوبة إلى الفحش وهو الرجس فإن الرجس هو القذر فكان أهل البيت أمانا لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوقوع في المخالفات التي يعود عارها على أهل البيت‏

[أهل البيت أمان للمؤمنين وللناس أجمعين‏]

فكذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم لو خلدت في النار لعاد العار والقدح في منصب النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا

يقول أهل النار ما لَنا لا نَرى‏ رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ من الْأَشْرارِ وهو من دخل النار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي بعث إليها في مشارق الأرض ومغاربها فكما طهر الله بيت النبوة في الدنيا بما ذكره مما يليق بالدنيا كذلك الذي يليق بالآخرة إنما هو الخروج من النار فلا يبقى في النار موحد ممن بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد ممن بعث إليه يبقى شقيا ولو بقي في النار فإنها ترجع عليه بَرْداً وسَلاماً من بركة أهل البيت في الآخرة فما أعظم بركة أهل البيت‏

[أمة محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم تحشر معه والتي تحشر إليه‏]

فإنه من حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق على جميع من في الأرض من الناس أمة محمد إلى يوم القيامة فالمؤمنون به منهم يحشرون معه وغير المؤمنين به يحشرون إليه وقد أعلم أنه ما أرسل إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ولم يقل للمؤمنين خاصة

وقد قيل له لما دعا في الصلاة على رعل وذكوان وعصية ما بعثك الله سبابا ولا لعانا

أي طرادا أي لا تطرد عن رحمتي من بعثتك إليه وإن كان كافرا وإنما بعثتك رحمة وهو قوله وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً

[الحكيم يقضى بحكم الموطن‏]

فإذا حشروا إليه وهم أمته وهو بهذه المثابة من الرحمة التي فطر عليها والرحمة التي بعث بها فيرحم منهم من يقتضي ذلك الموطن أن يرحم فإنه حكيم والذي لا يقتضي ذلك الموطن أن يرحمه يقول فيه سحقا سحقا أدبا مع الله حتى يتجلى الحق في صفة غير تلك الصفة مما يقتضي الإسعاف في الجميع فعند ذلك تظهر بركته ورحمته صلى الله عليه وسلم فيمن بعث إليهم بما يرحمهم الله به وينقلهم من النار إلى الجنان ومن حال الشقاء إلى حال السعادة وإن كانوا مخلدين في النار فإن الحكم يقضي بحكم الموطن كرجل مقرب عند مليك رأى الملك في حال غضب على عبد من عبيده فلا ينبغي له في الأدب أن يشفع فيه في تلك الحال ولكن ينبغي له أن يقول أزيلوه من بين يدي الملك واجعلوه في الحبس وقيدوه فإنه لا يصلح لشي‏ء من الخير هذا العبد الآبق الكافر نعمة سيده كل ذلك بمرأى من سيده فإذا تجلى ذلك السيد في حال بسط ورضي وزال ذلك العبد إلى السجن والقيد وبعد عن الرحمة وإن كان في رحمة حينئذ يليق بهذا المقرب أن يقول للسيد يا مولانا فلأن على كل حال هو عبدك وما له راحم سواك وإلى من يلجأ إن طردته ومن يوسع عليه إن ضيقت عليه وهو محسوب عليك وفي هذا من العار بالحضرة أن يقال فيه أنه لم يحترم سيده إذا رى‏ء معاقبا والحضرة أجل من أن يقال عنها إنها لم تحترم فإذا عفوت عنه وألحقته بالسعداء استتر الأمر وأنا يا مولاي أغار أن ينسب إلى هذه الحضرة ما يشينها ومثل هذا الكلام مع البسط الذي هو عليه السيد واقتضى الموضع الشفاعة فيه فيأمر السيد بتبديل حال الشقاء عنه بحال السعادة وإن يخلع عليه خلع الرضي وإن بقي محبوسا فيصير له ذلك الدار والمنزل ملكا ويهبه له ربه ملكا ويرجع عذابه نعيما وهو أبلغ في القدرة هذا إن كانت تلك الدار سكناه أو يأمر بإخراجه إلى منازل السعداء

[طلوع الفجر النبوة وبزوغ شمسها وبركات أهل البيت على البشرية كلها]

فهكذا الناس يوم القيامة في بركة أهل البيت ممن بعث إليه صلى الله عليه وسلم فما أسعد هذه الأمة فإن اعتبر الله البيت اعتبار الباطن إذ كان كل شرع متقدم شرع محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة طلوع الفجر إلى حين طلوع الشمس فكان ذلك الضوء وتزايده من الشمس فتكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم من آدم إلى آخر إنسان يوجد فيكون الكل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فينال الكل بركة أهل البيت فيسعد الجميع أ لا تراه‏

يقول يوم القيامة أنا سيد الناس‏

فلم يخص ولم يقل أنا سيد أمتي ثم إنه ما ذكر بعد هذه اللفظة إلا حديث الشفاعة فقال أ تدرون بما ذاك وذكر حديث الشفاعة يوم القيامة وهو معنى ما أشرنا إليه آنفا فإن فهمت ما أومأنا إليه فافعل ما شئت فقد غفر لك إنه واسِعُ الْمَغْفِرَةِ

(السؤال الحادي والخمسون ومائة) قوله آل محمد

الجواب‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل نبي آل وعدة وآلي وعدتي المؤمن‏

ومن أسمائه تعالى الْمُؤْمِنُ وهو العدة لكل شدة

[آل محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم هم العظماء بمحمد]

والآل يعظم الأشخاص فعظم الشخص في السراب يسمى الآل فآل محمد هم العظماء بمحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم مثل السراب يعظم من يكون فيه وأنت تحسبه محمدا العظيم الشأن كما تحسب السراب ماء وهو ماء في رأى العين فإذا جئت محمدا صلى الله عليه وسلم لم تجد محمدا ووجدت الله في صورة محمدية ورأيته برؤية محمدية

[معرفتك بالله بك لا به مثل معرفتك بالسراب أنه ماء]

كما أنك إذا جئت إلى السراب لتجده كما أعطاك النظر فلم تجده في شيئيته ما أعطاك النظر ووجدت الله عنده أي عرفت أن معرفتك بالله مثل معرفتك بالسراب أنه ماء فإذا به ليس ماء وتراه العين ماء فكذلك إذا قلت عرفت الله وتحققت بالمعرفة عرفت أنك ما عرفت الله فالعجز عن معرفته هي المعرفة به فما حصل‏

بيدك إلا أنه لا يتحصل لأحد من خلقه‏

[كل من استند إلى الله عظم في القلوب‏]

وكل من استند إلى الله عظم في القلوب وعند العارفين بالله وعند العامة كما أنه من كان في السراب عظم شخصه في رأى العين ويسمى ذلك الشخص آلا وهو في نفسه على خلاف ما تراه العيون من التضاؤل تحت جلال الله وعظمته كذلك محمد يتضاءل تضاؤل السراب في جنب الله لوجود الله عنده فهذا إذا فهمت ما قلناه معنى آل محمد

(السؤال الثاني والخمسون ومائة) أين خزائن الحجة من خزائن الكلام من خزائن علم التدبير

الجواب في قوله فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ بكل وجه فأوله تدبير وهي الخزائن العامة وهو قوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وفي هذه الخزائن خزائن الكلام لأن خزائن علم التدبير تحوي على خزائن شتى منها خزائن الكلام وهي في قوله يُفَصِّلُ الْآياتِ بالكلام‏

[المعرفة الذوقية وأصحاب الأدلة العقلية]

وفي خزائن الكلام خزائن الحجة في مقابلة المعارض وهو الذي لا يعرف الله معرفة ذوق وهم أصحاب الأدلة العقلية فإنهم لا يقبلون ما جاءت به الشرائع من صفات الحق التي لو قالها غير النبي جهله العقلاء بأدلتهم وكفره المؤمنون وهو ما قال إلا ما قيل له فمتى ما لم يكن العلم ذوقا لم يخلص خاطر سامعه من الإنكار بقلبه من حيث عقله‏

[القول المعجز هو قول الحق والصدق‏]

ثم خزائن الحجة خصوص في خزائن الكلام وهو القول المعجز وهو قول الحق والصدق وكذا رأيته في الواقعة مثل القرآن فهو الحجة من الكلام فَأْتُوا بِسُورَةٍ من مِثْلِهِ ولَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ والْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً لأنه أتى من خزائن الحجة وسائر الكتب والصحف من خزائن الكلام وسائر المخلوقات من خزائن علم التدبير

(السؤال الثالث والخمسون ومائة) أين خزائن علم الله من خزائن علم البدء

الجواب في المساوقة الوجودية لأن الله لم يزل عالما بأنه الإله وأن الممكن مألوه وأن العدم للممكن نعت أزلي وأنه لم يزل مظهرا للحق‏

[العلم الذي انفرد به الحق دون سواه‏]

فخزانة علم الله من علم البدء هو معرفة مرتبة الاسم الله من الاسم المبدئ كما يقال أين خزانة علم البدي‏ء من علم المعيد فإن الظرفية لا تخلوا إما أن تكون مكانية أو زمانية ولا مكان ولا زمان فإنهما هما اللذان يعطيان المقدار وأين كذا من كذا يطلب المقدار فغاية أن يقال في المرتبة الأولى التي لا تقبل الثاني وهي مرتبة الواجب الوجود الذاتي كما نقول في الممكن إنه في مرتبة الوجوب الإمكانى الذاتي والعلم بهذا هو علم سر السر وهو الأخفى وهو العلم الذي انفرد به الحق دون ما سواه ولا يعلم هذا إلا بالتحلي بالحاء المهملة

