The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

Brwose Headings Section I: on Knowledge (Maarif) Section II: on Interactions (Muamalat) Section IV: on Abodes (Manazil)
Introductions Section V: on Controversies (Munazalat) Section III: on States (Ahwal) Section VI: on Stations (Maqamat of the Pole)
Part One Part Two Part Three Part Four

الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية)

الباب:
فى الصوم

(وصل في فصل تقدم الزكاة قبل الحول)

فمن العلماء من منع من ذلك وبالمنع أقول ظاهرا لا باطنا ومنهم من جوز ذلك‏

(الاعتبار)

اعتبار التجويز وقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله وسارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ من رَبِّكُمْ وأُولئِكَ يُسارِعُونَ في الْخَيْراتِ وهُمْ لَها سابِقُونَ وقوله صلى الله عليه وسلم فيمن أتى بالشهادة قبل أن يسألها فعظم ما فيها من الأجر على أجر من أتى بالشهادة بعد أن طولب بأدائها

[اعتبار من منع تقديم الزكاة قبل الحول‏]

وأما اعتبار المنع فإن الحكم للوقت فلا ينبغي أن يفعل فيه ما لا يقتضيه وهنا دقائق من العلوم من علوم الأسماء الإلهية وهل يحكم اسم في وقت سلطنة اسم آخر مع بقاء حكم صاحب الوقت وهل يشتركان في الوقت الواحد فيكون الحكم لكل واحد من الأسماء حكم في وقته وهل حكم الوقت هو الحاكم على الاسم بأن جعله بحكم الاستعداد المحكوم فيه الذي أعطاه الوقت فما وقع حكم إلا في وقته إلى مثل هذا فأعلمه ويكفي هذا القدر من اعتبار باب الزكاة والحمد لله انتهى الجزء الخامس والخمسون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(الباب الحادي والسبعون في أسرار الصوم)

يا ضاحكا في صورة الباكي *** أنت بنا المشكو والشاكي‏

الصوم إمساك بلا رفعة *** ورفعة من غير إمساك‏

وقد يكونان معا عند من *** يثبت توحيدا بإشراك‏

صيدت عقول عن تصاريفها *** بلا حبالات وأشراك‏

صيدت عقول عن تصاريفها *** بصارم للشرع بتاك فسلمت ما رد برهانها

وآمنت من غير إدراك *** جرى بها نجم الهدى سابحا

ما بين أملاك بأفلاك *** لولاك يا نفسي لما كنته‏

كأنه لولاك لولاك *** صومي عن الكون ولا تفطري‏

بذا إله الخلق أولاك *** وانوى بذاك الصوم من حيث هو

فإنه بالطبع غذاك *** في الصوم معنى لو تدبرته‏

ما حل مخلوق بمغناك *** لا مثل للصوم كذا قال لي‏

شارعه فدبري ذاك *** لأنه ترك فأين الذي‏

عملته أو أين دعواك *** قد رجع الأمر إلى أصله‏

بذاك ربي قد تولاك *** والصوم إن فكرت في حكمه‏

وأصل معناه بمعناك *** ثم أتى من عنده مخبر

عن صومك المشروع عراك *** فالصوم لله فلا تجهلي‏

وأنت مجلاه فإياك *** الصوم لله وأنت التي‏

تموت جوعا فاعلمي ذاك *** أنثك الرحمن من أجل من‏

يظهر منك حين سواك *** سبحان من سواك أهلا له‏

ولم ينل ذلك إلاك *** فأنت كالأرض فراش له‏

وعينه المنعوت بالباكي *** وصنعة الله ترى عينها

بينكما فأين مجلاك *** لما دعوت الله من ذلة

به تعالى بك لباك‏

والقلم الأرفع في لوحه *** سطر عنه وصفك الزاكي‏

فأنت عين الكل لا عينه *** أدناك من وجه وأقصاك‏

إياك أن ترضى بما ترتضي *** من أجل ما يرضيك إياك‏

كوني على أصلك في كل ما *** يريد لا تنسى فينساك‏

هذا هو العلم الذي جاءني *** من قائل ليس بأفاك‏

أنزله عن أمر علامة *** ما بين زهاد ونساك‏

والحمد لله الذي خصني *** بعلم أضواء وأحلاك‏

وخصني بصورة لم يكن *** كمالها إلا بإيواك‏

[الصوم هو الإمساك والرفعة]

اعلم أيدك الله أن الصوم هو الإمساك والرفعة يقال صام النهار إذا ارتفع قال إمرؤ القيس‏

إذا صام النهار وهجرا

أي ارتفع ولما ارتفع الصوم عن سائر العبادات كلها في الدرجة سمي صوما ورفعه سبحانه بنفي المثلية عنه في العبادات كما سنذكره وسلبه عن عباده مع تعبدهم به وأضافه إليه سبحانه وجعل جزاء من اتصف به بيده من أنايته وألحقه بنفسه في نفي المثلية

[الصوم في الحقيقة هو ترك لا عمل‏]

وهو في الحقيقة ترك لا عمل ونفي المثلية نعت سلبي فتقوت المناسبة بينه وبين الله قال تعالى في حق نفسه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فنفى أن يكون له مثل فهو سبحانه لا مثل له بالدلالة العقلية والشرعية وخرج النسائي عن أبي أمامة قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت مرني بأمر آخذه عنك قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له‏

فنفى أن يماثله عبادة من العبادات التي شرع لعباده‏

[الصوم على الحقيقة لا عبادة ولا عمل‏]

ومن عرف أنه وصف سلبي إذ هو ترك المفطرات علم قطعا أنه لا مثل له إذ لا عين له تتصف بالوجود الذي يعقل ولهذا

قال الله تعالى الصوم لي‏

فهو على الحقيقة لا عبادة ولا عمل واسم العمل إذا أطلق عليه فيه تجوز كإطلاق لفظة الموجود على الحق المعقول عندنا تجوزا إذ من كان وجوده عين ذاته لا تشبه نسبة الوجود إليه نسبة الوجود إلينا فإنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ

(إيراد حديث نبوي إلهي)

خرج مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم إني صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه عز وجل فرح بصومه‏

[فرح الصائم هو لحوقه بدرجة نفى المماثلة]

واعلم أنه لما نفى المثلية عن الصوم كما ثبت فيما تقدم من حديث النسائي والحق لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ لقي الصائم ربه عز وجل يوصف ليس كمثله شي‏ء فرآه به فكان هو الرائي المرئي فلهذا قال صلى الله عليه وسلم فرح بصومه ولم يقل فرح بلقاء ربه فإن الفرح لا يفرح بنفسه بل يفرح به ومن كان الحق بصره عند رؤيته ومشاهدته فما رأى نفسه إلا برؤيته ففرح الصائم لحوقه بدرجة نفي المماثلة وكان فرحه بالفطر في الدنيا من حيث إيصال حق النفس الحيوانية التي تطلب الغذاء لذاتها فلما رأى العارف افتقار نفسه الحيوانية النباتية إليه ورأى جوده بما أوصل إليها من الغذاء أداء لحقها الذي أوجبه الله عليه قام في هذا المقام بصفة حق فأعطى بيد الله كما يرى الحق عند لقائه بعين الله فلهذا فرح بفطره كما فرح بصومه عند لقاء ربه‏

(بيان ما يتضمنه هذا الخبر)

ولما كان العبد موصوفا بأنه ذو صوم واستحق اسم الصائم بهذه الصفة ثم بعد إثبات الصوم له سلبه الحق عنه وأضافه إلى نفسه فقال إلا الصيام فإنه لي أي صفة الصمدانية وهي التنزيه عن الغذاء ليس إلا لي وإن وصفتك به فإنما وصفتك باعتبار تقييد ما من تقييد التنزيه لا بإطلاق التنزيه الذي ينبغي لجلالى فقلت وأنا أجزي به فكان الحق جزاء الصوم للصائم إذا انقلب إلى ربه ولقيه بوصف لا مثل له وهو الصوم إذ كان لا يرى من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ إلا من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ كذا نص عليه أبو طالب المكي من سادات أهل الذوق من وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ما أوجب هذه الآية في هذه الحالة

[الفرق بين نفى المثلية عن الله وعن الصوم‏]

ثم‏

قوله والصيام جنة

وهي الوقاية مثل قوله واتَّقُوا الله أي اتخذوه وقاية وكونوا له أيضا

وقاية فأقام الصوم مقامه في الوقاية وهو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ والصوم من العبادات لا مثل له ولا يقال في الصوم ليس كمثله شي‏ء فإن الشي‏ء أمر ثبوتي أو وجودي والصوم ترك فهو معقول عدمي ووصف سلبي فهو لا مثل له لا أنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فهذا الفرق بين نعت الحق في نفي المثلية وبين وصف الصوم بها

[نهى الصائم عن الرفث والصخب والمقاتلة]

ثم إن الشارع نهى الصائم والنهي ترك ونعت سلبي فقال لا يرفث ولا يسخب فما أمره بعمل بل نهاه أن يتصف بعمل ما والصوم ترك فصحت المناسبة بين الصوم وبين ما نهي عنه الصائم ثم أمر أن يقول لمن سابه أو قاتله إني صائم أي تارك لهذا العمل الذي عملته أنت أيها المقاتل والساب في جانبي فنزه نفسه عن أمر ربه عن هذا العمل فهو مخبر أنه تارك أي ليس عنده صفة سب ولا قتال لمن سابه وقاتله‏

[خلوف فم الصائم عند الله‏]

ثم قال والذي نفس محمد بيده يقسم صلى الله عليه وسلم لخلوف فم الصائم وهو تغير رائحة فم الصائم التي لا توجد إلا مع التنفس وقد تنفس بهذا الكلام الطيب الذي أمر به وهو قوله إني صائم فهذه الكلمة وكل نفس الصائم أطيب يوم القيامة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ عند الله فجاء بالاسم الجامع المنعوت بالأسماء كلها فجاء باسم لا مثل له إذ لم يتسم أحد بهذا الاسم إلا الله سبحانه فناسب كون الصوم لا مثل له وقوله من ريح المسك فإن ريح المسك أمر وجودي يدركه الشام ويلتذ به السليم المزاج المعتدل فجعل الخلوف عند الله أطيب منه لأن نسبة إدراك الروائح إلى الله لا تشبه إدراك الروائح بالمشام فهو خلوف عندنا وعنده تعالى هذا الخلوف فوق طيب المسك في الرائحة فإنه روح موصوف لا مثل لما وصف به فلا تشبه الرائحة فإن رائحة الصائم عن تنفس ورائحة المسك لا عن تنفس من المسك‏

[ابن عربى عند موسى بن محمد القباب بحرم مكة]

ولنا واقعة في مثل هذا كنت عند موسى بن محمد القباب بالمنارة بحرم مكة بباب الحزورة وكان يؤذن بها وكان له طعام يتأذى برائحته كل من شمه وسمعت في الخبر النبوي أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ونهي أن تقرب المساجد برائحة الثوم والبصل والكراث فبت وأنا عازم أن أقول لذلك الرجل أن يزيل ذلك الطعام من المسجد لأجل الملائكة فرأيت الحق تعالى في النوم فقال لي عز وجل لا تقل له عن الطعام فإن رائحته عندنا ما هي مثل ما هي عندكم فلما أصبح جاء على عادته إلينا فأخبرته بما جرى فبكى وسجد لله شكرا ثم قال لي يا سيدي ومع هذا فالأدب مع الشرع أولى فازاله من المسجد رحمه الله‏

[الروائح الخبيثة تنفر عنها الأمزجة السليمة]

ولما كانت الروائح الكريهة الخبيثة تنفر عنها الأمزجة الطبيعية السليمة من إنسان وملك لما يحسونه من التأذي لعدم المناسبة فإن وجه الحق في الروائح الخبيثة لا يدركه إلا الله خاصة ومن فيه مزاج القبول له من الحيوان أو الإنسان الذي له مزاج ذلك الحيوان لا ملك ولهذا قال عند الله فإن الصائم أيضا من كونه إنسانا سليم المزاج يكره خلوف الصوم من نفسه ومن غيره وهل يتحقق أحد من المخلوقين السالمين المزاج بربه وقتا ما أو في مشهد ما فيدرك الروائح الخبيثة طيبة على الإطلاق ما سمعنا بهذا وقولي على الإطلاق من أجل أن بعض الأمزجة يتأذى بريح المسك والورد ولا سيما المحرور المزاج وما يتأذى منه فليس بطيب عند صاحب ذلك المزاج فلهذا قلنا على الإطلاق إذا الغالب على الأمزجة طيب المسك والورد وأمثاله والمتأذي من هذه الروائح الطيبة مزاج غريب أي غير معتاد ولا أدري هل أعطى الله أحدا إدراك تساوى الروائح بحيث أن لا يكون عنده خبث رائحة أم لا هذا ما ذقناه من أنفسنا ولا نقل إلينا إن أحدا أدرك ذلك بل المنقول عن الكمل من الناس وعن الملائكة التأذي بهذه الروائح الخبيثة وما انفرد بإدراك ذلك طيبا إلا الحق هذا هو المنقول ولا أدري أيضا شأن الحيوان من غير الإنسان في ذلك ما هو لأني ما أقامني الحق في صورة حيوان غير إنسان كما أقامني في أوقات في صور ملائكته والله أعلم‏

[باب الريان في الجنة الذي منه يدخل الصائمون‏]

ثم إن الشرع قد نعت الصوم من طريق المعنى بالكمال الذي لا كمال فوقه حين أفرد له الحق بابا خاصا وسماه باسم خاص يطلب الكمال يقال له باب الريان منه يدخل الصائمون والري درجة الكمال في الشرب فإنه لا يقبل بعد الري الشارب شربا أصلا ومهما قبل فما ارتوى أرضا كان أو غير أرض من أرضين الحيوانات خرج مسلم من حديث سهل بن سعد

قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل معهم أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيدخلون منه فإذا دخل آخرهم أغلق فلا يدخل منه أحد

ولم يقل ذلك في شي‏ء من منهي العبادات ولا مأمورها إلا في الصوم فبين بالريان أنهم حازوا صفة كمال في العمل إذ قد اتصفوا بما لا مثل له كما تقدم‏

وما لا يماثل هو الكامل على الحقيقة والصائمون من العارفين هنا دخلوه وهناك يدخلون منه على علم من الخلائق أجمعين‏

[مباحث الصوم ومسائله إجمالا]

فلنذكر إن شاء الله في هذا الباب أحكام الصوم المشروع وتوابعه ولواحقه وأنواعه وواجبة ومندوبة كما ذكرنا فيما تقدم من أخواته من زكاة وصلاة في العموم والخصوص على طبقاتهم في ذلك وله عندنا مراتب أولها الصوم العام المعروف الذي تعبدنا الله به وهو الصوم الظاهر في الشاهد على تمام شروطه فإذا فرغنا من الكلام على أحكام المسألة التي نوردها في ذلك انتقلنا إلى الكلام بلسان الخواص وخلاصتهم على صوم النفس بما هي آمرة للجوارح وهو إمساكها عما حجر عليها في مسألة مسألة وارتفاعها عن ذلك وعلى صوم القلب الموصوف بالسعة للنزول الإلهي حيث‏

قال تعالى وسعني قلب عبدي‏

فنتكلم على صومه وهو إمساكه هذه السعة أن يعمرها أحد غير خالقه فإن عمرها أحد غير خالقه فقد أفطر في الزمان الذي يجب أن يكون فيه صائما إيثارا لربه مسألة مسألة والكلام على جملة المفطرات في نوع كل صوم على الاختصار والتقريب فإنه باب يطول وسأورد في هذا الباب من الأخبار النبوية ما تقف عليه إن شاء الله تعالى‏

(وصل في فصل تقسيم الصوم)

[أنواع الصوم الواجب‏]

اعلم أن الصوم المشروع منه واجب ومنه مندوب إليه والواجب على ثلاثة أنواع منه ما يجب بإيجاب الله تعالى إياه ابتداء وهو صوم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أي في صيامه أو عدة من أيام أخر في حق المسافر أفطر أو لم يفطر عندنا وعند غيرنا إن أفطر وفي حق المريض ومنه ما يجب لسبب موجب وهو صيام الكفارات ومنه ما يجب من الله بما أوجبه الإنسان على نفسه وهو غير مكروه وهو صوم النذر فإنه يستخرج به من البخيل وما ثم واجب غير ما ذكرنا

[أنواع الصوم المندوب‏]

وأما المندوب فمنه ما يتقيد بالزمان المرغب فيه كصوم الأيام البيض والاثنين والخميس وأشباه ذلك من الأيام والشهور ومنه ما يتقيد بالحال كصيام يوم وفطر يوم وهو أعدل الصوم وكالصيام في سبيل الله ومنه ما لا يتقيد بزمان وهو أن يصوم الإنسان متى شاء متطوعا بذلك‏

(وصل في فصل الصوم الواجب الذي هو شهر رمضان لمن شهده)

فلنقدم في ذلك ذكر رمضان وبعد هذا نتكلم في أحكام صومه‏

خرج مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين‏

زاد النسائي في كتابه ونادى مناد في كل ليلة يا طالب الخير هلم ويا طالب الشر أمسك رواه النسائي عن عرفجة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم‏

[مجي‏ء رمضان وفتح أبواب الجنان‏]

لما كان مجي‏ء رمضان سببا في الشروع في الصوم فتح الله أبواب الجنة والجنة الستر فدخل الصوم في عمل مستور لا يعلمه منه إلا الله تعالى لأنه ترك وليس بعمل وجودي فيظهر للبصر أو يعمل بالجوارح فهو مستور عن كل ما سوى الله لا يعلمه من الصائم إلا الله تعالى والصائم الذي سماه الشرع صائما لا الجائع‏

[مجي‏ء رمضان وغلق أبواب النيران‏]

وغلق الله أبواب النار فإذا غلقت أبواب النار عاد نفسها عليها فتضاعف حرها عليها وأكل بعضها بعضا كذلك الصائم في حكم طبيعته إذا صام غلق أبواب نار طبيعته فوجد للصوم حرارة زائدة لعدم استعمال المرطبات ووجد ألم ذلك في باطنه وتضاعفت شهوته للطعام الذي يتوهم الراحة بتحصيله فتقوى نار شهوته بغلق باب تناول الأطعمة والأشربة

[مجي‏ء رمضان وتصفيد الشياطين‏]

وصفدت الشياطين وهي صفة البعد فكان الصائم قريبا من الله بالصفة الصمدانية فإنه في عبادة لا مثل لها فقرب بها من صفة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ومن كانت هذه صفته فقد صفدت الشياطين في حقه وقد ورد في الخبر أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فسدوا مجاريه بالجوع والعطش‏

أي هذه الأسباب معينة له على ما يريده من الإنسان من التصرف في الفضول وهو ما زاد على التصرف المشروع‏

[رمضان اسم من أسماء الله تعالى‏]

ثم اعلم علمك الله من لدنه علما وجعل لك في كل أمر حكمة وحكما إن رمضان اسم من أسماء الله تعالى وهو الصمد

ورد الخبر النبوي بذلك روى أحمد بن عدي الجرجاني من حديث نجيح أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى‏

وإن كان في هذا الإسناد أبو معشر فإن علماء هذا الشأن قالوا فيه إنه مع ضعفه يكتب حديثه فاعتبروه رضي الله عنهم ولذلك قال الله‏

تعالى شَهْرُ رَمَضانَ ولم يقل رمضان وقال فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ولم يقل رمضان فتقوى بهذا حديث أبي معشر مع قول العلماء فيه إنه يكتب حديثه مع ضعفه فزاد قوة في هذا الحديث بما أيده القرآن من ذلك فما فرض الله الصوم الذي لا مثل له ابتداء إلا في شهر سماه سبحانه باسم من أسمائه في مثل له في الشهور لأنه ليس في أسماء شهور السنة من له اسم تسمى الله به إلا رمضان فجاء باسم خاص اختص به معين وليس كذلك في إضافة رجب يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه إنه شهر الله المحرم فالكل شهور الله وما نعته هنا إلا بالمحرم وهو أحد الشهور الحرم‏

[رمضان فيه أنزل القرآن‏]

ثم إن الله تعالى أنزل القرآن في هذا الشهر في أفضل ليلة تسمى ليلة القدر فأنزله فيه هُدىً لِلنَّاسِ وبَيِّناتٍ من الْهُدى‏ والْفُرْقانِ من كونه رمضان وأما من كونه ليلة القدر فأنزله كتابا مبينا أي بينا أنه كتاب وبين كون الشي‏ء كتابا وقرآنا وفرقانا مراتب متميزة يعلمها العالمون بالله فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال رمضان لقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فلو قيل لكان مثلا في هذا الاسم فأضاف لفظ الشهر إليه حتى تنتفي عنه المثلية في الشهور خاصة ويبقى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ على رتبته من كل وجه‏

[رمضان فرض الله صيامه وندب إلى قيامه‏]

وقد فرض الله صومه وندب إلى قيامه وهو يتضمن صوما وفطرا لأنه يتضمن ليلا ونهارا واسم رمضان ينطلق عليه في حال الصوم والإفطار حتى يتميز من رمضان الذي هو اسم الله تعالى فإن الله تعالى له الصوم الذي لا يقبل الفطر ولنا الصوم الذي يقبل الفطر وينتهي إلى حد وهو إدبار النهار وإقبال الليل وغروب الشمس فكان إطلاقه على الحق لا يشبه إطلاقه على الخلق‏

[تجلى الله في رمضان ما هو مثل تجليه في غير رمضان‏]

وندب إلى القيام في ليلة لتجليه تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وإن كان التجلي لله في كل ليلة من السنة ولكن تجليه في رمضان في زمان فطر الصائمين ما هو مثل تجليه للمفطر من غير صوم لأن هذا وجود فطر عن ترك مشروع موصوف بأنه لا مثل له وذلك الآخر لا يسمى مفطرا بل يسمى آكلا إذا كان الفطر الشق فهذا الأكل للصائم شق أمعائه بالطعام والشراب بعد سدها بالصوم حيث قال سدوا مجاريه بالجوع والعطش وكان القيام بالليل لأن القيام نتيجة قوة في المحل وسبب قوي المحل الغذاء وكان بالليل لمناسبة الغيب فإن القوة عن الغذاء غيب غير محسوس إنتاج القوة عن الغذاء

[رمضان يشمل الصوم والفطر والقيام والرقدة]

ولما شمل رمضان الصوم والفطر والقيام وعدم القيام لذلك‏

ورد في الخبر لا يقولن أحدكم إني قمت رمضان كله وصمته‏

قال الراوي فلا أدري أ كره التزكية أو قال لا بد من نومة أو رقدة فجعل الاستثناء في قيام ليله لا في صوم نهاره خرج هذا الحديث أبو داود عن أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالفطر هنا هو الإدبار والإقبال والغروب سواء أكل أو لم يأكل‏

[حد اليوم المشروع للصوم‏]

فصوم شهر رمضان واجب على كل إنسان مسلم بالغ عاقل صحيح مقيم غير مسافر وهو عين هذا الزمان المعلوم المشهور المعين من الشهور الاثني عشر شهرا الذي بين شعبان وشوال والمعين من هذا الزمان صوم الأيام دون الليالي وحد يوم الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فهذا هو حد اليوم المشروع للصوم لا حد اليوم المعروف بالنهار فإن ذلك من طلوع الشمس إلى غروبها ولما اتصف من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ بالأول والآخر كذلك وصف الصوم الذي لا مثل له بأول وآخر فأوله الطلوع الفجري وآخره الغروب الشمسي فلم يجعل أوله يشبه آخره لأنه اعتبر في أوله ما لم يعتبر في آخريته مما هو موجود في آخريته موصوف فيه الصائم بالإفطار وفي أوليته موصوف فيه بالصوم ولا فرق بين الشفق في الغروب والطلوع من حين الغروب إلى حين مغيب الشفق أو من حين الانفجار إلى طلوع الشمس ولهذا عدل الشرع إلى لفظة الفجر لأن حكم انفجاره لوجود النهار حكم غروب الشمس لإقبال الليل وحصوله فكما علم بانفجار الصبح إقبال النهار وإن لم تطلع الشمس كذلك عرفنا بغروب الشمس إقبال الليل وإن لم يغرب الشفق فانظر ما أحكم وضع الشريعة في العالم فالجامع بين الأول والآخر في الصوم وجود العلامة على إقبال زمان الصوم وزمان الفطر وهو إدبار النهار كما إن بالفجر إدبار الليل فرمضان أعم من صيامه وسيأتي الكلام على الوصال في موضعه وهل صاحبه يسمى صائما أم لا

[تحديد الشهر العربي‏]

وبعد أن ذكرنا تحديد يوم الصوم سواء كان في شهر رمضان أو في غيره فلننظر في تحديد الشهر فأقل مسمى الشهر تسعة وعشرون يوما وأكثره ثلاثون يوما هذا هو الشهر العربي القمري خاصة الذي كلفنا إن نعرفه وشهود العادين بالعلامة أيضا لكن أصحاب العلامة يجعلون شهرا تسعة وعشرين وشهرا ثلاثين والشرع تعبدنا في ذلك برؤية الهلال وفي الغيم بأكبر المقدارين إلا في شعبان‏

إذا غم علينا هلال رمضان فإن فيه خلافا بين أن نمد شعبان إلى أكثر المقدارين وهو الذي ذهبت إليه الجماعة وأما أن نرده إلى أقل المقدارين وهو تسعة وعشرون وهو مذهب الحنابلة ومن تابعهم ومن خالف من غير هؤلاء لم يعتبر أهل السنة خلافه فإنهم شرعوا ما لم يأذن به الله والذي أقول به أن يسأل أهل التسيير عن منزلة القمر فإن كان على درج الرؤية وغم علينا عملنا عليه وإن كان على غير درج الرؤية كملنا العدة ثلاثين وأما الشهور التي لا تعد بالقمر فلها مقادير مخصوصة أقل مقاديرها ثمانية وعشرون وهو المسمى بالرومية فبراير وأكثرها مقدارا ستة وثلاثون يوما وهو المسمى بالقبطية مسرى وهو آخر شهور سنة القبط ولا حاجة لنا بشهور الأعاجم فيما تعبدنا به من الصوم‏

[حكمة مقدار الشهر العربي‏]

فأما انتهاء الثلاثين في ذلك فهو عدد المنازل والنازلين اللذين لا يخنسان وهما الشمس المشبهة بالروح التي ظهرت به حياة الجسم للحس والقمر المشبهة بالنفس لوجود الزيادة والنقص والكمال الزيادي والنقصي والمنازل مقدار المساحة التي يقطعها ما ذكرناه دائبا فإن بالشهر ظهرت بسائط الأعداد ومركباتها بحرف العطف من أحد وعشرين إلى تسعة وعشرين وبغير حرف العطف من أحد عشر إلى تسعة عشر وحصر وجود الفردية في البسائط وهي الثلاثة وفي العقد وهي الثلاثون ثم تكرار الفرد لكمال التثليث الذي عنه يكون الإنتاج في ثلاثة مواضع وهي الثلاثة في البسائط والثلاثة عشر في العدد الذي هو مركب بغير حرف عطف والثلاثة والعشرون بحرف العطف وانحصرت الأقسام ولما رأينا أن الروح يوجد فتكون الحياة ولا يكون هناك نقص ولا زيادة فلا يكون للنفس عين موجودة لها حكم كموت الجنين في بطن أمه فقد نفخ الروح فيه أو عند ولادته لذلك كان الشهر قد يوجد من تسعة وعشرين يوما فإذا علمت هذا فقد علمت حكمة مقدار الشهر العربي وإذا عددناه بغير سير الهلال ونوينا شهرا مطلقا في إيلاء أو نذر عملنا بالقدر الأقل في ذلك ولم نعمل بالأكثر فإنا قد حزنا بالأقل حد الشهر ففرغنا وإنما نعتبر القدر الأكثر في الموضع الذي شرع لنا أن نعتبره وذلك في الغيم على مذهب أو يعطي ذلك رؤية الهلال‏

لقوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته‏

(وصل في فصل إذا غم علينا في رؤية الهلال)

اختلف العلماء إذا غم الهلال فقال الأكثرون تكمل العدة ثلاثين فإن كان الذي غم هلال أول الشهر عد الشهر الذي قبله ثلاثين وكان أول رمضان الحادي والثلاثين وإن كان الذي غم هلال آخر الشهر أعني شهر رمضان صام الناس ثلاثين يوما ومن قائل إن كان المغمى هلال أول الشهر صام اليوم الثاني وهو يوم الشك ومن قائل في ذلك يرجع إلى الحساب بتسيير القمر والشمس وهو مذهب ابن الشخير وبه أقول‏

(وصل اعتبار هذا)

تقدم حديث سبب الخلاف‏

خرج مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيده فقال الشهر هكذا وهكذا ثم عقد إبهامه في الثالثة صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فاقدروا ثلاثين‏

وقد ورد أيضا من حديث ابن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإبهام والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين‏

فهذا الحديث الثاني رفع الإشكال وحديث اقدروا من حمله على التضيق ابتدأ بصوم رمضان من يوم الشك ومن حمله على التقدير حكم بالتسيير وبه أقول‏

[طلوع هلال المعرفة في أفق قلوب العارفين‏]

اعلم أنه لا ترفع الأصوات إلا بالرؤية وبه سمي هلالا فمتى ما طلع هلال المعرفة في أفق قلوب العارفين من الاسم الإلهي رمضان وجب الصوم ومتى طلع هلال المعرفة في أفق قلوب العارفين من الاسم الإلهي فاطر السموات والأرض وجب الفطر على الأرواح من قوله السموات وعلى الأجسام من قوله والأرض وطلع هنا أي ظهر فإنه غارب يتلو الشمس فإن غم على العارف ولم يره من أجل الحجاب الحائل من عالم البرزخ فإن الغيم برزخي بين السماء والأرض فيقدر العارف لهلال المعرفة في قلبه بحاله وذلك أن ينظر في هلال عقله بتسييره في منازل سلوكه حالا بعد حال ومقاما بعد مقام فإن كان مقامه يعطي الكشف وإن النداء قد جاءه من خلف حجاب كما جاء وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْياً أَوْ من وَراءِ حِجابٍ غير أن حجاب الطبيعة قام له في ذلك الوقت في أمر من أموره من شغل الخاطر بمال أو أهل وإن كان في الله فيعمل‏

بحساب ذلك ويعامل اسم الله رمضان بما يليق به وإن لم يشهده فإن الحال اقتضى له ذلك وإن لم يعطه الحال لصحة الحساب أخرجكم ذلك الاسم الإلهي إلى وقته‏

(وصل في فصل اعتبار وقت الرؤية)

اتفقوا على أنه إذا رؤي من العشاء على إن الشهر من اليوم الثاني واختلفوا إذا رؤي في سائر أوقات النهار أعني أول ما يرى فأكثر العلماء على إن القمر في أول وقت رؤي من النهار أنه لليوم المستقبل كحكمه في موضع الاتفاق ومن قائل إذا رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإن رؤي بعد الزوال فهو لليلة الآتية وبه أقول‏

(وصل في الاعتبار فيه)

حكم الاسم الإلهي في أي حال ظهر من الأحوال فالحكم له في الحال بالتجلي وفي الاستقبال بالأثر حتى يأتي حكم اسم آخر يزيل حكم الأول‏

[الاستواء وموقف السواء]

وأما من يعتبر الرؤية قبل الزوال وبعده فاعلم إن الاستواء هو المسمى في الطريق موقف السواء وهو الموقف الذي لا يتميز فيه سيد من عبد ولا عبد من سيد فإن قلت فيه في تلك الحالة سيد صدقت وإن قلت فيه عبد صدقت لأن لك شاهد حال في كل قول يشهد لك بصدق ما تقول فقل ما شئت فيه تصدق وهو مثل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ فكونه رمى حق وكونه لم يرم حق يقول تعالى كنت يده التي يبطش بها فإن قلت إن الرامي هو الله صدقت وإن قلت إن الرامي هو محمد صلى الله عليه وسلم صدقت هذا هو موقف السواء

[الموقف البكري والموقف العثماني‏]

فإن كنت في موقف أبي بكر الصديق ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله فتكون ممن رآه قبل الزوال فالحكم للماضي وأنت بالحال في أول الشهر وذلك اليوم هو أوله وإن كنت عثماني المشهد أو صاحب دليل فكر فتقول ما رأيت شيئا إلا رأيت الله بعده وهو الذي رآه بعد الزوال فحكمه في المستقبل ووقته في الاستواء وقت وجه الدليل له نسبة إلى الدليل ونسبة إلى المدلول ثم يظهر الزوال وهو رجوع الظل من خط الاستواء إلى الميل العيني فإنه راجع إلى العشي وهو طلب الليل‏

(وصل في فصل اختلافهم في حصول العلم بالرؤية بطريق البصر)

اختلف العلماء في ذلك فكلهم قالوا إن من أبصر هلال الصوم وحده أن عليه إن يصوم إلا ابن أبي رباح فإنه قال لا يصوم إلا برؤية غيره معه واختلفوا هل يفطر برؤيته وحده فمن قائل لا يفطر ومن قائل يفطر وبه أقول وكذلك يصوم لرؤيته وحده ولكن مع حصول العلم في الرؤيتين وأما حصول العلم بالرؤية من طريق الخبر فمن قائل لا يصام ولا يفطر إلا بشاهدين عدلين ومن قائل يصام بواحد ويفطر باثنين ومن قائل إن كانت السماء مغيمة أعني في موضع الهلال قبل واحد وإن كانت مصحية لم يقبل إلا الجم الغفير أو عدلان وكذلك في هلال الفطر فمن قائل اثنان ومن قائل واحد

(وصل في الاعتبار في ذلك)

فيما يراه أهل الله من التجلي في الأسماء الإلهية هل يقف مع رؤيته أو يتوقف حتى يقوم له شاهد من كتاب أو سنة قال الجنيد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة يريد أنه نتيجة عن العمل عليهما وهو الذي أردناه بالشاهد وهما الشاهدان العدلان وقال تعالى أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ من رَبِّهِ وهو صاحب الرؤية ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وهو ما ذكرناه من العمل على الخبر إما كتاب أو سنة وهو الشاهد الواحد

[الشاهدان الكتاب والسنة]

والشاهدان الكتاب والسنة وإنما احتجنا إلى العمل عليهما دون العثور على النقل الذي يشهد لصاحب هذا المقام لأن ذلك يتعذر إلا بخرق العادة وهو أن يعرف من هناك بأية الدليل أو الخبر وقد رأينا هذا الجماعة من أصحابنا يحتجون على مواجيدهم بالقرآن وما تقدم لهم به حفظ وبالسنة وقد روينا هذا عن أبي يزيد البسطامي ومتى لم يعط ذلك لم يحكم عليه بقبول ولا برد كأهل الكتاب إذا أخبرونا عن كتابهم بأمر لا نصدق ولا نكذب بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنتركه موقوفا

[علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة]

والذي أعرف من قول الجنيد لعلمي بالطريق أنه أراد أن يفرق بين ما يعطي لصاحب الخلوات والمجاهدة والرياضة على غير طريق الشرع بل بما تقتضيه النفوس من طريق العقل وبين ما يظهر للعاملين على الطريقة المشروعة بالخلوات والرياضات فيشهد له سلوكه على الطريقة المشروعة الإلهية بأن ذلك الظاهر له من عند الله على طريق الكرامة به فهذا معنى قول الجنيد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة وفي رواية مشيد أي هو نتيجة عن عمل مشروع إلهي ليفرق بينه‏

وبين ما يظهر لأرباب العقول أصحاب النواميس الحكمية والمعلوم واحد والطريق مختلف وصاحب الذوق يفرق بين الأمرين‏

(وصل في فصل زمان الإمساك)

اتفقوا على إن آخره غيبوبة الشمس واختلفوا في أوله فمن قائل الفجر الثاني وهو المستطير ومن قائل هو الفجر الأحمر الذي يكون بعد الأبيض وهو قول حذيفة وابن مسعود وهو نظير الشفق الأحمر الذي يكون في أول الليل والذي أقول به هو تبينه للناظر إليه حينئذ يحرم الأكل وهذا هو نص القرآن حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ من الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ يريد بياض الصبح وسواد الليل‏

(وصل الاعتبار في هذا)

غيبوبة الشمس هي انقضاء مدة حكم الاسم الإلهي رمضان في الصوم فإنه الذي شرع الصوم فانتهاء مدة حكمه في الصوم هو مغيب الشمس وإن كان اسم رمضان كما هو لم يزل عن ولايته فإن له حكما آخر فينا وهو القيام وتولي الحكم في المحل الذي كان موصوفا بالصيام الاسم الذي هو فاطر السموات والأرض ولكن بتولية اسم رمضان إياه فهو النائب عنه كما أنه في الصوم رفيع الدرجات وممسك السموات والأرض أَنْ تَزُولا أو أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ‏

[رمزية الفجر الأبيض والفجر الأحمر]

فأفطر الصائم وبقي حكمه مستمرا في القيام إلى الحد الذي يحرم فيه الأكل الاسم الإلهي رمضان فتولى الاسم الممسك ويبقى الاسم الفاطر واليا على المريض والمسافر والمرضع والحامل وذلك الحد هو الفجر الأبيض المستطير وهو الأولى من الفجر الأحمر إلا عند من يقول بفار التنور إنه الفجر كما إن الأخذ بالتواتر أولى من الأخذ بالخبر الواحد الصحيح والقرآن متواتر وهو القائل حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ من الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ من الْفَجْرِ فإن أصل الألوان البياض والسواد وما عداهما من الألوان فبرازخ بينهما تتولد من امتزاج البياض والسواد فتظهر الغبرة والحمرة والخضرة إلى غير ذلك من الألوان فما قرب للبياض كانت كمية البياض فيه أكثر من كمية السواد وكذلك في الطرف الآخر وجاءت السنة في حديث حذيفة بالحمرة دون البياض فقال هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع وهو محتمل والبياض المذكور في القرآن ليس بمحتمل فرجحنا الأبيض على الأحمر بوجهين قويين القرآن وعدم الاحتمال واعتبارهما حكم الايمان وهو الأبيض فإنه مخلص لله غير ممتزج والأحمر للنظر الاجتهادي وهو حكم العقل ونظر العقل ممتزج بالحس من طريق الخيال لأنه يأخذ عن الفكر عن الخيال عن الحس إما بما يعطيه وإما بما تعطيه القوة المصورة وهو قاطع مما يعطيه إلا أنه تدخل عليه الشبهة القادحة فلهذا أعطينا الشفق الأحمر لنظر المجتهد إذ الحمرة لون حدث من امتزاج البياض والسواد وهو امتزاج خاص‏

[الحق الظاهر والخلق المظاهر]

وأما اعتبار التبين في قوله تعالى وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ولا يتبين حتى يكون الطلوع وإليه أذهب في الحكم فلم يحرم الأكل مع حصول الطلوع في نفس الأمر لكن ما حصل البيان عند الناظر كذلك الحق وإن كان في نفس الأمر هو الظاهر في المظاهر الإمكانية لكن لم يتبين ذلك لكل أحد وكما عفا الشارع عن الآكل في أكله وأباح له الأكل مع تحقق طلوع الفجر في نفس الأمر لكن ما تبين له كذلك ما وقع من العبد الذي لا يعرف أن الحق هو الظاهر في المظاهر الإمكانية بأفعاله وأسمائه لا يؤاخذ بها من جهل ذلك حتى يتبين له الحق في ذلك فيكون على بصيرة في‏