[مساق المسلسل في لغة العرب شرح ألفاظ اصطلاح القوم‏]

[التحلي‏]

فإن قلت وما التحلي قلنا الاتصاف بالأخلاق الإلهية المعبر عنها في الطريق بالتخلق بالأسماء وعندنا التحلي ظهور أوصاف العبودة دائما مع وجود التخلق بالأسماء فإن غاب عن هذا التحلي كان التخلق بالأسماء عليه وبالا قال تعالى كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ

[وصف الحق نفسه في كتابه بما لا يقبله العقل‏]

وتحلى العبد بأوصاف العبودة هو من تخلقه بالأخلاق الإلهية ولكن أكثر الناس لا يعقلون فلو عرفوا معنى ما ورد في القرآن والسنة من وصف الحق سبحانه نفسه بما لا يقبله العقل إلا بالتأويل إلا نزه ما نفروا من ذلك إذا سمعوه من أمثالنا فإن العبودة أعني معقولها إن كان أمرا وجوديا فهو عينه فإن الوجود له وإنما الحق لما كانت أعيان الممكنات مظاهره عظم على العقول أن تنسب إلى الله ما نسبه لنفسه فلما ظهر المقام الذي وراء طور العقل بالنبوة وعملت الطائفة عليه بالإيمان أعطاهم الكشف ما أحاله العقل من حيث فكره وهو في نفس الأمر ليس على ما حكم به وهذا من خصائص التصوف‏

[التصوف‏]

فإن قلت وما التصوف قلنا الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرا وباطنا وهي مكارم الأخلاق وهو أن تعامل كل شي‏ء بما يليق به مما يحمده منك ولا تقدر على هذا حتى تكون من أهل اليقظة

[اليقظة]

فإن قلت وما اليقظة حتى أكون من أهلها قلنا اليقظة الفهم عن الله في زجره فإذا فهمت عن الله انتبهت‏

[الانتباه‏]

فإن قلت فما الانتباه قلنا هو زجر الحق عبده على طريق العناية وهذا لا يحصل إلا لأهل العبودة

[العبودة]

فإن قلت وما العبودة قلنا نسبة العبد إلى الله لا إلى نفسه فإن انتسب إلى نفسه فتلك العبودية لا العبودة فالعبودة أتم حتى لا يحكم عليه مقام السواء

[مقام السواء]

فإن قلت وما السواء قلنا بطون الحق في الخلق وبطون الخلق في الحق وهذا لا يكون إلا فيمن عرف أنه مظهر للحق فيكون عند ذلك باطنا للحق وبهذا وردت الفهوانية

[الفهوانية]

فإن قلت وما الفهوانية قلنا خطاب الحق كافحة في عالم المثال وهوقوله صلى الله عليه وسلم في الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه‏

ومن هناك تعلم الهو

[الهو]

فإن قلت وما الهو قلنا الغيب الذاتي الذي لا يصح شهوده فليس هو ظاهرا ولا مظهرا وهو المطلوب الذي‏

أوضحه اللسن‏

[اللسن‏]

فإن قلت وما اللسن قلنا ما يقع به الإفصاح الإلهي لآذان العارفين وهي كلمة الحضرة

[كلمة الحضرة]

فإن قلت وما كلمة الحضرة قلنا كن ولا يقال كن إلا لذي رؤية ليعلم من يقول له كن على الشهود

[الرؤية]

فإن قلت وما الرؤية قلنا المشاهدة بالبصر لا بالبصيرة حيث كان وهو لأصحاب النعت‏

[النعت‏]

فإن قلت وما النعت قلنا ما طلب النسب العدمية كالأول ولا يعرفه إلا عبيد الصفة

[الصفة]

فإن قلت وما الصفة قلنا ما طلب المعنى الوجودي كالعالم والعلم لأهل الحد

[الحد]

فإن قلت وما الحد قلنا الفصل بينك وبينه لتعرف من أنت فتعرف أنه هو فتلزم الأدب معه وهو يوم عيدك‏

[العيد]

فإن قلت وما العيد قلنا ما يعود عليك في قلبك من التجلي بعود الأعمال وهوقوله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يمل حتى تملوا فطوبى لأهل القدم‏

[القدم‏]

فإن قلت وما القدم قلنا ما ثبت للعبد في علم الحق به قال تعالى أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ أي سابق عناية عند ربهم في علم الله ويتميز ذلك في الكرسي‏

[الكرسي‏]

فإن قلت وما الكرسي قلنا علم الأمر والنهي فإنه‏

قد ورد في الخبر أن الكرسي موضع القدمين‏

قدم الأمر وقدم النهي الذي قيده العرش‏

[العرش‏]

فإن قلت وما العرش قلنا مستوي الأسماء المقيدة وفيه ظهرت صورة المثل من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وهذا هو المثل الثابت‏

[المثل‏]

فإن قلت وما المثل قلنا المخلوق على الصورة الإلهية الواردة في‏

قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته‏

وقال تعالى فيه إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً وهو نائب الحق الظاهر بصورته وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إِلهٌ وفي الْأَرْضِ إِلهٌ أظهره النائب ومشهد هذا النائب حجاب العزة ليلا يغلط في نفسه‏

[حجاب العزة]

فإن قلت وما حجاب العزة قلنا العمي والحيرة فإنه المانع من الوصول إلى علم الأمر على ما هو عليه في نفسه ولا يقف على حقيقة هذا الأمر إلا أهل المطلع‏

[المطلع‏]

فإن قلت وما المطلع قلنا الناظر إلى الكون بعين الحق ومن هنالك يعلم ما هو ملك الملك‏

[ملك الملك‏]

فإن قلت وما هو ملك الملك قلنا هو الحق في مجازاة العبد على ما كان منه مما أمر به وما لم يؤمر به ويختص بهذا الأمر عالم الملكوت‏

[عالم الملكوت‏]

فإن قلت وما عالم الملكوت قلنا عالم المعاني والغيب والارتقاء إليه من عالم الملك‏

[عالم الملك‏]

فإن قلت وما عالم الملك قلنا عالم الشهادة والحرف وبينهما عالم البرزخ‏

[عالم البرزخ‏]

فإن قلت وما عالم البرزخ قلنا عالم الخيال ويسميه بعض أهل الطريق عالم الجبروت وهكذا هو عندي ويقول فيه أبو طالب صاحب القوت عالم الجبروت هو العالم الذي أشهد العظمة وهم خواص عالم الملكوت ولهم الكمال‏

[الكمال‏]

فإن قلت وما الكمال قلنا التنزه عن الصفات وآثارها ولا يعرفها إلا الساكن بأرين‏

[أرين‏]

فإن قلت وما أرين قلنا عبارة عن الاعتدال في قوله أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ فإن أرين موضع خط اعتدال الليل والنهار فاستعاروه وقد ذكره منهم عبد المنعم بن حسان الجلباني في مختصره غاية النجاة له ولقيته وسألته عن ذلك فقال فيه ما شرحناه به وصاحب هذا المقام هو صاحب الرداء

[الرداء]

فإن قلت وما الرداء قلنا الظهور بصفات الحق في الكون‏

[الكون‏]

فإن قلت وما الكون قلنا كل أمر وجودي وهو خلاف الباطل‏

[الباطل‏]

فإن قلت وما يريد أهل الله بالباطل قلنا العدم ويقابل الباطل الحق‏

[الحق‏]

فإن قلت وما الحق عندهم قلنا ما وجب على العبد القيام به من جانب الله وما أوجبه الرب للعباد على نفسه إذ كان هو العالم والعلم‏

[العالم والعلم‏]

فإن قلت وما العالم والعلم قلنا العالم من أشهده الله الوهته وذاته ولم يظهر عليه حال والعلم حاله ولكن بشرط أن يفرق بينه وبين المعرفة والعارف‏

[المعرفة والعارف‏]

فإن قلت وما المعرفة والعارف قلنا من مشهده الرب لا اسم الإلهي غيره فظهرت منه الأحوال والمعرفة حاله وهو من عالم الخلق كما أن العالم من عالم الأمر

[عالم الخلق والامر]

فإن قلت وما عالم الخلق والأمر والله يقول أَلا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ قلنا عالم الأمر ما وجد عن الله لا عند سبب حادث وعالم الخلق ما أوجده الله عند سبب حادث فالغيب فيه مستور

[الغيب‏]

فإن قلت وما الغيب في اصطلاحكم قلنا الغيب ما ستره الحق عنك منك لا منه ولهذا يشار إليه‏

[الإشارة]

فإن قلت وما الإشارة قلنا الإشارة نداء على رأس البعد يكون في القرب مع حضور الغير ويكون مع البعد في العموم والخصوص‏

[العموم والخصوص‏]

فإن قلت وما العموم والخصوص عندهم قلنا العموم ما يقع في الصفات من الاشتراك والخصوص ما يقع به الانفراد وهو أحدية كل شي‏ء وهو لب اللب‏

[لب اللب‏]

فإن قلت وما لب اللب قلنا مادة النور الإلهي يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى‏ نُورٍ فلب اللب هو قوله نُورٌ عَلى‏ نُورٍ