قوله إذا أحببته كنت سمعه وبصره‏

فكان العبد مظهر الحق وقد ثبت أن الله قال على لسان عبده في الصلاة سمع الله لمن حمده‏

فنسب القول إليه واللسان للعبد الذي هو محل القول واللسان مظهرا مكاني وكما يحرم على المكلف الأكل عند تبين الفجر كذلك يحرم على صاحب الشهود أن يعتقد أن ثم في الوجود غير الله فاعلا بل ولا مشهودا إذ كان قد عم في الحديث القوي والجوارح وما ثم إلا هذان‏

(وصل في فصل ما يمسك عنه الصائم)

أجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك عن المطعوم والمشروب والجماع وهذا القدر هو الذي ورد به نص الكتاب في قوله تعالى فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ... وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ من الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ من الْفَجْرِ

(وصل في الاعتبار في هذا)

أما المطعوم فهو علم الذوق والشرب فالصائم على صفة لا مثل لها ومن اتصف بما لا مثل له فحكمه إن لا مثل له والذوق أول مبادي التجلي الإلهي فإذا دام فهو الشرب والذوق نسبة تحدث عند الذائق إذا طعم المذوق‏

والصوم ترك والترك ما له صفة وجودية تحدث فإن الترك ليس بشي‏ء وجودي يحدث لأنه نعت سلبي والطعم يضاده فلهذا حرم تناول المطعوم على الصائم لأنه يزيل حكم الصوم عنه‏

[المشروب تجل وسط]

وأما المشروب فهو تجل وسط والوسط محصور بين طرفين لمن هو وسط لهما والحصر يقضي بالتحديد في المحصور والصوم صفة إلهية والله لا يقتضي الحصر ولا يتصف به ولا بالحد ولا يتميز بذلك عندنا فيناقض المشروب الصوم فلهذا حرم على الصائم المشروب ثم إن المشروب لما كان تجليا أذن بوجود الغير المتجلي له والغير في الصائم لا عين له لأن الصوم لله ليس لنا وأنا المنعوت به فقد أنزلني الحق بهذه الصفة منزلته والشي‏ء لا يتجلى لنفسه فالصائم لا يتناول المشروب ويحرم عليه ذلك‏

[وجود اللذة بالشفعية]

وأما الجماع فهو لوجود اللذة بالشفعية فكل واحد من الزوجين صاحب لذة فيه فكل واحد مثل للآخر في الجماع ولهذا سمي جماعا لاجتماع الزوجين والصائم لا مثل له لاتصافه بصفة لا مثل لها فحرم الجماع على الصائم هذا موضع الاجتماع على هذه الثلاثة التي تبطل الصوم ولا يكون الموصوف بها أو بأحدها صائما

(وصل في فصل ما يدخل الجوف مما ليس بغذاء)

اختلفوا فيما يدخل الجوف مما ليس بغذاء كالحصي وغيره وفيما يدخل الجوف من غير منفذ الطعام والشراب كالحقنة وفيما يرد باطن الأعضاء ولا يرد الجوف مثل أن يرد الدماغ ولا يرد المعدة فمن قائل إن ذلك يفطر ومن قائل لا يفطر

(وصل في فصل الاعتبار)

مشاركة الحكماء أصحاب الأفكار أهل الله فيما يفتح لهم من علم الكشف بالخلوة والرياضة من طريق النظر وأهل الله تعالى بهما من طريق الايمان واجتمعا في النتيجة فمن فرق من أصحابنا بينهما بالذوق وأن مدرك هذا غير مدرك هذا وإن اشتركا في الصورة قال لا يفطر ومن قال المدرك واحد والطريق مختلف فذلك اعتبار من قال يفطر

[ما يتعين لصاحب التجلي المثالي أن يشهده‏]

وأما اعتبار باطن الأعضاء ما عدا الجوف فهو إن يكون الصائم في حضرة إلهية فأقيم في حضرة مثالية مثل قوله أعبد الله كأنك تراه فهل لمن خرج من عباد الله في ذوقه عن حكم التشبيه والتمثيل أن يؤثر فيه‏

قول الشارع أعبد الله كأنك تراه‏

فيترك علمه وذوقه وينزل إلى هذه المنزلة أدبا مع الشرع وحقيقة من الكشف فيكون قد أفطر أو لا ينزل ويقول أنا مجموع من حقائق مختلفة وفي ما يبقيني على ما أنا عليه وفي ما تطلبه مشاهدة هذا التنزل وهو كوني متخيلا أو ذا خيال فيعلم إن الحق قد طلب مني أن نشهده في هذه الحضرة من هذه الحقيقة ومن كل حقيقة في فيتعين لهذا التجلي المثالي مني هذه الحقيقة التي تطلبه وتبقي على ما أنا عليه من حقيقة أن لا خيال ولا تخيل فهذا اعتبار من يرى أنه لا يفطر ما يرد باطن الأعضاء الخارجة عن المعدة

(وصل في فصل القبلة للصائم)

فمن علماء الشريعة من أجازها ومنهم من كرهها على الإطلاق ومنهم من كرهها للشاب وأجازها للشيخ‏

(اعتبار هذا الفصل)

هذه المسألة نقيض مسألة موسى عليه السلام فإنه طلب الرؤية بعد ما حصل له الكلام فالمشاهدة والكلام لا يجتمعان في غير التجلي البرزخى وهو كان مقام شهاب الدين عمر السهروردي الذي مات ببغداد رحمه الله فإنه روى لي عنه من أثق بنقله من أصحابه أنه قال باجتماع الرؤية والكلام فمن هنا علمت إن مشهده برزخي لا بد من ذلك غير ذلك لا يكون والقبلة من الإقبال والقبول على الفهوانية من حضرة اللسن فإنه محل الكلام وكان الإقبال عليه أيضا بالكلام المسموع إذا كان في المشاهدة المثالية ومن كان فيها يتصور منه طلب الإقبال على الفهوانية فإذا كلمه لم يشهده وهذا المقام الموسى ذقته في الموضع الذي ذاقه موسى عليه السلام غير أني ذقته في بلة في الرمل على قدر الكف وذاقه موسى عليه السلام في حاجته وهي طلبه النار لأهله ففرحت حيث كان ماء

[اعتبار من كره القبلة للصائم ومن أجازها]

وإنما قلنا إذا كلمه لم يشهده لأن النفس الطالبة تستفرغ لفهم الخطاب فتغيب عن المشاهدة فهو بمنزلة من يكره القبلة إذ الصائم صاحب المشاهدة لأن الصوم لا مثل له والمشاهدة لا مثل لها وأما من أجازها فقال التجلي مثالي فلا أبالي فإن الذات من وراء ذلك التجلي والتجلي لا يصح إلا من مقام المتجلي له وأما لو كان التجلي في غير مقام المتجلي له لم يصح طلب غير ما هو فيه لأن مشاهدة الحق فناء ومع الفناء لا يتصور طلب فإن اللذة أقرب من طلب الكلام لنفس المشاهد ومع هذا فلا يلتذ المشاهد في حال المشاهدة

قال أبو العباس السياري رحمه الله ما التذ عاقل بمشاهدة قط لأن مشاهدة الحق فناء ليس فيها لذة

[اعتبار من كره القبلة للشاب وأجازها للشيخ‏]

وأما من كرهها للشاب فاعتباره المبتدي في الطريق أجازها للشيخ واعتباره المنتهى فإن المنتهي لا يطلب الرجوع من المشاهدة إلى الكلام فيترك المشاهدة ويقبل على الفهوانية إذ لا تصح الفهوانية إلا مع الحجاب كما قال وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْياً أَوْ من وَراءِ حِجابٍ والمنتهي يعرف ذلك فلا يفعله وأما المبتدي وهو الشباب فما عنده خبرة بالمقامات فإنه في مقام السلوك فلا يعرف منها إلا ما ذاقه والنهاية إنما تكون في المشاهدة وهو يسمع بها من الأكابر فيتخيل أنه لا يفقد المشاهدة مع الكلام والمبتدي في مشاهدة مثالية فيقال له ليس الأمر كما تزعم أن كلمك لم يشهدك وإن أشهدك لم يكلمك ولهذا لم يجوزها للشاب وأجازها للشيخ لأن الشيخ لا يطلب الفهوانية إلا إذا كان وارثا للرسول في التبليغ عن الله فيجوز له الإقبال على الفهوانية لفهم الخطاب‏

(وصل في فصل الحجامة للصائم)

فمن قائل إنها تفطر والإمساك عنها واجب ومن قائل إنها لا تفطر ولكنها تكره للصائم ومن قائل إنها غير مكروهة للصائم ولا تفطر

(وصل في اعتبار هذا الفصل)

الاسم المحيي يرد على الاسم رمضان في حال حكمه في الصائم في شهر رمضان أو على الاسم الممسك الذي يُمْسِكُ السَّماواتِ والْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أو يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إذ كانت الحياة الطبيعية في الأجسام بخار الدم الذي يتولد من طبخ الكبد الذي هو بيت الدم للجسد ثم يسرى في العروق سريان الماء في الطوارق لسقي البستان لحياة الشجر فإذا طمى يخاف أن ينعكس فعله في البدن فيخرج بالفصاد أو بالحجامة ليبقى منه قدر ما يكون به الحياة فلهذا جعلنا الحكم للاسم المحيي أو الممسك فإن بالحياة تبقي سماوات الأرواح وأرض الأجسام وبه يكون حكم المحيي أقوى مما هو بنفسهما اسمان الهيان إخوان فإذا وردا على اسم الله رمضان في حكم الصائم أو على الاسم الإلهي الذي به أضاف الحق الصوم لنفسه في غير رمضان ووجدا في المنزل الأقرب لهذا المحل الاسم الإلهي الضار والمميت استعانا بالاسم الإلهي النافع فصاروا ثلاثة أسماء إلهية يطلبون دوام هذه العين القائمة فحركوه لطلب الحجامة فلم يفطر الصائم ولم يكره فإن بوجودها ثبت حكم الاسم الإلهي رمضان لها

[اعتبار من كره الحجامة للصائم‏]

ومن قال تكره ولا تفطر فوجه الكراهة في الاعتبار أن الصائم موصوف بترك الغذاء لأنه حرم عليه الأكل والشرب والغذاء سبب الحياة للصائم وقد أمر بتركه في حال صومه وإزالة الدم إنما هو في هذه الحال بالحجامة من أجل خوف الهلاك فقام مقام الغداء لطلب الحياة وهو ممنوع من الغذاء فكره له ذلك وبهذا الاعتبار وبالذي قبله يكون الحكم فيمن قال إنها تفطر والإمساك عنها واجب‏

(وصل في فصل القي‏ء والاستقاء)

فمن قائل فيمن ذرعه القي‏ء إنه لا يفطر الصائم وهم الأكثرون ومن قائل إنه يفطر وهو ربيعة ومن تابعه وكذلك الاستقاء الجماعة على أنه مفطر إلا طاوس فإنه قال ليس بمفطر

(وصل في اعتبار هذا الفصل)

المعدة خزانة الأغذية التي عنها تكون الحياة الطبيعية وإبقاء الملك على النفس الناطقة الذي به يسمى ملكا وبوجوده تحصل فوائد العلوم الوهبية والكسبية والنفس الناطقة تراعي الطبيعة والطبيعة وإن كانت خادمة البدن فإنها تعرف قدر ما تراعيها النفس الناطقة التي هي في الملك فإذا أبصرت الطبيعة إن في خزانة المعدة ما يؤدي إلى فساد هذا الجسم قالت للقوة الدافعة أخرجي الزائد المتلف بقاؤه في هذه الخزانة فأخذته الدافعة من الماسكة وفتحت له الباب وأخرجته وهذا هو الذي ذرعه القي‏ء

[اعتبار من ذرعه القي‏ء ومن استقاء]

فمن راعى كونه كان غذاء فخرج على الطريق الذي منه دخل عن قصد ويسمى لأجل مروره على ذلك الطريق إذا دخل مفطرا أفطر عنده بالخروج أيضا ومن فرق بين حكم الدخول وحكم الخروج ولم يراع الطريق وهما ضدان قال لا يفطر وهذا هو الذي ذرعه القي‏ء فإن كان للصائم في إخراجه تعمل وهو الاستقاء فإن راعى وجود المنفعة ودفع الضرر لبقاء هذه البنية فقام عنده مقام الغذاء والصائم ممنوع من استعمال الغذاء في حال صومه وكان إخراجه ليكون عنه في الجسم ما يكون للغذاء قال إنه مفطر ومن فرق بين حكم الدخول وحكم الخروج قال ليس بمفطر

[الجسم لا يخلو من حكم اسم إلهى فيه‏]

وهذا كله في الاعتبار الإلهي أحكام الأسماء الإلهية التي يطلبها استعداد هذا البدن لتاثيرها في كل وقت فإن الجسم لا يخلو من حكم اسم إلهي فيه فإن استعد المحل لطلب اسم إلهي‏

غير الاسم الذي هو الحاكم فيه الآن زال الحكم ووليه الذي يطلبه للاستعداد ونظيره إذا خامر أهل بلد على سلطانهم فجاءوا بسلطان غيره لم يكن للأول مساعد فيزول عن حكمه ويرجع الحكم الذي طلبه الاستعداد فالحكم أبدا إنما هو للاستعداد والاسم الإلهي المعد لا يبرح حكمه دائما لا ينعزل ولا يصح المخامرة من أهل البلد عليه فهو لا يفارقه في حياة ولا موت ولا جمع ولا تفرقة ويساعده الاسم الإلهي الحفيظ والقوي وأخواتهما فاعلم ذلك‏

[حديث من ذرعه القي‏ء وهو صائم‏]

ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم خرجه البخاري عن ابن عباس‏

وخرج أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرعه القي‏ء وهو صائم فليس عليه القضاء وإن استقاء فليقض‏

رواة هذا الحديث كلهم ثقات‏

(وصل في فصل النية)

فمنهم من رأى النية شرطا في صحة الصيام وهو الجمهور ومنهم من قال لا يحتاج رمضان إلى نية إلا أن يكون الذي يدركه صوم رمضان مريضا أو مسافرا فيريد الصوم‏

(وصل في الاعتبار فيه)

النية القصد وشهر رمضان لا يأتي بحكم القصد من الإنسان الصائم فمن راعى أن الصوم لله لا للعبد قال بالنية في الصوم فإنه ما جاء شهر رمضان إلا بإرادة الحق من الاسم الإلهي رمضان والنية إرادة بلا شك ومن راعى أن الحكم للوارد وهو شهر رمضان فسواء نواه الصائم الإنساني أو لم ينوه فإن حكمه الصوم فليست النية شرطا في صحة صومه فإن لم يجب عليه وخيره مع كونه ورد كالمريض والمسافر صار حكمهما بين أمرين على التخيير فلا يمكن أن يعدل إلى أحد الأمرين إلا بقصد منه وهو النية

(وصل في فصل من هذا الفصل وهو تعيين النية المجزئة في ذلك)

فمن قائل لا بد في ذلك من تعيين صوم رمضان ولا يكفيه اعتقاد الصوم مطلقا ولا اعتقاد صوم معين غير صوم رمضان ومن قائل إن أطلق الصوم أجزأه وكذلك إن نوى فيه غير صيام رمضان أجزأه وانقلب إلى صيام رمضان إلا أن يكون مسافرا فإن للمسافر عنده أن ينوي صيام غير رمضان في رمضان ومن قائل إن كل صوم نوى في رمضان انقلب إلى رمضان المسافر والحاضر في ذلك على السواء

(وصل الاعتبار فيه)

قال تعالى قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فالحكم للمدعو بالأسماء الإلهية لا للأسماء فإنها وإن تفرقت معانيها وتميزت فإن لها دلالة على ذات معينة في الجملة وفي نفس الأمر وإن لم تعلم ولا يدركها حد فإنه لا يقدح ذلك في إدراكنا وعلمنا أن ثم ذاتا ينطلق عليها هذه الأسماء كذلك الصوم هو المطلوب سواء كان مندوبا أو واجبا على كثرة تقاسيم الوجوب فيه‏

[الأسماء الإلهية دالة على ذات واحدة وصفات كثيرة]

ومن راعى الاسم الإلهي رمضان فرق بينه وبين غيره فإن غيره هو من الاسم الممسك لا من اسم رمضان والأسماء الإلهية وإن دلت على ذات واحدة فإنها تتميز في أنفسها من طريقين الواحد من اختلاف ألفاظها والثاني من اختلاف معانيها وإن تقاربت غاية القرب وتشابهت غاية الشبه وأسماء المقابلة في غاية البعد كالضار والنافع والمعز والمذل والمحيي والمميت والهادي والمضل فلا بد من مراعاة حكم ما تدل عليه من المعاني وبهذا يتميز العالم من الجاهل وما أتى الحق بها متعددة إلا لمراعاة ما تدل عليه من المعاني ومراعاة قصد الحق تعالى في ذلك أولى من غيره فلا بد من التعيين لحصول الفائدة المطلوبة بذلك اللفظ المعين دون غيره من تركيبات الألفاظ التي هي الكلمات الإلهية

[الأحكام تتبع الأحوال‏]

ومن اعتبر حال المكلف وهو الذي فرق بين المسافر والحاضر وله في التفرقة وجه صحيح لأن الحكم يتبع الأحوال فيراعي المضطر وغير المضطر والمريض وغير المريض وكذلك الأسماء تراعي أيضا فيراعي اسم الخمر إذا تخللت من اسم الخل فيتغير الحكم الإلهي في هذا الجسم المعين بتغير الأسماء كما تغيرت الأسماء في بعض الأشياء لتغير الأحوال إذ كان التغيير في ذلك الحكم اسم إلهي أوجب له تغيير الاسم فتغير الحكم‏

[الأسماء الإلهية لها التحكيم لا الحكم في الأشياء]

الحكم للمدعو بالأسماء *** ما الحكم للأسماء في الأشياء

لكن لها التحكيم في تصريفها *** فيه كمثل الحكم للأنواء

في الزهر والأشجار في أمطارها *** وقتا وفي الأشياء كالأنداء

لعبت بها الأرواح في تصريفها *** كتلاعب الأفعال بالأسماء

(وصل في فصل وقت النية للصوم)

فمن قائل لا يجزي الصيام إلا بنية قبل الفجر مطلقا في جميع أنواع الصوم ومن قائل تجزى النية بعد الفجر في صوم التطوع لا في الفروض ومن قائل تجزئ النية بعد الفجر في الصيام المتعلق وجوبه بوقت معين والنافلة ولا تجزى في الواجب في الذمة

(وصل الاعتبار في ذلك)

الفجر علامة على طلوع الشمس فهو كالاسم الإلهي من حيث دلالته على المسمى به لا على المعنى الذي تميز به عن غيره من الأسماء والقاصد للصوم قد يقصده اضطرارا واختيارا والإنسان في علمه بالله قد يكون صاحب نظر فكري أو صاحب شهود فمن كان علمه بالله عن نظر في دليل فلا بد أن يطلب على الدليل الموصل إليه إلى المعرفة فهو بمنزلة من نوى قبل الفجر ومدة نظره في الدليل كالمدة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس‏

[المعرفة بالله على قسمين: واجبة وغير واجبة]

والمعرفة بالله على قسمين واجبة كمعرفته بتوحيده في ألوهيته ومعرفة غير واجبة كمعرفته بنسبة الأسماء إليه التي تدل على معان فإنه لا يجب عليه النظر في تلك المعاني هل هي زائدة عليه أم لا فمثل هذه المعرفة لا يبالي متى قصدها هل بعد حصول الدليل بتوحيد الإله أو قبله‏

[العلم الضروري مقدم على العلم النظري‏]

وأما الواجب في الذمة فكالمعرفة بالله من حيث ما نسب الشرع إليه في الكتاب والسنة فإنه قد تعين بالدليل النظري إن هذا شرعه وهذا كلامه فوقع الايمان به فحصل في الذمة فلا بد من القصد إليه من غير نظر إلى الدليل النظري وهو الذي اعتبر فيه النية قبل الفجر لأنه عنده علم ضروري وهو المقدم على العلم النظري لأن العلم النظري لا يحصل إلا أن يكون الدليل ضروريا أو مولدا عن ضروري على قرب أو بعد وإن لم يكن كذلك فليس بدليل قطعي ولا برهان وجودي‏

(وصل في فصل الطهارة من الجنابة للصائم)

فالجمهور على إن الطهارة من الجنابة ليست شرطا في صحة الصوم وأن الاحتلام بالنهار لا يفسد الصوم إلا بعضهم فإنه ذهب إلى أنه إذا تعمد ذلك أفسد صومه وهو قول ينقل عن النخعي وطاوس وعروة بن الزبير وقد روى عن أبي هريرة ذلك في المتعمد وغير المتعمد وكان يقول من أصبح جنبا في رمضان أفطر وكان يقول ما أنا قلته محمد صلى الله عليه وسلم قاله ورب الكعبة وقال بعض المالكين إن الحائض إذا طهرت قبل الفجر فأخرت الغسل إن يومها يوم فطر

(وصل الاعتبار في هذا)

الجنابة الغربة والغربة بعد الحيض أذى والأذى يوجب البعد وأعني الأذى الخاص مثل قوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله أي أبعدهم واللعنة البعد وسببه وقوع الأذى منهم فهو بعيد من الاسم القدوس والصوم يوجب القرب من الله الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ والصوم لا مثل له في العبادات فكما لا يجتمع القرب والبعد لا يجتمع الصوم والجنابة والأذى‏

[الحكمة إعطاء كل ذى حق حقه‏]

ومن راعى أن الجنابة حكم الطبيعة فكذلك الحيض وقال إن الصوم نسبة إلهية أثبت كل أمر في موضعه فقال بصحة الصوم للجنب وللطاهرة من الحيض قبل الفجر إذا أخرت الغسل فلم تتطهر إلا بعد الفجر وهو الأولى في الاعتبار لما تطلبه الحكمة من إعطاء كل ذي حق حقه فإن الحكيم عز وجل يقول أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ أي بين وأثنى الله بهذا القول لما حكاه عن موسى أنه قاله لفرعون ولم يجرحه تعالى في هذا القول كما جرح من قال إِنَّ الله فَقِيرٌ وإِنَّ الله ثالِثُ ثَلاثَةٍ

(وصل في فصل صوم المسافر والمريض شهر رمضان)

فمن قائل إنهما إن صاماه وقع وأجزأهما ومن قائل إنه لا يجزيهما وأن الواجب عليهما عدة من أيام أخر والذي أذهب إليه أنهما إن صاماه فإن ذلك لا يجزيهما وأن الواجب عليهما أيام أخر غير أني أفرق بين المريض والمسافر إذا أوقعا الصوم في هذه الحالة في شهر رمضان فأما المريض فيكون الصوم له نفلا وهو عمل بر وليس بواجب عليه ولو أوجبه على نفسه فإنه لا يجب عليه وأما المسافر لا يكون صومه في السفر في شهر رمضان ولا في غيره عمل بر وإذا لم يكن عمل بر كان كمن لم يعمل شيئا وهو أدنى درجاته أو يكون على ضد البر ونقيضه وهو الفجور ولا أقول بذلك إلا أني أنفي عنه إن يكون في عمل بر في ذلك الفعل في تلك الحال والله أعلم‏

(الاعتبار)

السالك هو المسافر في المقامات بالأسماء الإلهية فلا يحكم عليه الاسم الإلهي رمضان بالصوم الواجب ولا غير الواجب ولهذا

قال صلى الله عليه وسلم ليس من البر

الصيام في السفر

واسم رمضان يطلبه بتنفيذ الحكم فيه إلى انقضاء شهر سلطانه والسفر يحكم عليه بالانتقال الذي هو عدم الثبوت على الحال الواحدة فبطل حكم الاسم الإلهي رمضان في حق المسافر الصائم ومن قال إنه يجزيه جعل سفره في قطع أيام الشهر وجعل الحكم فيه الاسم رمضان فجمع بين السفر والصوم وأما حكم انتقاله المسمى سفرا فإنه ينتقل من صوم إلى فطر ومن فطر إلى صوم وحكم رمضان لا يفارقه ولهذا شرع صيامه وقيامه ثم جواز الوصال فيه أيضا مع انتقاله من ليل إلى نهار ومن نهار إلى ليل وحكم رمضان منسحب عليه ولهذا أجزأ المسافر صوم رمضان‏

[المرض يضاد الصحة والمطلوب من الصوم الصحة]

وأما المريض فحكمه غير حكم المسافر في الاعتبار فإن العلماء أجمعوا على إن المريض إن صام رمضان في حال مرضه أجزأه والمسافر ليس كذلك عندهم فضعف استدلالهم بالآية فاعتباره إن المرض يضاد الصحة والمطلوب من الصوم صحته والضدان لا يجتمعان فلا يصح المرض والصوم واعتبرناه في شهر رمضان دون غيره لأنه واجب بإيجاب الله ابتداء فالذي أوجبه هو الذي رفعه عن المريض فلا يصح أن يرجع ما ليس بواجب من الله واجبا من الله في حال كونه ليس بواجب‏

(وصل في فصل من يقول إن صوم المسافر والمريض يجزيهما في شهر رمضان فهل الفطر لهما أفضل أم الصوم)

فمن قائل إن الصوم أفضل ومن قائل إن الفطر أفضل ومن قائل إنه على التخيير فليس أحدهما بأفضل من الآخر

(الاعتبار)

من اعتبر أن الصوم لا مثل له وأنه صفة للحق قال إنه أفضل ومن اعتبر أنه عبادة فهو صفة ذلة وافتقار فهو بالعبد أليق قال إن الفطر أفضل ولا سيما للسالك والمريض فإنهما محتاجان إلى القوة ومنبعها الفطر عادة فالفطر أفضل ومن اعتبر أن الصوم من الاسم الإلهي رمضان وأن الفطر من الاسم الإلهي الفاطر وقال لا تفاضل في الأسماء الإلهية بما هي أسماء للاله تعالى قال ليس أحد الاسمين بأفضل من الآخر لأن المفطر في حكم الفاطر والصائم في حكم الرفيع الدرجات وحكم الممسك وحكم اسم رمضان وهذا مذهب المحققين رفع الشريف والأشرف والوضيع والشريف الذي في مقابلته من العالم الذي هو عبارة عن كل ما سوى الله تعالى‏

(وصل في فصل هل الفطر الجائز للمسافر هل هو في سفر محدود أو غير محدود)

فمن قائل إنه يفطر في السفر الذي يقصر فيه الصلاة وذلك على حسب اختلافهم في هذه المسألة ومن قائل إنه يفطر في كل ما ينطلق عليه اسم سفر وبه أقول‏

(الاعتبار في ذلك)

المسافرون إلى الله وهو الاسم الجامع وهو الغاية المطلوبة والأسماء الإلهية في الطريق إليه كالمنازل للمسافرين ومنازل القمر المقدرة لسير القمر في الطريق إلى غاية مقصوده وأقل السفر الانتقال من اسم إلى اسم فإن وجد الله في أول قدم من سفره كان حكمه بحسب ذلك وقد انطلق عليه أنه مسافر وليس لأكثره عندنا نهاية ولا حد

لقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه اللهم إني أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم غيبك‏

فهذا اعتبار من قال يفطر فيما ينطلق عليه اسم سفر

[الأحدية أو الواحد لا حكم له أو لها في العدد]

ومن قال بالتحديد في ذلك فاعتباره بحسب ما حدد فمن اعتبر الثلاثة في ذلك كان كمن قال الأحدية أو الواحد لا حكم له في العدد وإنما العدد من الاثنين فصاعدا والسفر هنا إلى الاسم الله ولا سفر إليه إلا به فأول ما يلقاه من كونه مسافرا إليه في الفردية وهي الثلاثة أول الأفراد فهذا هو السفر المحدود ثم يؤخذ الاعتبار في تحديد العلماء تقصير الصلاة في باب الصلاة من هذا الكتاب وإنا قد ذكرناه في صلاة القصر من هذا الكتاب‏

(وصل في فصل المرض الذي يجوز فيه الفطر)

فمن قائل المرض هو الذي يلحق من الصوم فيه مشقة وضرر ومن قائل إنه المرض الغالب ومن قائل إنه أقل ما ينطلق عليه اسم مرض وبه أقول وهو مذهب ربيعة بن أبي عبد الرحمن‏

(الاعتبار)

المريد تلحقه المشقة وهو صاحب مكايدة وجهد ومن أجل ذلك شرع لنا وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وقال تعالى واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ فيعينه الاسم القوي على ما هو بصدده فهذا مرض يوجب الفطر

[الإنسان لا يخلو عن ميل بالضرورة]

وأما من اعتبر المرض بالميل وهو الذي ينطلق عليه اسم مرض وهو مذهب محمد بن عبد الجبار النفري صاحب المواقف من رجال الله كذا أحسبه والإنسان لا يخلو عن ميل بالضرورة فإنه بين حق وخلق وبين حق وحق من حيث الأسماء الإلهية وكل طرف يدعوه إلى نفسه فلا بد له من الميل‏

إما عنه أو إليه به أو بنفسه بحسب حاله ولا سيما أهل طريق الله فإنهم في مباحهم في حال ندب أو وجوب فلا يخلص لهم مباح أصلا فلا يوجد أحد من أهل الله تكون كفتا ميزانه على الاعتدال والإنسان هو لسان الميزان فلا بد فيه من الميل إلى جانب داعي الحق وهذا هو اعتبار من يقول بالفطر فيما ينطلق عليه اسم مرض وأن الله عند المريض بالأخبار الإلهي الثابت أ لا تراه يلجأ إليه ويكثر من ذكره على أي دين كان أو نحلة فإنه بالضرورة يميل إليه ويظهر لك ذلك بينا في طلب النجاة مما هو فيه فإن الإنسان بحكم الطبع يجري إذا مسه الضر إلى طلب من يزيله عنه وليس إلا الله قال تعالى وإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ في الْبَحْرِ ضَلَّ من تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وإن جهل الطريق إليها فما جهل الاضطرار فإنه حاله ذوقا ونحن إنما نراعي القصد وهو المطلوب‏

[ما يضاف إلى العبد من الأفعال‏]

وأما من اعتبر المرض الغالب فهو ما يضاف إلى العبد من الأفعال فإنه ميل عن الحق في الأفعال إذ هي له والموافق والمخالف يميل بها إلى العبد سواء مال اقتدارا أو خلقا أو كسبا فهذا ميل حسي شرعي وهو قولهم رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ فأضافوا الايمان إليهم إيجادا وقول الله لهم آمنوا بالله تقرير الصحة ما نسبوه من الأفعال إليهم بهذه الإضافة فهذا هو الشرعي فهذا بمنزلة المرض وأنه الميل الغالب لأنه بين الحق والخلق‏

(وصل في فصل متى يفطر الصائم ومتى يمسك)

فمن قائل يفطر في يومه الذي خرج فيه مسافرا ومن قائل لا يفطر يومه ذلك واستحب العلماء لمن علم أنه يدخل المدينة ذلك اليوم أن يدخلها صائما فإن دخلها مفطرا لم يوجبوا عليه كفارة

(الاعتبار)

إذا خرج السالك في سلوكه من حكم اسم إلهي كان له إلى حكم اسم آخر إلهي دعاه إليه ليوصله إليه حكم اسم آخر ليس هو الذي خرج عنه ولا هو الذي يصل إليه كان بحكم ذلك الاسم الذي يسلك به وهو معه أينما كان قال تعالى وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وإن اقتضى له ذلك الاسم الصوم كان بحكم صفة الصوم وإن اقتضى له الفطر كان بحكم صفة الفطر فإذا علم أنه يحصل في يومه الذي هو نفسه بفتح الفاء في حكم الاسم الذي دعاه إليه ويريد النزول عليه كان بحكم صفة ذلك الاسم من فطر أو صوم لا أعين له حالا من الأحوال لأن الأحوال تختلف ولا حرج عليه فيما كان من ذلك وبالله التوفيق‏

(وصل في فصل المسافر يدخل المدينة التي سافر إليها وقد ذهب بعض النهار)

اختلف العلماء فيمن هذه حاله فقال بعضهم يتمادى على فطره وقال آخرون يكف عن الأكل وكذلك الحائض تطهر تكف عن الأكل‏

(وصل الاعتبار في هذا الفصل)

كان له مطلوب في سلوكه فوصل إليه هل يحجبه فرحه بما وصل إليه عن شكر من أوصله إليه فإن حجبه تغير الحكم عليه وراعى حكم الإمساك عنه وإن لم يحجبه ذلك اشتغل عند الوصول بمراعاة من أوصله فلم يخرج عن حكمه وتمادى على الصفة التي كان عليها في سلوكه عابدا لذلك الاسم عبادة شكر لا عبادة تكليف‏

[الصدق المحظور والكذب المحظور]

وكذلك الحائض وهو كذب النفس ترزق الصدق فتطهر عن الكذب الذي هو حيضها والحيض سبب فطرها فهل تتمادى على صفة الفطر بالكذب المشروع من إصلاح ذات البين والكذب في الحرب وكذب الرجل لزوجته أو تستلزم ما هو صدق في محمود وواجب ومندوب فإن الصدق المحظور كالغيبة والنميمة مثل الكذب المحظور يتعلق بهما الإثم والحجاب على السواء مثاله من يتحدث بما جرى له مع امرأته في الفراش فأخبر بصدق وهو من لكبائر وكذلك ما ذكرناه من الغيبة والنميمة انتهى الجزء السادس والخمسون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل في فصل هل يجوز للصائم بعض رمضان أن ينشئ سفرا ثم لا يصوم فيه)

اختلف العلماء فيمن هذه حاله فمن قائل يجوز له ذلك وهو الجمهور ومن قائل لم يجز له الفطر روى هذا القول عن سويد بن غفلة وغيره‏

(الاعتبار)

لما كان عندنا وعند أهل الله كلهم إن كل اسم إلهي يتضمن جميع الأسماء ولهذا ينعت كل اسم إلهي بجميع الأسماء الإلهية لتضمنه معناها كلها ولأن كل اسم إلهي له دلالة على الذات كما له دلالة على المعنى الخاص به وإذا كان الأمر كما ذكرناه فأي اسم إلهي حكم عليك سلطانه قد يلوح لك في ذلك الحكم معنى اسم‏

إلهي آخر يكون حكمه في ذلك الاسم أجلي منه وأوضح من الاسم الذي أنت به في وقته فتنشئ سلوكا إليه‏

[من كان تحت تصريف الأحوال كان بحكم الاسم الذي يقضى عليه سلطانه‏]

فمن قائل منا يبقى على تجلى الاسم الذي لاح له فيه ذلك المعنى ومنا من قال ينتقل إلى الاسم الذي لاح له معناه في التضمن فإنه أجلي وأتم فالرجل مخير إذا كان قويا على تصريف الأحوال فإن كان تحت تصريف الأحوال كان بحكم حال الاسم الذي يقضي عليه سلطانه‏

(وصل في فصل المغمى عليه والذي به جنون)

اتفق الفقهاء على وجوبه على المغمى عليه واختلفوا في المجنون فمنهم من أوجب القضاء عليه ومنهم من لم يوجب القضاء وبه أقول وكذلك عندي في المغمى عليه واختلفوا في كون الإغماء والجنون مفسدا للصوم فمن قائل إنه مفسد ومن قائل إنه غير مفسد وفرق قوم بين أن يكون أغمى عليه قبل الفجر أو بعد الفجر وقوم قالوا إن أغمى عليه بعد ما مضى أكثر النهار أجزأه وإن أغمى عليه أول النهار قضى‏

(الاعتبار)

الإغماء حالة فناء والجنون حالة وله وكل واحد من أهل هذه الصفة ليس بمكلف فلا قضاء عليه على إن القضاء في أصله عندنا لا يتصور في الطريق فإن كل زمان له وارد يخصه فما ثم زمان يكون فيه حكم الزمان الذي مضى فما مضى من الزمان مضى بحاله وما نحن فيه فنحن تحت سلطانه وما لم يأت فلا حكم له فينا

[زمان الحال ما عنده خبر لا بما مضى ولا بما يأتي‏]

فإن قالوا قد يكون من حكم الزمان الحالي الذي هو الآن قضاء ما كان له أداؤه في الزمان الأول قلنا له فهو مؤد إذن إذ هذا زمان أداء ما سميته قضاء فإن أردت به هذا فمسلم في الطريق فأنت سميته قاضيا وزمان الحال ما عنده خبر لا بما مضى ولا بما يأتي فإنه موجود بين طرفي عدم فلا علم له بالماضي ولا بما جاء به ولا بما فات صاحبه منه‏

[شبه الحال بالماضي هو في الصورة لا في الحقيقة]

وقد يشبه ما يأتي به زمان الحال ما أتى به زمان الماضي في الصورة لا في الحقيقة كما تشبه صلاة العصر في زمان الحال الوجودي صلاة الظهر التي كانت في الزمان الماضي في أحوالها كلها حتى كأنها هي ومعلوم أن حكم العصر ما هو حكم الظهر حتى لو رأينا شخصا محافظا على الصلوات في أوقاتها واتفق أنه نسي الظهر أو نام عنها حتى دخل وقت العصر فرأيناه يصلي أربعا في ذلك الوقت صلاة الظهر ويغلب علينا إنه يصلي العصر للشبه الكثير الذي بينهما وليست هذه هذه‏

(وصل في فصل صفة القضاء لمن أفطر في رمضان)

فمن العلماء من أوجب التتابع في القضاء كما كان في الأداء ومنهم من لم يوجبه وهؤلاء منهم من خير ومنهم من استحب والجماعة على ترك إيجابه‏

(الاعتبار)

إذا دخل الوقت في الواجب الموسع بالزمان طلب الاسم الأول من المكلف الأداء فإذا لم يفعل المكلف وأخر الفعل إلى آخر الوقت تلقاه الاسم الآخر فيكون المكلف في ذلك الفعل قاضيا بالنسبة إلى الاسم الأول وأنه لو فعله في أول دخول الوقت كان مؤديا من غير دخل ولا شبهة وكان مؤديا بالنسبة إلى الاسم الآخر فالصائم المسافر أو المريض إذا أفطر إنما الواجب عليه عدة من أيام أخر في غير رمضان فهو واجب موسع الوقت من ثاني يوم من شوال إلى آخر عمره أو إلى شعبان من تلك السنة فيتلقاه الاسم الأول ثاني يوم من شوال فإن صامه كان مؤديا من غير شبهة ولا دخل وإن أخره إلى غير ذلك الوقت كان مؤديا من وجه قاضيا من وجه وبالتتابع في ذلك في أول زمانه يكون مؤديا بلا شك وإن لم يتابع فيكون قاضيا

[الكون كله في قبضة الأسماء الإلهية]

فمن راعى قصر الأمل وجهل الأجل أوجب ومن راعى اتساع الزمان خير ومن راعى الاحتياط استحب وكل حال من هذه الأحوال له اسم إلهي لا يتعدى حكمه فيه فإن الكون في قبضة الأسماء الإلهية تصرفه بطريقين بحسب حقائقها وبحسب استعدادات الأكوان لها لا بد من الأمرين لذي عينين فإن الأوصاف النفسية للأسماء وغير الأسماء لا تنقلب فافهم ذلك وتحققه تسعد إن شاء الله تعالى‏

(وصل في فصل من أخر قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر)

اختلف العلماء فيمن هذه حاله فقالت طائفة عليه القضاء والكفارة وقالت طائفة عليه القضاء ولا كفارة عليه وبه أقول‏

(الاعتبار)

المقامات التي لها جهات كثيرة مختلفة قد يغفل السالك عن حكمها في جهة ما من جهات متعلقاتها كالورع فإن له حكما في جهات كثيرة منها في الطعام والشراب واللباس والأخذ والنظر والاستماع والسعي واللمس والشم فإن عمر بن الخطاب أتى بمسك من المغانم قبل أن تأخذه القسمة ليعرض عليه فمسك بأنفه لئلا ينال‏

من رائحة شيئا دون المسلمين قبل أن تأخذه القسمة ورعا فسئل عن ذلك فقال إنما ينتفع من هذا بريحة وكذلك الورع في النسب والأسماء

[الإنسان مؤاخذ بالغفلات في الطريق الصوفي‏]

فإذا فات السالك وجه من وجوه متعلقات مثل هذا المقام وانتقل إلى غيره من المقامات وقد بقيت عليه بقية من حكم هذا المقام الذي انتقل عنه فإذا تعين عليه استعماله في وقت آخر لحالة تطلبه بذلك من مطعم أو غيره يتذكر ما فاته قبل ذلك منه فمنا من قال عليه الكفارة وكفارته التوبة مما جرى منه في تفريطه والاستغفار ومنا من قال لا كفارة عليه فإنه لم يتعمد ولا قصد انتهاك الحرمة وإنما جعله في ذلك عذر من تأويل في المسألة أو غفلة والإنسان في هذا الطريق مؤاخذ بالغفلات عند بعضهم ولهذا أوجب الكفارة عليه من أوجبها ومن يرى أنه غير مؤاخذ بالغفلات لم يوجب عليه كفارة

[الصوفي يعفو عمن أساء إليه بل ويحسن إليه‏]

والقضاء مجمع عليه عند الجميع وصورته إنه إذا نال منه أحد أمرا حرم على المتناول تناوله منه عرضا كان أو مالا أو أثرا بدنيا من جرح أو غيره وله أن يعفو عنه فيما يتناول ذلك منه فيعفو ويحسن ولا يؤاخذ بكل جريمة من الغير في حقه مما يعطي الورع المتعدي في ذلك أن لا يفعله فهذا هو صورة القضاء ثم إنه يستقصي جميع جهات متعلقات ذلك المقام جهده حتى لا يترك منه شيئا فتدبر هذه المسألة فإنها من أنفع المسائل في طريق الله‏

(وصل في فصل من مات وعليه صوم)

فمن قائل يصوم عنه وليه ومن قائل لا يصوم أحد عن أحد واختلف أصحاب هذا القول فبعضهم قال يطعم عنه وليه وبعضهم قال لا صيام ولا إطعام إلا أن يوصى به وقال قوم يصوم فإن لم يستطع أطعم وفرق قوم بين النذر والصيام المفروض فقالوا يصوم عنه وليه في النذر ولا يصوم في الصيام المفروض‏

(الاعتبار)

قال الله عز وجل والله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وقال تعالى النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ من أَنْفُسِهِمْ فالمريد صاحب التربية يكون الشيخ قد أهله وخصه بذكر مخصوص لنيل حالة مخصوصة ومقام خاص فمات قبل تحصيله فمنا من يرى أن الشيخ لما كان وليه وقد حال الموت بينه وبين ذلك المقام الذي لو حصل له نال به المنزلة الإلهية التي يستحقها رب ذلك المقام فيشرع الشيخ في العمل الموصل إلى ذلك المقام نيابة عن المريد الذي مات فإذا استوفاه أحضر ذلك الميت إحضار من مثله في خياله بصورته التي كان عليها وألبس تلك الصورة الممثلة ذلك الأمر وسأل الله أن يبقى ذلك عليه فحصلت نفس ذلك الميت في ذلك المقام على أتم وجوهه منة من الله وفضلا والله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏

[ابن عربى وشيخه أبو يعقوب الكومى‏]

وهذا مذهب شيخنا أبي يعقوب يوسف بن يخلف الكومي وما راضني أحد من مشايخي سواه فانتفعت به في الرياضة وانتفع بنا في مواجيده فكان لي تلميذا وأستاذا وكنت له مثل ذلك وكان الناس يتعجبون من ذلك ولا يعرف واحد منهم سبب ذلك وذلك سنة ست وثمانين وخمسمائة فإنه كان قد تقدم فتحي على رياضتى وهو مقام خطر فأفاء الله علي بتحصيل الرياضة على يد هذا الشيخ جزاه الله عني كل خير

[لا يقوم أحد عن أحد في العمل ولكن يطلبه له بهمته ودعائه‏]

ومن أهل الله من يقول لا يقوم أحد عن أحد في العمل ولكن يطلبه له بهمته ودعائه والجماعة على ذلك وهذا الأول نادر الوقوع فهذا اعتبار من يقول لا يصوم أحد عن أحد واعتبار من يقول يصوم عنه وليه ومن قال لا صيام ولا إطعام إلا أن يوصى به فهو أن يقول المريد عند الموت للشيخ اجعلني من همتك واجعل لي نصيبا من عملك عسى الله أن يعطيني ما كان في أملي وهذا إذا فعله المريد كان سوء أدب مع الشيخ حيث استخدمه في حق نفسه وتهمة منه للشيخ في نسيان حق المريد

[الشيخ لا ينسى أهل زمانه فكيف مريده المختص بخدمته‏]

والأصل في ذلك‏

أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه في حقه مرافقته في الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعني على نفسك بكثرة السجود

فنبهه بهذا العمل على نفسه وسوء أدبه معه والطريق يقتضي أن الشيخ لا ينسى أهل زمانه فكيف مريده المختص بخدمته فإنه من فتوة أهل هذا الطريق ومعرفتهم بالنفوس أنهم إذا كان يوم القيامة وظهر ما لهم من الجاه عند الله خاف منهم من آذاهم هنا في الدنيا فأول ما يشفعون يوم القيامة فيمن آذاهم قبل المؤاخذة وهذا نص أبي يزيد البسطامي وهو مذهبنا

[ابن عربى وشفاعته يوم القيامة فيمن أدركه بصره‏]

فإن الذين أحسنوا إليهم يكفيهم عين إحسانهم فهم بإحسانهم شفعاء أنفسهم عند الله بما قدموه من الخير في حق هذا الولي وهَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ومن عفا وأصلح فأجره على الله وذلك للعافين عن الناس بل الولي لا ينسى من يعرف الشيخ وإن كان الشيخ لا يعرفه فيسأل الله تعالى أن يغفر ويعفو عمن سمع بذكره فسبه وذمه أو أثنى عليه خيرا وهذا

ذقته من نفسي وأعطانيه ربي بحمد الله وعدني بالشفاعة يوم القيامة فيمن أدركه بصري ممن أعرف ومن لا أعرف وعين لي هذا المشهد حتى عاينته ذوقا صحيحا لا أشك فيه‏

[ابن عربى مع شيخه أبى إسحاق بن طريف بالجزيرة الخضراء]

وهذا مذهب شيخنا أيضا أبي إسحاق بن طريف وهو من أكبر من لقيته ولقد سمعت هذا الشيخ يوما وأنا عنده بمنزله بالجزيرة الخضراء سنة تسع وثمانين وخمسمائة وقال لي يا أخي والله ما أرى الناس في حق إلا أولياء عن آخرهم ممن يعرفني قلت له كيف تقول يا أبا إسحاق فقال إن الناس الذين رأوني أو سمعوا بي إما أن يقولوا في حقي خيرا أو يقولوا ضد ذلك فمن قال في حقي خيرا وأثنى علي فما وصفني إلا بصفته فلو لا ما هو أهل ومحل لتلك الصفة ما وصفني بها فهذا عندي من أولياء الله تعالى ومن قال في شرا فهو عندي ولي أطلعه الله على حالي فإنه صاحب فراسة وكشف ناظر بنور الله فهو عندي ولي فلا أرى يا أخي الأولياء لله وما قال لي هذا إلا من أجل كلام جرى بيني وبينه في حق إنسان من أهل سبتة كان خلف هذا الشيخ بخلاف ما كان يلقاه به فهذا بلغ من حسن اعتقاده وكان من الشيوخ الذين تحسب عليهم أنفاسهم ويعاقبون على غفلاتهم ومات في عقوبة غفلة ذكرناها في الدرة الفاخرة عند ذكري إياه فيها

[اعتبار من فرق بين النذر والصوم المفروض‏]

وأما من فرق بين النذر والصوم المفروض فإن النذر أوجبه الله عليه بإيجابه والصوم المفروض الذي هو رمضان أوجبه الله عليه ابتداء من غير إيجاب العبد فلما كان للعبد في واجب النذر تعمل بإيجابه صام عنه وليه لأنه عن وجوب عبد فينوب عنه في ذلك عبد مثله حتى تبرأ ذمته والصوم المفروض ابتداء لم يكن للعبد فيه تعمل فالذي فرضه عليه هو الذي أماته فلو تركه صامه فكانت الدية على القاتل وقال تعالى فيمن خرج مُهاجِراً إِلَى الله (وَ رَسُولِهِ) ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله فالذي فرق كان فقيه النفس سديد النظر علاما بالحقائق وهكذا حكمه في الاعتبار

(وصل في فصل المرضع والحامل إذا أفطرتا ما ذا عليهما)

فمن قائل يطعمان ولا قضاء عليهما وبه أقول فإنه نص القرآن والآية عندي مخصصة غير منسوخة في حق الحامل والمرضع والشيخ والعجوز ومن قائل تقضيان فقط ولا إطعام عليهما ومن قائل تقضيان وتطعمان ومن قائل الحامل تقضي ولا تطعم والمرضع تقضي وتطعم والإطعام مد عن كل يوم أو تحفن حفانا ويطعم كما كان أنس يصنعه‏

(الاعتبار)

الحامل الذي يملكه الحال والمرضع الساعي في حق الغير يتعين عليهما حق من حقوق الله فمن رأى أن الدين قبل الوصية قدم حق الغير على حق الله لمسيس الحاجة فإنه حكم الوقت ومن قدم حق الله على حق الغير ورأى‏

قول النبي صلى الله عليه وسلم إن حق الله أحق بالقضاء

ورأى أن الله قدم في القرآن الوصية على الدين في آية المواريث فقدم حق الله وإليه أذهب قال تعالى من بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ويرجح عندي حق الغرماء إذا لم يف ما بقي لهم من مال هذا الميت في بيت المال يؤديه عنه السلطان من الصدقات فإنهم من الثمانية الأصناف فلصاحب الدين أمر يرجع إليه في دينه وليس للوصية ذلك فوجب تقديمها بلا شك عند المنصف‏

[صاحب الحال ليس في حق من حقوق الله‏]

وأما المرضع وإن كانت في حق الغير فحق الغير من حقوق الله حيث شرع الله أداءها وصاحب الحال ليس في حق من حقوق الله لأنه غير مكلف في وقت الحال والمرضع كالساعي في حق الغير فهو في حق الله فإنه في أمر مشروع له فقد وكلناك بعد هذا البيان والتفصيل إلى نفسك في النظر فيمن ينبغي له القضاء والإطعام أو أحدهما ممن ذكرنا

(وصل في فصل الشيخ والعجوز)

أجمع العلماء على أنهما إذا لم يقدرا على الصوم أن يفطرا واختلفوا إذا أفطر أهل يطعمان أو لا يطعمان فقال قوم يطعمان وقال قوم لا يطعمان وبه أقول غير أنهم استحبوا لهم الإطعام والذي أقول به إن الإطعام إنما شرع مع الطاقة على الصوم وأما من لا يطيقه فقد سقط عنه التكليف في ذلك وليس في الشرع إطعام من هذه صفته من عدم القدرة عليه فإن الله ما كلف نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وما كلفها الإطعام فلو كلفها مع عدم القدرة لم نعدل عنه وقلنا به‏

(الاعتبار)

من كان مشهده أن لا قدرة له كأمثالنا أو يقول إن القدرة الحادثة ما لها أثر إيجاد في المقدور وكان مشهده أن الصوم لله فقد انتفى عنه الحكم بالصوم والإطعام يقول الله وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ وقال مصدقا لخليله الَّذِي (هُوَ) يُطْعِمُنِي فقرره ولم يرده والإطعام إنما هو عوض عن واجب يقدر عليه ولا واجب فلا عوض فلا إطعام وهجير صاحب هذا المقام لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏

وليس له في إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ مدخل ولا في نون نفعل وألف أفعل لكن له من هذه الأحرف الأربعة الزوائد حرف التاء المنقوط من أعلى بضمير المخاطب وقد تكون الياء المنقوطة من أسفل يفعل بضمير الهوية فاعلم ذلك وبالله التوفيق‏

(وصل في فصل من جامع متعمدا في رمضان)

أجمعوا أن عليه القضاء والكفارة وقيل لا يجب عليه إلا القضاء فقط لأن الكفارة في ذلك لم تكن عزمة لقرائن الأحوال لأنه صلى الله عليه وسلم يأمره عند عدم العتق والإطعام أن يصوم ولا بد إذ كان صحيحا ولو كان مريضا لقال له إذا وجدت الصحة فصم وقال قوم ليس عليه إلا الكفارة فقط ليس عليه قضاء والذي أذهب إليه أنه لا قضاء عليه واستحب له أن يكفر إن قدر على ذلك والله أعلم بحكمه في ذلك‏

(الاعتبار)

القدرتان تجتمعان على إيجاد ممكن من ممكن فيما ينسب من ذلك إلى العبد في الفعل عن كل من لا يصل عقله إلى معرفة ذلك إما بعتق رقبة من الرق مطلقا أو مقيدا فإن أعتقه من الرق مطلقا فهو أن يقيم نفسه في حال كون الحق عينه في قواه وجوارحه التي بها تميز عن غيره من الأنواع بالصورة والحد وإذا كان في هذا الحال وكان هذا نعته كان سيدا وزالت عبوديته مطلقا لأن العبودية هنا راحت إذ لا يكون الشي‏ء عبد نفسه فهو هو قال أبو يزيد في تحقق هذا المقام مشيرا تاليا إِنَّنِي أَنَا الله لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي هذا أوحى الله به لموسى وهو خطاب يعم الخلق أجمعين‏

[العبد المقيد]

وأما إن كان العبد مقيدا فهو إن يعتق نفسه من رق الكون فيكون حرا عن الغير عبد الله فإن عبوديتنا لله يستحيل رفعها وعتقها لأنها صفة ذاتية له واستحال العتق منها في هذا الحال لا في الحال الأول وقد نبه على ذلك بقوله تعالى قل اللهم مالك الملك فسماه ملكا ليصح له اسم المالك ولم يقل مالك العالم وقال أيضا وهو من باب الإشارة والتحقيق قل أعوذ برب الناس ملك الناس فمن باب التحقيق لما سماهم الناس ولم يسمهم باسم يقتضي لهم أن يكونوا حقا أضافه نفسه إليهم باسم الملك ومن باب الإشارة اسم فاعل من النسيان معرفا بالألف واللام لأنه نسي أن الحق سمعه وبصره وجميع قواه في حال كونه كله نورا

[الله في ذاته نور وفي عبده نورانى‏]

وهو المقام الذي سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه أن يقيم فيه أبدا

فقال واجعلني نورا

فإن الله من أسمائه النور بل هو النور للحديث الثابت نور إني أراه وقد صحفه بعض النقلة

فقال نوراني أراه‏

فحصل في هذا التصحيف معنى بديع وهو إذا جعل عبده نورا فيرى الحق فيه ومنه فعند ذلك يكون نورانيا لا غير فهو في ذاته نور وفي عبده نوراني فافهم ما قلنا

[شيئية الثبوت وأخذ العهد]

فلما لم يتذكر الناسي هذه الحال وهو في نفسه عليها غافل عنها خاطبه الحق مذكرا له بها في القرآن الذي تعبده بتلاوته لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ما كانوا قد نسوة فهذا يدلك على أنهم كانوا على علم متقدم في شيئية الثبوت وأخذ العهد

[الإطعام في الكفارة والتخلق بالاسم الإلهي المحيي‏]

وأما الإطعام في الكفارة فالطعام سبب في حفظ الحياة على متناولة فهو في الإطعام متخلق بالاسم المحيي لما أمات بما فعله عبادة لا مثل لها كان عليها فكان منعوتا بالمميت في فعلها لأنه تعمد ذلك فأمر بالإطعام ليظهر اسم المقابل الذي هو المحيي فافهم‏

[صوم شهرين وسير النفس في المنازل الإلهية]

وأما صوم شهرين في كفارته فالشهر عبارة في المحمديين عن استيفاء سير القمر في المنازل المقدرة وذلك سير النفس في المنازل الإلهية فالشهر الواحد يسير فيها بنفسه ليثبت ربوبية خالقه عليه عند نفسه والشهر الآخر يسير فيه بربه فإنه رجله التي يسعى بها من باب أن الحق جميع قواه وجوارحه فإنه بقواه قطع هذه المنازل والحق عين قواه فقطعها بربه لا بنفسه‏

[من الصوم أتى على‏]

وأما قول هذا الفاعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمره بالصوم في الكفارة أي اتصف بصفة الحق فإن الصوم له فقال من الصوم أتى علي فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحكه علامة على خفة الأمر ولما علم إن الحق أنطقه وما أراد ذلك الناطق وإن جهله ذلك الأعرابي فكأنه قال له في قوله كفر بالصوم أي كن حقا فنطق إن يقول من الحق أتى علي فإني لما كنت حقا زال التكليف عني فإن الحق لا يكلف فلما ذا تبقيني حقا أنزلني إلى العبودية فأوجب على الكفارة التي هي الستر أي لا تذكر أنك عصيتني بي‏

[ما بين لابتيها أفقر منى‏]

ولهذا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أ تعطيها لأفقر مني ما بين لابتيها أفقر مني فأضاف كمال الفقر إليه لأنه رجع إلى العبودية عن سيادته فعظم ذله وفقره فإن استصحاب الفقر لا ألم في الفقير مثل ألم من كان غنيا ثم‏

يفتقر فإن ألمه أشد والحسرة عنده أعظم فإن حكمه حكم من استؤسر وكان حرا فيجد ألم الاسترقاق لكونه حصل فيه عن حرية

من كان ملكا فعاد ملكا *** قد حاز هلكا ومات فتكا

والعبد الأصلي المؤثل القن لا يجد ذلك فلهذا قال ما بين لابتيها أفقر مني أنطقه الله بذلك من حيث لا يشعر حتى يكون مناسبا لما أنطقه به أيضا في قوله من الصوم أتى علي‏

[حكمة الله في إجراء الحقائق على السنة عباده‏]

فانظر حكمة الله في إجراء هذه الحقائق في عباده من حيث لا يشعرون فهو المتكلم على الحقيقة لا هم فهذا حكم الكفارة على من هذا فعله والحمد لله قد دخل في هذا جميع الأقوال التي ذكرنا في هذه المسألة إذا تدبرتها فلا حاجة للاطالة في ذلك فإنه كالتكرار وإن كان ذكرها يتضمن فوائد زائدة على ما ذكرنا لاختلاف النسب ولكن يكفي هذا في اعتبار هذه المسألة

(وصل في فصل من أكل أو شرب متعمدا)

فقال قوم عليه القضاء والكفارة التي أوجبها في الجماع وقال آخرون لا كفارة عليه والذي أقول به إنه لا قضاء عليه ولا كفارة فإنه لا يقضيه أبدا ولكن يكثر من صوم التطوع لتكمل له فريضته من تطوعه فإن الفرائض عندنا المقيدة بالأوقات إذا ذهب وقتها بتعمده من الواجبة عليه لا يقضيها أبدا مطلقا فليكثر من التطوع الذي يناسبها إلا الحج وإن كان مربوطا بوقت ولكنه مرة واحدة في العمر إلا من يقول بالاستطاعة ولكن متى حج كان مؤديا ويكون عاصيا في التأخير مع الاستطاعة

(الاعتبار)

الأكل والشرب تغذ له فأحياه الأكل والشرب عند هذا السبب لأن حياته مستفادة كما كان وجوده مستفادا ليتميز الممكن الواجب بالغير عن الواجب بنفسه والصوم لله لا للعبد فلا قضاء عليه ولا كفارة

[اعتبار من قال بالقضاء ومن قال بالكفارة]

ومن قال بالكفارة أوجب عليه ستر مقامه وحكمه فيها حكم المجامع في الاعتبار سواء ومن قال بالقضاء عليه يقول ما أوجب عليه القضاء إلا كونه غيرا كما كان في أصل التكليف كما كان في صوم رمضان سواء فيقضيه برده إلى من الصوم له فإن الصوم للعبد الذي هو لله كمن سلف شيئا من غيره فقضاؤه ذلك الدين إنما هو رده إلى مستحقه مع ما عاد عليه من الانتفاع به والعبد إنما يصوم مستسلفا ذلك لأن الصمدانية ليست له والصوم صمدانية فهو لله لا له فاعلم ذلك‏

(وصل في فصل من جامع ناسيا لصومه)

فقيل لا قضاء عليه ولا كفارة وبه أقول وقيل عليه القضاء دون الكفارة وقيل عليه القضاء والكفارة

(الاعتبار)

هذا من باب الغيرة الإلهية لما اتصف العبد بما هو لله وإن كان مشروعا وهو الصوم أنساه الله أنه صائم فأقامه في مقام وحالة تفسد عليه صيامه تنبيها له أن هذه الحقيقة لا يتصف بها إلا الله غيرة إلهية أن يراجع فيما هو له بضرب من الاشتراك فلما لم يكن للعبد في ذلك قصد ولا انتهك به حرمة المكلف سقط عنه القضاء والكفارة والجماع قد عرفت معناه فيمن جامع متعمدا

[اعتبار القول: بالقضاء دون الكفارة]

ومن قال عليه القضاء دون الكفارة قال يشهد بالصمدية له دون نفسه في حال قيامها به فيكون موصوفا بها لا موصوفا بها مثل قوله وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ فنفى وأثبت‏

[اعتبار القول بالقضاء والكفارة معا]

ومن قال عليه القضاء والكفارة قال النسيان هو الترك والصوم ترك وترك الترك وجود نقيض الترك كما أن عدم العدم وجود ومن هذه حاله فلم يقم به الترك الذي هو الصوم فما امتثل ما كلف فلا فرق بينه وبين المتعمد فوجب عليه القضاء والكفارة والاعتبار قد تقدم في ذلك وأنه ليس في الحديث أن ذلك الأعرابي كان ذاكرا لصومه حين جامع أهله ولا غير ذاكر ولا استفصله رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان ذاكرا لصومه أو غير ذاكر وقد اجتمعا في التعمد للجماع فوجب على الناسي كما وجب على الذاكر لصومه ولا سيما في الاعتبار فإن الطريق تقتضي المؤاخذة بالنسيان لأنه طريق الحضور فالنسيان فيه غريب‏

(وصل في فصل هل الكفارة مرتبة كما هي في المظاهر أو على التخيير)

فإنه قال له أعتق ثم قال له صم ثم قال له أطعم فلا يدري أ قصد عليه السلام الترتيب أم لا فقيل إنها على الترتيب أولها العتق فإن لم يجد فالصوم فإن لم يستطع فالإطعام وقيل هي على التخيير ومنهم من استحب الإطعام أكثر من العتق ومن الصيام ويتصور هنا ترجيح بعض هذه الأقسام على بعض بحسب حال المكلف أو مقصود الشارع‏

[المقصود بالحدود إنما هو الزجر عند بعضهم‏]

فمن رأى‏

أنه يقصد التغليظ وإن الكفارة عقوبة فإن كان صاحب الواقعة غنيا أو ملكا خوطب بالصيام فإنه أشق عليه وأردع فإن المقصود بالحدود والعقوبات إنما هو الزجر وإن كان متوسط الحال في المال ويتضرر بالإخراج أكثر مما يشق عليه الصوم أمر بالعتق أو الإطعام وإن كان الصوم عليه أشق أمر بالصوم‏

[الذي ينبغي أن يقدم إنما هو رفع الحرج‏]

ومن رأى أن الذي ينبغي أن يقدم في ذلك ما يرفع الحرج فإنه تعالى يقول وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ من حَرَجٍ فيكلف من الكفارة ما هو أهون عليه وبه أقول في الفتيا وإن لم أعمل به في حق نفسي لو وقع مني إلا أن لا أستطيع فإن الله لا يكلف نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وما آتاها سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً وكذلك فعل فإنه قال فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ثم إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فأتى بعسر واحد ويسرين معه فلا يكون الحق يراعي اليسر في الدين ورفع الحرج ويفتي المفتي بخلاف ذلك‏

[كون الحدود وضعت للزجر ما فيه نص من الله ورسوله‏]

فإن كون الحدود وضعت للزجر ما فيه نص من الله ولا رسوله وإنما يقتضيه النظر الفكري فقد يصيب في ذلك وقد يخطئ ولا سيما وقد رأينا خفيف الحد في أشد الجنايات ضررا في العالم فلو أريد الزجر لكانت العقوبة أشد فيها وبعض الكبائر ما شرع فيها حدا ولا سيما والشرع في بعض الحدود في الكبائر التي لا تقام إلا بطلب المخلوق وإن أسقط ذلك سقطت والضرر بإسقاط الحد في مثله أظهر كولي المقتول إذا عفا وليس للإمام أن يقتله وأمثال هذا من الخفة والإسقاط فيضعف قول من يقول وضعت الحدود للزجر

[سبب وضع الحدود وإسقاطها وتخفيفها وتشديدها]

ولو شرعنا نتكلم في سبب وضع الحدود وإسقاطها في أماكن وتخفيفها في أماكن وتشديدها في أماكن أظهرنا في ذلك أسرارا عظيمة لأنها تختلف باختلاف الأحوال التي شرعت فيها والكلام فيها يطول وفيها إشكالات مثل السارق والقاتل وإتلاف النفس أشد من إتلاف المال وإن عفا ولي المقتول لا يقتل قاتله وإن عفا رب المال المسروق أو وجد عند السارق عين المال فرد على ربه ومع هذا فلا بد أن تقطع يده على كل حال وليس للحاكم أن يترك ذلك ومن هنا تعرف أن حق الله في الأشياء أعظم من حق المخلوق فيها بخلاف ما تعتقده الفقهاء

قال صلى الله عليه وسلم حق الله أحق أن يقضى‏

(الاعتبار)

الترتيب في الكفارة أولى من التخيير فإن الحكمة تقتضي الترتيب والله حكيم والتخيير في بعض الأشياء أولى من الترتيب لما اقتضته الحكمة والعبد في الترتيب عبد اضطرار كعبودة الفرائض والعبد في التخيير عبد اختيار كعبودة النوافل وفيها رائحة من عبودية الاضطرار وبين عبادة النوافل وعبادة الفرائض في التقريب الإلهي بون بعيد في علو المرتبة فإن الله جعل القرب في الفرائض أعظم من القرب في النوافل وإن ذلك أحب إليه ولهذا جعل في النوافل فرائض وأمرنا أن لا نبطل أعمالنا وإن كان العمل نافلة لمراعاة عبودية الاضطرار على عبودية الاختيار لأن ظهور سلطان الربوبية فيها أجلي ودلالتها عليها أعظم‏

(وصل في فصل الكفارة على المرأة إذا طاوعت زوجها فيما أراد منها من الجماع)

فمن قائل عليها الكفارة ومن قائل لا كفارة عليها وبه أقول فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي ما ذكر المرأة ولا تعرض إليها ولا سأل عن ذلك ولا ينبغي لنا أن نشرع ما لم يأذن به الله‏

(الاعتبار)

النفس قابلة للفجور والتقوى بذاتها فهي بحكم غيرها بالذات فلا نقدر تنفصل عن التحكم فيها فلا عقوبة عليها والهوى والعقل هما المتحكمان فيها فالعقل يدعوها إلى النجاة والهوى يدعوها إلى النار فمن رأى أنه لا حكم لها فيما دعيت إليه قال لا كفارة عليها ومن رأى أن التخيير لها في القبول وإن حكم كل واحد منهما ما ظهر له حكم إلا بقبولها إذ كان لها المنع مما دعيت إليه والقبول فلما رجحت أثيبت إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر فقيل عليها الكفارة

(وصل في فصل تكرر الكفارة لتكرر الإفطار)

فقيل إنه من وطئ ثم كفر ثم وطئ في يوم واحد إن عليه كفارة أخرى وقيل من وطئ مرارا في يوم واحد فليس عليه إلا كفارة واحدة واختلفوا أيضا فيمن وطئ في يوم من رمضان ولم يكفر حتى وطئ في يوم ثان فقال بعضهم عليه لكل يوم كفارة وقال بعضهم عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الجماع الأول والذي أقول به إن عليه كفارة واحدة لأنها ما شرعت إلا لمراعاة رمضان في حال الصوم لا لمراعاة الصوم لأنه لو أفطر في صوم القضاء لم يكفر ولو كانت هذه الكفارة مثل كفارة الظهار لم يوجب عليه كفارة أخرى إذا كفر عن الجماع الأول فلما أوجبها بعد الوقوع لهذا جعلناها تلزمه‏

إذا أوقع الوطء بعد تكفير وطء قبله متعددا كان ذلك الأول أو واحدا

(الاعتبار)

الروح الواحد يدبر أجساما متعددة إذا كان له الاقتدار على ذلك ويكون ذلك في الدنيا للولي بخرق العادة وفي الآخرة نشأة الإنسان تعطي ذلك وكان قضيب البان ممن له هذه القوة ولذي النون المصري‏

[الروح الواحد يدبر سائر أعضاء البدن‏]

كما يدبر الروح الواحد سائر أعضاء البدن من يد ورجل وسمع وبصر وغير ذلك كما تؤاخذ النفس بأفعال الجوارح على ما يقع منها كذلك الأجساد الكثيرة التي يدبرها روح واحد أي شي‏ء وقع منها يسأل عنه ذلك الروح الواحد وإن كان عين ما يقع من هذا الجسم من الفعل مثل ما يقع من الجسم الآخر فيكون ما يلزمه من المؤاخذة على فعل أحد الجسمين يلزمه على فعل الآخر وإن كان مثله‏

[ما يلزم الروح الواحد من تكرار الفعل بتعدد الأجسام‏]

وقسم المذاهب على هذا الحد فيما يلزم الروح الواحد من تكرار الفعل بتعدد الأجسام المماثل لتعدد الزمان في حق المجامع في رمضان فاعلم ذلك‏

(وصل في فصل هل يجب عليه الإطعام إذا أيسر وكان معسرا في وقت الوجوب)

فمن قائل لا شي‏ء عليه وبه أقول ومن قائل يكفر إذا أيسر

(الاعتبار)

المسلوب الأفعال مشاهدة وكشفا معسر لا شي‏ء له فلا يلزمه شي‏ء فإن حجب عن هذا الشهود وأثبت ذلك من طريق العلم بعد الشهود كمتخيل المحسوس بعد ما قد كان أدركه بالحس فإن الأحكام الشرعية تلزمه بلا شك ولا يمتنع الحكم في حقه بوجود العلم ويمتنع بوجود المشاهدة فإنه يشاهد الحق محركا له ومسكنا وكذلك إن كان مقامه أعلى من هذا وهو أن يكون الحق سمعه وبصره على الكشف والشهود فمنا من قال حكمه حكم صاحب العلم فإن الله قد أوجب على نفسه ولا يدخل بذلك تحت حد الواجب ومنا من ألحقه بمشاهدة الأفعال منه تعالى كما قدمناه فلا يلزمه الحكم كما لم يلزمه هناك فتارة ينطلق على هذا العبد اسم الحق وتارة ينطلق عليه اسم العبد مع اختلاف هذه الأحوال وفي كل واحد من هذه المراتب يلزمه الحكم من وجه وينتفي عنه من وجه‏

(وصل في فصل من فعل في صومه ما هو مختلف فيه كالحجامة والاستقاء وبلع الحصى والمسافر يفطر أول يوم يخرج عند من يرى أنه ليس له أن يفطر)

فكل من أوجب في هذه الأفعال وأشباهها الفطر اختلفوا فمن قائل منهم عليه القضاء ومن قائل منهم عليه القضاء والكفارة وهكذا كل مختلف فيه والذي أذهب إليه مما ذكرناه أن الاستقاء فيه القضاء للخبر وقد تقدم اعتبار ما ذكرناه من هذه الأفعال فمن أفطر في يوم يجوز له الإفطار فيه كالمرأة تفطر قبل أن تحيض ثم تحيض في ذلك اليوم والمريض والمسافر يفطران قبل المرض وقبل السفر ثم يمرض في ذلك اليوم أو يسافر فمذهبنا عليه القضاء ولا كفارة وإنما أوجبنا عليه القضاء لأنها حاضت أو مرض أو سافر وأما حكمه في الإثم حكم من أفطر متعمدا حتى أنها لو لم تحض أو لم يمرض أو لم يسافر ما يقضي ذلك اليوم أبدا وليكثر من صيام التطوع ومع هذا فأمرهم إلى الله لأنهم أفطروا في يوم يجوز لهم الفطر فيه عند الله وأما الظاهر فما قلناه‏

(الاعتبار)

في هذا الفعل رائحة من الكشف الذي للنفوس واستطلاع على الغيب من حيث لا يشعر وسببه أنها من عالم الغيب وإن كانت النشأة الجسمية أمها فإن الروح الإلهي أبوها فلها الاطلاع من خلف حجاب رقيق بحيث إنه لو دخل صاحب هذا الفعل طريق أهل الله سارع إليه الكشف لاستعداده وتأهله لذلك ومثل هذا لا يسمى اتفاقيا إذا لأمر الاتفاقي عندنا لا يصح فإن الأمر كله لله والله لا يحدث شيئا بالاتفاق وإنما يحدثه عن علم صحيح وإرادة وقضاء غيبي وقدر فلا بد من كون ما هو كائن في علمه‏

[تعلق الحكم الشرعي بصاحب الكشف والاستطلاع الغيبى‏]

وإنما بقي هل يتعلق بمن ظهر عليه مثل هذا الفعل الإلهي إثم أم لا فعندنا الإثم متعلق به ولو حصل له العلم الصحيح بأنه في يوم يجوز له الإفطار فيه ولم يتلبس بالسبب فإنه ما شرع له الفطر إلا مع التلبس بالحال الذي تسمى به حائضا أو مريضا أو مسافرا في اللسان الظاهر هذا مذهب المحققين من أهل الله وهو مذهبنا في مثل هذه المسألة والحكم في صاحبها لله إن شاء عفا وإن شاء آخذ فضلا وعدلا إلا إن كان حاله ممن قد أعلم ما يقع منه من الجرائم مشاهدة وكشفا ومن اطلاعه على المقدر عليه اطلاعه أنه غير مؤاخذ بذلك عند الله فإن لم يطلع فلا يبادر ولا يكن له تعمل في ذلك ما لم يعلم علم الله فيه فإن علم أنه مؤاخذ ولا بد فيعلم إن‏

الله قد راعى حكم الظاهر في العموم فيتهيأ لقضاء الله النافذ فيه وهذا عندنا ليس بواقع أصلا وإن كان جائزا عقلا

[حوار الله مع إبليس‏]

قيل لإبليس لم أبيت عن السجود قال يا رب لو أردت مني السجود لسجدت قال له متى علمت أني لم أرد منك السجود بعد حصول الإباية والمخالفة أو قبل ذلك فقال يا رب بعد وقوع الإباية علمت فقال بذلك آخذتك‏

[عباد الله الذين أطلعهم على ما قدر عليهم من المعاصي‏]

واعلم أن من عباد الله من يطلعهم الله على ما قدر عليهم من المعاصي فيسارعون إليها من شدة حيائهم من الله ليسارعوا بالتوبة وتبقي خلف ظهورهم ويستريحون من ظلمة شهودها فإذا تابوا رأوها عادت حسنة على قدر ما تكون ومثل هذا لا يقدح في منزلته عند الله فإن وقوع ذلك من مثل هؤلاء لم يكن انتهاكا للحرمة الإلهية ولكن بنفوذ القضاء والقدر فيهم وهو قوله لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ فسبقت المغفرة وقوع الذنب فهذه الآية قد يكون لها في حق المعصوم وجه وهو أن يستر عن الذنوب فتطلبه الذنوب فلا تصل إليه فلا يقع منه ذنب أصلا فإنه مستور عنه أو يستر عن العقوبة فلا تلحقه فإن العقوبة ناظرة إلى محال الذنوب فيستر الله من شاء من عباده بمغفرته عن إيقاع العقوبة به والمؤاخذة عليه والأول أتم فتقدمت المغفرة من قبل وقوع الذنب فعلا كان أو تركا فلا يقع إلا حسنة يشهدها وحسنها

[عباد الله الذين لا يأتون إلا ما أبيح لهم‏]

ومن عباد الله من لم يأت في نفس الأمر إلا ما أبيح له أن يأتيه بالنظر إلى هذا الشخص على الخصوص وهذا هو الأقرب في أهل الله فإنه قد ثبت في الشرع أن الله يقول للعبد لحالة خاصة افعل ما شئت فقد غفرت لك فهذا هو المباح ومن أتى مباحا لم يؤاخذه الله به وإن كان في العموم في الظاهر معصية فما هو عند الشرع في حق هذا الشخص معصية ومن هذا القبيل هي معاصي أهل البيت عند الله‏

قال عليه السلام في أهل بدر وما يدريكم لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏

وفي الحديث الثابت أن عبدا أذنب ذنبا فيقول رب اغفر لي فيقول الله أذنب عبدي ذنبا فعلم إن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب إلى أن قال في الرابعة أو في الثالثة افعل ما شئت فقد غفرت لك‏

فأباح له جميع ما كان قد حجره عليه حتى لا يفعل إلا ما أبيح له فعله فلا يجري عليه عند الله لسان ذنب وإن كنا لجهلنا بمن هذه صفته وهذا حكمه عند الله أن نعرفه فلا يقدح ذلك في منزلته عند الله‏

[أحكام الشرع مرتبة على الأحوال‏]

فمن هذه حالته ما فعل إلا ما أبيح له فعله أو تركه فإن الحكم يترتب على الأحوال فحال أهل الكشف على اختلاف أحوالهم ما هو حال من ستر عنه حاله فمن سوى بينهما فقد تعدى فيما حكم به أ لا ترى المضطر ما حرمت الميتة عليه قط متى وجد الاضطرار وغير المضطر ما أحلت له الميتة قط هذا ظاهر الشرع فأحكام الشرائع على الأحوال ونحن فيما جهلنا حاله أن نحسن الظن به ما وجدنا لذلك سبيلا

(وصل في فصل من أفطر متعمدا في قضاء رمضان)