[اللب‏]

فإن قلت وما اللب قلنا ماضين من العلوم عن القلوب المتعلقة بالسوى وهو القشر

[القشر]

فإن قلت وما القشر قلنا كل علم يصون عين المحقق من الفساد لما يتجلى له من خلف حجاب الظل‏

[الظن‏]

فإن قلت وما الظن قلنا وجود الراحة خلف حجاب الضياء

[الضياء]

فإن قلت وما الضياء قلنا ما ترى به الأغيار بعين الحق فالظل من أثر الظلمة والضياء من أثر النور والعين‏

واحدة

[الظلمة والنور]

فإن قلت وما الظلمة والنور اللذان عنهما الظل والضياء قلنا النور كل وارد إلا هي ينفر الكون عن القلب والظلمة قد يطلقونها على العلم بالذات فإنه لا يكشف معها غيرها وأكثر ما يعلم هذين أرباب الأجساد

[الجسد]

فإن قلت وما الجسد قلنا كل روح أو معنى ظهر في صورة جسم نوري أو عنصري حتى يشهده السوي‏

[السوي‏]

فإن قلت وما السوي هنا قلنا الغير الذي يتعشق بالمنصات‏

[المنصة]

فإن قلت وما المنصة قلنا مجلى الأعراس وهي تجليات روحانية إلية

[الإل‏]

فإن قلت وما الإل قلنا كل اسم إلهي أضيف إلى ملك أو روحاني مثل جبريل وميكائيل أو عبدئل وبأيديهم الطبع والختم‏

[الطبع والختم‏]

فإن قلت وما الطبع والختم قلنا الختم علامة الحق على القلوب العارفين والطبع ما سبق به العلم في حق كل مختص من الإلهيين‏

[الإلهية]

فإن قلت وما الإلهية قلنا كل اسم إلهي يضاف إلى البشر مثل عبد الله وعبد الرحمن وهم الخارجون عن الرعونة

[الرعونة]

فإن قلت وما الرعونة قلنا الوقوف مع الطبع بخلاف أهل الإنية فإنهم وافقون مع الحق‏

[الإنية وأهلها]

فإن قلت وما الإنية قلنا الحقيقة بطريق الإضافة وهم المعتكفون على اللوح المشاهدون للقلم الناظرون في النون المستمدون من الهوية القائلون بالأناية الناطقون بالاتحاد لأجل الجرس‏

[اللوح الهوية النون الاناية القلم الاتحاد الجرس‏]

فإن قلت وما هذه الألفاظ التي ذكرتها قلنا أما اللوح فمحل التدوين والتسطير المؤجل إلى حد معلوم وأما الهوية فالحقيقية الغيبية وأما النون فعالم الإجمال وأما الإنابة فقولك بك وأما القلم فعلم التفصيل وأما الاتحاد فتصيير الذاتين ذاتا واحدة فأما عبد وإما رب ولا يكون إلا في العدد وفي الطبيعة وهو حال وأما الجرس فإجمال الخطاب بضرب من القهر لقوة الوارد وهذا كله لا يناله إلا أهل النوالة

[النوالة]

فإن قلت وما النوالة قلنا الخلع التي تخص الأفراد من الرجال وقد تكون الخلع مطلقا ومع هذا فهم في الحجاب‏

[الحجاب‏]

فإن قلت وما الحجاب قلنا ما ستر مطلوبك عن عينك إذا كان الحجاب مما يلي المخدع‏

[المخدع‏]

فإن قلت وما المخدع قلنا موضع ستر القطب عن الأفراد الواصلين عند ما يخلع عليهم وهو خزانة الخلع والخازن هو القطب قال محمد بن قائد الأواني رقيت حتى لم أر أمامي سوى قدم واحدة فغرت فقيل هي قدم نبيك فسكن جأشي وكان من الأفراد وتخيل أن ما فوقه إلا نبيه ولا تقدمه غيره وصدق رضي الله عنه فإنه ما شاهد سوى طريقه وطريقه فما سلك عليها غير نبيه وقيل له هل رأيت عبد القادر قال ما رأيت عبد القادر في الحضرة فقيل ذلك لعبد القادر قال صدق ابن قائد في قوله فإني كنت في المخدع ومن عندي خرجت له النوالة وسماها بعينها فسئل ابن قائد عن النوالة ما صفتها فقال مثل ما قال عبد القادر فكان أحدهما من أهل الخلوة والآخر من أهل الجلوة

[الخلوة والجلوة]

فإن قلت وما الخلوة والجلوة قلنا الجلوة خروج العبد من الخلوة بنعوت الحق فيحرق ما أدركه بصره والخلوة محادثة السر مع الحق حيث لا ملك ولا أحد وهناك يكون الصعق‏

[الصعق‏]

فإن قلت وما الصعق قلنا الفناء عند التجلي الرباني وهو لأهل الرجاء لأهل الخوف‏

[الرجاء والخوف‏]

فإن قلت وما الرجاء والخوف قلنا الرجاء الطمع في الآجل والخوف ما تحذر من المكروه في المستأنف ولهذا يجنح إلى التولي وهو رجوعك إليك منه بعد التلقي‏

[التلقي‏]

فإن قلت وما التلقي قلنا أخذك ما يرد من الحق عليك عند الترقي‏

[الترقي‏]

فإن قلت وما الترقي قلنا التنقل في الأحوال والمقامات والمعارف نفسا وقلبا وحقا طلبا للتداني‏

[التداني‏]

فإن قلت وما التداني قلنا معراج المقربين إلى التدلي‏

[التدلي‏]

فإن قلت وما التدلي قلنا نزول الحق إليهم ونزولهم لمن هو دونهم بسكينة

[السكينة]

فإن قلت وما السكينة قلنا ما تجده من الطمأنينة عند تنزل الغيب بالحرف‏

[الحرف‏]

فإن قلت وما الحرف قلنا ما يخاطبك به الحق من العبارات مثل ما أنزل القرآن على سبعة أحرف والحرف صورة في السبحة السوداء

[السبحة]

فإن قلت وما السبحة قلنا الهباء الذي فتح فيه صور أجسام العالم المنفعل عن الزمردة الخضراء

[الزمردة الخضراء]

فإن قلت وما الزمردة الخضراء قلنا النفس المنبعثة عن الدرة البيضاء

[الدرة البيضاء]

فإن قلت وما الدرة البيضاء قلنا العقل الأول صاحب علم السمسمة

[السمسمة]

فإن قلت وما السمسمة قلنا معرفة دقيقة في غاية الخفاء تدق عن العبارة ولا تدرك بالإشارة مع كونها ثمرة شجرة

[الشجرة]

فإن قلت وما هذه الشجرة قلنا الإنسان الكامل مدبر هيكل الغراب‏

[الغراب‏]

فإن قلت وما الغراب قلنا الجسم الكل الذي ينظر إليه العقاب بوساطة الورقاء

[العقاب والورقاء]

فإن قلت وما العقاب قلنا الروح الإلهي الذي ينفخ الحق منه في الهياكل كأنها أرواحها المحركة لها والمسكنة والورقاء النفس التي بين الطبيعة والعقل ودون الطبيعة هي العنقاء

[العنقاء]

فإن قلت وما العنقاء قلنا الهباء لا موجود ولا معدوم على أنها تتمثل في الواقعة

[الواقعة]

فإن قلت وما الواقعة قلنا ما يرد على القلب من العالم العلوي بأي طريق كان من خطاب أو مثال أو غير ذلك على يد الغوث‏

[الغوث‏]

فإن‏

قلت وما الغوث قلنا صاحب الزمان وواحدة وقد يكون ما يعطيه على يد الياس‏

[الياس‏]

فإن قلت وما الياس قلنا عبارة عن القبض وقد يكون ما يعطيه على يد الخضر

[الخضر]

فإن قلت وما الخضر قلنا عبارة عن البسط وهذه العطايا من بحر الزوائد

[الزوائد]

فإن قلت وما الزوائد قلنا زيادات الايمان بالغيب واليقين ولها رجال مخصوصون ذكرناهم في أول الباب فإنهم موقنون هم عشرة أشخاص لا يزيدون ولا ينقصون غير أنهم قد يكون منهم نساء يوجدهم الاسم والرسم‏

[الاسم والرسم‏]

فإن قلت وما الاسم والرسم قلنا الرسم نعت يجري في الأبد بما جرى في الأزل والاسم الحاكم على حال العبد في الوقت من الأسماء الإلهية عند الوصل‏

[الوصل‏]

فإن قلت وما الوصل قلنا إدراك الفائت وهو أول الفتوح‏

[الفتوح‏]

فإن قلت وما الفتوح قلنا فتوح العبارة في الظاهر وفتوح الحلاوة في الباطن وفتوح المكاشفة لتصحيح المطالعة

[المطالعة]

فإن قلت وما المطالعة قلنا توقيعات الحق تعالى للعارفين ابتداء وعن سؤال منهم فيما يرجع إلى حوادث الكون وفيها أقول‏

خرج التوقيع لي بالأمان *** ولتحاذر غائلات الأماني‏

ينقضي الدهر ولا شي‏ء منها *** حاصل قد ملكته اليدان‏

فاشتغل بي لا تخالط سواى *** فسواي شأنه غير شأني‏

لا يغرنك عبدي المثاني *** فإنا الثاني ولست بثاني‏

يشتهي من ظل بي مستهاما *** أن يراني أو يرى من رآني‏

وأنا أقرب منه إليه *** فليزل عني حكم المكان‏

فيراني منه فيه بعيني *** أن عين الغير ليست تراني‏

والمطالعة لا تكون إلا لأهل الحرية

[الحرية]