فأكثر العلماء على أنه لا كفارة عليه وإليه أذهب وعليه القضاء وقال بعضهم عليه قضاء يومين ولصاحب هذا القول وجه دقيق خفي أداه إلى هذا القول وهو أنه مخير في القضاء في ذلك اليوم فاختار القضاء ثم بدا له فأفطر ولو كان متنفلا أوجبنا عليه بالشروع قضاء ذلك اليوم فهذا هو اليوم الواحد واليوم الآخر يوم رمضان الذي عليه فما قصر في نظره صاحب هذا القول وقال قتادة عليه القضاء والكفارة

(الاعتبار)

من كان مشهده الاسم الإلهي رمضان في حال القضاء كان حكمه حكم الأداء وحكم الأداء فيمن أفطر متعمدا في رمضان قد تقدم الكلام فيه وما فيه من الخلاف فهو بحسب ما هو عنده فيجري على ذلك الأسلوب فيه وفي اعتباره‏

[الذي مشهده غير الاسم الإلهي الذي يخص شهره‏]

ومن لم يكن مشهده الاسم الإلهي الذي يخص شهره الذي أوقع فيه القضاء لا شهر رمضان ولا اسم رمضان بل مشهده الاسم الذي يحكم عليه بالإمساك فلا يكفر ولكن فيمن كان مذهبه أن يكفر في شهر رمضان وفي قوله تعالى فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ كفاية فإنه قد سماها أخر فما هي أيام رمضان وإنما هي أيام صوم على النكرة أي يوم شاء ولا يسمى يوما إلا بكماله فإذا لم يكمل في حقه فليس بيوم صومه‏

[الأسماء الإلهية التي للشهور القمرية]

الأسماء التي للشهور القمرية رمضان لشهر رمضان الرفيع لشوال الرحمن لذي قعدة المريد لذي حجة المحرم للمحرم المخلي لصفر المحيي لربيع الأول المعيد لربيع الآخر الممسك لجمادى الأولى الرب بمعنى الثابت لجمادى الآخرة العظيم لرجب الفاصل والحاكم لشعبان وما في معنى كل اسم من هذه الأسماء الإلهية

(وصل في فصل الصوم المندوب إليه)

وسأذكر من ذلك ما هو مرغب فيه بالحال كالصوم في الجهاد وبالزمان كصوم الإثنين والخميس وعرفة وعاشوراء والعشر وشعبان وأمثال ذلك وما هو معين في نفسه من غير تقييده بيوم مخصوص من أيام الجمعة كعاشوراء وعرفة فمن كونه معين الشهر ألحقناه بالزمان ومن كونه مجهولا في أيام الجمعة لم نقيده بالزمان ومنه ما هو معين في الشهور كشهر شعبان ومنه ما هو مطلق في الأيام مقيد بالشهور كالأيام البيض وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ومنه ما هو مطلق كصوم أي يوم شاء ومنه ما هو مقيد بالتوقيت كصيام داود صيام يوم وفطر يوم وما يجري هذا المجرى وأما صوم يوم عرفة في عرفة فمختلف فيه وفي غير عرفة مرغب فيه إلا أنه على كل حال يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده وأما صوم الستة الأيام من شوال فمرغب فيها والخلاف في وقتها من شوال وفي تتابعها وفيها خلاف شاذ وهو أن يوقع أول يوم منها في شوال وباقي الأيام في سائر أيام السنة

(وصل في فصل الصوم في سبيل الله)

[صوم العبيد]

خرج مسلم في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه من النار سبعين خريفا

فذكر صوم العبيد لا صوم الأحرار والعبيد بالحال قليل وبالاعتقاد جميعهم والصوم تشبيه إلهي ولهذا نفاه عن العبد

بقوله تعالى الصوم لي وليس للعبيد من الصوم إلا الجوع‏

فالتنزيه في الصوم لله والجوع للعبد

[عند ما يقام العبد في مقام التشبه الإلهي‏]

فإذا أقيم العبد في التشبيه بالإله المعبر عنه بالتخلق بالأسماء في صفة القهر والغلبة للمنازع الذي هو العدو ولهذا جعله في الجهاد أعني الصوم لأن السبيل هنا في الظاهر الجهاد عرفنا هذا بقرائن الأحوال لا مطلق اللفظ فإن أخذناه على مطلق اللفظ لا على العرف وهو نظر أهل الله في الأسماء يراعون ما قيد الله وما أطلقه فيقع الكلام بحسب ما جاء فجاء بلفظ التنكير في السبيل ثم عرفه بالإضافة إلى الله تعالى‏

[الله هو الاسم الجامع لجميع حقائق الأسماء]

والله هو الاسم الجامع لجميع حقائق الأسماء كلها وكلها لها بر مخصوص وسبيل إليها فأي بر كان فيه العبد فهو في سبيل بر وهو سبيل الله فلهذا أتى بالاسم الجامع فعم كما تعم النكرة أي لا تعين وكذلك نكر يوما وما عرفه ليوسع بذلك كله على عبيده في القرب إلى الله ثم نكر سبعين خريفا فأتى بالتمييز والتمييز لا يكون إلا نكرة ولم يعين زمانا فلم ندر هل سبعين خريفا من زمان أيام العرب أو أيام ذي المعارج أو أيام منزلة من المنازل أو أيام واحد من الجواري الخنس والكنس أو من أيام الحركة الكبرى أو من الأيام المعلومات عندنا فأبهم الأمر فساوى التنكير الذي في مساق الحديث‏

[مدرجة التحقيق في النظر في كلام الله والمترجمين عنه‏]

وكذلك قوله وجهه أبهمه هل هو وجهه الذي هو ذاته أو وجهه المعهود في العرف وكذلك قوله من النار بالألف واللام هل أراد به النار المعروفة أو الدار التي فيها النار لأنه قد يكون على عمل يستحق دخول ذلك الدار ولا تصيبه النار وعلى الحقيقة فما منا إلا من يردها فإنها الطريق إلى الجنة ولو لم يكن في المعنى إلا كون الصراط عليها في الآخرة وفي الدنيا حفت بالمكاره وقد ألقيتك على مدرجة التحقيق في النظر في كلام الله وفي كلام المترجم عن الله من رسول مرسل أو ولي محدث‏

(وصل في فصل تخيير الحامل والمرضع في صوم رمضان مع الطاقة عليه بين الصوم والإفطار)

فأشبه المفروض من وجه وهو إذا اختاره وقبل التخيير كان حكمه في حقه حكم المباح المخير في فعله وتركه فأشبه التطوع وفعل المندوب إليه خير من تركه ولهذا قال فيه وأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ‏

خرج مسلم عن سلمة بن الأكوع قال كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين حتى نزلت هذه الآية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فمنهم من جعل ذلك نسخا ومنهم من جعله تخصيصا

وهو مذهبنا فبقي حكم الآية في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولدهما وسماه الله تطوعا وقال فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فنكر خيرا فدخل فيه الإطعام والصوم ذكر البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قال ابن عباس ليست بمنسوخة هو للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وقال أبو داود عن ابن عباس أثبتت في الحبلى والمرضع وقال الدارقطني عن ابن عباس في هذا يطعم كل يوم مسكينا نصف صاع من حنطة

[الحق إذا خير العبد فقد حيره‏]

اعلم أن الحق إذا خير العبد فقد حيره فإن‏

حقيقته العبودية فلا يتصرف إلا بحكم الاضطرار والجبر والتخيير نعت السيد ما هو نعت العبد وقد أقام السيد عبده في التخيير اختبارا وابتلاء ليرى هل يقف مع عبوديته أو يختار فيجري في الأشياء مجرى سيده وهو في المعنى مجبور في اختياره مع كون ذلك عن أمر سيده فكان لا يزول عن عبوديته ولا يتشبه بربه فيما أوجب الله عليه التخيير فمن العبيد من حار ولا يدري ما يرجح ومن العبيد من قال إن ربي يقول ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فنفى فأنا واقف مع النفي فلا أخرج عن عبوديتي طرفة عين ومنهم من قال إن ربي يقول ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ من ذواتهم بل أنا أبحت لهم التصرف على الاختيار اخترت لهم ذلك وعينت لهم محالها ومن محالها ما جاء في هذه الآية من التخيير بين الصوم والفطر وبعض الكفارات‏

[الأجر في الكفارات المخير فيها مضاعف‏]

ولما نبه عباده على إن الصوم خير لهم إذا اختاروه أبان لهم بذلك عن طريق الأفضلية ليرجحوا الصوم على الفطر فكان هذا من رفقه سبحانه بهم حيث أزال عنهم الحيرة في التخيير بهذا القدر من الترجيح ومع هذا فالابتلاء له مصاحب لأنه تعالى لم يوجب عليه فعل ما رجحه له بل أبقى له الاختيار على بابه ولذلك لا يأثم بالإفطار فمن صامه فقد أدى واجبا فإنه فرض عليه فعل أحدهما لا على التعيين فإذا عينه المكلف وهو العبد تعينت الفريضة فيه وهو في أصله مخير فيه فهو يشبه صوم التطوع فيحصل للعبد الذي هذا حاله إذا صامه أجر الفرض وأجر التطوع وأجر المشقة فهو أعظم أجر أو أكثر من الذي يؤدي الواجب غير المخير وكذلك الأجر في الكفارات المخير فيها أجر الوجوب وأجر التطوع وهذا من كرم الله في التكليف انتهى الجزء السابع والخمسون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل في فصل تبييت الصيام في المفروض والمندوب إليه)

[يتفاضل الصائمون في الأجر بحسب التبيت‏]

خرج النسائي عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها إن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له يكتب له الصيام من حين يبيت‏

من أول الليل كان أو وسطه أو آخره فيتفاضل الصائمون في الأجر بحسب التبييت ويؤيد ذلك الوصال فكما يكتب له في إيصال يومه بالطرف الأول من ليله يكتب له في اتصال طرفه الآخر من ليله بيومه‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان مواصلا فليواصل حتى السحر

وسيرد الكلام في الوصال والسحور في هذا الباب‏

[الحق على التحقيق غيب في شهود وشهود في غيب‏]

فإن في هذا الحديث أعني من كان مواصلا إشعارا بالترغيب في أكلة السحور فالليل أيضا في الوصال محل للصوم ومحل للفطر فصوم الليل على التخيير كصوم التطوع في اليوم والصوم لله في الزمانين فإنه يتبع الصائم ففي أي وقت انطلق عليك اسم صائم فإن الصوم لله وهو بالليل أوجه لكونه أكثر نسبة إلى الغيب والحق سبحانه غيب لنا من حيث وعدنا برؤيته وهو من حيث أفعاله وآثاره مشهود لنا والحق على التحقيق غيب في شهود وكذلك الصوم غيب في شهود لأنه ترك والترك غير مرئي وكونه منويا فهو مشهود فإذا نواه في أي وقت نواه من الليل فلا ينبغي له أن يأكل بعد النية حتى تصح النية مع الشروع فكل ما صام فيه من الليل كان بمنزلة صوم التطوع حتى يطلع الفجر فيكون الحكم عند ذلك لصوم الفرض فيجمع بين التطوع والفرض فيكون له أجرهما

[في الصوم يتقرب العبد إلى مولاه بصفته‏]

ولما كان الصوم لله وأراد أن يتقرب العبد بدخوله فيه واتصافه به إلى الله تعالى كان الأولى أن يبيته من أول الثلث إلى آخر من الثلث الأول أو الأوسط فإن الله يتجلى في ذلك الوقت في نزوله إلى السماء الدنيا فيتقرب العبد إليه بصفته وهو الصوم فإن الصوم لا يكون إلا لله إلا إذا اتصف به العبد وما لم يتصف به العبد لم يكن ثم صوم يكون لله فإنه في هذا الموطن كالقرى لنزول الحق إليه وعليه‏

[الجزاء من الله للصائم من غير واسطة]

ولما كان الصيام بهذه المثابة كما ذكرناه تولى الله جزاءه بأنانيته لم يجعل ذلك لغيره كما كان الصيام من العبد لله من غير واسطة كان الجزاء من الله للصائم من غير واسطة ومن يلقي سيده بما يستحقه كان إقبال السيد على من هذا فعله أتم إقبال لأن السيد ظهر في هذا الموطن ظهور مستفيد فقابله بنفسه ولم يكل كرامته لغيره فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ‏

(وصل في فصل في وقت فطر الصائم)

[بالغروب يتولى الصائم الاسم الفاطر]

خرج مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان فلما غابت‏

الشمس قال يا فلان أنزل فاجدح لنا قال يا رسول الله إن عليك نهارا قال أنزل فاجدح لنا قال فنزل فجدح فأتاه به فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال إذا غابت الشمس من هاهنا وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم‏

فسواء أكل أو لم يأكل فإن الشرع أخبر أنه قد أفطر أي أن ذلك ليس بوقت للصوم وأنه بالغروب تولاه الاسم الفاطر

[إتيان الليل هو ظهور سلطان الغيب لا ظهور ما في الغيب‏]

وإتيان الليل ظهور سلطان الغيب لا ظهور ما في الغيب فجاء ليستر ما كانت شمس الحقيقة كشفته غيرة لعدم احترام المكاشفين لما عاينوه من شعائر الله وحرماته فإن البصر قد أدرك ما لو اعتبر في شي‏ء منه ما وفي بما يجب عليه من التعظيم الإلهي له فلما قلت الحرمة منهم ستره الليل غيرة فدخل في غيب الليل‏

[علوم الأنوار وعلوم الأسرار]

غير أن الإنسان إذا دخل في الغيب واتصف به أدرك ما فيه من علوم الأنوار لا من علوم الأسرار وعلوم الأنوار هو كل علم يتعلق به منافع الأكوان كلها كما إن الليل إذا جاء ظهرت بمجيئه أنوار الكواكب والله جعلها لنهتدي بها في ظُلُماتِ الْبَرِّ والْبَحْرِ وهما علم الإحسان وعلم الحياة وعلوم الأسرار خفيت عن أبصار الناظرين وهي غيب الغيب فصار الغيب على هذا فيه ما يدرك به وفيه ما لا يدرك‏

[الأولى بالصائم تعجيل الفطر عند الغروب‏]

ولما قال صلى الله عليه وسلم فقد أفطر الصائم فالأولى بالصائم أن يعجل الفطر عند الغروب بعد صلاة المغرب فإنه أولى لأن الله جعل المغرب وتر صلاة النهار فينبغي إن يؤديها بالصفة التي كان عليها بالنهار وهو الإمساك عن الطعام والشراب واستحب له إذا فرغ من الفريضة أن يشرع في الإفطار ولو على شربة ماء أو تمر قبل النافلة فإن فاعل ذلك لا يزال بخير

خرج مسلم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر

فسمى الأكل أو الشرب فطرا مع أنه قال عنه إنه أفطر بمجي‏ء الليل وغروب الشمس فجمع بالأكل بين فطرين فطر بالفعل وفطر بالحكم‏

[المقام المحمدي والمقام اليوسفى‏]

فمن قال بالمفهوم يرى أنه إذا لم يفطر بالأكل زال عنه الخير الذي كان يأتيه بالأكل لو أكل معجلا فإنه إذا أخر لم يحصل على ذلك الخير الذي أعطاه التعجيل وكان محروما خاسرا في صفقته ثم إنه تفوته الفرحة التي للصائم عند فطره أي يفوته ذوقها وحلاوتها وهي لذة الخروج من الجبر إلى الاختيار ومن الحجر إلى السراج ومن الضيق إلى السعة وهو المقام المحمدي والبقاء في الحجر مقام يوسفي جاء الرسول ليوسف من العزيز بالخروج من السجن فقال يوسف ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ فلم يخرج واختار الإقامة في السجن حتى يرجع إليه الرسول بالجواب وإن كان مطابقا لدخوله في السجن فإنه دخله عن محبة واستصحبته تلك الحالة وهو قوله رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ فكانت محبة إضافة لم تكن محبة حقيقة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله أخي يوسف لو كنت أنا لأجبت الداعي‏

يقول سارعت إلى الخروج من السجن لأن مقامه صلى الله عليه وسلم يعطي السعة فإنه أرسله الله رحمة ومن كان رحمة لا يحتمل الضيق فلهذا قلنا بلذة فرحة فطر الصائم إنه مقام محمدي لا يوسفي‏

[الصلاة حق الله والفطر حق النفس‏]

وإنما قلنا بتعجيل الصلاة فيفطر بعد المغرب وقبل التنفل فإنه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قدمناه على الفطر لأن الصلاة وإن كانت للعبد فإنها حق الله والفطر حق نفسك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للشخص الذي ماتت أمه وعليها صوم وأراد أن يقضيه عنها فقال له عليه السلام أ رأيت لو كان عليها دين أ كنت تقضيه قال نعم قال فحق الله أحق أن يقضى‏

فقدم حق الله وجعله أحق بالقضاء من حق المخلوق وذكر مسلم عن أبي عطية قال دخلت أنا ومسروق على عائشة فقلنا يا أم المؤمنين رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة قالت أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة قال قلنا عبد الله بن مسعود قالت كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

[رسول الله هو الأسوة الحسنة]

ولما كان صلى الله عليه وسلم قد جعله الله أسوة يتأسى به فقال تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فكان يفطر بأن يشق أمعاءه بشي‏ء من رطب أو تمر أو حسوات من ماء قبل إن يصلي المغرب وبعد الصلاة كان يأكل ما قدر له‏

قال أبو داود في سننه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفطر على رطبات قبل إن يصلي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء

فقدم الرطب لأنه أحدث عهد بربه من التمر كما فعل صلى الله عليه وسلم في المطرحين نزل برز بنفسه صلى الله عليه وسلم إليه وحسر الثوب عنه حتى أصابه المطر فسئل عن فعله ذلك فقال صلى الله عليه وسلم إنه حديث عهد بربه‏

(وصل في فصل صيام سر الشهر)

اعلم أنه صوم يوم ورد به الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم‏

رويناه من طريق أبي داود عن عبد الله بن العلاء عن المغيرة بن قرة قال قال معاوية في الناس يوم مسحل الذي على باب حمص فقال يا أيها الناس إنا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا وأنا متقدم بالصوم فمن أحب أن يفعل فليفعله قال فقام إليه مالك بن هبيرة السبلى فقال يا معاوية أ شي‏ء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شي‏ء من رأيك قال فقال سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صوموا الشهر

وسره‏

[صيام سر الشهر ومقام الأخفياء الأبرياء من الأولياء]

فاعلم إن السر ضد الشهرة وبها سمي الشهر شهرا لاشتهاره وتمييزه واعتناء المسلمين به وأصحاب تسيير الكواكب فرغب في الصوم في حال السر والإعلان واعلم أن سر الشهر هو الوقت الذي يكون فيه القمر في قبضة الشمس تحت شعاعها كذلك العبد إذا أقيم في مشهد من مشاهد القرب الذي تطلبه عيون الأكوان فيه فلا تبصره وذلك مقام الأخفياء الأبرياء الذين لم يتميزوا في العامة في هذه الدار تحققا بصفة سيدهم حيث لم يجعل سبيلا إلى رؤيته في هذه الدار لحصول دعاوى الكون في المرتبة الإلهية فقالوا ينبغي أن لا نظهر إلا بظهور مولانا وذلك في الآخرة حيث يقول لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فلا يجرأ أحد يدعيه فهناك تظهر هذه الطبقة أن لله أخفياء في عباده وضنائن اكتنفهم في صونه فلما تشبهوا بسيدهم في هذه الصفة من الستر وعدم الظهور لزمهم صوم سر الشهر فإن الصوم صفة صمدانية فاتصفوا بصفة الحق في هذا التقريب كما اتصفوا به في الإعلان في صوم الواجب كشهر رمضان فإنه ظهر هناك باسمه رمضان وسمي به الشهر حجابا عنه تعالى‏

[صوم السر وصوم العلن‏]

والعامة تقول صمت رمضان والعارف يقول شهر رمضان معلنا فإن الله قال لهم فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ وهو إعلان رمضان وشهرته فَلْيَصُمْهُ إلا المسافر فإن المسافر إليه يسافر ليشهده فما هو في حال شهود في وقت سفره والمريض مائل عن الحق لأن المرض النفسي ميل النفس إلى الكون فلم يشهد الشهر والحيض كذب النفس ولذلك هو أذى في المحل ينافي الطهارة التي توجب القرب وهو الصدق‏

ورد في الخبر الصحيح أن العبد إذا كذب الكذبة تباعد منه الملك ثلاثين ميلا من نتن ما جاء به‏

فجاء بالثلاثين الذي هو كمال عدة الشهر القمري الذي استسر في شعاع الشمس فكانت الحائض بعيدة من شهود الشهر لما ذكرناه‏

[الظهور الإلهي في صورة كمال الأعطية بالخلعة الإلهية]

والحق سبحانه لا يقرب عبده إلا ليمنحه ويعطيه ثم يبرزه إلى الناس قليلا قليلا لئلا يبهرهم بهاء نور ما أعطاه لضعف عيون بصائرهم رحمة بالعامة فلا يزال يظهر لهم قليلا قليلا فلا يبدي لهم من العلم بالله الذي أعطاه في حال ذلك السرار إلا قدر ما يعلم أنه لا يذهلهم إلى أن تعتاد عيون بصائرهم إلى أن يظهر لهم في صورة كمال الأعطية بالخلعة الإلهية وهو قوله من يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله فذلك بمنزلة القمر ليلة البدر فهو القدر الذي كان حصل له ليلة السرار في حضرة الغيب من وجه باطنه فإن ضوء البدر كان في السرار من الشمس في الوجه الذي ينظر إلى الشمس في حين المسامتة والظاهر لا نور فيه وفي ليلة الإبدار ينعكس الأمر فيكون الظهور بالاسم الظاهر

[فعل الحق مع عامة عباده‏]

وكذلك فعل الحق مع عامة عباده احتجب عنهم غاية الحجاب كالسرار في القمر فلم يدركوه فقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ رحمة بهم فلم يجدوا في أذهانهم ولا في طبقات أحوالهم ما يذهلهم فجاء سرا في رحمة حجاب هذه الآية وهذا غاية نزول الحق إلى عباده في مقام الرحمة لهم ثم استدرجهم قليلا قليلا بمثل وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ وقوله أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ إلى أن تقوت أنوار بصائرهم بالمعرفة بالله وأنسوا به قليلا قليلا إلى أن يتجلى لهم في المعرفة التامة النزيهة التي لو تجلى لهم فيها في أول الحال لهلكوا من ساعتهم فقال عز من قائل وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فقبلوه ولم ينفروا منه ونسوا حال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ فكان بقاؤهم في ذلك المقام بقطع الياس لرفع المناسبة من جميع الوجوه‏

[أهل الميت وأهل الغائب‏]

أ لا ترى أهل الميت تنقطع وحشتهم من ميتهم لأنهم لا يرجون لقاءه في الدنيا فلا يبقى لهم حزن وأهل الغائب ليس كذلك فإنهم لم ييأسوا من لقائه وكتبه وأخباره ترد عليهم مع الآنات إلى وقت اللقاء عند قدومه فسبحان الحكيم الخبير يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لعلنا نعقل عنه فلمثل هذا وقع صيام سر الشهر والشهر مثلا مضر وبالمن يعقل عن الله‏

[صيام سر الشهر ومقام جمعية الهمة على الله‏]

ففي صيام سر الشهر مقام جمعية الهمة على الله حتى لا يرى غير الله وهوقوله صلى الله عليه وسلم لي وقت لا يسعني فيه غير ربي‏

لأنه في تجل خاص به ولهذا أضافه إليه فقال ربي ولم يقل الله ولا الرب ومما

يؤيد قولنا إنه يريد بصوم السر من الشهر الجمعية تحضيضه وتحريضه على صوم سرر شعبان وأن يقضيه من فاته فإن شعبان من التفريق ولهذا قيل إنه ما سمي هذا الشهر بلفظ شعبان إلا لتفرق قبائل العرب فيه وكذا قال الله تعالى وجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وقَبائِلَ فالشعوب في الأعاجم كالقبائل في العرب أي فرقكم شعوبا وميز قبيلة من قبيلة وسميت المنية شعوبا لأنها تفرق بين الميت وأهله‏

[صيام سرر شعبان آكد من صيام غيره‏]

فكان صيام سرر شعبان آكد من صيام سرر غيره من الشهور لما فيه من التفريق‏

خرج مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا قال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه‏

وفي طريق أخرى أيضا المسلم عن ابن عمر هل صمت من سرر شعبان‏

[معرفة منزلة القمر والشمس في ضرب المثل‏]

وفي هذا الفصل علوم وأسرار إلهية يعرفها من تحقق بما نبهنا عليه وأسعد الناس بذلك أهل الاعتبار من الذين يراعون تسيير الشمس والقمر لحفظ أوقات العبادات فإن معرفة منزلة القمر والشمس في ضرب المثل من أعظم الدلائل على العلم الإلهي الذي يختص بالكون والإمداد الرباني والحفظ لبقاء أعيان الكائنات وإِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر فيما يلقى إليه المخبر فيمثله نصب عينيه فكأنه يشاهده فإنه خبر صدق جاء به صادق أمين‏

جاء به صادق أمين *** يخبر عن كل ما يكون‏

في كل كون بكل وجه *** من كل صعب وما يهون‏

مما تراه القلوب كشفا *** معنى وما تدرك العيون‏

جاء به من رب الدار يعلمه بما أودع فيها من كل شي‏ء مليح قال تعالى وكُلَّ شَيْ‏ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا ذلك لِتَعْلَمُوا أَنَّ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ الله قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً

(وصل في فصل في حكمة صوم أهل كل بلد برؤيتهم)

خرج مسلم في صحيحه عن كريب إن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل على رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال فقلت رأيناه ليلة الجمعة فقال أنت رأيته فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت أ ولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه‏

وسلم‏

[إن الله ما كلف أحدا بحال أحد]

فبدنك وقواك بلدك وإقليمك وعالمك رعيتك وأنت مخاطب بالتصرف فيهم بالقدر الذي حد لك الحق في شرعه وأنت الراعي المسئول عنهم لا غيرك فإن الله ما كلف أحدا إلا بحاله ووسعه ما كلف أحدا بحال أحد ف كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ وكُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ‏

[عند ما يطلع هلال المعرفة في القلب من الاسم الإلهي رمضان‏]

فإذا طلع هلال المعرفة في قلبك من الاسم الإلهي رمضان فقد دعاك في ذلك الطلوع إلى الاتصاف بما هو له وهو الصوم فأمرك بتقييد جوارحك كلها الظاهرة وتقييد قواك الباطنة وأمرك بقيام ليلة ورغبك فيه وهو المحافظة على غيبه وجعل لك فيه فطرا في أول الليل وأمرك بالتعجيل به وغذاء في آخره وأمرك بتأخير ذلك إلى أن يكون في التأخير بمنزلة من قال هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع وذلك لحكمة التحقق بالاسم الآخر في ليل رمضان كما كنت في يومه فإنك بين طرفي تحليل وتحريم‏

[ما خاطبك الحق إلا منك وبك‏]

فما خاطبك الحق إلا منك ولا خاطبك إلا بك وهكذا مع كل مكلف في العالم من ملك وجن وإنسان بل من كل مخلوق حال ذلك المخلوق ينزل الحكم عليه بصفة الكلام سواء ضم ذلك الكلام حروف هجاء أو لم تضمه هو عين الكلام الإلهي في العالم إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده ولقد أنطقني سبحانه في ذلك بما أنا ذاكره من الأبيات إن شاء الله تعالى‏

ناداني الحق من سمائي *** بغير حرف من الهجاء

ثم دعاني من أرض كوني *** بكل حرف من الهجاء

وقال لي كله كلامي *** فلا تعرج على سوائي‏

ولا ترى أن ثم غيري *** فإنه غاية التنائي‏

[كل نفس مطلوبة من الحق في نفسها]

فلما علمت أنه لكل بلد رؤية وما وقف حكم بلد على بلد علمت إن الأمر شديد وإن كل نفس مطلوبة من الحق في نفسها لا تجزى نفس عن نفس شيئا وإن تقلب الإنسان في العبادة من وجه بذاته ومن وجه بربه ليس لغيره فيه مساغ ولا دخول وأراني ذلك في واقعة فاستيقظت من منامي وأنا أحرك شفتي بهذه الأبيات التي ما سمعتها قبل هذا إلا مني ولا من غيري وهي هذه‏

قال لي الحق في منامي *** ولم يكن ذاك من كلامي‏

وقتا أناديك في عبادي *** وقتا أناجيك في مقامي‏

وأنت في الحالتين عندي *** في كنف الصون والذمام‏

فمن صلاة إلى زكاة *** ومن زكاة إلى صيام‏

ومن حرام إلى حلال *** ومن حلال إلى حرام‏

وأنت في ذا وذاك مني *** كمثل مقصورة الخيام‏

[كل جارحة في الإنسان مخاطبة بصوم يخصها]

فلو علم الإنسان من أي مقام ناداه الحق تعالى بالصيام في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وأنه المخاطب في نفسه وحده بهذه الجمعية فإنه قال يصبح على كل سلامي منكم صدقة فجعل التكليف عاما في الإنسان الواحد وإذا كان هذا في عروقه فأين أنت من جوارحه من سمعه وبصره ولسانه ويده وبطنه ورجله وفرجه وقلبه الذين هم رؤساء ظاهره وإن كل جارحة مخاطبة بصوم يخصها من إمساكها فيما حجر عليها ومنعت من التصرف فيه بقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ‏

[الصيام هو الإمساك عن كل ما يحرم فعله أو تركه‏]

واعلم أن الله ناداك من كونك مؤمنا من مقام الحكمة الجامعة لتقف بتفصيل ما يخاطبك به على العلم بما أراده منك في هذه العبادة فقال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أي الإمساك عن كل ما حرم عليكم فعله أو تركه كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ يعني الصوم من حيث ما هو صوم فإن كان أيضا يعني به صوم رمضان بعينه كما ذهب إليه بعضهم غير أن الذين قبلنا من أهل الكتاب زادوا فيه إلى أن بلغوا به خمسين يوما وهو مما غيروه‏

[الصوم لا مثل له فهو لمن لا مثل له‏]

وقوله كَما كُتِبَ أي فرض عَلَى الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ وهم الذين هم لكم سلف في هذا الحكم وأنتم لهم خلف لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي تتخذوا الصوم وقاية

فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الصوم جنة

والجنة الوقاية ولا يتخذوه وقاية إلا إذا جعلوه عبادة فيكون الصوم للحق من وجه ما فيه من التنزيه ويكون من وجه ما هو عبادة في حق العبد جنة ووقاية من دعوى فيما هو لله لا له فإن الصوم لا مثل له فهو لمن لا مثل له فالصوم لله ليس لك‏

[الشهر إما تسعة وعشرون يوما وإما ثلاثون‏]

ثم قال أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ العامل في الأيام كتب الأول بلا شك فإنه ما عندنا بما كتب علي من قبلنا هل كتب عليهم يوم واحد وهو عاشوراء أو كتب عليهم أيام والذي كتب علينا إنما هو شهر والشهر إما تسعة وعشرون يوما وإما ثلاثون يوما بحسب ما نرى الهلال والأيام من ثلاثة إلى عشرة لا غير فطابق لفظ القرآن ما أعلمنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد أيام الشهر فقال الشهر هكذا وأشار بيده يعني عشرة أيام ثم قال وهكذا يعني عشرة أيام وهكذا وعقد إبهامه في الثالثة يعني تسعة أيام وفي المرة الأخرى لم بعقد الإبهام فأراد أيضا عشرة أيام وذلك لما قال تعالى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ عدد الشارع أيام الشهر بالعشرات حتى يصح ذكر الأيام موافقا لكلام الله فإنه لو قال ثلاثون يوما لكان كما قال في الإيلاء لعائشة قد يكون الشهر تسعة وعشرين يوما ولم يقل هكذا وهكذا كما قال في عدد شهر رمضان فعلمنا أنه أراد موافقة الحق تعالى فيما ذكر في كتابه‏

[فمن كان منكم مريضا أو على سفر]

ثم قال فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ فأتى بذكر الأيام أيضا وأشار إلى المخاطبين بقوله مِنْكُمْ وهم الذين آمنوا مَرِيضاً يعني في حبس الحق أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ وهم أهل السلوك في الطريق إلى الله في المقامات والأحوال والسفر من الأسفار وهو الظهور لأنه إنما سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال فيه فأسفر لهم المقام والحال في هذا السلوك إن العمل ليس لهم وإن كانوا فيه وإنما الله هو العامل بهم كما قال تعالى وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ الله رَمى‏ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ يعني في وقت الحجاب فإنها أيام أخر حتى يجد التكليف محلا يقبله بالوجوب وقد تقدم الكلام في مثل هذا من هذا الباب فلينظر هناك‏

[من يطيق الصيام فهو مخير بينه وبين فدية الإطعام‏]

ثم قال وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏

يقول من يطيق الصوم قد خيرناه بين الصوم والإطعام فانتقل من وجوب معين إلى وجوب غير معين عند المكلف وإن كان محصورا وقد علم الله ما يفعل المكلف من ذلك فألحقه بالتطوع فإن كل واحد منهما غير واجب بعينه فأي شي‏ء اختار كان تطوعا منه به إذ له أن يختار الآخر دونه ثم رجح الله له الصوم الذي هو له ليقوم به إذ صفة الصوم من حيث ما هي عبادة لا مثل له فإن قلت فالإطعام صفته أيضا فإنه المطعم قلنا لو ذكر الإطعام دون الفدية لكان ولما قرن بالإطعام الفداء وأضافه إليه كان كان المكلف وجب عليه الصوم والله لا يجب عليه شي‏ء في الأدب الوضعي الحقيقي إلا ما أوجبه على نفسه ومن حصل تحت حكم الوجوب فهو ما سور تحت سلطانه فتعين الفداء وكان الإطعام فراعى الله الصوم هناك فجعله خيرا له فإنه صفته أ لا تراه يقول وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ من أسر الهلاك إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قد تكون أن هنا بمعنى ما يقول ما كنتم تعلمون أن الصوم خير من الإطعام لو لا ما أعلمتكم ويكون معناها أيضا إن كنتم تعلمون الأفضل فيما خيرتكم فيه فقد أعلمتكم يعني مرتبة الصوم ومرتبة الإطعام‏

[شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن‏]

ثم قال شَهْرُ رَمَضانَ يقول شهر هذا الاسم الإلهي الذي هو رمضان فأضافه إلى الله تعالى من اسمه رمضان وهو اسم غريب نادر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ يقول نزل القرآن بصومه على التعيين دون غيره من الشهور هُدىً أي بيانا لِلنَّاسِ والقرآن الجمع فلهذا جمع بينك وبينه في الصفة الصمدانية وهي الصوم فما كان فيه من تنزيه فهو لله فإنه قال الصوم لي ومن كونه عبادة فهو لك هدى أي بيانا للناس على قدر طبقاتهم وما رزقوا من الفهم عنه فإن لكل شخص شربا في هذه العبادة وبَيِّناتٍ فكل شخص على بينة تخصه بقدر ما فهم من خطاب الله في ذلك من الْهُدى‏ وهو التبيان الإلهي والْفُرْقانِ فإنه جمعك أولا معه في الصوم بالقرآن ثم فرقك لتتميز عنه بالفرقان فأنت أنت وهو هو في حكم ما ذكرناه من استعمالك فيما هو له وهو الصوم فهو له من باب التنزيه وهو لك عبادة لا مثل لها

[فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏]

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يقول فليمسك نفسه في هذه الشهرة يعني ينزهها بالذلة والافتقار حتى تعظم فرحته عند الفطر ومن كانَ مَرِيضاً مائلا والمرض الميل أو محبوسا فإن المريض في حبس الحق أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ سلوك في الأسماء الإلهية عم ذوق أو مسافرا عنه إلى الأكوان فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ ... أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ لا يزاد فيها ولا ينقص منها يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ فيما خاطبكم به من الرفق في التكليف ولا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وهو ما يشق عليكم أكد بهذا القول قوله وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ من حَرَجٍ فعرف اليسر هنا بالألف واللام يشير إلى اليسر المذكور المنكر في سورة أ لم نشرح أي ذلك اليسر أردت بكم وهو قوله فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً في عسر المرض يسر الإفطار ثم إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ عسر السفر يُسْراً يسر الإفطار أيضا فَإِذا فَرَغْتَ من المرض أو السفر فَانْصَبْ نفسك للعبادة وهو الصوم يقول اقضه وإِلى‏ رَبِّكَ فَارْغَبْ في المعونة كان شيخنا أبو مدين رحمه الله يقول في هذه الآية فَإِذا فَرَغْتَ من الأكوان فَانْصَبْ قلبك لمشاهدة الرحمن وإِلى‏ رَبِّكَ فَارْغَبْ في الدوام وإذا دخلت في عبادة فلا تحدث نفسك بالخروج منها وقل يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ

[و لتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم‏]

ولِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ برؤية الهلال أو بتمام الثلاثين ولِتُكَبِّرُوا الله تشهدوا له بالكبرياء تفردوه به ولا تنازعوه فيه فإنه لا ينبغي إلا له سبحانه فتكبروه عن صفة اليسر والعسر فإنه قال في الإعادة وهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ فهو أعلم بما قال واحذر من تأويلك وحمله عليك فكبره عن هذا عَلى‏ ما هَداكُمْ أي وفقكم لمثل هذا وبين لكم ما تستحقونه مما يستحقه تعالى ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فجعل ذلك نعمة يجب الشكر منا عليها لكوننا نقبل الزيادة والشكر صفة إلهية فَإِنَّ الله شاكِرٌ عَلِيمٌ فطلب منا بهذه الصفة الزيادة لكونه شاكرا فإنه قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فنبهنا بما هو مضمون الشكر لنزيده في العمل‏

[و إذا سألك عبادي عني‏]

وإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي لكونك حاجب الباب فَإِنِّي قَرِيبٌ بما شاركناهم فيه من الشكر والصوم الذي هو لي فأمرناهم بالصوم وعرفناهم أنه لنا ما هو لهم فمن تلبس به تلبس بما هو خاص لنا فكان من أهل الاختصاص مثل أهل القرآن هم أهل الله وخاصته أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ على بصيرة إِذا دَعانِ يقول كما جعلناك تدعو الناس إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ جعلنا الداعي الذي يدعونا إليه على بصيرة من إجابتنا إياه ما لم يقل لم يستجب لي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي لما دعوتهم لي من طاعتي وعبادتي فإني ما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فدعوتهم إلى ذلك على ألسنة رسلي وفي‏

كتبي المنزلة التي أرسلت رسلي بها إليهم وأكد ذلك بالسين أعني الاستجابة لما علم من إبايتنا وبعدنا عن إجابته لي أي من أجلي لا تعلمون ذلك رجاء تحصيل ما عندي فتكونون عبيد نعمة لا عبيدي وهم عبيدي طوعا وكرها لا انفكاك لهم من ذلك‏

[حقيقة الإيمان‏]

ولْيُؤْمِنُوا بِي يصدقوا بإجابتي إياهم إذا دعوني وليكن إيمانهم بي لا بأنفسهم لأنه من آمن بنفسه لا بالله لم يستوعب إيمانه ما استحقه فإذا آمن بي وفي الأمر حقه فأعطى كل ذي حق حقه وهذا هو الذي يصدق بالأخبار كلها ومن آمن بنفسه فإنه مؤمن بما أعطاه دليله والذي أمرته بالإيمان به متناقض الدلالة متردد بين تشبيه وتنزيه فالذي يؤمن بنفسه يؤمن ببعض ويكفر ببعض تأويلا لا ردا فمن تأول فإيمانه بعقله لا بي ومن ادعى في نفسه أنه أعلم بي مني فما عرفني ولا آمن بي فهو عبد يكذبني فيما نسبته إلى نفسي بحسن عبارة فإذا سئل يقول أردت التنزيه وهذا من حيل النفوس بما فيها من العزة وطلب الاستقلال والخروج عن الاتباع لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي يسلكون طريق الرشد كما يفعل الموفقون الذين إذا رأوا سبيل الرشد اتخذوه سبيلا فيمشي بهم إلى السعادة الأبدية فكانت إجابة الحق إياهم حين دعوه ونهاية طريقهم إلى ما فرحت به نفوسهم من تحليل ما كان حرم عليهم في حال صومهم من أول اليوم إلى آخره‏

[أحل لكم ليلة الصيام‏]

فقال أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ أي الليلة التي انتهى صومكم إليها لا الليلة التي تصبحون فيها صائمين فهي صفة تصحبكم لي ليلة عيد الفطر ولو كانت إضافة ليلة الصيام إلى المستقبل لم تكن ليلة عيد الفطر فيها فإنك لا تصبح يوم العيد صائما ولو صمت فيه لكنت عاصيا ولا يلزم هذا في أول ليلة من رمضان فإن الأكل وأمثاله كان حلالا قبل ذلك فما زال مستصحب الحكم فلهذا جعلناه للصوم الماضي الرَّفَثُ يعني الجماع إِلى‏ نِسائِكُمْ فجاء بالنساء ولم يقل الأزواج ولا غير ذلك فإن في هذا الاسم معنى ما في النساء وهو التأخير فقد كن أخرن عن هذا الحكم الذي هو الجماع زمان الصوم إلى الليل فلما جاء الليل زال حكم التأخير بالإحلال فكأنه يقول إلى ما أخرتم عنه وأخرن عنه من أزواجكم وما ملكت أيمانكم ممن هو محل الوطء هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي المناسبة بينكم صحيحة ما هي مثل ما تلبستم بنا في صومكم حيث اتصفتم بصفة هي لي وهو الصوم فلستم لباسا لي في‏

قولي وسعني قلب عبدي‏

ولست لباسا لكم في قولي بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ فإن اللباس يحيط بالملبوس به ويستره‏

[علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم‏]

عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ من الخيانة لشهادتي عليكم حين قبلتم الأمانة لما عرضتها عليكم فقلت في حاملها إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا ظلوما لنفسه بأن كلفها ما لا يدري علم الله فيه عند حمله إياها جهولا بقدرها وما يتعلق من الذم به إذ أمن خان فيها ولما كان الجهول أَعْمى‏ وأَضَلُّ سَبِيلًا لا يدري كيف يضع رجله ولا يرى أين يضع رجله قال عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ لما حجر عليكم فيما حجره عليكم فَتابَ عَلَيْكُمْ أي رجع عليكم وعَفا عَنْكُمْ أي بالقليل الذي أباحه لكم من زمان الإحلال الذي هو الليل وإنما جعله قليلا لبقاء التحجير فيه في المباشرة للمعتكف في المساجد بلا خلاف وفي غير المسجد بخلاف والمواصل فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وهو زمان الفطر في رمضان وابْتَغُوا ما كَتَبَ الله لَكُمْ واطلبوا ما فرض الله من أجلكم حتى تعلموه فتعملوا به من كل ما ذكره في هذه الآية وكُلُوا واشْرَبُوا أمر بإعطاء ما عليك لنفسك من حق الأكل والشرب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ إقبال النهار من الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ إدبار الليل من الْفَجْرِ الانفجار الضوء في الأفق‏

[ثم أتموا الصيام إلى الليل‏]

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وأَنْتُمْ عاكِفُونَ في الْمَساجِدِ فأبقى

تحجير الجماع على من هذه حالته وكذلك في الأكل والشرب للذي ينوي الوصال في صومه‏

يقول صلى الله عليه وسلم من كان مواصلا فليواصل حتى السحر

وهو اختلاط الضوء والظلمة يريد في وقت ظهور ذنب السرحان ما بين الفجرين المستطيل والمستطيل وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه يومين ورأوا الهلال تلك حدود الله التي أمركم أن تقفوا عندها فلا تقربوها لئلا تشرفوا على ما وراءها وهنا علم غامض لا يعلمه إلا من أعطيه ذوقا عناية إلهية كالخضر وغيره فربما تزل قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وتَذُوقُوا السُّوءَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ الله آياتِهِ أي دلائله للناس إشارة فيتذكر بها لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يتخذون تلك الدلائل وقاية من التقليد والجهل فإن المقلد ما هو على بينة من ربه وما هو صاحب دلالة وجعله بمعنى الترجي لأنه ما كل من رزق الدليل ووصل إلى المدلول وحصل له العلم وفق لاستعمال ما علمه إن كان من العلوم التي غايتها العمل‏

(وصل في فصل السحور)

[أحاديث السحور]

خرج مسلم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسحروا فإن في السحور بركة وأمر صلى الله عليه وسلم بالسحور ورغب فيه بما ذكر

حديث ثان لمسلم وخرج مسلم أيضا عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور

حديث ثالث للنسائي‏

خرج النسائي عن العرباض بن سارية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى السحور في شهر رمضان فقال هلموا إلى الغذاء المبارك‏

حديث رابع للنسائي وخرج النسائي أيضا عن عبد الله بن الحارث عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فقال إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوها

حديث خامس لمسلم والبخاري‏

خرج مسلم عن ابن عمر قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم الأعمى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم قال ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا زاد البخاري فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر يعني ابن أم مكتوم خرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم‏

حديث سادس لأبي داود

خرج أبو داود عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه‏

حديث سابع للنسائي‏

خرج النسائي عن عاصم عن ذر قال قلنا لحذيفة أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع‏

حديث ثامن لمسلم‏

خرج مسلم عن أنس قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم كان قدر ما بينهما قال خمسين آية

حديث تاسع لمسلم‏

خرج مسلم عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وحكاه حماد بيده يعني معترضا

[علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة]

فهذه أحاديث السحور قد ذكرتها ليقف من سمع كلامي في السحور عليها حتى يعلم أنا ما خرجنا فيما نذهب إليه من الاعتبار عما أشار إليه صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا لأن سيد هذه الطائفة أبا القاسم الجنيد يقول علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة يقول رضي الله عنه وإن كنا أخذنا علمنا عن الله ما أخذناه من الكتب ولا من أفواه الرجال فما علمنا الله تعالى علما به نخالف ما جاءت به الأنبياء صلوات الله عليهم من عند الله مما ذكرته من الأخبار ولا ما أنزله الله في كتاب بل هو عندنا كما أخبر الله عن عبده خضر أنه آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما وهذا هو علم الوهب الإلهي الذي أنتجه التقوى والعمل على الكتاب والسنة الذي لو عمل أهل الكتاب بما أنزل إليهم وأَقامُوا التَّوْراةَ والْإِنْجِيلَ ... لَأَكَلُوا من فَوْقِهِمْ إشارة إلى هذا المقام أعني علم الوهب ومن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ إشارة إلى علم الكسب وهو العلم الذي يناله أهل التقوى من هذه الأمة فإنه علم كسب إذ كان نتيجة عمل وهو التقوى‏

[السحور مشتق من السحر وهو اختلاط الضوء والظلمة]

فاعلم إن السحور مشتق من السحر وهو اختلاط الضوء والظلمة يريد زمان أكلة السحور فله وجه إلى النهار وله وجه إلى الليل فيما له وجه إلى النهار سماه غذاء فرجح فيه حكم النهار على حكم الليل كما عمل في الفطر فأمر بتعجيله فرجح فيه النهار أيضا على الليل بوجود آثار الشمس فإن الأكل وقع فيه قبل زوال آثار النهار ودلالة فإن النهار قد أدبر لأن حقيقة النهار من طلوع حاجب الشمس الأول إلى غروب حاجب الشمس الآخر فبمغيبه يغيب قرص الشمس وآثار النهار من أول الليل من مغيبه إلى مغيب البياض وآثاره في آخر الليل من طلوع الفجر الأول إلى طلوع الشمس إلا أنه لا يمنع الأكل طلوع الفجر الأول شرعا وفي الفجر الثاني خلاف وموضع الإجماع الأحمر وما كان قبل ذلك فليس بسحر وإنما هو ليل وبعده إنما هو نهار

[الشبهة لها وجه إلى الحق ووجه إلى الباطل‏]

وهكذا صفة الشبهة لها وجه إلى الحق ولها وجه إلى الباطل في الأمور العقلية وكذلك المتشابه له وجه إلى الحل وله وجه إلى الحرمة ولهذا سمي الفجر الأول الكذاب وما هو كذاب وإنما أضيف الكذب إليه لأنه ربما يتوهم صاحب السحور أن الأكل محرم عنده وليس كذلك فإن علته ضرب الشمس أي طرح شعاعها على البحر فيأخذ الضوء في الاستطالة فإذا ارتفعت ذهب ذلك الضوء المنعكس من البحر إلى الأفق فجاءت الظلمة وقرب بروز الشمس إلينا فظهر ضوؤها في الأفق كالطائر الذي فتح جناحيه ولهذا سماه مستطيرا فلا يزال في‏

زيادة إلى طلوع الشمس كذلك الحق والباطل فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ أي يثبت وهو الفجر الصادق وما بينهما هو السحر كما إن ما بين الوجهين اللذين يظهر أن في الشبهة هو العلم الصحيح يظهر بها أنها شبهة فيتميز بعلمك بها الحق من الباطل كما تميز بانتكاس الفجر الكذاب إلى الأرض والظلمة الظاهرة عند ذلك إن ذلك الفجر الأول لا يمنع من يريد الصوم من الأكل ولهذا سمته العرب ذنب السرحان لأنه ليس في السباع أخبث منه ولا أكثر محالا فإنه يظهر الضعف ليحقر فيغفل عنه فينال مقصوده من الافتراس فإن ذنبه يشبه ذنب الكلب فيتخيل من لا يعرفه أنه كلب فيأمن منه فهو شبيه المنافق‏

[أكلة السحور بركة من الله‏]

فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت بأكلة السحور وقال أنها بركة أعطاكم الله إياها فأكد أمره بها بنهيه أن لا ندعها

فكما صرح بالأمر بها صرح بالنهي عن تركها وأكد في وجوبها فأشبهت صلاة الوتر فإنها صلاة مأمور بها على طريق القربة المأمور بها فهي سنة مؤكدة وعند بعض علماء الشريعة واجبة وأكلة السحور أشد في التأكيد من الوتر في جنس الصلاة لما ورد في ذلك من التصريح بالنهي عن تركها وهو بمنزلة البحث عن الشبهة حتى يعرف بذلك الحق من الباطل فهذه هي البركة التي في أكلة السحور فإن البركة الزيادة فزادت على سائر الأكلات شمولها الأمر بها والنهي عن تركها وليس ذلك الحكم لغيرها من الأكلات‏

[الفصل بين منزلة أهل الكتاب ومنزلتنا في الصيام‏]

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جعله فصلا بين منزلة أهل الكتاب ومنزلتنا فهي إما ممن اختصنا بها الحق على سائر الأمم من أهل الكتاب وإما ممن أمرنا بالمحافظة عليها حتى نتميز من أهل الكتاب حيث أنزلت عليهم كما أنزلت علينا ففرطوا في حقها كما فعلوا في أشياء كثيرة وكلا الوجهين سائغ وهذا يعم تعجيل الفطر وتأخير السحور فإن اعتبرنا أن أهل الكتاب هم القائمون بكتابهم علمنا إن الله اختصنا بفضل تعجيل الفطر وتأخير السحور عليهم وأنه ما أنزل ذلك عليهم فحرموا فضلها وإن اعتبرنا أن أهل الكتاب هم الذين أنزل عليهم كتاب من الله سواء عملوا به أو لم يعملوا تأكد عندنا إن الله إنما أكد في ذلك حتى تتميز عن أهل الكتاب إذ قد أمروا بذلك فأضاعوه بترك العمل فمن رأى أكلة السحور بضم الهمزة اكتفى باللقمة الواحدة ليقع الفرق بينه وبين أهل الكتاب وهو أقل ما يكون ومن فتح الهمزة أراد الغذاء

[هلموا إلى الغذاء المبارك‏]

ثم من التأكيد فيها محافظة النبي صلى الله عليه وسلم عليها وعلى تأخيرها ودعاؤه إليها فسنها قولا وفعلا

فقال هلموا إلى الغذاء المبارك‏

كما قال حي على الصلاة ثم إنه صلى الله عليه وسلم من تأكيده في ذلك وتغليبه للأكل على تركه مع التحقق ببيان المانع وهو الفجر الصادق إنك إذا سمعت النداء به إذا كان في البلد من يعلم أنه لا ينادي إلا عند الطلوع الذي به تصح الصلاة كابن أم مكتوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سمع المتسحر ذلك وجب عليه الترك فقيل له إن سمعته والإناء في يدك وأنت تشرب فلا تقطع شريك من الماء مع هذا التحقق حتى تقضي حاجتك منه كما قال حذيفة هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع فجعل الحكم لحال الوقت وهو الوجود فكان الدفع أهون من الرفع لأن المدفوع معدوم والذي تريد رفعه موجود حاكم بالفعل وهو أنك آكل أو شارب فالحكم له حتى يرتفع بنفسه‏

[الحكم للاسم الإلهي الحاكم في الوقت على العبد]

كذلك الاسم الحاكم في الوقت على العبد إذا طلبه اسم آخر لا حكم له عليه كان الأولى بالعبد أن لا ينفصل من هذا الاسم الإلهي حتى لا يبقى له حكم عليه يطالبه به فإذا فرغ من حكمه تلقى بالأدب ذلك الاسم الإلهي الذي يطلبه أيضا هكذا في الدنيا والآخرة

[المقابلة بين الأسماء الإلهية في حال وقوع الخطيئة من العبد]

كشخص حكم عليه اسم التواب عن فعل تقابلت فيه الأسماء الإلهية في حال الذنب فقال المنتقم أنا أولى به وقال الراحم والغفار أنا أولى به فتقابلت الأسماء في حال العاصي أي اسم إلهي يحكم عليه وفيه فوجدوا التواب فتقوى الاسم الراحم على المنتقم وقال هذا نائبي في المحل فإنه لو لا ما رحمته ما تاب فدفع المنتقم عن طلبه وتسلمه الراحم وصار التواب يرجع به إلى ربه من طاعة إلى طاعة بعد ما كان يرجع به من معصية أو كفر إلى طاعة فهذا التائب ما ينعزل لأن التوبة قد لا تكون من ذنب بل يرجع إلى الله في كل حال في كل طاعة فإن وجد في المحل الاسم الخاذل وهو حكمه في العبد في حال وقوع المخالفة منه فحينئذ يكون تقابل الأسماء المتقابلة أعظم وأشد فإن هذا الفعل يستدعيهما وكان الخاذل بينه وبين هذه الأسماء مواظبة من حيث لا يشعر بما فعله كل واحد منهما فيقول الراحم إن الخاذل دعاني فهو يساعدني على المنتقم ويقول المنتقم إنه دعاني فساعدني على الراحم فإذا أقبلا لا يريا منه مساعدة لأحدهما

[و جاء «الحكم- العدل» بفصل الخطاب‏]

فإن كان الخذلان كفرا جاء

الاسم العدل الحكم ليحكم بين الاسمين المتقابلين الراحم وإخوانه والمنتقم وإخوانه فيقول إن الله أمرني أن أحكم بينكما وهو قوله فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وأَقْسِطُوا فيقول للطائفتين من الأسماء ارقبوا هذا العبد إلى آخر نفس فإن فارق هذا الجسم وهو على كفره فليتسلمه المنتقم وتتأخر أنت عنه أيها الراحم وجماعتك فيقول الراحم سبقت الرحمة الغضب فأنا السابق فلا أتأخر فيقول له العدل إنما يعتبر السبق في انتهاء المدى والمدى بعد ما انتهى فاترك المنتقم إلى أن يستوفي منه مقدار زمان المخالفة والخذلان فذلك انتهاء المدى فإذا انتهى فلك تجديد المطالبة فيحكم الله عند ذلك بما يشاء فإن بعثني حاكما حكمت بما يعطيه علمي وإن ولي المفضل أو المنتقم حكم أيضا بحسب ما أذن له فيه فينفصلون على هذا الحد وإن كان الخاذل في هذا المحل لم يعط كفرا وأعطى معصية ووقع هذا التقابل بين الأسماء فجاء الحكم العدل وكلم كل واحدة من الطائفتين وسمع دعواهما وأن كل واحد منهما يدعي الحق له فيطلبهم بالبينة فيقول المنتقم أي بينة أوضح من وقوع الفعل إما تراه سكران إن كان يشرب الخمر أو سارقا أو قاتلا أو ما كان من أمور التعدي فيقول الحكم هذه الأفعال وإن وقعت فهي موضع شبهة والحاكم لا يحكم إلا ببينة فإن وقوع الشرب للخمر لا يؤذن بأنه ارتكب محرما ربما غص بلقمة ربما هو مريض فما استعمل إلا ما يحل له استعماله ربما قتل هذا قاتل أبيه أو أحدا ممن هذا القاتل وليه واعتدى عليه بمثل ما اعتدى لا أعلم ذلك إلا بدليل فصورته صورة مخذول ولكن بهذه الشبهة فيقول خصمي يسلم لي أن هذا متعد حد الله في شربه الخمر أو قتله أو ما كان من أفعال المعاصي في ذلك الحال فيقول الراحم نعم صدق إلا أن لي في المحل سلطانا قويا يشد مني وهو معي على المنتقم قال له الحاكم ومن هو قال الاسم المؤمن قد نزل عنده في دار الايمان وهو قلبه فله الأمان قال فادعه فجاء فقال أنت في هذا المحل عابر سبيل أو هو محلك وملكك فيقول هو محلي وملكي وما عارضني في ملكي صاحب هذا الفعل الذي هو العاصي فجزاه الله خيرا عني يستعملني في كل حال بما تعطيه حقيقتي وأنا محتاج إليه فيقول للمنتقم تأخر عنه حتى نشاور الاسم المريد الذي هو الحاجب الأقرب إلى الله فإن له المشيئة في هذا العبد وفي هذا الحكم فلا يزال الأمر متوقفا إلى انتهاء المدى وهو الأجل المسمى الذي هو الموت فإن مات على المخالفة تسلمه المريد وإن تاب عند الموت تأخر المنتقم عنه بالكلية وتسلمه الراحم وأصحابه فانتهاء المدى في العاصي إنما هو إلى زمن الموت وفي الكافر كما قررناه فاعلم ذلك انتهى الجزء الثامن والخمسون‏

(وصل في فصل صيام يوم الشك)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

خرج الترمذي عن عمار بن ياسر قال من صام اليوم الذي شك فيه فقد عصى أبا القاسم‏

قال هذا حديث حسن صحيح جمهور العلماء على النهي عن صيام يوم الشك على أنه من رمضان واختلفوا في تحرى صيامه تطوعا فمنهم من كرهه ومنهم من أجازه وأما حديث عمار عندي فما هو نص ولأمر مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو يحتمل أن يكون عن نظر من عمار ويحتمل أن يكون عن خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم إن صامه على أنه من رمضان ثم جاء الثبت أنه من رمضان أجزأه‏

(الاعتبار)

لما كان الشك يتردد بين أمرين من غير ترجيح أشبه حال العبد إذا كان الحق سمعه وبصره فإن نظر الناظر إلى كون الحق سمعه قال إنه حق وإن نظر إلى إضافة السمع إلى العبد بالهاء من قوله سمعه قال إنه عبد وما ثم حالة ترجح أحد الناظرين على الآخر فيسقطان وإذا سقطا بقيا بحكم الأصل والأصل هو وجود عبد ورب هذا هو الأصل النظري والشرعي من وجه‏

[أصل الأصول الكشفى والشرعي: وجود رب في عين عبد]

وأما أصل الأصل المراعي قبل هذا الأصل بل الذي هذا الأصل فرع عنه فهو وجود رب في عين عبد فهذا هو أصل الأصول الكشفي الشرعي من وجه فاعمل بحسب ما يتقوى عندك في ذلك وما هو مشربك فقف عنده حتى يتبين لك وجه الحق في المسألة فتكون عند ذلك من أهل الكشف والوجود

(وصل في فصل حكم الإفطار في التطوع)

حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس على من دخل في صيام تطوع فأفطر لعذر قضاء واختلفوا إذا قطعه لغير عذر عامدا فمن قائل عليه القضاء ومن قائل ليس عليه القضاء

(الاعتبار)

إذا دخل في فعل بعبودية الاختيار فقد ألزم نفسه العبودية إذا رجع إلى أصله في ذلك الإلزام فحكمه حكم عبودية الاضطرار فيلزمه في التطوع ما يلزمه في الواجب ومن راعى كون الحق جعل هذا العبد مختارا فقال لا يرفع حكم الحق عني في هذا الفعل فإنه يؤدي إلى منازعة الحق حيث يجعل الاختيار في موضع الاضطرار فيعامله معاملة الاختيار فإن شاء قضى اختيارا أيضا وإن شاء لم يقض وفي هذه المسألة طول في الاعتبار يكفي هذا القدر منه في هذا الكتاب فإن التكليف يثبت عين العبد مضطرا كان أو مختارا

(وصل في فصل المتطوع يفطر ناسيا)

اختلف العلماء فيه فطائفة قالت عليه القضاء وقالت طائفة أخرى لا قضاء عليه وبترك القضاء أقول للخبر الوارد فيه‏

(الاعتبار)

الناسي هو التارك لما اختار بعد ما اختار فإن كان عن هوى نفس فالقضاء عليه وإن كان عن شغل بمقام أو حال أو اسم إلهي فلا قضاء عليه والقضاء هنا الحكم عليه بحسب ما تطوع به‏

(وصل في فصل صوم يوم عاشوراء)

اختلفوا أي يوم هو من المحرم فقيل العاشر وهو الصحيح وبه أقول وقيل التاسع‏

(الاعتبار)

هنا حكم الاسم الأول والآخر فمن أقيم في مقام أحدية ذاته صام العاشر فإنه أول آحاد العقد ومن أقيم في مقام الاسم الآخر الإلهي صام اليوم التاسع فإنه آخر بسائط العدد ولما كان الصوم أعني صوم عاشوراء مرغبا فيه وكان فرضه قبل فرض رمضان على الاختلاف في فرضيته صح له مقام الوجوب وكان حكمه حكم الواجب فمن صامه حصل له قرب الواجب وقرب المندوب إليه فكان لصاحبه مشهدان وتجليان يعرفهما من ذاقهما من حيث إنه صام يوم عاشوراء

(وصل في فضل صوم يوم عاشوراء)

[الصيام يوم عاشوراء كفارة عن السنة التي قبله‏]

ذكر مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في صيام يوم عاشوراء احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله‏

فقامت حركة يومه في القوة مقام قوى أيام السنة كلها إذا عومل كل يوم بما يليق به من عبادة الصوم فحمل بقوته عن الذي صامه جميع ما أجرم في السنة التي قبله فلا يؤاخذ بشي‏ء مما اجترح فيها في رمضان وغيره من الأيام الفاضلة والليالي مع كون رمضان أفضل منه وكذا يوم عرفة وليلة القدر ويوم الجمعة

[الإمام إذا صلى بمن هو أفضل منه‏]

فمثله مثل الإمام إذا صلى بمن هو أفضل منه كابن عوف حين صلى برسول الله صلى الله عليه وسلم المقطوع بفضله فإنه يحمل سهو المأموم مع كونه أفضل فلا يستبعد أن يحمل صوم يوم عاشوراء جرائم المجرم في أيام السنة كلها ولو شاهدت الأمر أو كنت من أهل الكشف عرفت صحة ما قلناه‏

[لفظ الترجي أولى بالمخلوق أدبا مع الله‏]

وما أراده الشارع والعارف إذا قال احتسب على الله فما يقولها عن حسن ظن بالله وإنما هي لفظة أدب يستعملها مع الله مع أنه على علم من الله أنه يكفرها الله يقول الله عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وهو سبحانه يعلم ما يجريه في عباده ومع هذا جاء بلفظ الترجي والمخلوق أولى بهذه الصفة فإنها له حقيقة لو لم يعلمه الله فإذا أعلمه الله بقي على الأصل أدبا مع الله تعالى‏

أ لا تراه صلى الله عليه وسلم مع قطعه بأنه يموت فإن الله يقول له إِنَّكَ مَيِّتٌ وإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ فكيف استثنى لما أتى البقيع ووقف على القبور وسلم عليهم قال وإنا إن شاء الله بكم لاحقون‏

فاستثني في أمر مقطوع به وسواء كان الاستثناء في الموت أو في الايمان فإن كليهما مقطوع له بهما وذلك أدب إلهي فإن الله قال له ولا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ الله فلما أتى في قوله لاحقون باسم الفاعل استثنى امتثالا لأمر الله تعالى‏

(وصل في فصل من صامه من غير تبييت)

[حكمه حكم من لم يبيت صوم يوم الشك من رمضان‏]

ذكر البخاري عن سلمة بن الأكوع قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن ينادي في الناس من كان أكل فليتم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء

فجعل حكمه حكم من لم يبيت صوم من شك في أول يوم من رمضان فأكل ثم ثبت أنه من رمضان فأمر بالإمساك والقضاء وهذا حديث صحيح وقال فليتم بقية يومه ولم يسمه صائما فيقوي هذا الحديث حديث القضاء الذي‏

ذكره أبو داود عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه إن أسلم‏

أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال صمتم يومكم هكذا قالوا لا قال فأتموا بقية يومكم واقضوه يعني يوم عاشوراء

وإن كان هذا الحديث لم يلحقوه بالصحيح‏

[في يوم عاشوراء سر يرفع الله فضله على عباده‏]

فراعى حرمة اليوم لما لله فيه من السر الذي يرفع فضله على عباده وظهر هنا فضل الإمساك عن الطعام والشراب وإن لم يكن صائما وهو الجوع الذي تشير إليه الصوفية في كلامها وفيه أقول‏

أجوع ولا أصوم فإن نفسي *** تنازعني على أجر الصيام‏

فلو فنيت أجيرتها لقلنا *** بإيجاب الصيام وبالقيام‏

فإن العبد عبد الله ما لم *** يكن في نفسه هدف لرامي‏

[أمرنا بمخالفة أهل الكتاب فيما لم يأذن الله به‏]

ولما أمر بقضائه أكد تشبيهه برمضان لا بالنذر المعين إذا فات يومه فإنه لا يقضي وإن أمسك صاحبه بقية يومه إذا لم يبيت ولما أمرنا بصيامه وحرض في ذلك وكان قد أمرنا بمخالفة أهل الكتاب اليهود والنصارى وذلك فيما شرعوه لأنفسهم مما لم يأذن به الله وبدلوا وغيروا ولم يتميز عندنا ما شرعوه لأنفسهم مما شرع لهم نبيهم فلذلك أمرنا بمخالفتهم إلا فيما قرره النبي صلى الله عليه وسلم لنا مما كان شرعا لهم فعلمناه على القطع مثل رجم الثيب وإقامة الصلاة لمن تذكر بعد نسيانه فلما تعين علمنا به‏

[نحن أولى بموسى منكم‏]

فإن الله تعالى يقول في الأنبياء أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وقال شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً الآية وقال عليه الصلاة والسلام نحن أولى بموسى منكم‏

فكنى بنحن عن نفسه وأمته فكنا أولى بموسى من اليهود لأنهم لم يؤمنوا بكل ما أتى به موسى ولو آمنوا بكل ما أتى به موسى لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبكتابه ونحن أمرنا بالإيمان به وبما أنزل عليه ثم أخبر الحق عنا بذلك وخبره صدق فاستحال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمن المؤمن منهم ببعض ويكفر ببعض فهذه عناية إلهية حيث أخبر بعصمتنا من ذلك فهي بشرى لنا قال تعالى آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من رَبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُسُلِهِ‏

[إن الله عصمنا من مخالفة الأنبياء وأسقط عنا بعض شرائعهم‏]

ومما جاء به موسى صوم يوم عاشوراء فآمنا به وصمناه عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضا بخلاف عندنا كما صامه موسى فرضا ثم إن الله فرض علينا رمضان وخيرنا في صوم عاشوراء فنصومه من طريق الأولوية فنجمع بين أجر الفريضة فيه والنفل درجة زائدة على المؤمنين من قوم موسى عليه السلام ولما أمرنا صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود أمرنا بأن نصوم يوما قبل عاشوراء وهو التاسع ويوما بعده وهو الحادي عشر

فقال لنا صلى الله عليه وسلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يوما وبعده يوما

ولم يقل خالفوا موسى فإن الله قد عصمنا من مخالفة الأنبياء بل أسقط الله عنا بعض شرائعهم كما أسقط عنا بعض ما شرعه لنا ونحن مؤمنون بكل ناسخ ومنسوخ في كل شرع ولا يلزم من الايمان وجود العمل إلا أن يكون العمل مأمورا به فبهذا القدر نخالف اليهود

[يوم عاشوراء هو العاشر من المحرم‏]

ولهذا توهم علماؤنا إن عاشوراء هو التاسع من المحرم لا غير وقد روينا في ذلك ما يؤيد ما قلناه من أنه اليوم العاشر وهو أنا

روينا من حديث أبي أحمد بن عدي الجرجاني الذي رواه من حديث ابن حيي عن داود بن علي عن أبيه عن جده أن النبي عليه السلام قال لئن بقيت إلى قابل لأصومن يوما قبله ويوما بعده‏

والحديث الثاني وهو ما

رواه مسلم من حديث الحكم بن الأعرج قال انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له أخبرني عن صوم يوم عاشوراء فقال إذا رأيت يا هذا هلال المحرم فاعدد ثمانا وأصبح اليوم التاسع صائما قلت هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه قال نعم‏

يعني لو عاش إلى العام القابل يؤيد ما قلناه ما

رواه أيضا مسلم عن ابن عباس قال حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في العالم المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏

فما صام التاسع على أنه عاشوراء لو صامه وصام يوم عاشوراء بتحقيق يوم العاشر من المحرم فلا ينبغي أن يقال التاسع هو عاشوراء مع وجود هذه الأخبار

[الحكمة في يوم صوم قبل عاشوراء ويوم بعده‏]

وقد ذكرنا حكمة يوم التاسع والعاشر في الاسم الأول والاسم الآخر في هذا الفصل وكذلك أيضا أقول في صيام اليوم الذي بعد عاشوراء حتى يعلم التناسب فيما أشرنا إليه من ذلك فنقول أيضا إنه ملحق بالاسم الأول كعاشوراء في العاشر فإن العاشر أول العقد والحادي عشر أول تركيب الأعداد

تركيب البسائط مع العقد فانظر حكمة الشارع في أمره بصوم يوم قبله ويوم بعده متصلا به حتى لا تقول اليهود إن صومه مقصود لنا فإنه يكره في الفرائض مثل هذا إلا أن يكون الإنسان على عمل يعمله فلا يبالي إلا إن وقع التحجير وقد نهينا أن نقدم رمضان بيوم أو يومين قصدا إلا أن يكون في صيام نصومه ثم من الحكمة أن حرم علينا صيام يوم الفطر حتى لا نصل صيام رمضان بصوم آخر تمييزا لحق الفرض من النفل خلاف اعتبار يوم الجمعة وسيأتي الكلام في صومه إن شاء الله تعالى في هذا الباب‏

(وصل في فضل صوم يوم عرفة)

[صوم يوم عرفة كفارة للسنة قبله والسنة بعده‏]

ورد في الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده خرجه مسلم من حديث أبي قتادة

فمن صام هذا اليوم فإنه أخذ بحظ وافر مما أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمره كله في الحكم حكم الصائم يوم عرفة

[المعرفة والعلم‏]

وخصه باسم عرفة لشرف لفظة المعرفة التي هي العلم لأن المعرفة في اللسان الذي بعث به نبينا صلى الله عليه وسلم تتعدى إلى مفعول واحد فلها الأحدية فهي اسم شريف سمي الله به العلم فكان المعرفة علم بالأحدية والعلم قد يكون تعلقه بالأحدية وغيرها بخلاف لفظ المعرفة فقد تميز اللفظان بما وضعا له وقد ينوب العلم مناب المعرفة في اللسان بالعمل كذا ذكره النحاة واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى لا تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ تأويله لا تعرفونهم فعدوا العلم إلى مفعول واحد للنيابة والمعرفة ما لها حكم إلا في الأحدية وذهلوا عما نعلمه نحن فإن العلم أيضا إنما طلب الأحدية ولهذا صح للمعرفة أن تكون من أسمائه لأن العمل هو الأصل فإنه صفة الحق ليست المعرفة صفته ولا له منها اسم عندنا في الشرع وإن جمعها والعلم حد واحد لكن المعرفة من أسماء العلم كما قلنا والعارف من أسماء العالم فينا بالأحدية

[العلم إنما هو موضوع للأحدية مثل المعرفة]

وأما قولنا إن العلم إنما هو موضوع للاحدية مثل المعرفة ولهذا سمينا العلم معرفة لأنا إذا قلنا علمت زيدا قائما فلم يكن مطلوبنا زيدا لنفسه ولا مطلوبنا القيام لعينه وإنما مطلوبنا نسبة قيام زيد وهو مطلوب واحد فإنها نسبة واحدة معينة وعلمنا زيدا وحده بالمعرفة والقيام وحده بالمعرفة فنقول عرفت زيدا وعرفت القيام وهذا القدر غاب عن النحاة وتخيلوا أن تعلق العلم بنسبة القيام إلى زيد هو عين تعلقه بزيد والقيام وهذا غلط فإنه لو لم يكن زيد معلوما له والقيام أيضا معلوما له قبل ذلك لما صح أن ينسب ما لا يعلمه إلى ما لا يعلمه لأنه لا يدري هل تصح تلك النسبة أم لا وهذا النوع من العلم يسمى عند أصحاب ميزان المعاني التصور وهو معرفة المفردات والتصديق وهو معرفة المركبات وهو نسبة مفرد إلى مفرد بطريق الإخبار بالواحد عن الآخر وهو عند النحويين المبتدأ والخبر وعند غيرهم الموضوع والمحمول‏

[الأحدية أشرف صفة للواحد]

ثم نرجع إلى بابنا فنقول فعلمنا شرف يوم عرفة من حيث اسمه لما وضع له من تعلقه بالأحدية إنما الله إله واحد والأحدية أشرف صفة الواحد من جميع الصفات وهي سارية في كل موجود ولو لا أنها سارية في كل موجود ما صح أن نعرف أحدية الحق سبحانه فما عرفه أحد إلا من نفسه ولا كان على أحديته دليل سوى أحديته‏

من عرف نفسه عرف ربه‏

هكذا قال صلى الله عليه وسلم وقال أبو العتاهية

وفي كل شي‏ء له آية *** تدل على أنه واحد

والآية أحدية كل شي‏ء وهي التي يمتاز بها عن غيره من أمثاله فالأحدية تسري في كل شي‏ء من قديم وحادث ومعدوم وموجود ولا يشعر بسريانها كل أحد لشدة وضوحها وبيانها كالحياة عند أرباب الكشف والايمان فإنها سارية في كل شي‏ء سواء ظهرت حياته كالحيوان أو بطنت حياته كالنبات والجماد فالله حي بغير منازع وما من شي‏ء مما سوى الله إلا وهو يسبح الله بحمده ولا يسبحه إلا من يعلمه ومن شرط العالم أن يكون حيا فلا بد أن يكون كل شي‏ء حيا

[ترجيح صوم يوم عرفة في غير عرفة]

ولما كانت الأحدية للمعرفة والأحدية لله تعالى في ذاته رجحنا صوم يوم عرفة على فطره في غير عرفة فإن كنا في عرفة علمنا إن الصوم لله لا لنا فرجحنا فطره على صومه لشهود عرفة فافهم فالصوم لله حقيقة والأحدية له حقيقة فوقعت المناسبة بين الصوم ويوم عرفة فإن كل واحد لا مثل له فإن صومه يفعل فيما بعده وليس ذلك لغيره في حق كل أحد ويفعل فيما قبله لأنه زماني فيتقيد بالقبلية وبالبعدية والمقصود إن فعله عام كصفة الحق في إيجاد الممكنات عامة لا تختص بممكن دون ممكن وإن كان الأمر

لله من قبل ومن بعد فجاء مبنيا غير مضاف لعدم تقييده عز وجل بالقبل والبعد فهذا الذي ليوم عرفة ليس لغيره من الأزمان فقد تميز على جنسه وإن كان ثم أعمال هي أقوى منه في العمل ولكن ليست زمانية أي ما هي لعين الزمان غاية عاشوراء أن يكفر السنة التي قبله فتعلقه بالواقع وعرفة تعلقه بالواقع وغير الواقع فعاشوراء رافع وعرفة رافع ودافع فجمع بين الرفع والدفع فناسب الحق فإن الحق يتعلق بالموجود حفظا وبالمعدوم إيجادا فكثرت المناسبة بين يوم عرفة وبين الأسماء الإلهية فترجح صومه في غير عرفة وإن كان له هذا الحكم في عرفة إلا إن فطره أعلى في عرفة من صومه لما قلنا وفي الحكم الظاهر للاتباع والاقتداء قال في الاتباع فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وقال في الاقتداء لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وأفطر في هذا اليوم في عرفة

[اختلاف علماء الرسوم في صوم يوم عرفة في عرفة]

وإنما اختلف علماء الرسوم في صومه في عرفة لا في غيرها لمظنة المشقة فيها والضعف عن الدعاء غالبا والدعاء في هذا اليوم هو المطلوب من الحاج فإن أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة كالمسافر في رمضان في فطره فمن العلماء من اختار الفطر فيه للحاج وصيامه لغير الحاج للجمع بين الأثرين وقد قدمنا في أول الفصل الخبر المروي الصحيح في صيامه فنذكر إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمه بعرفة رحمة بالناس الذين تدركهم المشقة في صيامه كذا توهم علماء الرسوم والأمر على ما قلناه فإنه كان قادرا على صومه في نفسه وينهى أمته عن صيامه بعرفة ومثل هذا وقع في الشرع كنكاح الهبة فهو له خاصة وهو حرام على الأمة بلا خلاف وكالوصال وإن جاز فعلى كراهة خرج مسلم عن أم الفضل أن الناس تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه قال تعالى وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فالرحمة هنا عندنا إن أعلمهم أن الفطر في يوم عرفة في عرفة هي السنة وعند علماء الرسوم طلب الرفق والحجة لنا في‏