فإن قلت وما الحرية قلنا إقامة حقوق العبودية لله تعالى فهو حر عما سوى الله لأجل الغيرة الإلهية فإن الله غيور ومن غيرته حرم الفواحش‏

[الغيرة]

فإن قلت وما الغيرة قلنا تطلق في الطريق بإزاء ثلاثة معان غيرة في الحق لتعدي الحدود وغيرة تطلق بإزاء كتمان الأسرار والسرائر وغيرة الحق ضنته على أوليائه وهم الضنائن أصحاب الهمم‏

[الهمم‏]

فإن قلت وما الهمة قلنا تطلق بإزاء تجريد القلب للمنى وبإزاء أول صدق المريد وبإزاء جمع الهمم بصفاء الإلهام هذا عند أهل الغربة

[الغربة]

فإن قلت وما الغربة قلنا مفارقة الوطن في طلب المقصود وغربة عن الحال من حقيقة النفوذ فيه وغربة عن الحق من الدهش عن المعرفة لحكم الاصطلام‏

[الاصطلام‏]

فإن قلت وما الاصطلام قلنا نعت وله يرد على القلب فيسكن تحت سلطانه حذر المكر

[المكر]

فإن قلت وما المكر قلنا إرداف النعم مع المخالفة وقد رأيناه في أشخاص وإبقاء الحال مع سوء الأدب وهو الغالب على أهل العراق وما نجا منه في علمنا إلا أبو السعود بن الشبل سيد وقته وإظهار الآيات والكرامات من غير أمر ولا حد وهي عندنا خرق عوائد لا كرامات إلا أن يقصد بها المتحدث التحدث بالنعم ولكن تمنع العارفين من مثل هذا الرهبة

[الرهبة]

فإن قلت وما الرهبة قلنا رهبة الظاهر لتحقيق الوعيد ورهبة الباطن لتقلب العلم ورهبة لتحقيق أمر السبق ولكن بعد سبق الرغبة

[الرغبة]

فإن قلت وما الرغبة قلنا رغبة النفس في الثواب ورغبة القلب في الحقيقة ورغبة السر في الحق وهو مقام التمكين‏

[التمكين‏]

فإن قلت وما التمكين قلنا عندنا هو التمكن في التكوين وعند الجماعة حال أهل الوصول وعدلنا نحن فيه إلى ما قلناه لقوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ وعدلت الجماعة إلى قوله تعالى إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّماواتِ والْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وهذه الآية أيضا تعضدنا فيما ذهبنا إليه فالتمكين في التلوين أولى‏

[التلوين‏]

فإن قلت فما التلوين قلنا تنقل العبد في أحواله وهو عند الأكثرين مقام ناقص وعندنا هو أكمل المقامات لأنه موضع التشبه بالمطلوب للإنسان وسببه الهجوم‏

[الهجوم‏]

فإن قلت وما الهجوم قلنا ما يرد على القلب بقوة الوقت من غير تصنع منك عقيب البوادة

[البوادة]

فإن قلت وما البوادة قلنا ما يفجأ القلب من الغيب على سبيل الوهلة إما موجب فرح أو موجب ترح ولكن مع كونها بواده لا بد أن يتقدمها لوامع‏

[اللوامع‏]

فإن قلت وما اللوامع قلنا ما ثبت من أنوار التجلي وقتين وقريب من ذلك بعد الطوالع‏

[الطوالع‏]

فإن قلت وما الطوالع قلنا أنوار التوحيد تطلع على قلوب أهل المعرفة فتطمس سائر الأنوار عند ما تحكم على الأسرار اللوائح‏

[اللوائح‏]

فإن قلت وما اللوائح قلنا ما يلوح للاسرار الظاهرة من السمو من حال إلى حال هذا عند القوم وعندنا هي ما يلوح للبصر إذا لم‏

يتقيد بالجارحة من الأنوار الذاتية لا من جهة السلب وهي من أحوال أهل المسامرة

[السمر]

فإن قلت وما السمر قلنا خطاب الحق للعارفين من عالم الأسرار والغيوب نَزَلَ به الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ وهو خصوص في المحادثة

[المحادثة]

فإن قلت وما المحادثة قلنا خطاب الحق للعارفين من عباده من عالم الملك كالنداء من الشجرة لموسى وهو فرع عن المشاهدة

[المشاهدة]

فإن قلت وما المشاهدة قلنا رؤية الأشياء بدلائل التوحيد وتكون أيضا رؤية الحق في الأشياء وتكون أيضا حقيقة اليقين من غير شك وهي تتلو المكاشفة وقد قيل تتلوها المكاشفة

[المكاشفة]

فإن قلت وما المكاشفة قلنا تحقيق الأمانة بالفهم وتحقيق زيادة الحال وتحقيق الإشارة التي تعطيها المحاضرة

[المحاضرة]

فإن قلت وما المحاضرة قلنا حضور القلب بتواتر البرهان وعندنا مجاراة الأسماء بينها بما هي عليه من الحقائق في وقت التخلي‏

[التخلي‏]

فإن قلت وما التخلي قلنا اختيار الخلوة والإعراض عن كل ما يشغل عن الحق طلب التجلي بالجيم‏

[التجلي‏]

فإن قلت وما التجلي قلنا ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب بعد الستر

[الستر]

فإن قلت وما لستر قلنا كل ما سترك عن ما يغنيك وقيل هو غطاء الكون وقد يكون الوقوف مع العادات وقد يكون الوقوف مع نتائج الأعمال ما لم يغلب سلطان المحق‏

[المحق‏]

فإن قلت وما المحق قلنا فناؤك في عينه بعد تحكم السحق‏

[السحق‏]

فإن قلت وما السحق قلنا تفرق تركيبك تحت القهر لأجل الزاجر

[الزاجر]

فإن قلت وما الزاجر قلنا واعظ الحق في قلب المؤمن وهو الداعي بحكم الزمان‏

[الزمان‏]

فإن قلت وما الزمان قلنا السلطان فإنه قد يحول بينك وبين الذهاب‏

[الذهاب‏]

فإن قلت وما الذهاب قلنا غيبة القلب عن حس كل محسوس بمشاهدة محبوبه كان المحبوب ما كان قبل الفصل‏

[الفصل‏]

فإن قلت وما الفصل قلنا فوت ما ترجوه من محبوبك وهو عندنا تميزك عنه بعد حال الاتحاد الذي هو نتيجة المجاهدة

[المجاهدة]

فإن قلت وما المجاهدة قلنا حمل النفس على المشاق البدنية ومخالفة الهوى على كل حال ولكن لا يتمكن له مخالفة الهوى إلا بعد الرياضة

[الرياضة]

فإن قلت وما الرياضة قلنا رياضة الأدب وهو الخروج عن طبع النفس ورياضة الطلب وهي صحة المراد به وبالجملة فهي عبارة عن تهذيب الأخلاق النفسية وذلك عن علة

[العلة]

فإن قلت وما العلة قلنا تنبيه الحق لعبده بسبب وبغير سبب وهو من عين اللطف وتسميه أهل الطريق اللطيفة

[اللطيفة]

فإن قلت وما اللطيفة قلنا كل إشارة دقيقة المعنى تلوح في الفهم لا تسعها العبارة وهي المؤدية إلى التفريد وقد يطلقون اللطيفة على حقيقة الإنسان‏

[التفريد]

فإن قلت وما التفريد قلنا وقوفك بالحق معك ومن شرطه التجريد

[التجريد]

فإن قلت وما لتجريد قلنا إماطة السوي والكون عن القلب والسر من أجل حكم الفترة

[الفترة]

فإن قلت وما الفترة قلنا خمود نار البداية المحرقة وهي حالة تشبه حالة الوقفة التي للواقفين‏

[الوقفة]

فإن قلت وما الوقفة قلنا الحبس بين المقامين مع العصمة من الوله‏

[الوله‏]

فإن قلت وما الوله قلنا إفراط الوجد بمشاهدة السر

[السر]

فإن قلت وما السر قلنا سر العلم بإزاء حقيقة العالم به وسر الحال بإزاء معرفة مراد الله فيه وسر الحقيقة بإزاء ما يقع به الإشارة من الروح‏

[الروح‏]

فإن قلت وما الروح قلنا الملقي إلى القلب علم الغيب على وجه مخصوص يتلقاه منه النفس‏

[النفس‏]

فإن قلت وما النفس قلنا ما كان معلوما من أوصاف العبد بحكم الشاهد

[الشاهد]

فإن قلت وما الشاهد قلنا ما تعطيه المشاهدة من الأثر في قلب المشاهد وهو على صورة ما يضبطه القلب من رؤية المشهود وعلى الشاهد يرد لوارد

[الوارد]

فإن قلت وما الوارد قلنا ما يرد على القلب من الخواطر المحمودة من غير تعمل وكل ما يرد على القلب من كل اسم إلهي وهو الذي يعطي أحيانا حق اليقين‏

[حق اليقين‏]

فإن قلت وما حق اليقين قلنا ما حصل من العلم بالعلة ولكن بعد عين اليقين‏

[عين اليقين‏]