قوله خذوا عني مناسككم‏

فمنها عدم الصوم في ذلك الموضع في ذلك اليوم والأمر لا يتوقف في الأخذ به إذا ورد معرى عما يخرجه عن الأخذ به‏

[حديث النهى عن صيام يوم عرفة في عرفة]

وأما حديث النهي عن صيام يوم عرفة في عرفة ففي إسناده مهدي بن حرب الهجري وليس بمعروف‏

خرجه النسائي من حديثه عن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة بعرفة

وأما

حديث الترمذي عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب‏

قال أبو عيسى حديث عقبة حديث حسن صحيح فكأنه يشير بهذا القول إلى ما قلناه ويشير إلى مقام المعرفة والعارف فإن مقام المعرفة لا يعطي الصوم إذ يعرف العارف الصوم لمن هو فكان يوم عيده يوم حصوله في هذا المقام وأيام العيد أيام سرور فأراد إن يسرى السرور ظاهرا وباطنا في النفس الناطقة بترك الصوم وفي الحيوانية بالأكل والشرب فجمع بين السرورين ولم يتعرض لتحريم الصوم في هذا الحديث ولكن قرنه بالصوم المحرم وهو يوم النحر وبالصوم المكروه وهو صوم أيام التشريق وأنه صلى الله عليه وسلم رجح الأكل والشرب فيه في الظاهر ولم يتعرض للنهي عن ذلك وحرمنا صيام يوم عيد الأضحى بخبر غير هذا سأورده إن شاء الله ثم قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر أهل الإسلام ولم يقل أهل الايمان دل على مراعاة الظاهر هنا ولهذا قلنا إنه راعى النفس الحيوانية التي سرورها بالأكل والشرب في يوم عيدها فاعلم ذلك‏

(وصل في فصل صيام الستة من شوال)

[حديث صيام الأيام الستة من شوال‏]

قد تقدم ذكر الخلاف في وقتها وفي هذا الخبر عندي نظر لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت الهاء في العدد أعني في الستة فقال وأتبعه ستا من شوال وهو عربي والأيام مذكرة والصوم لا يكون إلا في اليوم وهو النهار فلا بد من إثبات الهاء فيه فهذا سبب كون الحديث منكر المتن مع صحة طريق الخبر فيترجح عندي أنه اعتبر في ذلك الوصال فوصل صوم النهار بصوم الليل والليلة مقدمة على النهار لأن النهار مسلوخ منها أو تكون لغة شاذة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس كان فيه من هذه لغته‏

[الوصال في الأيام الستة من شوال‏]

ومع هذا فمن استطاع الوصال في هذه الأيام الستة فهو أولى عملا بظاهر لفظ الخبر والوصال لم يقع النهي عنه نهي تحريم وإنما راعى الشفقة والرحمة في ذلك بظاهر الناس لئلا يتكلفوا

الحرج والمشقة في ذلك ولو كان حراما وما واصل بهم صلى الله عليه وسلم وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق‏

وقال من يشاد هذا الدين يغلبه‏

وخرج مسلم عن أنس بن مالك واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شهر رمضان فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم‏

فمن لم يقدر أن يواصلها كلها فليواصل حتى السحر في كل يوم فتدخل الليلة في الصوم كل ليلة ويكون حد السحر لفطرها فحد الغروب للنهار في حق من لا يواصل‏

في الصحيح أنه عليه السلام قال أيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر خرجه البخاري عن أبي سعيد

[نهى الشارع عن الوصال رحمة بالأمة]

ومما يؤيد قولنا إنه أراد الرحمة بالناس في ذلك ما

خرجه مسلم أيضا عن عائشة قالت نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم قالوا إنك تواصل قال إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني‏

فكوشف صلى الله عليه وسلم بحال تلك الجماعة التي خاطبهم أنهم ليست لهم هذه الحال وأنه ما أراد بذلك أنه مختص به دون أمته فإنا قد وجدناه ذوقا من نفوسنا في وصالنا فبتنا في حال الوصال فأطعمنا ربنا وسقانا في مبيتنا ليلة وصالنا فأصبحنا أقوياء لا تشتهي طعاما ورائحة الطعام الذي أكلناه الذي أطعمناه ربنا يشم منا ويتعجبون الناس من حسن رائحته فسألونا من أين لك هذه الرائحة في هذا الذي طعمت فما رأينا مثلها فمنهم من أخبرته بالحال ومنهم من سكت عنه فلو كان هذا خصوصا برسول الله صلى الله عليه وسلم ما نلناه فصح لنا الوصال والفطر فجمع لنا بين الأجرين والفرحتين‏

[حكمة الوصال‏]

وحكمة الوصال أن الحق قال الصوم له وأمرنا بما هو له وجعله عبادة لا مثل لها فإذا فرق بالفطر بين اليومين فما واصل فإذا لم يفطر تحقق الوصال فيشير بذلك إلى إيصال صوم العبد بالصوم المضاف إلى الحق ليبين له أن للعبد ضربا من التنزيه بالصوم كما إن للحق من الصوم التنزيه فهو إشعار حسن للعارفين وكذا هو في نفس الأمر فإن العبد له تنزيه يخصه ولا سيما إذا كان عمله تنزيه الحق فإن عمله يعود عليه وهو التنزيه فإن تنزيه الحق ما هو بتنزيه المنزه بل هو تعالى منزه الذات لنفسه ما نحن نزهناه فلذلك يعود تنزيهنا علينا حين حرمه غيرنا فمن قدر على الوصال في هذه الستة الأيام فهو أحق وأولى‏

[حذف الهاء في عدد المذكر]

فإن وجد أحد نقلا عن العرب في اللسان حذف الهاء في عدد المذكر حمل الحديث على تلك اللغة ولقد روينا أن الله حين أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً لم يعرف هذا اللحن الحاضرون ولا عرفوا معناه فبينما هم كذلك إذا أتى أعرابي قد أقبل غريبا فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه وقال يا محمد إني رجل من كبار قومي بضم الكاف وتشديد الباء فعلم الحاضرون أن هذه اللفظة نزلت يلحن ذلك العربي وأصحابه فعلموا معناها

فما يبعد أن يكون حذف الهاء جائزا في عدد المذكر في لغة بعض الأعراب ولو كان ذلك لم يقدح فيما ذهبنا إليه من الحقائق المشهودة لنا فيكون الشارع العالم يقصد الأمرين معا في هذه اللفظة في حق من هي لغته وفي حق من ليست له بلغة

[الاعتباران في صوم الأيام الستة من شوال‏]

وجعلها ستا ولم يجعلها أكثر ولا أقل وبين أن ذلك صوم الدهر لقول الله تعالى من جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها على هذا أكثر العلماء بالله وهذا فيه حد مخصوص وهو أن يكون عدد رمضان ثلاثين يوما فإن نقص نزل عن هذه الدرجة وعندنا إنه يجبر بهذه الستة من صيام الدهر ما نقصه بالفطر في الأيام المحرم صومها وهي ستة أيام يوم الفطر ويوم النحر وثلاثة أيام التشريق ويوم السادس عشر من شعبان يجبر بهذه الستة الأيام ما نقص بأيام تحريم الصوم فيها والاعتبار الآخر وهو المعتمد عليه في صوم هذه الأيام من كونها ستة لا غير إن الله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أَيَّامٍ وكنا نحن المقصود بذلك الخلق فأظهر في هذه الستة الأيام من أجلنا ما أظهر من المخلوقات كما ورد في الخبر

فكان سبحانه لنا في تلك الأيام فجعل لنا صوم هذه الستة الأيام في مقابلة تلك لأن نكون فيها متصفين بما هو له وهو الصوم كما اتصف هو بما هو لنا وهو الخلق‏

[أحمد السيتى بن هارون الرشيد]

ولهذا كان أحمد السبتي ابن أمير المؤمنين هارون الرشيد يصوم ستة أيام من كل جمعة ويشتغل بالعبادة فيها فإذا كان يوم السبت احترف فيما يأكله بقية الأسبوع وبهذا سمي السبتي فلقيته بالطواف يوم جمعة بعد الصلاة وأنا أطوف فلم أعرفه غير أني أنكرته وأنكرت حالته في الطواف فإني ما رأيته يزاحم ولا يزاحم ويخترق الرجلين ولا يفصل بينهما فقلت هذا روح تجسد بلا شك فمسكته وسلمت عليه فرد علي السلام وماشيته ووقع بيني وبينه كلام ومفاوضة فكان منها إني قلت لم خصصت يوم السبت بعمل الحرفة فقال لأن الله سبحانه ابتدأ

خلقنا يوم الأحد وانتهى الفراغ منه في يوم الجمعة فجعلت تلك الأيام لي عبادة لله تعالى لا أشتغل فيها بما فيه حظ لنفسي فإذا كان يوم السبت انفردت لحظ نفسي فاحترفت في طلب ما أتقوت به في تلك الأيام هكذا كل جمعة فإنه سبحانه نظر إلى ما خلق في يوم السبت فاستلقى ووضع إحدى يديه على الأخرى وقال أنا الملك لظهور الملك ولهذا سمي يوم السبت والسبت الراحة ولهذا أخبر تعالى أنه ما مسه من لغوب فيما خلقه واللغوب الإعياء فهي راحة لا عن إعياء كما هي في حقنا فتعجبت من فطنته وقصده فسألته من كان قطب الزمان في وقتك فقال أنا ثم ودعني وانصرف فلما جئت المكان الذي أقعد فيه للناس فقال لي رجل من أصحابي من المجاورين يقال له نبيل بن خزر بن خزرون السبتي من أهل سبتة إني رأيت رجلا غريبا لا نعرفه بمكة يكلمك ويحادثك في الطواف من كان ومن أين جاء فذكرت له قصته فتعجب الحاضرون من ذلك‏

[علم الحكمة في الأشياء وأهل الله‏]

فهذا اعتبار الستة الأيام من الوجه الصحيح وإنما حذف الهاء الشارع إن صحت الرواية لاعتبار الليالي لأنها دلائل الغيب بخلاف النهار والغيب مما انفرد به الحق فلا يطلع عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا من ارْتَضى‏ من رَسُولٍ وكذلك علم الحكمة في الأشياء لا يكون علما إلا لأهل الله وأما أهل الفكر والقياس فإنهم يصادفون الحكمة بحكم الاتفاق فلا يكون علما عندهم وعند أهل العلم بالله يعلمون أن ذلك هو المراد بذلك الأمر فيكون علما لهم بذلك الاعتبار فيقصدونه لا بحكم الاتفاق فإن بعض الناس إذا رأى كرم أهل الله في مثل هذا يقولون باحتماله لا يقطعون به حملا على نفوسهم ورتبتهم في العلم وهو قول الله تعالى في حق من هذه حالته ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ من الْعِلْمِ فاعلم بذلك والله الموفق للصواب‏

(وصل في فصل غرر الشهر وهي الثلاثة الأيام في أوله)

[كل شهر هو ضيف يرد على الإنسان من جانب الرحمن‏]

خرج مسلم عن معاذة أنها سألت عائشة أ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام قالت نعم فقلت لها من أي أيام الشهر كان يصوم قالت لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم‏

اعلم أن كل شهر يرد على الإنسان إنما هو ضعيف ورد عليه من جانب الحق فوجب على الإنسان القيام بحقه المسمى ضيافة وهو الضعيف وحق الصيف ثلاثة أيام فلهذا شرع الشارع في الشرع المندوب إليه ثلاثة أيام من كل شهر ورغبنا في أوله فقلنا نصوم ذلك في الثلاث الغرر منه لأن الشرع ورد بتعجيل الطعام للضعيف فقال العجلة من الشيطان إلا في ثلاث فذكر منها إطعام الضيف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر خرجه النسائي عن ابن مسعود والصيام صفة للحق واختصه من جميع الأعمال لنفسه وهو عمل مختص بهذه النشأة لا يكون ذلك لملك فلا يشهده سبحانه ملك مقرب في مشهد صومي ولا يتجلى له سبحانه في مشهد صومي أبدا فإنه من خصائص هذه النشأة وكانت هذه الضيافة ثلاثة أيام لكل شهر لأنه وارد من الحق وراجع إليه سبحانه حامدا له في تلقيه إياه أو ذا ماله بحسب ما يتلقاه العبد به فأحسن ما يتلقاه به ما هو صفة إلهية وهو الصوم‏

[الحكمة في صيام غرر كل شهر]

ولله تعالى ثلاثمائة خلق كذا ورد عنه صلى الله عليه وسلم والثلاثة من الثلاثمائة عشر العشر فإن عشر الثلاثمائة ثلاثون وهو الشهر وعشر الثلاثين ثلاثة فهي عشر العشر فهو قوله من جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها فيقبل الحق تلك الثلاثة ثلاثين فيجازيه بالثلاثين ثلاثمائة خلق فإنه قال عَشْرُ أَمْثالِها فكأنه صام الشهر كله فلذلك جوزي بالثلاثمائة إذ كانت الثلاثون قبلت عملا لا جزاء فإنها مثل الحسنة والحسنة عمل والمثلان هما اللذان يشتركان في صفات النفس فانظر في حكمة الشارع ما ألطفها وأحسنها في ترغيبه إيانا في صوم ثلاثة أيام من كل شهر وما نبه عموم الخلق على عين الجزاء فإن حصول الجزاء إذا جاء فجأة من غير أن يعرف سببه ولا ينتظر كان ألذ في نفس العامة والصيام خلق إلهي فكان جزاؤه من جنسه وهي الثلاثمائة خلق إلهي يتصف بها الصائم هذه الثلاثة الأيام كما اتصف بالصيام وهو وصف إلهي والعامي الذي لم يصم على هذا الحد يكون جزاؤه من كونه لم يأكل ولم يشرب فيقال له كل يا من لم يأكل واشرب يا من لم يشرب قال تعالى كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ في الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ يعني أيام الصوم في زمان التكليف وأهل الله الذين يصومون هذه الثلاثة الأيام وأي صوم كان على استحضار ما ذكرناه من أنه يتلبس بوصف إلهي يكون جزاؤه من هذه صفته قوله من وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ‏

[الإنسان أكمل نشأة والملك أكمل منزلة]

ولما لم تكن هذه الصفة عملا للملك لم يحضر مع الصائم‏

في حضرة لهذا التجلي فلا يعرف هذا المجلى ذوقا ذاتيا والإنسان يشهده تعالى إذا كان من أهل العلم بالله الكامل في جميع ما يشهده فيه الملك كان الملك في أي مقام كان ومع هذا فلا يدل على إن الإنسان أعظم عند الله من الملك فالإنسان أكمل نشأة والملك أكمل منزلة كذا قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد واقعة أبصرته صلى الله عليه وسلم فيه فسألته لكن الإنسان أجمع بالذوق من الملك لأجل جمعيته وبعض الناس يغلط في هذا المقام من أجل تشكل الروحاني في أي صورة شاء وما علم إن التكحل في العينين ليس كالكحل فالإنسان الكامل لا الإنسان الحيواني أكمل نشأة للحقائق التي أنشئ عليها حقائق الأسماء الإلهية وحقائق العالم وهو الذي أنشأه الله على الصورة فهو بجمعيته حق كله فالحق مجلاه إذ كان له الكمال فيراه بكل عين ويشهده في كل صورة ولا يدل هذا على أنه أفضل عند الله فإن هذا كان لجمعيته فلا يقال في الشي‏ء إنه أفضل من نفسه وإنما تقع الفضيلة بين الغيرين ولا غير فإن الملك جزء من الإنسان والجزء من الكل وللكل من الجزء ما ليس للجزء من الكل والمثلان لا يتفاضلان فيما هما مثلان فيه فإن تفاضلا فما هما مثلان‏

[ممسوك الدار]

ولنا في ذلك من قصيدة في واقعة عجيبة وقد نوديت ممسوك الدار

مسكتك في داري لإظهار صورتي *** فسبحانكم مجلى وسبحان سبحانا

فما أبصرت عيناك مثلي كاملا *** ولا أبصرت عيني كمثلك إنسانا

فلم يبق في الإمكان أكمل منكمو *** نصبت على هذا من الشرع برهانا

فأي كمال كان لم يك غيركم *** على كل وجه كان ذلك ما كانا

طهرت إلى خلقي بصورة آدم *** وقررت هذا في الشرائع إيمانا

وسميته لما تجلى بصورتي *** إلى ناظري حقا وإن كان إنسانا

فقل فيه ما تهواه إن شئت أنه *** ليقبله عينا وإن كان أكوانا

فلو كان في الإمكان أكمل منكمو *** لكان وجود النقص في إذا كانا

لأنك مخصوص بصورة حضرتي *** وأكمل منها ما يكون فقد بأنا

فماثل وجودي فالتقابل حاصل *** فزن ذاتكم إني وضعتك ميزانا

تجد علم ما قد قلت فيك مسطرا *** ولا أحدا أوجدته منك ريانا

ظهرت لنا مجلى فعاينت صورتي *** وعاينت فيك الكون رمزا وتبيانا

وساررتكم لما رأيت سراركم *** وأعلنت قولي إذ تجليت إحسانا

وما أنت ذاتي لا ولا أنا ذاتكم *** فإن كنت لي عينا فلا تبده الآنا

فأخسرنا من كان يعلن سره *** وأربحنا من كان يخفيه كتمانا

فمن كان ذا كتم لسري وغيرة *** سيلقي غدا روحا لدي وريحانا

إذا كنت لي عينا أكون لكم يدا *** وأظهركم بالحال سرا وإعلانا

وصيرت قلبي للتجلي منصة *** ومهدته حبا لخيلك ميدانا

وأملأته من كل شهم غشمشم *** لدعواك فرسانا تجول وركبانا

وجئتك بالأسماء يقدم جمعها *** من أسمائه الحسنى خبيرا ومحسانا

وأنزلتها تبغي الفناء بفنائكم *** وأرسلتها عينا معينا وطوفانا

وهبتك يا عبدي من أسماء ذاتكم *** ملابس أعياد ضروبا وألوانا

فإن كنت لي بي كنت أنت ولا تقل *** أنا أنت بل كن في الخليقة رحمانا

[صيام غرر الشهر وزكاة العشر]

فتحقق أيدك الله ما أشرنا إليه في صيام ما ذكرناه من الثلاثة الأيام من كل شهر فهي في حقنا على حد ما ذكرناه وتقبل هذه الثلاثة الأيام في حق العامة زكاة ذلك الشهر وفي مجموع السنة زكاة تلك السنة وهي ستة وثلاثون يوما فهي‏

مثل العشر في زكاة الحبوب فإن العامة مع النفس التي تطلب الغذاء وهي النفس النباتية لا الحيوانية فإن الحيوان ما يطلب الغذاء من كونه حيا وإنما يطلبه من كونه نباتا فلا تخلط بين الحقائق ولهذا جوزوا من حيث امتنعوا في زمان الصوم من استعمال ما ينمون به وهو الغذاء ورحمهم الله تعالى بالسحور عوضا من أكل بالنهار فما نقص الصائم من غذائه شي‏ء إذا تسحر ورغب الله في أكلة السحور وسماه غذاء حتى لا يكون للنفس النباتية مقال يطلبه حق من الله فإن ترك العبد السحور تعين عليه من النفس طلب حقها ومن الله الذي أمره بإيصال حقها إليها فإن المكلف مأمور أن يؤدي إلى كل ذي حق حقه‏

[صوم العامة وصوم الخاصة]

وكما فرقنا بيننا وبين أهل الكتاب في أكلة السحور وكان الاعتبار في سحورنا غير ما تعتبره العامة لذلك كان صومنا يخالف صومهم من هذه الجهة فنحن مشاركون لهم فيما تطلبه النفس النباتية منا ومنهم وهم لا يشاركوننا فيما يختص بالنفس الناطقة التي هي العقل من إيصال الحق إلى مستحقه فإن لنفسك عليك حقا وهو أشد حقوق الأكوان بعد حق الله عليك لأن خصمك بين جنبيك وما من حق لكون من الأكوان على أحد إلا ولله فيه حق على ذلك الكون فاحفظ نفسك فإذا كان غدا في موطن الجزاء والتجلي ظهر الفرق بين الفرق والتفاضل فكم بين نفس تحشر بنعوت إلهية وبين نفس محرومة من ذلك فتصرف قيمتها يوم القيامة إلى ما كانت صرفتها في الدنيا من الانكباب على ما تطلبه هذه النشأة الطبيعية من الاتساع فيما هو فوق الحاجة فلا فرق بينه وبين سائر الحيوانات وهذا هو الإنسان الحيوان‏

[الإنسان لا يزال مهموما منهوما في الحال الاستقبال‏]

وربما أكثر الحيوان إذا اكتفى ما له همة في المستأنف والإنسان ليس كذلك لا يزال مهموما ومنهوما في الحال والاستقبال فيجمع ولا يشبع لأنه خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وهم المتأخرون عن هذه الصفة التي جبلوا عليها فإن المصلي هو المتأخر عن السابق في الحلبة فهذا معنى قوله إِلَّا الْمُصَلِّينَ هنا في الاعتبار وقد يكون تفسيرا للآية فإنه سائغ ولكن حمله على الإشارة أعصم فنفوس العامة التي هي بهذه المثابة محجوبة في الدنيا والآخرة ليرتفع عنهم الألم كما ارتفع هنا وكذلك أهل الله فكما هم الخلق في الدنيا كذلك يكونون غدا يوم القيامة

[حشر الأجسام والجنات المعنوية والحسية]

ولو لا حشر الأجسام في الآخرة لقامت بنفوس الزهاد والعارفين في الآخرة حسرة الفوت ولتعذبوا لو كان الاقتصار على الجنات المعنوية لا الحسية فخلق الله في الآخرة جنة حسية وجنة معنوية وأباح لهم في الجنة الحسية ما تشتهي أنفسهم ورفع عنهم ألم الحاجات فشهواتهم كالإرادة من الحق إذا تعلقت بالمراد تكون فما أكل أهل السعادة لدفع ألم الجوع ولا شربوا لدفع ألم العطش ولما اشتغلوا هنا بالله من حيث ما كلفهم فهم يجرون في الأمور بالميزان الذي حد لهم خائفين من أن يطففوا أو يخسروا الميزان جعل لهم سبحانه الاشتغال في الآخرة بالجنة الحسية لأجسامهم الطبيعية جزاء وفاقا قال تعالى إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ في شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وأَزْواجُهُمْ في ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ‏

[و جنى الجنتين للعارفين دان‏]

والعارفون وغير العارفين في هذه الصورة الحسية على السواء ويفوز العارفون بما يزيدون عليهم بجنات المعاني ف جَنَى الْجَنَّتَيْنِ للعارفين دانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ولا بشي‏ء من آلائك ربنا نكذب فهذا الاشتغال منع العامة وعلماء الرسوم في الدنيا والآخرة وأهل الله معهم من حيث نفوسهم النباتية والحيوانية في هذا الشغل وهم مع الله من ذلك الوجه الآخر فكما أنه ما حجبهم في الدنيا ما هم عليه من الحاجة إلى الغذاء مع قوة سلطانه في الدنيا لدفع آلام الجوع والعطش والإحساس بأنواع الأشياء المؤلمة كذلك لا يحجبهم في الآخرة نعيم الجنان المحسوس عن الله في الاتصاف بأسمائه التي تليق بالدار الآخرة لأن لها أسماء إلهية لا يعلمها اليوم أحد أصلا فإن الأسماء الإلهية إنما يظهرها مواطنها سيقول النبي صلى الله عليه وسلم فأحمده بمحامد لا أعلمها الآن فإن الموطن يعين الأسماء فإنه عن آثارها ولكن هذا الذي نذكره من النعيم الذي لا حسرة فيه إنما يكون في الجنة لا في القيامة فإن يوم القيامة يوم التغابن للكل فالسعيد يقول يا ويلتا ليتني زدت والشقي يقول يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ ولهذا سمي يوم الحسرة لإظهاره مثل هذا لأنه من حسرت الثوب عني فظهر ما تحته أي أزلته‏

(وصل في فصل من جعل الثلاثة الأيام من كل شهر صوم أيام الثلاثة البيض)

[الأيام البيض أو ظهور الشمس لأعيننا في القمر]

خرج النسائي من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الشهر

أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة

فهذا ظهور حق في خلق وهو ظهور الشمس لا عينا في القمر ليالي إبداره وهي الليالي البيض وأيامها تسمى الأيام البيض لأن الليل من أوله إلى آخره لا يزال فيها منورا فجعل لياليها أياما لإزالة ظلمة الليل وطلوع الشمس بوساطة القمر مكملا فجعلها شهادة وكانت غيبا يستتر فيها كل شي‏ء فصار يظهر فيها كل ما كان مستورا بظلمة الليل فالنهار وإن كان ولد الليل فهو من أعدائه لأنه ينفره أبدا قال تعالى إِنَّ من أَزْواجِكُمْ وأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ‏

يا حذرى من حذرى *** لو كان يغني حذرى‏

فالنهار ولد عاق لا يزال يطرد أباه ويهججه ليلا ونهارا على قدر ما يقدر عليه‏

[ظهور الشمس في مرآة القمر ظهور حق في خلق‏]

فظهور الشمس في مرآة القمر ظهور حق في خلق لأن النور اسم من أسماء الله تعالى فظهر باسمه النور في ظهور القمر قال تعالى وجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً فهو مجلى لنور الشمس وجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً فإن النور الحق هو سبحانه فإنه الممد بالنورية لكل منور والسراج نور ممدود بالدهن الذي يعطيه بقاء الإضاءة عليه ولهذا جعل الشمس سراجا

[النبي سراج منير في دعائه إلى الله عباده‏]

وكذلك جعل نبيه صلى الله عليه وسلم سراجا منيرا لأنه يمده بنور الوحي الإلهي في دعائه إلى الله عباده ومن شرط من يدعي الإجابة إلى ذلك وجعله بإلى في قوله إلى الله وهو حرف غاية وهو انتهاء المطلوب فتضمنت حرف إلى أن المدعو لا بد أن يكون له سعى من نفسه إلى الله فإن مشى في الظلمة فإنه لا يبصر مواقع الهلكة في الطريق فتحول بينه وبين الوصول إلى الله الذي دعاه إليه بحفرة يقع فيها وبئر يتردى فيها أو شجرة أو حائط يضرب في وجهه فيصرفه عن مطلوبه أو الطريق الموصلة إليه يضل عنها لعدم التمييز في الطرق فإن هذه كلها كالشبه المضلة للإنسان في نظره إذا أراد القرب من الله بالعلم من حيث عقله وافتقر إلى نور يكشف به ما يصده عن مطلوبه ويحرمه الوصول إليه لما دعاه فجعل الحق شرعه سراجا منيرا يتبين لذلك المدعو بالسراج الطريق الموصلة إلى من دعاه إليه فقال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً وداعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ أي بأمره لم يكن ذلك من نفسك ولا من عقلك ونظرك وسِراجاً مُنِيراً أي يظهر به للمدعو ما يمنعه من الوصول فيجتنبه على بصيرة كما قال أَدْعُوا إِلَى الله عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا ومن اتَّبَعَنِي فجعل لنا سهما مما وصفه به الحق من صفة السراج المنير فهو نور ممدود بإمداد إلهي لا بإمداد عقلي‏

[أمر الشارع بتنزيه الزمان من حيث هو الدهر]

ثم إن الحق سبحانه لما كان من أسمائه تعالى الدهر كما

ورد في الصحيح لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر

فأمر بتنزيه الزمان من حيث ما سمي دهر الكون الدهر اسما من أسماء الله تعالى فصار لفظ الدهر من الألفاظ المشتركة كما ننزه الحروف أعني حروف المعجم من حيث إنها كتب بها كلام الله تعالى وعظمناها فقال فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله ونهانا أن نسافر بالمصحف إلى أرض العدو وما سمع السامع إلا أصواتا وحروفا فلما جعلها كلامه أوجب علينا تنزيهها وتقديسها وتعظيمها

[صيام الأيام البيض صيام الدهر]

فقال النبي صلى الله عليه وسلم مخبرا لنا أن صيام الأيام البيض صيام الدهر

من باب الإشارة ما هو صيامكم فأضاف الصوم إلى الدهر وهوقوله تعالى الصوم لي‏

ولما جعله صيام الدهر وأنت الصائم في هذه الأيام كان الدهر كمثل الشمس في ظهورها في القمر وكان القمر كالإنسان الصائم وكان نور القمر كالصوم المضاف إلى الإنسان إذا كان هو محل وهو مجلى الدهر تعالى فهو صوم حق في صورة خلق كما

قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده‏

فالقائل الله والسماع متعلق بلفظ العبد فهو نطق إلهي في خلق فهو قول الله في هذه الحال لا قول العبد فالسمع على الحقيقة إنما تعلق بكلام الله على لسان العبد الذي هو مجرى الحروف المقطعة

[صوم الأيام الغرر وصوم الأيام البيض‏]

فينبغي لنا صح نفسه أن يصوم الغرر من أول كل شهر على نية ما ذكرناه لك من الاعتبار ويصوم الأيام البيض على هذا الاعتبار الآخر وهو صوم النيابة عن الحق فلك جزاء الحق لا الجزاء الذي يليق بك وكل شي‏ء له فما ثم من يقوم مقامه أن يكون جزاء له وكذلك هذا الصائم بهذا الحضور فإنه في عبادة لا مثل لها بنيابة إلهية ومجلى اسم إلهي يقال له الدهر فله كل شي‏ء كما كان الدهر ظرف كل شي‏ء فلا جزاء لهذا الصائم غير من تاب عنه إذا كان مجلاه ولهذا قال وأنا أجزي به معناه إنا جزاؤه بسبب كونه صائما بحق شهودي مشهود له ما هو للحق لا للعبد

[العلم الغريب والرؤيا الشيطانية]

فقد عرفتك كيف تصوم الأيام البيض وما تحضره في نفسك عند ما تريد أن تشرع فيها وهي صفة كمال العبد في الأخذ عن الله كما كان القمر في هذه الأيام موصوفا بالكمال‏

في أخذه النور من الشمس من الاسم الظاهر للخلق فإن له أيضا كمالا آخر في الوجه الآخر منه من الاسم الباطن ليلة السرار وهو مجلى في تلك الليلة من غير إمداد يرجع إلى الخلق بل هو في السرار بما يخصه من حيث ذاته خالص له وهو الذي أشرنا إليه في صوم سرر الشهر المأمور به شرعا وقد تقدم فاجعل بالك لما فتحناه إلى عين فهمك عناية من الله بك من حيث لا تشعر ولا يحجبنك عن هذا العلم الغريب الذي بيناه لك الرؤيا الشيطانية التي رؤيت في حق أبي حامد الغزالي فحكاها علماء الرسوم وذهلوا عن أمر الله تعالى سبحانه لنبيه في قوله وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً لم يقل عملا ولا حالا ولا شيئا سوى العلم أ تراه أمره بأن يطلب الحجاب عن الله والبعد منه والصفة الناقصة عن درجة الكمال أ تراه في قوله ضرب بيده يعني ضربة الحق إياه فعلمت في تلك الضربة علم الأولين والآخرين لا شي‏ء لم يذكر العمل ولا الحال فحكى أصحاب الرسوم عن شخص سموه وهو أنه رأى أبا حامد الغزالي في النوم فقال له أو سأله عن حاله فقال له لو لا هذا العلم الغريب لكنا على خير كثير فتأولها علماء الرسوم على ما كان عليه أبو حامد من علم هذا الطريق وقصد إبليس بهذا التأويل الذي زين لهم أن يعرضوا عن هذا العلم فيحرموا هذه الدرجات هذا إذا لم يكن لإبليس مدخل في الرؤيا وكانت الرؤيا يا ملكية وإذا كانت الرؤيا من الله والرائي في غير موطن الحس والمرئي ميت فهو عند الحق لا في موطن الحس‏

[علم أسرار العبادات والأخرويات وعلم الأحكام والدنويات‏]

والعلم الذي كان يحرض عليه أبو حامد وأمثاله في أسرار العبادات وغيرها ما هو غريب عن ذلك الموطن الذي الإنسان فيه بعد الموت بل تلك حضرته وذلك محله فلم يبق العلم الغريب على ذلك الموطن إلا العلم الذي كان يشتغل به في الدنيا من علم الطلاق والنكاح والمبايعات والمزارعة وعلوم الأحكام التي تتعلق بالدنيا ليس لها إلى الآخرة تعلق البتة لأنه بالموت يفارقها فهذه العلوم الغريبة عن موطن الآخرة وكالهندسة والهيئة وأمثال هذه العلوم التي لا منفعة لها إلا في الدار الدنيا وإن كان له الأجر فيها من حيث قصده ونيته فالخير الذي يرجع إليه من ذلك قصده ونيته لا عين العلم فإن العلم يتبع معلومه ومعلومه هذا كان حكمه في الدنيا لا في الآخرة فكأنه يقول له في رؤياه لو اشتغلنا زمان شغلنا بهذا العلم الغريب عن هذا الموطن بالعلم الذي يليق به ويطلبه هذا الموضع لكنا على خير كثير ففاتنا من خير هذا الموطن على قدر اشتغالنا بالعلم الذي كان تعلقه بالدار الدنيا فهذا تأويل رؤيا هذا الرائي لا ما ذكروه ولو عقلوا لتفطنوا في قوله العلم الغريب فلو كان علمه بأسرار العبادة وما يتعلق بالجناب الأخروي لما كان غريبا لأن ذلك موطنه والغربة إنما هي لفراق الوطن فثبت ما ذكرناه فإياك إن تحجب عن طلب هذه العلوم الإلهية والأخروية وخذ من علوم الشريعة على قدر ما تمس الحاجة إليه مما ينفرض عليك طلبه خاصة وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً على الدوام دنيا وآخرة

(وصل في فصل صيام الإثنين والخميس)

[يوما الأسبوع اللذان تعرض فيهما الأعمال‏]

خرج النسائي عن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله إنك تصوم حتى تكاد لا تفطر وتفطر حتى تكاد لا تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما قال أي يومين قلت يوم الإثنين ويوم الخميس قال ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب إن يعرض عملي وأنا صائم‏

[أيام الأسبوع الخمسة العددية]

فاعلم إن أسماء الأيام الخمسة جاءت بأسماء العدد أولها الأحد وآخرها الخميس واختص السادس باسم العروبة وفي الإسلام باسم الجمعة والسابع بيوم السبت فسميا بالحال لا باسم العدد كما أقسم بالخمسة الخنس الجواري وهي التي لها الإقبال والإدبار ولم يجعل معهن في هذا القسم الشمس والقمر وإن كانا من الجواري ولكنهما ليسا من الخنس كذلك الجمعة والسبت وإن كانا من الأيام لم يجعل اسمهما من أسماء العدد

[يوم الإثنين لآدم ويوم الخميس لموسى‏]

فلنذكر هنا ما يختص بالاثنين والخميس كما نذكر في صيام الجمعة والسبت والأحد ما يختص بهن أيضا في موضعه من هذا الباب فيوم الإثنين لآدم صلوات الله عليه ويوم الخميس لموسى صلى الله عليه وسلم فجمع بين آدم ومحمد صلى الله عليه وسلم الجمعية في الأسماء وجوامع الكلم فكما إن آدم علم الأسماء كلها كذلك محمد صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم والأسماء من الكلم فتلبس بيوم الإثنين الذي هو خاص بآدم لهذه المشاركة وأما موسى فجمع بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع النبيين الرفق وهو الذي تطلبه الرحمة وكان النبي صلى الله عليه وسلم أرسله الله رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكان‏

موسى في ليلة الإسراء لما اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن اجتمع من الأنبياء عليهم السلام لم يأمره أحد من الأنبياء ولا نبه على الرفق بأمته إلا موسى صلى الله عليه وسلم لما فرض الله علينا في تلك الليلة خمسين صلاة فما سأله أحد من الأنبياء لما رجع عليهم ما فرض الله على أمتك إلا موسى عليه السلام فتهمم بنا دون سائر الأنبياء عليهم السلام فلما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة قال له موسى عليه السلام راجع ربك في ذلك‏

الحديث وفيه فما زلت أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى فرضها خمسة في العمل وجعل أجرها أجر خمسين فنقص من التكليف وأبقى الأجر على ما كان عليه في الأصل‏

[جمعية محمد بآدم علما وبموسى رحمة ورفقا]

فلما جمع بينه وبين موسى في صفة الرفق بنا تلبس معه بيوم الخميس الذي هو لموسى عليه السلام وكان يتذكر بآدم في صوم الإثنين ما هو عليه من العلم ويتذكر بموسى في صوم الخميس الرحمة التي أرسل بها للعالمين وهما في حال لا يأكلان ولا يشربان فيه لأنهما قد فارقا الحياة الدنيا وما هما في عالم النش‏ء الجسمي الذي يطلب الغذاء بل هما في برزخ لا غذاء فيه بين النشأتين فأراد صلى الله عليه وسلم لما وقعت بينه وبينهما المشاركة فيما ذكرناه أن يتلبس في هذين اليومين اللذين يجتمع معهما فيهما بترك الطعام والشراب موافقة لهما ليتفرغ صلى الله عليه وسلم لتحصيل ما أداه إلى الاجتماع بهما في هذين اليومين وجعله صوما دون أن يعتبره اتساعا من الغذاء فحسب حتى يكون تركه ذلك عملا مشروعا فتلبس بصفة هي للحق وهو الصوم فصامهما ليعرض عمله على رب العالمين في ذينك اليومين وهو متلبس بصفة الحق إذ كان الصوم له‏

[فساد العلامة إنما هو طرو الشبهة عليها في النظر العقلي‏]

ولما كان الصوم بالنسبة إلى العباد يدخله الفساد لما كان قابلا لذلك ويقبل الصلاح أيضا كان العرض على رب العالمين لا على اسم غيره والرب هو المصلح فيصلح ما دخل في هذا الصوم من الفساد إن كان دخله فساد من حيث لا يشعر ويتعلق هذا الحكم بالعلامة خاصة وهي الدلالة على الله تعالى ولذلك قال على رب العالمين من العلامة وفساد العلامة إنما هو من طرو الشبهة عليها في النظر العقلي وما ثم شبهة أعظم من نسبة الصوم لله دون سائر الأعمال ووصف العبد به فإذا حصل العرض الذي هو التجلي والكشف بأن للصائم ما لله من الصوم وما للعبد منه فزالت الشبهة التي يقبلها العقل بالكشف الإلهي فهذا معنى مصلح العلامة

[علم الأسماء وعلم الاثنتى عشرة عينا]

وأما إذا اعتبرته بمربي العالمين أي مغذيهم فغذاء الصائم في هذا العرض هو ما يفيده الحق في هذا الصوم من العلوم المختصة بهذين اليومين من علم الأسماء وعلم الاثنتي عشرة عينا التي في العلم بها العلم بكل ما سوى الله وهو علم الحياة التي يحيا بها كل شي‏ء وهو العلم المتولد بين النبات والجماد من المولدات بصفة القهر فإن العيون الاثنتي عشرة إنما ظهرت بضرب العصا الحجر فانفجرت منه بذلك الضرب اثنتا عشرة عينا يريد علوم المشاهدة عن مجاهدة بسبب الضرب وعلوم ذوق لأن الماء من الأشياء التي تذاق ويختلف طعمها في الذوق فيعلم بذلك نسبة الحياة كيف اتصف بها المسمى جمادا حتى أخبر عنه الصادق أنه يسبح بحمد الله لأن الحق أضاف ذلك إلى الحجر بقوله منه ومن لا كشف له ولا إيمان لا يثبت للجماد حياة فكيف تسبيحا نعوذ بالله من الخذلان فيعلم بهذا الكشف نسبة الحياة أيضا إلى النبات لأن الضرب كان بالعصا وهي من عالم النبات وبضربه بها ظهر ما ظهر ومن لا كشف له لا يعلم أن النبات حي إلا من يصرف الحياة إلى النمو فيعلم في يوم الخميس إذا صام من أجل الإمداد روحانية موسى عليه السلام فيه علم الاثنتي عشرة عينا على الكشف والمشاهدة وهو علم ما يتعلق بمصالح العالم قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ من تلك العيون فمن علمها علم حكم الاثنتي عشر برجا وعلم منتهى أسماء الأعداد وهي اثنا عشر وعلم الإنسان بما هو ولي لله تعالى‏

فانظر إلى شجر يقضي على حجر *** وانظر إلى ضارب من خلف أستار

وكان الحجاب عليه والستر موسى عليه السلام كما كان الحجاب للأعرابي على كلام الله محمدا صلى الله عليه وسلم‏

[الاعتصام بصومى الإثنين والخميس‏]

فبصوم يوم الإثنين يجمع بين خلق وحق في بساط مشاهدة وحضور لتحصيل علم الأسماء الإلهية وبصوم يوم الخميس يجمع حفظ نفسه وحفظ الأربع من جهاته التي يدخل عليه منها الشبه المضلة فإنها طرق الشيطان من قوله ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ من بَيْنِ أَيْدِيهِمْ عن أمر واسْتَفْزِزْ ومن خَلْفِهِمْ عن أمر وأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ وعَنْ أَيْمانِهِمْ عن أمر وشارِكْهُمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ عن أمر وعِدْهُمْ وهو بعينه في الوسط فإن به تميزت هذه الجهات الأربع وكان المجموع في هذه الحضرة خمسة فاعتصم‏

بصوم يوم الخميس لكون الخمسة من خصائصه وموسى صاحبه فيها وهو فظ غليظ يفرق الشيطان منه لفظاظته فيعتصم الصائم يوم الخميس بهذا الحضور الذي ذكرناه من الشيطان الذي أرصد له على هذه الجهات ومن قبول نفسه لما يرد به هذا الشيطان لو ورد عليه وهو الشي‏ء الخامس المساعد للشيطان فيما يرومه فيكون موسى حاجب هذه الأبواب فيبقى الصائم فيها مستريحا آمنا وهو صاحب الصوم في ذلك اليوم ولم يقل ذلك في آدم في صوم الإثنين وجعلناه في الاعتبار جمع حق وخلق لئلا يطرأ عليه الخلل في صومه من حيث لا يشعر فإن آدم صاحب ذلك اليوم قبل من إبليس الإزلال من حيث لا يشعر ومن لم يدفع عن نفسه فأحرى إن لا يقدر أن يدفع عن غيره فحمل الاثنين على حق وخلق للاشتراك في صفة الصوم ولم يعتبر آدم في هذا الموطن‏

[نسبة الخمسة الخنس ليوم الخميس‏]

ونسبة الخمسة الخنس ليوم الخميس الذي هو لموسى لكونها لها الكر والفر بما لها من الإقبال والإدبار في السير فلها الحكم والقوة بذلك على غيرها لقوة الخمسة التي جمعتها فإن الخمسة من الأعداد تحفظ نفسها وتحفظ العشرين وما ثم عدد له هذه المرتبة ولا هذه القوة إلا هذه الخمسة ومن حفظ نفسه وغيره كان أقوى شبها بما تطلبه العقول من التشبه بمن له هذه الصفة قال تعالى ولا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وقال ورَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ انتهى الجزء التاسع والخمسون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وصل في فصل صيام يوم الجمعة)

اختلف العلماء في صوم يوم الجمعة فمن قائل يكره صومه ومن قائل يكره صومه إلا أن يصام قبله أو بعده‏

خرج مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده‏

وخرج البخاري عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أ صمت أمس قالت لا قال تريدين أن تصومي غدا قالت لا قال فافطرى‏

[يوم الجمعة فيه خلق آدم وبه ظهر تمام الخلق وغايته‏]

اعلم أن يوم الجمعة هو آخر أيام الخلق وفيه خلق من خلقه الله على الصورة وهو آدم فيه ظهر كمال إتمام الخلق وغايته وبه ظهر أكمل المخلوقات وهو الإنسان وهو آخر المولدات فحفظ الله به الاسم الآخر على الحضرة الإلهية وحفظه الله بالاسم الآخر فهو الذي ينظر إليه من الأسماء الإلهية ولما جمع الله خلق الإنسان فيه بما أنشأه تعالى عليه من الجمع بين الصورتين صورة الحق وصورة العالم سماه الله بلسان الشرع يوم الجمعة ولما زينه الله بزينة الأسماء الإلهية وحلاه بها وأقامه خليفة فيها بها فظهر بأحسن زينة إلهية في الكمال وخصه الله تعالى بأن جعله أوسع من رحمته تعالى فإن رحمته لا تسعه سبحانه ولا تعود عليه وإن محلها الذي لها الأثر فيه إنما هو المخلوقون ووسع القلب الحق سبحانه فلهذا كان أوسع من رحمة الله وهذا من أعجب الأشياء أنه مخلوق من رحمة الله وهو أوسع منها ومن كان مجلى كمال الحق فلا زينة أعلى من زينة الله فأطلق الله عليه اسما على ألسنة العرب في الجاهلية وهو لفظ العروبة أي هو يوم الحسن والزينة

[يوم الجمعة مخصوص بالساعة التي ليست لغيره من الأيام‏]

فظهر الحق في كماليته في أكمل الخلق وهو آدم فلم يكن في الأيام أكمل من يوم الجمعة فإن فيه ظهرت حكمة الاقتدار بخلق الإنسان فيه الذي خلقه الله على صورته فلم يبق للاقتدار الإلهي كمال يخلقه إذ لا أكمل من صورة الحق فلما كان أكمل الأيام وخلق فيه أكمل الموجودات وخصه الله بالساعة التي ليست لغيره من الأيام والزمان كله ليس سوى هذه الأيام فلم تحصل هذه الساعة لشي‏ء من الأزمان إلا ليوم الجمعة وهي جزء من أربع وعشرين جزء من اليوم وهي في النصف منه وهو المعبر عنه بالنهار فهي في ظاهر اليوم وفي باطن الإنسان لأن ظاهر الإنسان يقابل باطن اليوم وباطن الإنسان يقابل ظاهر اليوم أ لا تراه أمر في رمضان بالقيام بالليل والقيام حكم ظاهر الإنسان فإن الظاهر منه هو المستريح بالنوم وجعل الله اليوم له سباتا أي راحة والليل محل التجلي الإلهي والنزول الرباني واستقبال هذا النزول بالقيام الكوني واجب في الطريق أدبا إلهيا وهذا النزول في الليل يقوم مقام الساعة التي في نهار الجمعة لكن النزول في كل ليلة والساعة خاصة بيوم الجمعة فإنها ساعة الكمال والكمال لا يكون إلا واحدا في كل جنس إن كان ذلك الجنس ممن له استعداد الكمال كاستعداد الإنسان وما هو ثم مما قبله غير الإنسان‏

[الإنسان كامل بربه ويوم الجمعة كامل بالإنسان‏]

فالإنسان كامل بربه لأجل الصورة ويوم الجمعة كامل بالإنسان لكونه خلق فيه وما خلق فيه إلا في الساعة المذكورة فيه فإنها

أشرف ساعاته والحكم فيها للروح الذي في السماء السادسة وهي سماء العدل والاعتدال صفات وكمال الباطن فإن سلطان هذا اليوم هو الروح الذي في السماء الثالثة وله الاستبداد التام في يومه في الساعة الأولى منه والثامنة فهو الحاكم بنفسه تجليا وسائر ساعاته يجري حكمه فيه بنوابه والعلم أكمل الصفات فخص الأكمل بالأكمل والصوم لا مثل له في العبادات فأشبه من لا مثل له في نفي المثلية ومن لا مثل له قد اتصف بصفتين متقابلتين من وجه واحد وهُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ وهو ما بينهما إذا كان هو الموصوف وكذلك هو بين الظاهر والباطن وهاتان الصفتان في المعنى واحدة وإنما كان الانقسام فيما ظهر عنها من الحكم فأطلق عليها اسم الظاهر لظهور الحكم عنها واسم الباطن لخفاء سببه فهما نسبتان له فلما لم يكن بد من إثبات هذه الصفة النسبية التي هي معقول حكمها غير معقول حكم الموصوف لم يكن بد من إثباتها وكل حكم له أولية وآخرية في المحكوم عليه فهو الأول والآخر من حيث المعنى واحد ومن ابتدائه وانتهائه طرفان فيما لا ينقسم‏

[نحن بحمد الله يوم الجمعة ورسول الله عين الساعة التي فيها]

ولما كان الأمر على ما قررناه كان من أراد أن يصوم الجمعة يصوم يوما قبله أو يوما بعده ولا يفرده بالصوم لما ذكرناه من الشبه في صيام ذلك اليوم وقيام ليلته إذ كان ليس كمثله يوم فإنه خير يوم طلعت فيه الشمس فما أحكم علم الشرع في كونه حكم أن لا يفرد بالصوم ولا ليلته بالقيام تعظيما لرتبته على سائر الأيام وهو اليوم الذي اختلفت فيه الأمم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فما بينه الله لأحد إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم لمناسبته الكمالية فإنه أكمل الأنبياء ونحن أكمل الأمم وسائر الأمم وأنبيائها ما أبان الحق لهم عنه لأنهم لم يكونوا من المستعدين له لكونهم دون درجة الكمال أنبياؤهم دون محمد صلى الله عليه وسلم وأممهم دوننا في كمالنا فالحمد لله الذي اصطفانا فنحن بحمد الله يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم عين الساعة التي فيها التي بها فضل يوم الجمعة على سائر الأيام كما فضلنا نحن بمحمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم والصوم لله من وجه التنزيه والصوم للإنسان عبادة وموضع الاشتراك الصوم فصوم يوم الجمعة بما هو منه لله وصوم اليوم المضاف إليه بما هو للعبد منه إذ بصيام العبد صح أن يكون الصوم لله وبصيام اليوم المضاف إلى يوم الجمعة صح صوم يوم الجمعة والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏

(وصل في فصل صيام يوم السبت)

خرج أبو داود عن عبد الله بن بشر عن أخيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تصوموا يوم السبت‏

إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا عود عنب أو لحاء شجر فليمضغه قال أبو داود هذا منسوخ قال أبو عيسى في هذا الحديث حديث حسن وخرج النسائي عن أم سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما يصوم ويقول إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم‏

[يوم السبت هو يوم الأبد]

واختلف العلماء في صوم يوم السبت فمن قائل بصومه ومن قائل لا يصام اعلم أن يوم السبت عندنا هو يوم الأبد الذي لا انقضاء ليومه فليله في جهنم فهي سوداء مظلمة ونهاره لأهل الجنان فالجنة مضيئة مشرقة والجوع مستمر دائم في أهل النار وضده في أهل الجنان فهم يأكلون عن شهوة لا لدفع ألم جوع ولا عطش فمن كان مشهده القبض والخوف اللذين هما من نعوت جهنم قال يصومه لأن الصوم جنة فيتقي به هذا الأمر الذي أذهله وقد ورد في كتاب الترغيب لابن زنجويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من صام يوما ابتغاء وجه الله بعده الله من النار سبعين خريفا

ومثل هذا

[الحكمة تعطى في يوم السبت‏]

ومن كان مشهده البسط والرجاء والجنة وعرف أن يوم السبت إنما سمي سبتا لمعنى الراحة فيه وإن لم تكن الراحة عن تعب وهو يوم ما بين ابتداء الخلق الذي وقع في يوم الأحد وبين انتهاء الخلق الذي وقع في يوم الجمعة وتلك الستة الأيام التي خلق الله فيها الخلق وقال في يوم السبت وقد وضع إحدى الرجلين على الأخرى أنا الملك وأحكم العالم وقدر في الأرض أقواتها وأَوْحى‏ في كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ووضع الموازين وأحال الخلق بعضهم على بعض وجعل منهم المفيض والقابل وأكمل استعداداتهم على أتم الوجوه وفعل كما أخبر من أنه أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ووصف نفسه بالفراغ قال من هذا مشهده الحكمة تعطي الفطر في هذا اليوم فحجر صومه ولما في ذلك من التعب الذي يضاد الراحة فإن الصوم مشقة لأنه ضد ما جبل عليه الإنسان من التغذي‏

[الصوم الذي هو مقابلة لضد]

وأما من صامه لمراعاة خلاف المشركين فمشهده أن مشهد المشرك الشريك الذي نصبه فلما ولي الشريك أمورهم في زعمهم بما ولوه‏

جعل لهم ذلك اليوم عيد الفرحة بالولاية فأطعمهم فيه وسقاهم ولست أعني بالشريك الذي عبدوه واستندوا إليه وإنما أعني بالشريك صورته القائمة بنفوسهم لا عينه فهو الذي أعطاهم السرور في هذا اليوم وجعله عيدا لهم وأما الذين جعلوه شريكا لله فلا يخلو ذلك المجعول أن يرضى بهذا المحال أو لا يرضى فإن رضي كان بمثابتهم كفرعون وغيره وإن لم يرض وهرب إلى الله بما نسبوا إليه سعد هو في نفسه ولحق الشقاء بالناصبين له فمن صامه بهذا الشهود فهو صوم مقابلة ضد لبعد المناسبة بين المشرك والموحد فأراد أن يتصف أيضا في حكمه في ذلك اليوم بصفة التقابل بالصوم الذي يقابل فطرهم ولذلك كان يصومه صلى الله عليه وسلم‏

(وصل في فصل صوم يوم الأحد)

[اختلاف قصد العارفين في صوم يوم الأحد]

فمن اعتبر ما ذكرناه من هذا الشهود فإنه يوم عيد للنصارى صامه لمخالفتهم ومن اعتبر فيه أنه أول يوم اعتنى الله فيه بخلق الخلق في أعيانهم صامه شكر الله تعالى فقابله بعبادة لا مثل لها فاختلف قصد العارفين في صومهم ومن العارفين من صامه لكونه الأحد خاصة والأحد صفة تنزيه للحق والصوم صفة تنزيه ورتبة منيعة الحمى لما في الصوم من التحجير على الصائم عن الحظ النفسي من الإفطار والاستمتاع من الجماع والتنزيه عن المذام فالصائم محجور عليه إن يغتاب أو يرفث أو يجهل أو يتصف بمذموم شرعا في تلك الحال فوقعت المناسبة بينه وبين الأحد في صفة التنزيه فصامه لذلك وكل له شرب معلوم فعامله بأشرف الصفات‏

[النفس الطبيعة والروح المدبر للجسم وسر صوم يوم الأحد]

ولهذا كان للصوم من الطبيعة الحرارة واليبوسة لفقد الغذاء وهو ضد ما تطلبه الطبيعة فإنها تطلب لأجل الحياة الحرارة لا منفعلها وتطلب الرطوبة التي هي منفعلة عن البرودة فقابلها الصائم بالضد فقابلها بالأصل ومنفعله فإنه مأمور بمخالفة النفس والنفس طبيعة محضة منازعة للاله بذاتها لتوقف وجود عالم الأجسام كله عليها ولولاها لم يظهر لعالم الأجسام عين فزهت وتاهت لذلك فقيل للروح المدبر لهذا الجسم العنصري المأمور بحفظ الاعتدال على هذا الجسد والنظر في مصالحه إذا رأيت النفس الطبيعية في هذا المقام من الزهو والخيلاء فامنعها عن الطعام والشراب والاستمتاع بالجماع بنية المخالفة لها ونية التنزيه عما تتخيله الطبيعة إنك مفتقر إليها في ذلك ولتعلم الطبيعة أنها محكوم عليها فتذل تحت العبودة والافتقار لطلب الغذاء من هذا المدبر لهذا الهيكل فسمى مثل هذا التدبير صوما فإن منعها عن ذلك كله لصلاح المزاج لا يسمى صوما وذلك الفعل للروح إنما هو من تدبير الطبيعة فسمى مثل هذا حمية لا صوما فإن نوى الروح بهذه الحمية ومساعدة الطبيعة فيما أمرته به صلاح مزاج هذا البدن لأجل عبادة الله وأن يقوم بجميع ما أمره الله به من العبادة في حركاته وسكناته التي لا تظهر منه إلا بصلاح المزاج أجر في تلك الحمية وإن لم تكن صوما فهذا قد أبنت لك بعض أسرار صوم يوم الأحد

(وصل في فصل إن التجلي المثالي الرمضاني وغيره إذا كان فهو لوقته)

خرج مسلم في صحيحه عن أبي البختري قال لقينا ابن عباس فقلنا إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هذا ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين فقال أي ليلة رأيتموه فقلنا ليلة كذا وكذا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله مده للرؤية فهو لليلة رأيتموه‏

[الحكم للوقت والصوفي ابن وقته‏]

قالت السادة من أهل الله الحكم للوقت والإنسان أو الصوفي ابن وقته لا يحكم عليه ماض ولا مستقبل غير أن الإنسان لا يعرف أنه ابن وقته مع حكم الوقت عليه والصوفي يعلم أنه بحكم وقته كذا هو في نفس الأمر فلهذا قلنا إن الصوفي ابن وقته لاطلاعه على ذلك ولعلمه أنه فيما يحكم عليه به وفيه أثر النبوة وما كل إنسان يعلم ذلك مع أنه كذا في نفس الأمر فمتى ما ظهر للإنسان هذا الحكم واتصف على علم بأنه ابن وقته فذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم هو لليلة رأيتموه فإنا نعلم قطعا إذا كان الهلال في الشعاع إنه متجل لنا ولكنا لا نراه كما نعلم قطعا إن الكواكب في السماء بالنهار متجلية لنا ولكنا لا نراها لضعف الإدراك البصري فلا ننسب إليه فإذا رأيناه فإنه الوقت الذي نراه فيه لنعلمه فيحكم علينا بما يعطيه ذلك التجلي فإن كان رمضان أثر فينا نية الصوم وإن كان هلال فطر أثر فينا نية الفطر وإن لم يكن إلا هلال شهر من الشهور أثر فينا العلم بزوال حكم الشهر الذي انقضى وحكم الشهر الذي هذا هلاله وتختلف أحوال الناس فتمتاز الأوقات به لانقضاء الآجال في كل شي‏ء من المبايعات والمداينات والأكرية وأفعال‏

الحج يقول الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ كما قررناه‏

(وصل في فصل الشهادة في رؤيته)

[في هلال الفطر شاهدان ظاهران وفي الصوم شاهدان ظاهر وباطن‏]

فإن لم نره وأخبرنا به رجل واحد أو اثنان فهل ندخل تحت حكم الوقت وتقوم لنا الشهادة مقام الرؤية فأقول لا يخلو حكم هذا الهلال في ظهوره أن يظهر بحكم يوافق الغرض النفسي أو يخالفه فإن خالف قبلنا فيه شهادة الواحد ويكون الشاهد الآخر ما أمرنا به من مخالفة النفس فإن النفس بطبعها ما تريد هذا الحكم فينبغي لنا أن نعمل به في هلال الصوم ولما كان الفطر فيه غرض النفس طلبنا شاهدا آخر في الظاهر يشهد لنا حتى يكون فطرنا عبادة لا لأجل غرض النفس وربما اشترطنا فيهما العدالة وإن مثل هذا الفطر الذي هو عيد الفطر عبادة وصومه حرام فإنا فيه أعني في رؤية هلال الفطر مستقبلو عبادة لوجوب الفطر فيه وتحريم الصوم كما أنا في هلال رمضان مستقبلو عبادة لوجوب الصوم وتحريم الفطر فلا فرق ومع هذا يحتاج إلى شاهدين في هلال الفطر جريا على الأصل ولو لا الخبر الوارد في هلال الصوم لأجريناه مجرى هلال الفطر وإن كان الأمر فيه على الاحتمال ولكن لنا ما ظهر فيحتاج في هلال الفطر إلى شاهدين ظاهرين وفي هلال الصوم إلى شاهدين ظاهر وباطن فالباطن شاهد الأمر بمخالفة النفس يقول تعالى ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ والصوم ليس للنفس فيه هوى طبيعي فما صمنا إلا بشاهدين ولا أفطرنا إلا بشاهدين لأن كل واحدة من العبادتين حكم وجودي فلا بد لكل نتيجة من مقدمتين وهما في هذه العبادات الشاهدان‏

[الأخبار الواردة في رؤية هلالى الصوم والفطر]

فلنذكر الأخبار الواردة في ذلك لنفيد الواقف على هذا الكتاب مأخذنا حتى لا يفتقر إلى كتاب آخر فيتعب فأقول‏

حديث وارد في سنن أبي داود خرج أبو داود عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لأهل الهلال أمس عشية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم‏

حديث آخر أيضا من سنن أبي داود

خرج أبو داود أيضا عن ابن عمر قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه‏

حديث ثالث عن أبي داود أيضا

خرج أبو داود أيضا عن الحسين بن الحرث أن أمير مكة خطب ثم قال عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما ثم قال إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومأ بيده إلى رجل قال الحسين فقلت لشيخ إلى جنبي من هذا الذي أومأ إليه فقال هذا عبد الله بن عمر وأمير مكة كان الحارث بن حاطب الجمحي‏

حديث رابع للدارقطني وذكر الدارقطني من حديث ابن عمر وابن عباس قالا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على رؤية هلال رمضان وقالا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيز شهادة الإفطار إلا برجلين‏

وهذا الحديث ضعيف‏

(وصل في فصل الصائم ينقضي أكثر نهاره في رؤية نفسه دون ربه)

[من راعى الله في عمله كان هو لا غيره جزاءه‏]

لما كان الصوم حكما أضافه الله إليه وعرى الصائم عنه مع كونه أمره بالصيام فانبغى للصائم أن يكون مدة صومه ناظرا فيه إلى ربه حتى يصح كونه صائما لا يغفل عنه فإن الحق لا يضيفه إليه حتى يصح أنه صوم ولا يصح إلا بصيام العبد على الصورة التي شرع الله له فيه أن يأتي بها فإن لم يصمه على حد ما شرع له فما هو صائم وإذا لم يكن صائما فما ثم صوم يرده الله إليه فإن الصائم قد يحسب أنه صائم وقد فعل في صومه فعلا أوجب له ذلك الفعل أن يخرج عن صومه كالغيبة إذا وقعت منه وأمثالها فهو مفطر أي ليس بصائم وإن لم يأكل فإن كان لذلك الفعل كفارة وأتى بها فهو صائم فيحافظ الصائم على هذا فإن فيه إيثار الحق على نفسه فيجازيه على قدر المؤثر به وهو الله تعالى فمن راعى ربه عز وجل راعاه الله تعالى فما يكون جزاؤه إلا هو من وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ وقد وجد في رحله فإن الحق في قلب عبده المؤمن الحاضر معه لا بد من ذلك والصوم وجد عند الله فإنه له لما صح صوم الصائم طلب رحله فقيل له أخذه الله فكان الله جزاءه‏

فقال الصوم لي وأنا أجزي به‏

[حديث خراش بن عبد الله في فساد الصوم‏]

حديث مروي في فساد الصوم‏

ذكر أبو أحمد بن عدي الجرجاني من حديث خراش بن عبد الله عن‏

أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من تأمل خلق امرأة حتى يستبين له حجم عظامها من وراء ثيابها وهو صائم فقد أفطر

خراش هذا مجهول لأنه كان يحدث من صحيفة كانت عنده وهذا الحديث منها والذي يرويها عنه ضعيف كذا ذكر شيخنا أبو محمد عبد الحق‏

(وصل في فصل حكم صوم السادس عشر من شهر شعبان)

[الأيام الستة التي يحرم صومها]

صومه عندنا حرام وهو عندنا من أحد الأيام الستة التي يحرم صومها وهي هذا اليوم ويوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى وثلاثة أيام التشريق‏

خرج الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا

قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح‏

[الاعتبار في تحريم صوم السادس عشر من شعبان‏]

لما كانت ليلة النصف من شعبان ليلة يكتب فيها لملك الموت من يقبض روحه في تلك السنة فيخط على اسم الشقي خطا أسود وعلى اسم السعيد خطا أبيض به يعرف ملك الموت السعيد من الشقي فكان الموت لهذا الشخص مشهودا لأنه زمن الاطلاع على الآجال واستحضارها عند المؤمن الذي ما له هذا الاطلاع فإذا تلتها ليلة السادس عشر لم ينفك صاحب هذا الشهود أو المستحضر عن ملاحظة الموت فهو معدود بحاله في أبناء الآخرة وبالموت يسقط التكليف فما هو على حالة يبيت فيها الصوم لشهوده حالة الصفة التي تقطع الأعمال فبقي سكران من أثر هذه المشاهدة فمن بقيت عليه إلى دخول رمضان منع من صوم النصف ومن لم تبق له منع من صوم السادس عشر خاصة من أجل أنه لم يبيت ليلا ولا ليلة السادس عشر ليلة نسخ الآجال وهي ليلة النصف‏

[حديث النهى عن الصوم السادس عشر من شعبان‏]

وإنما خص بعض العلماء من أهل الظاهر السادس عشر أنه محل لتحريم الصوم فيه ما أذكره وهو أنه رحمه الله أورد حديثا صحيحا

حدثناه جماعة أبو بكر محمد بن خلف بن صاف اللخمي وأبو القاسم عبد الرحمن بن غالب القمري وأبو الوليد جابر ابن أبي أيوب الحضرمي وأبو العباس ابن مقدام كل هؤلاء قالوا حدثنا أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني المقري قال حدثنا أبو محمد علي بن أحمد قال حدثنا عبد الله بن الربيع قال حدثنا عمر بن عبد الملك قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال قدم عباد بن كثير المدينة فمال إلى مسجد العلاء بن عبد الرحمن فأخذ بيده فأقامه فقال اللهم إن هذا يحدث عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا انتصف شعبان فلا تصوموا فقال العلاء اللهم إن أبي حدثني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك‏

قال أبو محمد بن خرم هكذا رواه سفيان عن العلاء والعلاء ثقة روى عنه شعبة وسفيان الثوري ومالك وابن عيينة ومسعر بن كدام وأبو العميس وكلهم يحتج بحديثه فلا يضره غمز ابن معين له ولا يجوز أن يظن بأبي هريرة مخالفة ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم والظن أكذب الحديث فمن ادعى هاهنا إجماعا فقد كذب‏

[كراهية الصوم بعد منتصف شعبان‏]

قال أبو محمد وقد كره قوم الصوم بعد النصف من شعبان جملة إلا أن الصحيح المتيقن مقتضى لفظ هذا الخبر النهي عن الصيام بعد النصف من شعبان ولا يكون الصيام في أقل من يوم ولا يجوز أن يحمل على النهي صوم باقي الشهر إذ ليس ذلك بينا ولا يخلو شعبان أن يكون ثلاثين أو تسعا وعشرين فإذا كان ثلاثين فانتصافه بتمامه خمسة عشر يوما وإن كان تسعا وعشرين فانتصافه في نصف اليوم الخامس عشر ولم ينه إلا عن الصيام بعد النصف فحصل من ذلك النهي عن صيام السادس عشر بلا شك انتهى كلام أبي محمد في كتاب المحلى ومنه نقلته وهو روايتي عن هؤلاء الجماعة الذين ذكرناهم في أول مساق حديث العلاء وغيرهم عن أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح عنه وهو الذي ذهب إلى أن صوم السادس عشر لا يجوز وعليه ما ذكرناه عنه‏

(وصل في فصل صيام أيام التشريق)

اختلف العلماء رضي الله عنهم في صيام أيام التشريق فمن قائل بجواز صومها ومن قائل بجواز صوم المتمتع فيها ومن قائل بالكراهة ومن قائل بمنع الصوم مطلقا فيها أيام التشريق هي الثلاثة الأيام التي بعد يوم النحر وهي أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى ذكر مسلم في كتابه عن نبيشة الهذلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك وهذه صفة أهل الجنة فحيث وجدت هذه الصفة زال معها كل عمل في حال حكمها إلا العبادة فإنها حقيقة لا تزول عن الإنسان دنيا

ولا آخرة

[اعتبار الصوم واعتبار الفطر في أيام التشريق‏]

والصوم ترك وعبادة فمن اعتبر العبادة فيه أجاز الصوم فيه ومن اعتبر ما رجح الشرع من أنها أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى ولم يقل ليالي أكل وشرب فهو خبر إلهي لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏ فهو إعلام إلهي على جهة الخبر والخبر لا يدخله النسخ فأوجب الفطر فيها عبادة واجبة العمل فمن صام فيها فقد رجح نظره على خبر الله تعالى بما ينبغي أن يعمل فيها ومن نازع الله في شي‏ء قال إنه له فقد عرض بنفسه للهلاك فإن الصوم له والفطر لك وما رخص في صومها المجتهد إلا لمن لم يجد الهدى كذا قال البخاري عن عائشة وابن عمر

[ذكر الآباء وذكر الله في أيام التشريق‏]

ثم جعل لك فيها ذكر لله وهو قوله تعالى فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فأمركم فيها بذكر الله فإن العرب كانت في هذه الأيام في الموسم تذكر أنسابها وأحسابها لاجتماع قبائل العرب في هذه الأيام تريد بذلك الفخر والسمعة فهذا معنى قوله كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أي اشتغلوا بالثناء على الله بما هو عليه على طريق الفخر إذ كنتم عبيده وفخر العبد بسيده فإنه مضاف إليه وأكبر من ذلك من كونه منه كما

قال صلى الله عليه وسلم مولى القوم منهم وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته‏

والعبد لا فخر له بأبيه بل فخره بسيده وإن افتخر العبد بأبيه فإنما يفتخر به من حيث إن أباه كان مقربا عند سيده لأنه عبد مثله ممتثلا لأمره واقفا عند حدوده ورسومه فإنه أيضا عبد الله فلهذا قال كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ فما نهاهم عن ذكر آبائهم ولكن رجح ذكرهم الله على ذكرهم آباءهم بقوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً وهو الموصي عباده بقوله أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ أي كونوا أنتم من إيثار ذكر الله والفخر به من كونه سيدكم وأنتم عبيد له على ما كان عليه آباؤكم وذكر الله أكبر

[ذكر الله في كل عبادة أكبر أفعال العبادة]

وأي عبادة كان فيها العبد وفيها ذكر الله فإن ذكر الله أكبر ما فيها من أفعال تلك العبادة وأقوالها قال تعالى إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ ولَذِكْرُ الله أَكْبَرُ يعني الذي فيها أكبر من جميع أفعالها فإنك إذا ذكرت الله فيها كان جليسك في تلك العبادات فإنه أخبر أنه جليس من ذكره وإذا كان جليسك فلا يخلو إما أن تكون ذا بصر إلهي فتشهده أو تكون غير ذي بصر إلهي فتشهده من طريق الايمان أنه يراك فتكون في هذه الحال مثل الأعمى يعلم أنه جليس زيد وإن كان لا يراه فهو كأنه يراه فالرائي له يشهده محركا له في جميع أفعاله والذي لا يراه يحس بأن ثم محركا له في أفعاله بحس الايمان لا بحس الشهود البصري وهو قوله كأنك تراه فإنه بالذكر يعلم أنه جليسه أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ وجليس الحق لا يمكن أن يكون إلا في خلوة معه ضرورة لا يتمكن أن يثبت مع هذا العبد إذا جالسة الحق جليس آخر جملة واحدة في خاطره لأنها مجالسة غيب قيل لبعضهم اذكرني في خلوتك بالله قال له إذا ذكرتك فلست في خلوة مع الله‏

[لا يكلم الله خلقه إلا من وراء حجاب‏]

فكما أنه لا يكلم الله خلقه إلا من وراء حجاب والحجاب عين الكلام كذلك لا تكلمه أنت ولا تذكر عنده نفسك ولا غيرك إلا من وراء حجاب لا بد من ذلك فإن المشاهدة للبهت والخرس فلا بد للذاكر وإن كان الحق جليسه أن يكون أعمى ولا بد وعماه ذكره فالحق جليس غيب عند كل ذاكر فمن غلب عليه مشاهدة الخيال في حق ربه من قوله كأنك تراه وهو استحضار في خيال فمثل ذلك بجمع بين المشاهدة والكلام فإن الجليس في تلك الحال مثلك لا من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وهذا كان حال الشهاب ابن أخي النجيب رحمه الله على ما نقل إلى الثقة عندي من قوله إن الإنسان يجمع بين المشاهدة والكلام أين هذا الذوق من ذوق المحقق أبي العباس السياري من الرجال المذكورين في رسالة القشيري حين قال ما التذ عاقل بمشاهدة قط لأن مشاهدة الحق فناء وليس فيها لذة أين هذا الذوق من ذوق الشهاب فافهم فإنه موضع غلط لأكابر المحققين من أهل الله فكيف بمن هو دونهم‏

[الذين هم فوق ما يقولون والذين هم تحت ما يقولون‏]

وقد أخبرنا عمن رأيناه من أهل الله المنتمين إلى الله أنه يقول بذلك أعني مثل قول الشهاب فإن كان صاحب علم تام فيقوله على حد ما رسمناه وإن كان دون ذلك فإنما يقوله كما يقوله من لا علم له بالحقائق ولو قالها بحضوري كنت أفاوضه فيها حتى أعرف بأي لسان يقول ذلك فكنت أنسبه إلى ما قال على التعيين فاعلم أنه إن كان قال ذلك على مجرى التحقيق علمنا أنه فوق ما يقول ومنهم من هو تحت ما يقول والذين هم تحت ما يقولون طائفتان طائفة في غاية العلم بالله مما في وسع البشر أن يعلموه من الله والطائفة الأخرى في غاية البعد والحجاب عن الله وهم الذين يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا وهم الذين لا يرون شيئا فوق علم الرسوم فهم يشبهون الطبقة العالية في كونهم تحت ما يقولون‏

كما أنهم شاركوهم في اسم العلم وانفصلوا عنهم بمن أغنى بالمعلوم أي بمن تعلق علمهم وهذا كله مدرك أهل أيام التشريق فإن أكلوا فيها فمن حيث إنها أيام أكل وشرب وذكر وإن صاموا فيها فمن حيث إنها أيام ذكر الله فشغلهم الذكر عن الأكل والشرب فامتناعهم عن الأكل امتناع حال لا امتناع عبادة

(وصل في فصل صيام يوم الفطر والأضحى)

هذان اليومان محرم صومهما بحديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد أما

حديث أبي سعيد الثابت فإنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصح صيام يومين يوم الفطر من رمضان ويوم النحر

وبه يحتج من يرى صيام أيام التشريق لأن دليل الخطاب يقتضي أن ما عدا هذين اليومين يصح الصيام فيها وإلا كان تخصيصهما عبثا وأما

حديث أبي هريرة الثابت أيضا في مسلم فهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين يوم الأضحى ويوم الفطر

ويوم الفطر هو يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحون هكذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره الترمذي عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه حديث حسن صحيح‏

[سبب منع الصوم في يومي الفطر والنحر]

وسبب منع الصوم له في هذين اليومين لأن بالفطر والأضحى صح له التمييز بينه وبين ربه فعلم ما له وما لديه فحرم عليه التلبس بالصوم في هذين اليومين اللذين هما دليلان على العلم بالفارق والتمييز فلم يتمكن مع ذلك التلبس بالصوم فإن الصوم لله إذ كان صفة صمدانية منزهة من كانت صفته عن الطعام والشراب فلو تلبس بالصوم مع مشاهدة وجه هذا الدليل لم يكن صادقا في إخباره عن نفسه أنه في هذا المقام فكان فطره في هذين اليومين عبادة وتكليفا مشروعا ليجمع بين الحالتين فأعطاه الكشف العبادة من ذلك لما ذكرناه وأعطاه التكليف الشرعي الأجر في ذلك إذ عمل بحكمه لما نهاه صلى الله عليه وسلم عن صيامهما ولهذا قلنا في رؤية هلال الفطر إنه مستقبل عبادة كما علله بعض العلماء في هلال الصوم وغاب عن تحريم الصوم في هلال الفطر فأوجب في رؤيته شاهدين‏

(وصل في فصل من دعي إلى طعام وهو صائم)

فمن قائل يجيب الداعي ولا بد بالاتفاق واختلفوا هل يفطر أو يبقى على صومه فمن قائل إنه يعرف صاحب الدعوة أنه صائم ويدعو له وبه قال أبو هريرة ومن قائل إنه لا يأكل ويصلي الصلاة المشروعة غير المكتوبة ويدعو للداعي وبه يقول أنس ومن قائل هو مخير بين الفطر وتمام الصوم ولكن إن أفطر قضاه وبه يقول طلحة بن يحيى وغيره ومن قائل إن شاء أفطر ولا قضاء عليه وبه يقول شريك ومجاهد ومن قائل يفطر إن شاء ما لم ينتصف النهار وبه يقول جعفر ابن الزبير ومن قائل بالتخيير في القضاء إذا أفطر وبه تقول أم هاني وسماك بن حرب‏

[الذين هم في مقام السلوك‏]

اعلم وفقك الله توفيق العارفين أن الذي يشرع في الصوم ابتداء من نفسه من غير أن يعين الحق عليه ذلك اليوم الذي يصبح فيه صائما فإنه عقد عقدة مع الله على طريق القربة إليه تعالى من هذه العبادة الخاصة التي تلبس بها وشرع فيها والله يقول له ولا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فإن كان في مقام السلوك فلا يعود نفسه نقض العهد مع الله تعالى فإن الله يقول وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ولا سيما فيما أوجبته على نفسك وعقدت عليه مع ربك وهو قوله لا إلا أن تطوع‏

[الذين صحت لهم الخلافة على نفوسهم‏]

وإن كان من أهل العلم بالله الأكابر الذين حكموا أنفسهم وصحت لهم الخلافة على نفوسهم فهم لا يرون متكلما ولا آمرا ولا داعيا في الوجود إلا الله على ألسنة العباد كما قال صلى الله عليه وسلم إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده فهم في جميع نطق العالم كله حالا ومقالا بهذه الصفة فإن صحة مقام الشهود تحكم عليهم بذلك فإنهم لا ينكرون ما يعرفون وكما يقول المحجوب فلان تكلم يقول صاحب هذا المقام الحق تكلم على لسان هذا العبد بكذا وكذا أي شي‏ء كان‏

[الكامل له التخيير في المشيئة أبدا]