فإن قلت وما عين اليقين قلت ما أعطته المشاهدة والكشف ابتداء وبعد علم اليقين‏

[علم اليقين‏]

فإن قلت وما علم اليقين قلنا ما أعطاه الدليل الذي لا يحتمل الشبه الواردة من الخاطر

[الخاطر]

فإن قلت وما الخاطر قلنا ما يرد على القلب والضمير من الخطاب ربانيا كان أو غير رباني ولكن من غير إقامة فإن أقام فهو حديث نفس فصاحبه مفتقر إلى النفس‏

[النفس‏]

فإن قلت وما النفس قلنا روح يسلطه الله على نار القلب ليطفئ شررها لأجل سلطان الحقيقة

[الحقيقة]

فإن قلت وما الحقيقة قلنا سلب آثار أوصافك عنك بأوصافه بأنه الفاعل بك فيك منك لا أنت ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها فكأنه حال البعد

[البعد]

فإن قلت وما البعد قلنا الإقامة على المخالفات وقد يكون البعد منك وتختلف باختلاف الأحوال فيدل على ما يعطيه قرائن الأحوال وكذلك القرب‏

[القرب‏]

فإن قلت وما القرب قلنا القيام بالطاعة وقد يطلق على حقيقة قاب قوسين وهو قدر الخط الذي يقسم قطري الدائرة فيشقها بقسمين وهو غاية القرب المشهود ولا يدركه إلا صاحب إثبات لا صاحب محو

[المحو والإثبات‏]

فإن‏

قلت فما المحو وما الإثبات قلنا الإثبات إقامة أحكام العبادات وإثبات المواصلات وأما المحو فرفع أوصاف العادة وإزالة العلة وهو أيضا ما ستره الحق ونفاه وعنه يكون الذوق‏

[الذوق‏]

فإن قلت وما الذوق قلنا أول مبادي التجلي المؤدي إلى الشرب‏

[الشرب‏]

فإن قلت وما الشرب قلنا الوسط من التجلي من مقام يستدعي الري وقد يكون من مقام لا يستدعي الري وقد يكون مزاج الشارب لا يقبل الري‏

[الري‏]

فإن قلت وما الري قلنا غايات التجلي في كل مقام فإن كان المشروب خمرا أدى إلى السكر

[السكر]

فإن قلت وما السكر قلنا غيبة بوارد قوي مفرح يكون عنه صحو في الكبير

[الصحو]

فإن قلت فما الصحو قلنا رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة بوارد قوي‏

[الغيبة]

فإن قلت وما الغيبة قلنا غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لشغل الحس بما ورد عليه من الحضور

[الحضور]

فإن قلت وما الحضور قلنا حضور القلب بالحق عند غيبته فيتصف بالفناء

[الفناء]

فإن قلت وما الفناء قلنا فناء رؤية العبد فعله بقيام الله على ذلك وهو شبه البقاء

[البقاء]

فإن قلت وما البقاء قلنا رؤية العبد قيام الله على كل شي‏ء من عين الفرق‏

[الفرق‏]

فإن قلت وما الفرق قلنا إشارة إلى خلق بلا حق وقيل مشاهدة العبودة وهو نقيض الجمع‏

[الجمع‏]

فإن قلت وما الجمع قلنا إشارة إلى حق بلا خلق وعليه يرد جمع الجمع‏

[جمع الجمع‏]

فإن قلت وما جمع الجمع قلنا الاستهلاك بالكلية في الله عند رؤية الجمال‏

[الجمال‏]

فإن قلت وما الجمال قلنا نعوت الرحمة والألطاف من الحضرة الإلهية باسمه الجميل وهو الجمال الذي له الجلال المشهود في العالم‏

[الجلال‏]

فإن قلت وما الجلال قلنا نعوت القهر من الحضرة الإلهية الذي يكون عنده الوجود

[الوجود]

فإن قلت وما الوجود قلنا وجدان الحق في الوجد

[الوجد]

فإن قلت وما الوجد قلنا ما يصادف القلب من الأحوال المغنية له عن شهوده وإن تقدمه التواجد

[التواجد]

فإن قلت وما التواجد قلنا استدعاء الوجد وإظهار حالة الوجد من غير وجد لأنس يجده صاحبه‏

[الأنس‏]

فإن قلت وما الأنس قلنا أثر مشاهدة جمال الحضرة الإلهية في القلب وهو جلال الجمال فإنه لا يكون عنه الهيبة

[الهيبة]

فإن قلت وما الهيبة قلنا هي مشاهدة جمال الله في القلب وأكثر الطبقة يرون الأنس والبسط من الجمال وليس كذلك‏

[البسط]

فإن قلت وما البسط قلنا هو عندنا من يسع الأشياء ولا يسعه شي‏ء وقيل هو حال الرجاء وقيل هو وارد توجبه إشارة إلى قبول ورحمة وأنس وهو نقيض القبض‏

[القبض‏]

فإن قلت وما القبض قلنا حال الخوف في الوقت ووارد يرد على القلب توجبه إشارة إلى عتاب وتأديب وقيل أخذ وارد الوقت وهاتان الحالتان قد توجدان لأهل المكان‏

[المكان‏]

فإن قلت وما المكان قلنا منزلة في البساط لا تكون إلا لأهل الكمال الذين تحققوا بالمقامات والأحوال وجازوها إلى المقام الذي فوق الجلال والجمال فلا صفة لهم ولا نعت قيل لأبي يزيد كيف أصبحت قال لا صباح لي ولا مساء إنما الصباح والمساء لمن تقيد بالصفة ولا صفة لي واختلف أصحابنا في هذا القول هل هو شطح أو ليس بشطح فإن المكان اقتضاه له‏

[الشطح‏]

فإن قلت وما الشطح قلنا عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى وهي نادرة أن توجد من المحققين أهل الشريعة

[الشريعة]

فإن قلت وما الشريعة قلنا عبارة عن الأمر بالتزام العبودية الذي لا يكون معها عين التحكم‏

[عين التحكم‏]

فإن قلت وما عين التحكم قلنا تحدي الولي بما يريده إظهارا لمرتبته لأمر يراه فيزعجه‏

[الانزعاج‏]

فإن قلت وما الانزعاج قلنا أثر الواعظ الذي في قلب المؤمن وفي أصحاب الأحوال التحرك للوجد والأنس‏

[الحال‏]

فإن قلت وما الحال قلنا هو ما يرد على القلب من غير تعمل ولا اجتلاب ومن شرطه أن يزول ويعقبه المثل بعد المثل إلى أن يصفو وقد لا يعقبه المثل ومن هنا نشأ الخلاف بين الطائفة في دوام الأحوال فمن رأى تعاقب الأمثال ولم يعلم أنها أمثال قال بدوامه واشتقه من الحلول ومن لم يعقبه مثل قال بعدم دوامه واشتقه من حال يحول إذا زال وأنشدوا في ذلك‏

لو لم تحل ما سميت حالا *** وكل ما حال فقد زالا

وقد قيل الحال تغير الأوصاف على العبد فإذا استحكم وثبت فهو المقام‏

[المقام‏]

فإن قلت وما المقام قلنا عبارة عن استيفاء حقوق المراسم على التمام وغاية صاحبه أن لا مقام وهو الأدب‏

[الأدب‏]

فإن قلت وما الأدب قلنا وقتا يريدون به أدب الشريعة ووقتا أدب الخدمة ووقتا أدب الحق فأدب الشريعة الوقوف عند مراسمها وهي حدود الله وأدب الخدمة الفناء عن رؤيتها مع المبالغة فيها برؤية مجريها وأدب الحق أن تعرف ما لك وما له والأديب من كان بحكم الوقت أو من عرف وقته‏

[الوقت‏]

فإن قلت وما الوقت قلنا ما أنت به من غير نظر إلى ماض ولا إلى مستقبل هكذا حكم أهل الطريق‏

[الطريق‏]

فإن قلت وما الطريق عندهم قلنا عبارة عن مراسم الحق المشروعة التي لا رخصة فيها من عزائم ورخص في أماكنها فإن الرخص في‏

أماكنها لا يأتيها إلا ذو عزيمة فإن كثيرا من أهل الطريق لا يقول بالرخص وهو غلط فإنه يفوته محبة الله في إتيانها فلا يكون له ذوق فيها فهو كمثل الذي يقضي ولا يتنفل دائما وهو غاية الخطاء بل المشروع أن يتطوع فإن نقصت فرائضه كملت له من تطوعه وهو النوافل وإن لم ينتقص منها شيئا كانت له نوافل كما نواها ويحصل له ذوق محبة الله إياه من أجلها فقد أبطل شرع الله من لم تكن هذه حاله فإنه إن كانت فريضته تامة لم يجز قضاؤها فقد شرع ما لم يشرع له ولم يأذن به الله وأن الله ما يكتبها له نافلة فإنه ما نواها وقد أساء الأدب مع الله حيث سماها الله تطوعا وقال هذا قضاء فلا يحصل له ثمرة النوافل لأنها غير منوبة ولا ورد في ذلك شرع أنه يكتب له ما نواه قضاء نافلة هذا هو الطريق الذي يكون فيه سفر القوم‏

[السفر]

فإن قلت وما السفر قلنا القلب إذا أخذ في التوجه إلى الحق تعالى بالذكر بحق أو بنفس كيف كان يسمى مسافرا

[المسافر]

فإن قلت وما المسافر قلنا هو الذي سافر بفكره في المعقولات وهو الاعتبار في الشرع فعبر من العدوة الدنيا إلى العدوة القصوى وهو العامل السالك‏

[السالك‏]

فإن قلت وما السالك قلنا هو الذي مشى على المقامات بحاله لا بعلمه وهو العمل فكان له عينا قال ذو النون لقيت فاطمة النيسابورية فما ذكرت لها مقاما إلا كان ذلك المقام لها حالا وقد يحصل هذا للمراد والمريد

[المراد والمريد]

فإن قلت وما المراد وما المريد قلنا المراد عبارة عن المجذوب عن إرادته مع تهيؤ الأمر له فجاوز الرسوم كلها والمقامات من غير مكابدة وأما المريد فهو المتجرد عن إرادته وقال أبو حامد هو الذي صح له الأسماء ودخل في جملة المنقطعين إلى الله بالاسم وأما المريد عندنا فنطلقه على شخصين لحالين الواحد من سلك الطريق بمكابدة ومشاق ولم تصرفه تلك المشاق عن طريقه والآخر من تنفذ إرادته في الأشياء وهذا هو المتحقق بالإرادة لا المراد

[الإرادة]

فإن قلت وما الإرادة قلنا لوعة في القلب يطلقونها ويريدون بها إرادة التمني وهي منه وإرادة الطبع ومتعلقها الخط النفسي وإرادة الحق ومتعلقها الإخلاص وذلك بحسب الهاجس‏

[الهاجس‏]

فإن قلت وما الهاجس قلنا الخاطر الأول وهو الخاطر الرباني الذي لا يخطئ أبدا ويسمونه السبب الأول ونقر الخاطر

[ارتباط المقامات والمراتب بضرب من التناسب‏]

فهذا قد بينا لك ارتباط المقامات والمراتب بضرب من التناسب وتعلق بعضها ببعض وقليل من سلك في إيضاحها هذا المسلك وهذا مساق المسلسل في لغات العرب وهي طريقة غريبة أشار إليها إبراهيم بن أدهم وغيره رضي الله عنهم وبأن منها شرح ألفاظ اصطلاح القوم فحصل من ذلك منها فائدتان الواحدة معرفة ما اصطلحوا عليه والثاني المناسبات التي بينهما والله الموفق‏

(السؤال الرابع والخمسون ومائة) ما تأويل أم الكتاب فإنه ادخرها من جميع الرسل له ولهذه الأمة

الجواب الأم هي الجامعة ومنه أم القرى والرأس أم الجسد يقال أم رأسه لأنه مجموع القوي الحسية والمعنوية كلها التي للإنسان‏

[الفاتحة أم جميع الكتب المنزلة]

وكانت الفاتحة أما لجميع الكتب المنزلة وهي القرآن العظيم أي المجموع العظيم الحاوي لكل شي‏ء وكان محمد صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم فشرعه تضمن جميع الشرائع وكان نبيا وآدم لم يخلق فمنه تفرعت الشرائع لجميع الأنبياء عليهم السلام هم إرساله ونوابه في الأرض لغيبة جسمه ولو كان جسمه موجودا لما كان لأحد شرع معه وهو قوله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني‏

[شرع الإسلام أصل الشرائع ورسوله هو المقرر لها]

وقال تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا ونحن المسلمون وعلماؤنا الأنبياء ونحكم على أهل كل شريعة بشريعتهم فإنها شريعة نبينا إذ هو المقرر لها وشرعه أصلها وأرسل إلى الناس كافة ولم يكن ذلك لغيره والناس من آدم إلى آخر إنسان وكانت فيهم الشرائع فهي شرائع محمد صلى الله عليه وسلم بأيدي نوابه فإنه المبعوث إلى الناس كافة فجميع الرسل نوابه بلا شك فلما ظهر بنفسه لم يبق حكم إلا له ولا حاكم إلا رجع إليه واقتضت مرتبته أن تختص بأمر عند ظهور عينه في الدنيا لم يعطه أحد من نوابه ولا بد أن يكون ذلك الأمر من العظم بحيث أنه يتضمن جميع ما تفرق في نوابه وزيادة

[الصفات السبع النفسية واحتواؤها على جميع الأسماء الإلهية]

وأعطاه أم الكتاب فتضمنت جميع الصحف والكتب وظهر بها فينا مختصرة سبع آيات تحتوي على جميع الآيات كما كانت السبع الصفات الإلهية تتضمن جميع الأسماء الإلهية كلها ويرجع كل اسم إلهي إلى واحد منها بلا شك وقد فعل ذلك الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني في كتاب الجلي والخفي له فرد جميع الأسماء إليها وما وجد من الأسماء الإلهية لصفة الكلام إلا الاسم الشكور والشاكر خاصة وباقي الأسماء قسمها على الصفات فقبلتها حيث تتضمنها بلا شك فمنها ما ألحقه بالعلم ومنها بالقدرة

وسائر الصفات‏

[الحق الله بأم الكتاب جميع الكتب المنزلة على الأنبياء]

فكذلك أم الكتاب ألحق الله بها جميع الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء نواب محمد صلى الله عليه وسلم فادخرها له ولهذه الأمة ليتميز على الأنبياء بالتقدم وأنه الإمام الأكبر وأمته التي ظهر فيها خير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ لظهوره بصورته فيهم وكذلك القرن الذي ظهر فيهم خير القرون لظهوره فيه بنفسه وقبل ذلك وبعده بشرعه‏

[أولياء هذه الأمة لهم في كل أمر شرب وحظ]

فمن جمعية هذه الأمة أن جعل الله لأوليائها حظا في نعوت أهل البعد عن الله بطريق القربة فيقع الاشتراك في اللفظ والمعنى ويتغير المصرف كما قلنا في الحرص إنه مذموم فإذا حرصنا في طلب العلم والتقرب به إلى الله كان محمودا وهو بإطلاق اللفظ مذموم فإنه ما يستعمل مطلقا إلا في مذموم فإذا أريد به الحمد قيد فقيل حريص على الخير وهكذا الحسد يتعوذ منه مطلقا من غير تقييد فإنه بالإطلاق للذم ويستعمل في المحمود بالتقييد فلهذا جمع الله لأولياء هذه الأمة النظر في مثل هذا فحصلوا حظوظهم من أسماء الذم في الإطلاق حتى لا يفوتهم شي‏ء إذ كانوا الجامعين للمقامات كلها فلهم في كل أمر شرب وحظ

إذا جاء نعت أي نعت فرضته *** لنا فيه حظ وافر ثم مشرب‏

سواء يكون النعت في ذم حالة *** وفي حمدها فالكل للقوم مطلب‏

أ لست ترى أوصافه في نعوتنا *** وأوصافنا نعت له لا يكذب‏

له فرح في حالة وتبشش *** إلى ملل قد جاءنا وتعجب‏

وهزء نسيانه له وتردد *** ومكر وكيد كل ذاك مرتب‏

كما كان للعبد الجلال ومجده *** وعز وتعظيم لديه مرغب‏

وهذا من أوصاف الإله فدبروا *** كلامي الذي قد قلت فيه وطنبوا

كذلك نعتي الأولياء مدحتهم *** بما ذم عرفا في الأنام فنقبوا

فمن أنكر العلم الذي قد شرحته *** فليس هو الشخص العليم المقرب‏

[الأولياء الحاسدون‏]

فمنهم الحاسدون قال عليه السلام لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله علما فهو يبثه في الناس ورجل آتاه الله ما لا فهو ينفقه في سبيل البر فقام أهل النفوس الآبية التي تأبى الرذائل وتحب الفضائل وجماع الخير فقالوا لا ينبغي الحسد إلا في معالي الأمور وأعلى الأمور ما تعرف إلا بأربابها ورب الأرباب وذو الصفات العلى والأسماء الحسنى هو الله فيقال نتشبه به في التخلق بأسمائه ففعلوا وبالغوا واجتهدوا إلى أن صاروا يقولون للشي‏ء كن فيكون وذلك أقصى المراتب التي تمدح الله بها فلو لا الحسد ما تعمل القوم في تحصيل هذا المقام‏

[الأولياء الساحرون‏]

ومنهم الساحرون السحر بالإطلاق صفة مذمومة وحظ الأولياء منها ما أطلعهم الله عليه من علم الحروف وهو علم الأولياء فيتعلمون ما أودع الله في الحروف والأسماء من الخواص العجيبة التي تنفعل عنها الأشياء لهم في عالم الحقيقة والخيال فهو وإن كان مذموما بالإطلاق فهو محمود بالتقييد وهو من باب الكرامات وخرق العوائد ولكن لا يسمون سحرة مع أنه يشاهد منهم خرق العوائد فسمى ذلك في حقهم كرامة وهو عين السحر عند العلماء فقد كان سحرة موسى ما زال عنهم علم السحر مع كونهم آمنوا بِرَبِّ هارُونَ ومُوسى‏ ودخلوا في دين الله وآثروا الآخرة على الدنيا ورضوا بعذاب الله على يد فرعون مع كونهم يعلمون السحر ويسمى عندنا علم السيمياء مشتق من السمة وهي العلامة أي علم العلامات التي نصبت على ما تعطيه من الانفعالات من جمع حروف وتركيب أسماء وكلمات‏

[من أسرار بسملة الفاتحة]

فمن الناس من يعطي ذلك كله في بسم الله وحده فيقوم له ذلك مقام جميع الأسماء كلها وتنزل من هذا العبد منزلة كن وهي آية من فاتحة الكتاب ومن هناك تفعل لا من بسملة سائر السور وما عند أكثر الناس من ذلك خبر والبسملة التي تنفعل عنها الكائنات على الإطلاق هي بسملة الفاتحة وأما بسملة سائر السور فهي لأمور خاصة وقد لقينا فاطمة بنت مثنى وكانت من أكابر الصالحين تتصرف في العالم ويظهر عنها من خرق العوائد بفاتحة الكتاب خاصة كل شي‏ء رأيت ذلك منها وكانت تتخيل أن تلك يعرفه كل أحد وكانت تقول لي العجب ممن يعتاص عليه شي‏ء وعنده فاتحة الكتاب لأي شي‏ء لا يقرءوها فيكون له ما يريد ما هذا إلا حرمان بين وخدمتها وانتفعت‏

بها

[الأولياء الكافرون‏]

ومنهم الكافرون وهم الساترون مقامهم مثل الملامية والكفار الزراعون لأنهم يسترون البذر في الأرض وذلك أن أهل الأنس والجمال والرحمة إذا نظروا في القرآن وفي الأشياء كلها لم تقع عينهم إلا على حسن وجمال لا على غير ذلك كان ذلك ما كان وإذا قرءوا القرآن لم يقم لهم من صور الممقوتين إلا ما تتضمنه من مصارف الحسن فعلى ذلك تقع أعينهم وذلك يشهدهم الحق من تلك الآية التي وصف الله بها من مقته من عباده لقيام تلك الصفة به على حد مطلقها فيأخذون من كل صفة ما يليق بهم في طريقهم فيصرفون ذلك إليهم بالوجه الأحسن فيتنعمون بما هو عذاب عند غيرهم والصورة واحدة والمتصور مختلف منها لاختلاف الناظرين فلكل منظر عين تخصه فالكافر من ختم الله عَلى‏ سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً والكافر من الأولياء من كان ختم الحق على قلبه لأنه اتخذه بيته‏

فقال ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي‏

والله غيور فلا يريد أن يزاحمه أحد من خلقه فيه كما ختم الحرم فلم يحل لأحد قتل صيده ولا قطع شجره فإن الله لا ينظر إلا إلى قلب العبد فلما ختم الله على قلب هذا العبد لم يدخل في قلبه سوى ربه وختم على سمعه فلا يصغي إلى كلام أحد إلا إلى كلام ربه ف هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وعَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً وهي غطاء العناية فلا ينظرون إلى شي‏ء إلا ولهم فيه آية تدل على الله فكان هذا الحفظ غشاوة تحول بين أعينهم وبين النظر من غير دلالة ولا اعتبار وحالت بينهم وبين ما لا ينبغي أن ينظر إليه فهي غشاوة محمودة ولَهُمْ عَذابٌ من العذوبة عَظِيمٌ يعني عظيم القدر فإن العذاب إنما سماه الله بهذا الاسم إيثارا للمؤمن فإنه يستعذب ما يقوم بأعداء الله من الآلام فهو عذاب بالنظر إلى هؤلاء ومنهم الصم البكم العمي الذين لا يَعْقِلُونَ ولا يَرْجِعُونَ فهم صُمٌّ عن سماع ما لا يحل سماعه وعن سماع كل كلام غير كلام سيدهم بُكْمٌ أي خرس فلا يتكلمون بما لا يرضى سيدهم كما كان أولئك بكم عن الكلام بذكر الله فاختلف المصرف وصح الوصف عُمْيٌ فلا تقع عينهم على غير الله فاعلا في الأشياء وكل واحد من الأولياء على قدر مقامه في ذلك من المعرفة بالله فإنهم تختلف مأخذهم في المحمود من ذلك ولا يتسع الوقت لتفصيل ذلك وحصلت الفائدة بالتنبيه على اليسير من ذلك فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إلا إلى الله ولا يَعْقِلُونَ إلا عن الله لا يرجعون إلى المصارف المذمومة من هذه الصفات حيث وصف بها الأشقياء من عباده فهم لا يعقلون من هذه الصفات سوى ما يحمد منها في صرفه فهي كل صفة بحقيقتها في كل موصوف بها واختلفوا في المصرف فلم يكن اتصافهم بها مجازا بل هو حقيقة

[الأولياء الظالمون‏]

ومنهم الظالمون قال تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا من عِبادِنا والمصطفى هو الولي ثم قال في المصطفين فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو أن يمنعها حقها من أجلها أي الحق الذي لك يا نفسي علي في الدنيا يؤخره لك إلى الآخرة وبادر هنا إلى الكد والاجتهاد وخذ بالعزائم واجتنب الميل إلى الرخص وهذا كله حق لها فهو ظالم لنفسه نفسه من أجل نفسه ولهذا قال فيمن اصطفاه فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي من أجل نفسه ليسعدها فما ظلمها إلا لها

[الأولياء الذين هم عن صلاتهم ساهون بصلاة الله بهم‏]

ومنهم الساهون وهم الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ بصلاة الله بهم فهم يرون أن نواصيهم بيد الله يقيمهم فيها ويركع بهم ويسجد بهم ويقرأ بهم ويكبر بهم ويسلم بهم لأنه سمعهم وبصرهم ولسانهم ويدهم ورجلهم كما ورد في الخبر ومن كان هذا مشهده وحاله فهو عن صلاته ساه فإنه لم يقل عن الصلاة فإنه ليس بساه عن الصلاة وإنما سهوهم عن إضافة الصلاة إليهم فلهذا اعتبروا قوله عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ والويل الذي لهم إنما هو بالنظر لمن جمع في نظره بين صلاته وصلاة الله به فإنه الأكمل فإذا قست بين الرجلين في هذين المقامين الكبيرين نقص أحدهما ما كان خيرا في حق الآخر الجامع لهما فيكون ذلك النقص ويلا له بالإضافة

حسنات الأبرار سيئات المقربين‏

وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها

[الأولياء المراؤون‏]

ومنهم المراؤون الذين يُراؤُنَ النَّاسَ وهم الذين يفعلون الفعل ليقتدي بهم فيه علماء هذه الأمة يعلمون الناس بالفعل يقصدون تعليمهم إذ كان الفعل أتم عند الرأي من القول كما

قال عليه السلام صلوا كما رأيتمونى أصلي‏

مع كونه وصف الصلاة لهم ومع هذا كله صلى على المنبر ليراه الناس فيقتدوا به وهكذا في كل ما يمكن من الأعمال هذا حظ الأولياء من الرياء في الأفعال المقربة إلى الله‏

[الأولياء المانعون الماعون‏]

ومنهم المانعون الماعون وحظهم من هؤلاء أن يحجبوا الناس عن رؤية الأسباب ليصرفوا نظرهم إلى مسببها فلا معين إلا الله قيل لهم قولوا وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لا بالماعون ومنهم الهمازون اللمازون وهم العيابون وأولياء الله يطلعون كل شخص على عيوب‏

النفس إذ كان لا يشعر كل أحد بذلك فإذا أخذ العارف يصف عيوب النفوس في حق كل طائفة من أصحاب المراتب كالسلطان وما يتعلق بمرتبته من العيوب والقاضي وجميع الولاة وعيوب نفوس الزهاد والصالحين والعوام فيعرف كل طائفة عيبها بعد ما كان مستورا عنها هذا حظهم من الهمز واللمز

[الأولياء الفاسقون الناقضون القاطعون المفسدون‏]

ومنهم الفاسقون الناقضون القاطعون المفسدون الفاسقون الخارجون عن الصفات التي تحول بينهم وبين السعادة والقربة إلى الله فهم يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله من بَعْدِ مِيثاقِهِ وذلك أنهم يعهدون مع الله أن يطيعوه فإذا حصلوا في مقام التقريب والكشف رأوا أن الله هو العامل بهم والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ فرأوا أنهم لا حول لهم ولا فعل ولا قول فنقضوا عهد الله برده إليه سبحانه لأنه ما انعقد ذلك إلا مع فاعل يفعله ورأوا مشاهدة أن الله هو الفاعل لذلك فلم يقع العهد في نفس الأمر إلا من الله بين الله وبين نفسه فعلموا أن الحجاب أعماهم عن هذا الإدراك في حين أخذ العهد وأن العهد إنما يلزم لأهل الحجاب فانتقض عهدهم والأعمال تجري منهم بالله وهم لا يرونها فهم المعصومون في أعمالهم عن إضافتها إليهم وكذلك في قطعهم ما أمرهم الله أن يصلوه من أرحامهم فقال عليه السلام الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله فوصلوها بالرحمن وردوا القطعة إلى موضعها فشاهدوا الرحمن يمتن عليهم وخرج هؤلاء من الوسط وامتثلوا قول الشارع بصلة الرحم فأخذها الناس على صلة القرابة بالمال ويأخذ هؤلاء على صلة القربى إلى الله فهم يدلون أرحامهم على أصلهم وهو الرحمن ويرون في إعطائهم الصلات يد الله معطية ويد الله آخذة فإنها شجنة من الرحمن فالعطاء منه والأخذ منه فانقطع هؤلاء عن صلة الرحم بالمال لأنهم لا يد لهم مع غاية الإحسان في الشاهد والناس لا يشعرون وكذلك قوله ويُفْسِدُونَ في الْأَرْضِ وفساد دنياهم هو فسادهم في الأرض لأن الجنة في السماء وفي هذا الفساد صلاح آخرتهم في السماء فيصومون ويسهرون ويحملون الأثقال الشاقة وهذا كله من فساد أرض أجسامهم لما طرأ عليها من النحول والذبول والضعف وهذا كله وصف أهل الشقاء في الكتاب فقال فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ثم وصفهم الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله من بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ الله به أَنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الْأَرْضِ‏

[الأولياء الضالون‏]

ومنهم الضالون وهم التائهون الحائرون في جلال الله وعظمته كلما أرادوا أن يسكنوا فتح لهم من العلم به ما حيرهم وأقلقهم فلا يزالون حيارى لا ينضبط لهم منه ما يسكنون عنده بل عقولهم حائرة فهؤلاء هم الضالون الذين حيرهم التجلي في الصور المختلفة

[الأولياء المضلون‏]

ومنهم المضلون قال تعالى وما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وهو في الاعتبار الذين أظهروا لأتباعهم من المتعلمين طريق الحيرة في الله والعجز عن معرفته وأنه بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مع كونه خاطب عباده بالعمل وهو العامل بهم لا هم فلما نبهوا الناس على ما يقتضيه جلال الله من الإطلاق وعدم التقييد كانوا مضلين أي محيرين من أجل ما حيروا الخلق في جلال الله فقال تعالى ما جعلناهم محيرين عضدا يعتضد بهم في تحييرهم بل أنا محيرهم على الحقيقة لا هم مع كونهم لهم أجر ما قصدوه والدليل على أني محيرهم لا هم ولا اتخذتهم عضدا أن من الناس من يقبل منهم ومن الناس من لا يقبل ولو كان الأمر بأيديهم لأثروا في الكل القبول فلما كان الأمر بيدي لا بأيديهم جعلت القبول في البعض دون البعض فقبلوا الحيرة في فإنا كنت محيرهم لا هم فعلى هذا يعتبر قوله وما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً بل لناجرهم على ذلك‏

[الأولياء الكاذبون‏]

ومنهم الكاذبون وهم الذين يقولون صلينا وسمعنا وأطعنا وقيل لهم يَقُولُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا وغير ذلك مما يدعونه من أعمال البر المأمور بها شرعا وهم يعلمون أن الأمور بيد الله وأنه لو لا ما أجرى الله العمل على أيديهم ما ظهر ولو لا أن الله قال لهذا العمل كن في هذا المحل ما كان وهم مع ذلك يضيفونه إلى أنفسهم فهم كاذبون من هذا الوجه وهكذا يسرى في سائر الأعمال‏

[الأولياء المكذبون‏]

ومنهم المكذبون وهي الطائفة التي ترى هؤلاء المدعين في أعمالهم ممن يراها أنها أعمالنا وممن يراها أنها من الله ولكن يدعونها وهم كاذبون فتكذبهم هذه الطائفة في دعواهم وإضافتهم ذلك إليهم فيقال فيهم مكذبون والكامل من يضيف الأعمال على حد ما أضافها الحق ويزيلها عن الإضافة على حد ما أزالها الحق من علمه بالمواطن فمن نقص عن هذا النظر وكذب المدعين في كل حال فقد نقصه هذا الأدب مع كونه جليل القدر فهذا النقص يعبر عنه بالويل في حقه الذي في العموم للمكذبين فإنه يقول يوم القيامة إذا رأى ما فاته في تكذيبه من المواطن التي كان ينبغي له أن يقرر فيها إضافة العمل إليهم فلم يفعل يا ويلنا لم لم أحقق النظر في ذلك حتى‏

أفوز بعلم الأدب الذي هو جماع الخير فيدخل تحت عموم قوله فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي يقولون يا وَيْلَتى‏ ويا حَسْرَتى‏ وإن كانوا سعداء فإنه يَوْمُ التَّغابُنِ‏

[الأولياء الفجار]

ومنهم الفجار فإنهم في سجين من السجن وهم الذين حبسوا نفوسهم وسجنوها عن التصرف فيما منعوا من التصرف فيه ولا يقع التفجير إلا في محبوس عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ الله يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً فهم الفجار جاءوا عيون المعارف التي سدها الله في العموم لكون الفطر أكثرها لا تسعد بتفجيرها لما يؤدي إليه بالنظر الفاسد من الإباحة والقول بالحلول وغير ذلك مما يشقيهم فجاءت هذه الطائفة إلى المعنى ففجرت هذه العيون لأنفسها فشربت من مائها فزادت هدى إلى هداها وبيانا إلى بيانها فسعدت وطالت وعظمت سعادتها فهذا حظ الأولياء من الفجور الذي سموا به فجار أو على هذا الأسلوب نأخذ كل صفة مذمومة بالإطلاق فتقيدها فتكون محمودة ونضع عليك اسما منها كما يسمى صاحب إطلاقها فلتتبع الكتاب العزيز والسنة في ذلك واعمل بحسبها فإنه يعطيك النظر فيها من حيث ما وصف بها الأشقياء ما لا يعطيك من حيث ما وصف بنقيضها الأتقياء فاجعل بالك وهذا كله من بركة أم الكتاب فإنه مثل هذا النظر ما فتح لأمة من الأمم وعصمت فيه إلا لهذه الأمة وأعظم صفة في الذم الشرك‏

[الأولياء المشركون‏]

ومنهم المشركون بالله قال تعالى إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ به وكذا هو لأنه لو ستر لم يشرك به وهذا الاسم الله هو الذي وقع عليه الشرك فيما يتضمنه فشاركه الاسم الرحمن قال تعالى قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فجعل للاسم الله شريكا في المعنى وهو الاسم الرحمن فالمشركون هم الذين وقعوا على الشركة في الأسماء الإلهية لأنها اشتركت في الدلالة على الذات وتميزت بأعيانها بما تدل عليه من رحمة ومغفرة وانتقام وحياة وعلم وغير ذلك وإذ كان للشرك مثل هذا الوجه فقد قرب عليك مأخذ كل صفة يمكن أن تغفر فلا تجزع من أجل الشريك الذي شقي صاحبه فإن ذلك ليس بمشرك حقيقة وأنت هو المشرك على الحقيقة لأنه من شأن الشركة اتحاد العين المشترك فيه فيكون لكل واحد الحكم فيه على السواء وإلا فليس بشريك مطلق وهذا الشريك الذي أثبته الشقي لم يتوارد مع الله على أمر يقع فيه الاشتراك فليس بمشرك على الحقيقة بخلاف السعيد فإنه أشرك الاسم الرحمن بالاسم الله وبالأسماء كلها في الدلالة على الذات فهو أقوى في الشرك من هذا فإن الأول شريك دعوى كاذبة وهذا أثبت شريكا بدعوى صادقة فغفر لهذا المشرك بصدقه فيه ولم يغفر لذلك المشرك لكذبه في دعواه فهذا أولى باسم المشرك من الآخر

(السؤال الخامس والخمسون ومائة) ما معنى المغفرة التي لنبينا وقد بشر النبيين بالمغفرة

الجواب الغفر الستر فستر عن الأنبياء عليهم السلام في الدنيا كونهم نوابا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف لهم عن ذلك في الآخرة

إذ قال أنا سيد الناس يوم القيامة

فيشفع فيهم صلى الله عليه وسلم أن يشفعوا فإن شفاعته صلى الله عليه وسلم في كل مشفوع فيه بحسب ما يقتضيه حاله من وجوه الشفاعة

[المغفرة الخاصة والمغفرة العامة]

فبشر النبيين بالمغفرة الخاصة وبشر محمدا صلى الله عليه وسلم بالمغفرة العامة وقد ثبتت عصمته فليس له ذنب يغفر فلم يبق إضافة الذنب إليه إلا أن يكون هو المخاطب والقصد أمته كما قيل‏

إياك أعني فاسمعي يا جارة

وكما قيل له فَإِنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ من قَبْلِكَ ومعلوم أنه ليس في شك فالمقصود من هو في شك من الأمة وكذلك لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وقد علم أنه لا يشرك فالمقصود من أشرك فهذه صفته فكذلك قيل له لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ وهو معصوم من الذنوب فهو المخاطب بالمغفرة والمقصود من تقدم من آدم إلى زمانه وما تأخر من الأمة من زمانه إلى يوم القيامة فإن الكل أمته‏

[الناس جميعا أمة محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من آدم إلى المهدى القائم‏]

فإنه ما من أمة إلا وهي تحت شرع من الله وقد قررنا إن ذلك هو شرع محمد صلى الله عليه وسلم من اسمه الباطن حيث كان نبيا وآدم بين الماء والطين وهو سيد النبيين والمرسلين فإنه سيد الناس وهم من الناس وقد تقدم تقرير هذا كله فبشر الله محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ بعموم رسالته إلى الناس كافة وكذلك قال إنا أرسلناك إلى الناس كافة وما يلزم الناس رؤية شخصه فكما وجه في زمان ظهور جسمه رسوله عليا ومعاذا إلى اليمن لتبليغ الدعوة كذلك وجه الرسل والأنبياء إلى أممهم من حين كان نبيا وآدم بين الماء والطين فدعا الكل إلى الله‏



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!