ثم إن المتكلم لا يخلو إما أن يكون في هذا المقام أيضا فيرى أنه ينطق بالحق لا بنفسه أو لا يكون في هذا المقام فللمدعو أن ينظر في حال الداعي فإن دعاه بربه أجاب دعوته وقال إني صائم ولم يأكل ودعا لأهل البيت وصلى عندهم وإن شاء أكل إن عرف أن أكله مما يسر به الداعي فهو مخير لكماله وتحققه بالصفة فإن الكامل له التخيير في المشيئة أبدا فإن شاء وإن شاء ما لم يعزم فإن عزيمته مثل قوله ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ومثل قوله ولا بد له من لقائي وأمثال ذلك وإن دعاه هذا الداعي بنفسه فإنه لا يدعو إلا مثله‏

فإنه ما يدعو إلا من يصح منه الأكل والشرب ولو لا ما هذا شهوده ما دعاه فليس لهذا السامع أن يأكل وليتم صومه ولا بد فإن حق الله أحق بالقضاء وقد تعين عليه حق الله بما أدخل نفسه من هذا التلبس بالصوم‏

[حق النفس وحق الغير]

فإن قالت له نفسه الآكلة ما دعاك إنما كانت الدعوة لي لا لك فإجابتي لدعوته هو عين أكلي فإنه يقول لها إنما كان لك ذلك لو لم تدخل نفسك ابتداء مع الحق في هذه العبادة من غير إن يلزمك بها فلما تلبست بها تعين عليك إتمامها فإن ذلك من حقك الذي أوجبته على نفسك وحقك عليك أولى من حق غيرك عليك وقد عرفك الحق بذلك على لسان نبيك‏

فقال إن أفضل الصدقات ما تصدقت به على نفسك‏

وقال في القاتل نفسه حرمت عليه الجنة وقال في القاتل غيره إذا مات ولم يقتص منه إن شاء غفر له وإن شاء عاقبه‏

فإن أفطرت فرطت في حق نفسك وأديت حق غيرك وفي حق نفسك حق الله فتمنعها من الفطر وتشغلها بالصلاة عوضا من ذلك يريد أنه يكون مناجيا لله تعالى الذي هو أشرف داع وأكمله وقد دعاه إلى الصلاة في هذه الحال فإنه قال له على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وإن كان صائما فليصل فأمره بالصلاة في هذه الحال‏

(وصل في فصل صيام الدهر)

لا يصح إلا للدهر لا لغير الدهر فإن صيام الدهر في حق الإنسان إنما هو أن يصوم السنة بكمالها ولا يصح له ذلك من أجل يوم الفطر والأضحى فإن الفطر فيهما واجب بالاتفاق فلهذا ما يصح فإن الدهر اسم الله والصوم له فما كان لله فما هو لك وإنما يكون لك ما لم يحجره عليك فإذا حجره وهو بالأصالة ليس لك فقد أخبرك أنه لا يحصل فإن فعلته عملت في غير معمل وطمعت في غير مطمع‏

(وصل في فصل صيام داود ومريم وعيسى عليهم السلام)

[الصوم الذي هو أعظم مجاهدة على النفس‏]

أفضل الصيام وأعدله صوم يوم في حقك وصوم يوم في حق ربك وبينهما فطر يوم فهو أعظم مجاهدة على النفس وأعدل في الحكم ويحصل له في مثل هذا الصوم حال الصلاة كحالة الضوء من نور الشمس فإن الصلاة نور والصبر ضياء وهو الصوم والصلاة عبادة مقسومة بين رب وعبد وكذلك صوم داود عليه السلام صوم يوم وفطر يوم فتجمع ما بين ما هو لك وما هو لربك‏

[من غلبت عليه نفسه فقد غلبت عليه ألوهيته‏]

ولما رأى بعضهم أن حق الله أحق لم ير التساوي بين ما هو الله وما هو للعبد فصام يومين وأفطر يوما وهذا كان صوم مريم عليها السلام فإنها رأت أن للرجال عليها درجة فقالت عسى اجعل هذا اليوم الثاني في الصوم في مقابلة تلك الدرجة وكذلك كان فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لها بالكمال كما شهد به للرجال ولما رأت أن شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل الواحد فقالت صوم اليومين مني بمنزلة اليوم الواحد من الرجل فنالت مقام الرجال بذلك فساوت داود في الفضيلة في الصوم فهكذا من غلبت عليه نفسه فقد غلبت عليه ألوهيته فينبغي إن يعاملها بمثل ما عاملت به مريم نفسها في هذه الصورة حتى تلحق بعقلها وهذه إشارة حسنة لمن فهمها

[عيسى بن مريم وكان ظاهرا في العالم باسم الدهر وباسم القيوم‏]

فإنه إذا كان الكمال لها لحوقها بالرجال فالأكمل لها لحوقها بربها كعيسى بن مريم ولدها فإنه كان يصوم الدهر ولا يفطر ويقوم الليل فلا ينام وكان ظاهرا في العالم باسم الدهر في نهاره وباسم القيوم الذي لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ في ليله فادعى فيه الألوهية فقيل إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وما قيل ذلك في نبي قبله فإنه غاية ما قيل في العزير إنه ابن الله ما قيل هو الله فانظر ما أثرت هذه الصفة من خلف حجاب الغيب في قلوب المحجوبين من أهل الكشف حتى قالوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فنسبهم إلى الكفر في ذلك إقامة عذر لهم فإنهم ما أشركوا بل قالوا هو الله والمشرك من يجعل مع الله إلها آخر فهذا كافر لا مشرك فقال تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فوصفهم بالستر واتخذوا ناسوت عيسى مجلى ونبه عيسى على هذا المقام فيما أخبر الله تعالى تثبيتا لهم فيما قالوا فقال المسيح يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا الله رَبِّي ورَبَّكُمْ فقالوا كذلك نفعل فعبدوا الله فيه ثم قال لهم إِنَّهُ من يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أي حرم الله عليه كنفه الذي يستره والله قد وصفهم بالستر حيث وصفهم بالكفر فهي آية يعطي ظاهرها نفس ما يعطي ما هو عليه الأمر في ذلك والتأويل فيها يلحق بالذم فإن تفطنت لما ذكرناه وقعت في بحر عظيم لا ينجو من غرق فيه أبدا فإنه بحر الأبد فما أحكم كلام الله لمن نظر فيه واستبصر وكان من الله فيه على بصيرة

(وصل في فصل صوم المرأة التطوع وزوجها حاضر)

ذكر مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه‏

الحديث الاتفاق على وجوب صوم رمضان ولهذا زاد أبو داود في هذا الحديث غير رمضان‏

[المرأة هي النفس المؤمنة وبعلها هو إيمانها بالشرع‏]

فاعلم إن المرأة هي النفس المؤمنة وبعلها المتحكم فيها إنما هو إيمانها بالشرع لا الشرع ثم الشارع يشرع لإيمانها به ما شاء أن يشرع فلا تدخل في فعل ولا تشرع في عمل إلا بإذنه أي بحكمه وقليل من عباد الله من يفعل هذا فتلحظ حكم الشرع في جميع أفعاله عند الشروع في الفعل فلو أنهم فعلوا ذلك كان خيرا لهم ولهذا يفوتهم خير كثير وعلم كبير

(وصل في فصل صوم المسافر)

[ليس من البر أن تصوموا في السفر]

ثبت في الصحيحين مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس من البر أن تصوموا في السفر

لفظة من في هذا الحديث من رواية البخاري فإن حديث مسلم ليس البر بغير من سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال لما فيه من المشقة والجهد لأهل الثروة واليسار فكيف حال الضعفاء فمن أسفر له عمله عن عامله صار عن صومه بمعزل وتركه للعامل فلا يدعيه مع أنه صائم وهذا هو الصوم الذي لا يشوبه رياء عنده فإنه ليس من البر أو ليس البر أن يدعي الإنسان فيما يعلم أنه ليس له أنه له ولو كان بربه متحققا وهذه إشارة فقف عندها فقد طال الكلام في هذا الباب‏

(وصل في فصل في عدد أيام الوجوب في الصوم)

عدد أيام الوجوب في الصوم مائتا يوم وستة وعشرون يوما والنذر لا ينضبط فنحصره وغايته سنة ينقص منها ستة أيام أو ثلاثة أيام من أجل من يحرم صوم أيام التشريق أو يومين وهو موضع الاتفاق يوم الأضحى ويوم الفطر وأقل النذر في الصوم يوم واحد فإن نظرت إلى أقله قلت سبعة وعشرون يوما ومائتان وما عدا هذا العدد فليس بواجب منها لمن جامع في رمضان والظهار وقتل الخطاء ستون ستون ستون ومنها رمضان ثلاثون ومنها للفداء في الحج ثلاثة ولليمين ثلاثة وللتمتع عشرة وللنذر واحد على الأقل ومنها ما هو واجب مخير وموسع ومعين بالزمان مضيق‏

[المناسبة بين الصوم وبين هذه الأفعال التي أوجبته‏]

فاعلم أنه لو لم يكن بين الصوم وبين هذه الأفعال التي أوجبته أو الأفعال التي يكون عوضا عنها مناسبة ما صح أن يقوم مقامها وذلك من كل صوم يكون كفارة وهو قولنا الواجب المخير فمنه ما يحل به ما كان حرم عليه ومنه ما يسقط به حق الله عليه ومنه ما يسقط به حق الله وحق الغير عليه وقيل لي لما عرفت بهذه الأيام ووجوبها قد وكلناك إلى نفسك في استخراج هذه المناسبات وما أنت وحدك بل كل من عرف بها حتى علمها حجر عليه إن يعلم بها إذا علمها بأي طريق فهذا منعني من إيضاح هذه المناسبات فالوقوف عند الأوامر الإلهية والإشارات الربانية على أهل هذه الطريق واجب‏

(وصل في فصل السواك للصائم)

[السواك مطهرة للفم مرضاة للرب‏]

ثبت في الحسان عن عامر بن ربيعة أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي تسوك وهو صائم‏

فمن قائل به مطلقا في سائر اليوم وبه أقول ومن قائل بكراهيته له من بعد الظهر فمن راعى حكم الخلوف كرهه وهو ناقص النظر في ذلك فإنه‏

ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السواك مطهرة للفم ومرضاة للرب‏

فهو طاهر مطهر يرضي الرب وينظف الأسنان من القلح والصفرة التي تطلع عليها

فإن البزار روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه ما لكم تدخلون علي قلحا استاكوا

فذكر ما هو حظ البصر وما تعرض للشم والخلوف لا يزيله السواك فإنه تغير في المعدة يظهره التنفس فصاحب هذا النظر والذي يقول استنوق الجمل سواء

[لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك‏]

وإذا كان الخلوف من الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك فيوم القيامة تتغير رائحته برائحة المسك فما هو هناك خلوف وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق الصائم نهى عن التسوك في حال صومه أصلا ولا كراهة بل هو أمر مندوب إليه مرغب فيه مطلقا من غير تقييد بزمان ولا حال وهو أقرب إلى الوجوب منه إلى الندب مما أكد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هذا الخبر جبر القلب الصائم لما ظهرت من فيه رائحة يتأذى منها جليسه إذا كان غير مؤمن وأما المتحلي بالإيمان حاشاه‏

من التأذي فإنه من الايمان أن يعرف منزل الخلوف للصائم عند الله فهو يستحسن للغرض النفسي ما يستقبحه السليم النظر فكيف حال المؤمن إذا أحس بما يرضي الرب يلهج به فرحا وعندنا بالذوق علامة إيمانه أن يدرك ذلك الخلوف مثل رائحة المسك هنا فإذا ورد مثل هذا الخبر في تشريف هذه الرائحة على أمثالها من الروائح باعتناء الله بها انجبر قلب الصائم ورغب في الزيادة من الصوم وعلم إن الملائكة ورجال الله لا يتأذون في مجالسته من خلوف فمه فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ورد ذلك في روائح الثوم وأمثاله لا في خلوف فم الصائم فإن تسوك الصائم كان أعلى منزلة ممن لم يتسوك في أي وقت كان فإنه في زيادة عمل يرضي الله وهو التسوك‏

[الخلوف ليس للإنسان وإنما هو أمر تقتضيه الطبيعة]

واعلم أن الخلوف ليس للإنسان وإنما هو أمر تقتضيه الطبيعة للتعفين الذي يكون فيما يبقى في المعدة من فضول الطعام ولم يحجبه بطعام جديد طيب الرائحة فيخرج النفس من القلب فيمر على المعدة فيخرج بما يمر عليه من طيب وخبيث حسا كما يجده الملك معنى إذا كذب العبد الكذبة تباعد منه الملك ثلاثين ميلا من نتن ما جاء به يجد ذلك النتن من الكاذب بالإدراك الشمي أهل الروائح فإن كان حاكما وهو من أهل هذا المقام وله هذه الحال وشهد عنده بالزور في حكومة تعين عليه أن لا يمضي الحكم للمشهود له وإن حكم له فإنه آثم عند الله وهذه مسألة عظيمة الفائدة لأهل الأذواق فإن الحاكم وإن لم يحكم بعلمه فلا يجوز له أن يخالف علمه أصلا وذلك في الأموال وأما في الأبشار فما يجب عليه إمضاء الحكم على المحكوم عليه لأمر آخر لا أحتاج إلى بيانه ولما كان الصوم سبب الخلوف والصوم لله وجب على المؤمن أن يحتمل ما يجده من خلوف فم الصائم وراعى الله تعالى الواجد لذلك بأن أمر الصائم بتعجيل الفطر وتأخير السحور لإزالة الرائحة من أجل جلسائه وجعل له فرحة بالطبع بفطره‏

(اعتبار آخر في المقابلة)

أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور لتكون المناجاة في هاتين الصلاتين بريح طيبة إذ كان زمن الصوم قد انقضى فخلوفه بعد انقضاء زمن الصوم ما هو خلوف الصائم فإن خلوف الصائم إنما هو في حال صومه ثم إن الله يقول في هذا الخبر الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طيب خلوف فم الصائم عند الله إنما ذلك في يوم القيامة إذا اتفق للصائم أن لا يزيله فإن أزاله بسواك أو بما لا يفطر الصائم كان أطهر وأطيب وانتقل من طيب إلى طيب وأرضى الله فإن الخلوف لا أثر له في الصوم و

[جمال كل شي‏ء بما يناسبه ويقتضيه‏]

قد ورد أن الله أحق من تجمل له‏

ومن التجمل استعمال ما يطيب الروائح ويزيل ما فيها من الخبث‏

فإن الله جميل يحب الجمال‏

وكل شي‏ء فجماله بما يناسبه وما يقتضيه مما يتنعم به المدرك من طريق ذلك الإدراك عينه من سمع وبصر وشم وذوق ولمس بمسموع ومبصر ومشموم ومطعوم وملموس ثم إنه قد ورد صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك فمن باب الإشارة صلاتك بربك أفضل من صلاتك بنفسك فأشار إلى السوي والسبعون إشارة في اعتبار الغالب في عمر الإنسان فإن المسبعات كثيرا ما يعتبرها الشرع في البسائط والمركبات وأما طريقة تفسير هذا الحديث فكونه جمع بين طهارتين الوضوء والسواك والمقصود بالوضوء هنا المضمضة وهي من فرائض الوضوء عندنا بالسنة والفم هو محل المناجاة فإن الصلاة محادثة مع الله نهارا ومسامرة ليلا واختصاص سرا أي مساررة وتبليغ جهر القائم والقاعد والراقد على جنب وإذا كنت من عالم الإشارة وصليت بسواك فلا تصل به إلا من اسمه السبوح القدوس فإن القدوس يعطي التسوك‏

[الإشارة والتحقيق والجمع بين الظاهر والباطن‏]

وإنما فرقنا في التعبير بين الإشارة والتحقيق لئلا يتخيل من لا معرفة له بما آخذ أهل الله أنهم يرمون بالظواهر فينسبونهم إلى الباطنية وحاشاهم من ذلك بل هم القائلون بالطرفين كان شيخنا أبو مدين يذم الطرفين على الانفراد ويقول إن الجامع بين الطرفين هو الكامل في السنة والمعرفة والاشتراك وقع في تلفظه بسواك والكاف في السواك أصلية من نفس الكلمة وهي في الاستثناء مضافة ما هي أصلية ومن جعلها من باب التحقيق نظر إلى كون إضافة المخاطب أمرا واحد فجعلها أصلية في الإضافة كالكلمة الواحدة واعتبر التركيب فيها اعتبار تركيب الحروف في الكلمة فلا يصح وجود إضافة مثل هذا الخطاب إلا بكاف الإضافة كما لا يصح اسم السواك بغير كاف فانظر ما أدق نظر أهل الله هذا لو كان ذلك عن فكر لقد كانوا يفضلون به غيرهم فكيف بمن لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى‏ إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ والعلم رزق الأرواح ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏

(وصل في فصل من فطر صائما)

[الفطر من تمام الصوم‏]

لما

ورد الخبر الذي خرجه الترمذي عن زيد بن خالد الجهني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شي‏ء

وقال فيه حديث صحيح فالصائم له أجر في فطره كما كان له في صومه فلمن فطره أجر فطره لا أجر صومه فافهم وعلمنا من هذا الخبر أن الفطر من تمام الصوم وأنه من أعان شخصا على عمل كان مشاركا له فيما يؤدي إليه ذلك العمل من الخير لا مشاركة توجب نقصا بل هو على التمام لكل واحد من الشريكين كما جاء في الحديث من سن سنة حسنة الحديث فجعل الفطر من تمام الصوم وأنه جزء منه‏

[من تلبس بجزء من الشي‏ء المتناسب الأجزاء حصل له خيره‏]

ومن تلبس بجزء من الشي‏ء المتناسب الأجزاء حصل له خير ذلك الشي‏ء وإن لم يحصل ولا اتصف بذلك الأمر كله كما اتصف به صاحبه كمن اتصف بجزء من أجزاء النبوة فله أجر من ثبتت له النبوة وفضلها من غير إن يتلبس بها كلها فليس بنبي ولهذا ورد أنه يأتي يوم القيامة ناس ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء إذ كانت الأنبياء نالت هذه الفضيلة بما في النبوة من الأثقال والمشاق وهؤلاء بجزء منها قد اتصفوا أو أكثر من جزء وتلبسوا به وربما كان هذا الجزء منها ومما لا مشقة فيه ونالوا فضل من تلبس بها كلها كالفقير مع صاحب المال فيما يتمناه من فعل الخير إذا رأى صاحب المال أو العلم يفعل في ذلك ما لا يتمكن للفقير فعله فهما في الأجر سواء وما اشتركا إلا في النية وزاد عليه صاحب النية بسقوط الحساب والمسألة فيم أنفق ومم اكتسب‏

[الذين يغبطهم الأنبياء وليسوا بأنبياء]

فهؤلاء هم الذين يغبطهم النبيون في ذلك المقام ولكن في القيامة في الموقف لا في الجنة وهو قوله تعالى لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فإن الرسل تخاف على أممها لا على أنفسها والمؤمنون خائفون على أنفسهم لما ارتكبوه من المخالفات وهؤلاء ما لهم أتباع يخافون عليهم ولا ارتكبوا مخالفة توجب لهم الخوف ف لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وكذلك الأنبياء يعطى لكل نبي أجر الأمة التي بعث إليهم سواء آمنوا به أو كفروا فإن نية كل نبي يود لو أنهم آمنوا فتساوي الكل في أجر التمني ويتميز كل واحد عن صاحبه في الموقف بالأتباع فالنبي يأتي ومعه السواد الأعظم وأقل وأقل حتى يأتي نبي ومعه الرجلان والرجل ويأتي النبي وليس معه أحد والكل في أجر التبليغ سواء وفي الأمنية

[من فطر صائما فقد اتصف بصفة إلهية]

فمن فطر صائما فقد اتصف بصفة إلهية وهي اسمه الفاطر فإن الله فطر الصائم مع غروب الشمس سواء أكل أو لم يأكل أو شرب أو لم يشرب فهو مفطر شرعا وأخرجه غروب الشمس من التبس بالصوم وهذا فطره بما أطعمه فلما حصل في هذه الدرجة كان متخلقا بما هو لله كما كان الصائم متلبسا في صومه بما هو لله من التنزيه عن الطعام والشراب والصاحبة وكل وصف مفسد للصوم‏

(وصل في فصل صوم الضيف)

[الصوفية ضيوف الله لا يتصرفون إلا عن أمره‏]

لما خرج الترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم‏

علمنا إن الصوفية أضياف الله فإنهم سافروا من حظوظ أنفسهم وجميع الأكوان إيثارا للجناب الإلهي فنزلوا به فلا يعملون عملا إلا بإذن من نزلوا عليه وهو الله فلا يتصرفون ولا يسكنون ولا يتحركون إلا عن أمر إلهي ومن ليست له هذه الصفة فهو في الطريق يمشي يقطع مناهل نفسه حتى يصل إلى ربه فحينئذ يصح أن يكون ضيفا وإذا أقام عنده ولا يرجع كان أهلا لأن أهل القرآن وهو الجمع به تعالى هم أهل الله وخاصته‏

(حكاية)

كان شيخنا أبو مدين بالمغرب قد ترك الحرفة وجلس مع الله على ما يفتح الله له وكان على طريقة عجيبة مع الله في ذلك الجلوس فإنه ما كان يرد شيئا يؤتى إليه به مثل الإمام عبد القادر الجيلي سواء غير أن عبد القادر كان أنهض في الظاهر لما يعطيه الشرف فقيل له يا أبا مدين لم لا تحترف أو لم لا تقول بالحرفة فقال أقول بها فقيل له فلم لا تحترف فقال الضيف عندكم إذا نزل بقوم وعزم على الإقامة كم توقيت زمان وجوب ضيافته عليهم قالوا ثلاثة أيام قال وبعد الثلاثة الأيام قالوا يحترف ولا يقعد عندهم حتى يحرجهم قال الشيخ الله أكبر أنصفونا نحن أضياف ربنا تبارك وتعالى نزلنا عليه في حضرته على وجه الإقامة عنده إلى الأبد فتعينت الضيافة فإنه تعالى ما دل على كريم خلق لعبده إلا كان هو أولى بالاتصاف به قالوا نعم قال وأيام ربنا كما قال كل يوم كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فضيافته بحسب أيامه فإذا أقمنا عنده ثلاثة آلاف سنة وانقضت ولا نحترف‏

يتوجه اعتراضكم علينا ونحن نموت وتنقضي الدنيا ويبقى لنا فضلة عنده تعالى من ضيافتنا فاستحسن ذلك منه المعترض فانظر في هذا النفس إن كنت منهم‏

(وصل في فصل استيعاب الأيام السبعة بالصيام)

[العبد الصالح يتجمل بكل يوم عند ربه‏]

لما ورد في الخبر الذي خرجه الترمذي عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والإثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس‏

علمنا أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يتلبس بعبادة الصوم في كل يوم من أيام الجمعة إما امتنانا منه على ذلك اليوم فإن الأيام تفتخر بعضها على بعض بما يوقع العبد المعتبر فيها من الأعمال المقربة إلى الله من حيث إنها ظرف له فيريد العبد الصالح أن يجعل لكل يوم من أيام الجمعة وأيام الشهر وأيام السنة جميع ما يقدر عليه من أفعال البر حتى يحمده كل يوم ويتجمل به عند الله ويشهد له فإذا لم يقدر في اليوم الواحد أن يجمع جميع الخيرات فيفعل فيه ما يقدر عليه فإذا عاد عليه من الجمعة الأخرى عمل فيه ما فاته فيه في الجمعة الأولى حتى يستوفي فيه جميع الخيرات التي يقدر عليها وهكذا في أيام الشهر وأيام السنة

[أيام الشهور وساعات اليوم في منازل الفلك الأقصى‏]

واعلم أن الشهور تتفاضل أيامها بحسب ما ينسب إليه كما تتفاضل ساعات النهار والليل بحسب ما ينسب إليه فيأخذ الليل من النهار من ساعته ويأخذ النهار من الليل والتوقيت من حيث حركة اليوم الذي يعم الليل والنهار كذلك أيام الشهور تتعين بقطع الدراري في منازل الفلك الأقصى لا في الكواكب الثابتة التي تسمى في العرف منازل وللقمر أيام معلومة في قطع الفلك وللكاتب أيام أخر وللزهرة كذلك وللشمس كذلك وللأحمر كذلك وللمشتري كذلك وللمقاتل كذلك فينبغي للعبد أن يراعي هذا كله في أعماله فإنه ما له من العمر بحيث أن يفي بذلك فإن أكبر هذه الشهور لا يكون أكبر من نحو ثلاثين سنة لا غير

[شهور الكواكب الثابتة في فلك البروج‏]

وأما شهور الكواكب الثابتة في قطعها في فلك البروج فلا يحتاج إليه لأن الأعمار تقصر عن ذلك لكن لها حكم في أهل جهنم كما أنه لحركات الدراري حكم على من هو في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من النَّارِ وهم المنافقون خاصة والباطنية ما لهم في الدرك الأسفل منزل وإن منزلهم الأعلى من جهنم والكفار لهم في كل موضع من جهنم منزل وأما أهل الجنان فالدائر عليهم فلك البروج ولا يقطع في شي‏ء فلا تنتهي حركته بالرصد لأن الرصد لا يأخذه وهو متماثل الأجزاء فلهذا كانت السعادة لا نهاية لها فظهر بها الخلود الدائم في النعيم المقيم إلى ما لا يتناهى والنار ما حكمها حكم أهل النعيم فإن الدائر عليهم فلك المنازل والدراري وهذه الأفلاك تقطع في فلك متناهى المساحة فلهذا يرجى لهم أن لا يتسرمد عليهم العذاب مع كون النار دار ألم والعذاب حكم زائد على كونها دارا فإنا نعلم أن خزنتها في نعيم دائم ما هم فيها بمعذبين مع كونهم ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ لأنهم لها خلقوا وهي دائمة والساكن فيها دائم لكونه مخلوقا لها

[الله هو الخير المحض الذي لا شرفيه والوجود الذي لا عدم يقابله‏]

فتحقق ما ختمنا به هذا الصوم من سبق الرحمة وغلبتها صفة الغضب والله أجل وأعلى أن لا يكون له في كل منزل تجل وهو تعالى الخير المحض الذي لا شر فيه والوجود الذي لا عدم يقابله والوجود رحمة مطلقة في الكون والعذاب شي‏ء يعرض لأمور تطرأ وتعرض فهو عرض لعارض والعوارض لا تتصف بالدوام ولو اتصفت ما كانت عوارض وما هو عارض قد لا يعرض فلهذا يضعف القول بتسرمد العذاب فإن الرحمة شملت آدم بجملته وكان حاملا لكل بنية بالقوة فعمت الرحمة الجميع إذ لا تحجير ولا كان يستحق أن يسمى آدم مرحوما وفيه من لا يقبل الرحمة والحق يقول فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى‏ أي رجع عليه بالرحمة وبين له أنه رجع عليه بها فعمته ولله الحمد والله عند حسن ظن عبده به‏

(وصل في فصل قيام رمضان)

[الاسم الإلهي الحاكم في شهر رمضان‏]

ليس لاسم إلهي حكم في شهر رمضان إلا الاسم الإلهي رمضان وفاطر السموات والأرض في كل عبد سواء كان ممن يجب عليه صوم رمضان أم لا يجب عليه إلا عدة من أيام آخر وذلك في كل فعل عبادة يقام فيها العبد فمن جملة أفعال البر فيه قيام ليلة لمناجاة رمضان تبارك وتعالى تارة على الكشف إذا كان مواصلا وتارة من خلف حجاب الاسم الفاطر فإن الأسماء الإلهية يحجب بعضها بعضا وإن كان لكل واحد من الحاجب والمحجوب سلطنة الوقت فإن بعضها أولى بالحجابة من بعض وذلك سار في جميع أحوال الخلق‏

[قيام رمضان عبارة عن الصلاة في ليله‏]

ذكر أبو أحمد ابن عدي الجرجاني من حديث عمرو بن أبي عمرو عن‏

المطلب عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان شد مئزره فلم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان‏

وخرج أيضا مسلم عنها أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر تعني العشر الآخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر

وقيام الليل عبارة عن الصلاة فيه هذا هو المعروف من قيام الليل في العرف الشرعي والناس في مناجاة الحق فيه على قسمين فمنهم من يناجيه بالاسم الممسك وهو أيضا من حجاب الاسم رمضان ومنهم من يناجيه بالاسم الفاطر وهو أيضا من حجابه والناس على اختلاف في أحوالهم‏

[مزاحمة الرحمن ومزاحمة الأكوان‏]

لو لا مزاحمة الرحمن أعمالي *** ما زاحمته على التكوين إخواني‏

يقول كن وحصول الكون ليس لنا *** وما له في وجود الكون من ثاني‏

يقول صم فإذا صمنا يقول لنا *** هذا الصيام لنا فأين أعياني‏

إن قلت لي لم أخاطبكم بما هو لي *** فلي شهود على التكليف آذاني‏

أسمعتني ثم بعد السمع تسلبني *** فالصوم لي ولكم في الشرع قسمان‏

إن كنت تسلبني عنه فشأنكمو *** في الصوم ما هو في التحقيق من شأني‏

[الاسم الفاطر أقوى حكما في ليل شهر رمضان‏]

والاسم الفاطر على هذا في ليل شهر رمضان أقوى حكما فينا من الممسك فمن كان حاله في إمساكه يطعمه ربه ويسقيه في مبيته في حال كونه ليس بأكل ولا شارب في ظاهره فهو مفطر وإن كان صائما وقد ذقت هذا ومن هنا علمت إن‏

قوله صلى الله عليه وسلم لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني‏

إنه نفى أن تشبهه تلك الجماعة التي خاطبهم فلم يكن لهم هذه الحالة إذ لو أراد الأمة كلها ما ذقته وقد وجدته ذوقا والحمد لله وإن لم يكن ممن يطعمه ربه ويسقيه في حال وصال صومه فهو متطفل على من هذه صفته وهو كلابس ثوبي زور ولذلك يكره له الوصال إذا لم تكن له هذه الصفة حالا يشهدها ذوقا في نفسه ويظهر أثرها عليه في يقظته والله يحب الصدق في موطنه كما يحب الكذب في موطنه وهذا ليس بموطن حب الكذب فإن الله يكرهه في هذا الموطن انتهى الجزء الستون‏

(بسم الله الرحمن الرحيم)

[وصل مناجاة الحق في الزمان الخاص بالحال الإلهي الخاص‏]

فإذا ناجى الله العبد في هذا الزمان الخاص بالحال الإلهي الخاص فينبغي أن يحضر معه الحضور التام الذي لا يلتفت معه إلى غيره بجمعيته فيناجيه في كل حركة منه وسكون حسا من حيث إنه هو الباطن ومعنى من حيث أنه هو الظاهر إذ كان الحس ظاهرا والمعنى باطنا فلا يقوم المعنى إلا بين يدي الظاهر فإنه لو قام بين يدي الباطن والمعنى باطن الحرف الذي هو المحسوس والحس كان قيام الشي‏ء بين يدي نفسه والشي‏ء لا يقوم بين يدي نفسه لأنه قام للاستفادة والشي‏ء لا يستفيد من نفسه نفسه‏

[نزول الحق للتعليم والتعريف وهو علم الخبرة]

أ لا ترى نزول الحق للتعليم والتعريف لنا وهو العليم بكل شي‏ء بما كان ويكون ومع هذا أنبأ عن حقيقة لا نرد تعليما لنا بما هو الأمر عليه وأن الحكم للأحوال فأنزل نفسه منزلة المستفيد وجعل المفيد له من خطابه فقال ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ والصَّابِرِينَ مع أنه هو العالم بما يكون منهم ولكن الحال يمنع من إقامة الحجة له سبحانه علينا وقال فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فلم يبق بالابتلاء لأحد حجة على الله فحسم بذلك الابتلاء احتمال قولهم لو حكم بعلمه فيهم أن يقولوا لو بلوتنا وجدتنا واقفين عند حدودك وهذا يسمى علم الخبرة وهو الاسم الخبير في قوله تعالى عَلِيماً خَبِيراً فهذه رائحة إلهية في الاستفادة للشي‏ء من غيره لا من نفسه فنحن أولى بهذه الصفة

[أعطية الاسم الظاهر وأعطية الاسم الباطن‏]

فلذلك جعلنا ظاهر العبد يناجي الاسم الباطن وباطن العبد يناجي الاسم الظاهر ويقوم بين يديه قيام مستفيد فيهبه ما شاء أن يهبه فإذا رأيت المستفيد قد استفاد في قيامه خرق العوائد المدركة بالحس المسماة كرامات الأولياء في العموم وآيات الأنبياء الرسل عليهم السلام فذلك أعطية الاسم الظاهر وإذا رأيته قد استفاد علوما وحكما تحار العقول فيها أو تردها أو تقبلها من حيث ما يدركها بالقوة المفكرة فذلك كله أعطية الاسم الباطن فاجعل بالك لما نبهتك عليه ونصحتك لتعلم من تناجي ولا تخلط فيخلط عليك فإن الله يقول ولَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ وقال ومَكَرُوا ومَكَرَ الله ثم نفى المكر عنهم فقال فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً

يعني المكر المضاف إلى عباده والمكر المضاف إليه سبحانه‏

[ابن عربى مأمور بالنصيحة]

والله سبحانه قد أمرني على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم خطابا عاما ثم خاطبني على الخصوص من غير واسطة غير مرة بمكة وبدمشق فقال لي أنصح عبادي في مبشرة أريتها فتعين على الأمر أكثر مما تعين على غيري فالله يجعل ذلك لي من الله عناية وتشريفا لا ابتلاء وتمحيصا

[القائم والنائم‏]

فمن قام بين يدي الله تعالى بهذه المعرفة فهو القائم وإن كان نائما فإنه ما نام إلا به ومن لم يقم بين يديه بهذه المعرفة فهو نائم وإن كان قائما فكن رقيبا عليه في قلبك فإنه الذي وسعه كما هو رقيب عليك فإنك لا تعلم مواقع آثاره فيك وفي غيرك إلا بالمراقبة واعلم أن القائمين في شهر رمضان في قيامهم على خاطرين منهم القائم لرمضان ومنهم القائم لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر والناس فيها على خلاف والقائم فيه لرمضان لا يتغير عليه الحال بزيادة ولا نقصان والقائم لليلة القدر يتغير عليه الحال بحسب مذهبه فيها

[وصل في فصل ليلة القدر]

[اختلاف الناس في ليلة القدر]

واختلف الناس في ليلة القدر أعني في زمانها فمنهم من قال هي في السنة كلها تدور وبه أقول فإني رأيتها في شعبان وفي شهر ربيع وفي شهر رمضان وأكثر ما رأيتها في شهر رمضان وفي العشر الآخر منه ورأيتها مرة في العشر الوسط من رمضان في غير ليلة وتر وفي الوتر منها فإنا على يقين من أنها تدور في السنة في وتر وشفع من الشهر الذي ترى فيه‏

[الناس منهم عبيد ومنهم أجراء]

فمن قام من أجل ليلة القدر فقد قام لنفسه وإن كان قيامه لترغيب الحق في التماسها ومن قام لأجل الاسم الذي أقامه رمضان أو غيره فقيامه لله لا لنفسه وهو أتم والكل شرع فمن الناس عبيد ومنهم أجراء ولأجل الإجارة نزلت الكتب الإلهية بها بين الأجير والمستأجر فلو كانوا عبيدا ما كتب الحق كتابا لهم على نفسه فإن العبد لا يوقت على سيده إنما هو عامل في ملكه ومتناول ما يحتاج إليه فأولئك لهم أجرهم والعبيد لهم نورهم وهو سيدهم فإنه نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ قال تعالى أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ والشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ يعني الأجزاء وهم الذين اشترى الحق منهم أنفسهم ونورهم وهم العبيد والإماء جعلنا الله وإياكم من أعلاهم مقاما وأحبهم إليه أنه الولي المحسان‏

[ليلة القدر خير من ألف شهر]

واعلم أن ليلة القدر إذا صادفها الإنسان هي خير له فيما ينعم الله به عليه من ألف شهر إن لو لم تكن إلا واحدة في ألف شهر فكيف وهي في كل اثني عشر شهرا في كل سنة هذا معنى غريب لم يطرق أسماعكم إلا في هذا النص ثم يتضمن معنى آخر وهو أنها خَيْرٌ من أَلْفِ شَهْرٍ من غير تحديد وإن كان الزائد على ألف شهر غير محدود فلا يدري حيث ينتهي فما جعلها الله أنها تقاوم ألف شهر بل جعلها خيرا من ذلك أي أفضل من ذلك من غير توقيت فإذا نالها العبد كان كمن عاش في عبادة ربه مخلصا أكثر من ألف شهر من غير توقيت كمن يتعدى العمر الطبيعي يقع في العمر المجهول وإن كان لا بد له من الموت ولكن لا يدري هل بعد تعدية العمر الطبيعي بنفس واحد وبآلاف من السنين فهكذا ليلة القدر إذا لم تكن محصورة كما قدمنا

[الشهر بالاعتبار الحقيقي هو العبد الكامل المفرد]

واعلم أن الشهر هنا بالاعتبار الحقيقي هو العبد الكامل إذا مشى القمر الذي جعله الله نورا فأعطاه اسما من أسمائه ليكون هو تعالى المراد لا جرم القمر فالقمر من حيث جرمه مظهر من مظاهر الحق في اسمه النور فيمشي في منازل عبده المحصورة في ثمانية وعشرين فإذا انتهى سمي شهرا على الحقيقة لأنه قد استوفى السير واستأنف سيرا آخر هكذا من طريق المعنى دائما أبدا فإن فعل الحق في الكائنات لا يتناهى فله الدوام بإبقاء الله تعالى كما إن العبد يمشي في منازل الأسماء الإلهية وهي تسعة وتسعون التاسع والتسعون منها الوسيلة وليست إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم والثمانية والتسعون لنا كالثمانية والعشرين من المنازل للقمر ويسميه بعض الناس الإنسان المفرد والعشرين خمس المائة لأنها في الأصل مائة اسم لكن الواحد أخفاه للوترية فإن الله وتر يحب الوتر فالذي أخفاه وتر والذي أظهره وتر أيضا وإنما قلنا منبهين على منازل القمر ثمانيا وعشرين منزلة لأنها قامت من ضرب أربعة في سبعة ونشأة الإنسان قامت من أربعة أخلاط مضروبة في سبع صفات من حياة وعلم وإرادة وقدرة وكلام وسمع وبصر فكان من ضرب المجموع بعضه في بعضه الإنسان ولم يكن له ظهور إلا بالله من اسمه النور لأن النور له إظهار الأشياء وهو الظاهر بنفسه فحكمه في الأشياء حكم ذاتي كذلك الشهر ما ظهر إلا بسير القمر من حيث كونه نورا في المنازل قال تعالى والْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ فإذا انتهى فيها سيره فهو الشهر المحقق وما عداه مما سمي شهرا فهو بحسب ما يصطلح عليه فلا منافرة

[الليلتان والوجهان من الشهر المحقق‏]

ولله تعالى في كل منزلة من العبد ينزلها اسم النور حكم خاص قد ذكرناه في هذا

الكتاب في نعت السالك الداخل والسالك الخارج أيضا والفاصل بين السلوكين ليلة الإبدار وهي ليلة النصف من ثمانية وعشرين ليلة الرابع عشر من الشهر المحقق وليلة السرار منه والنور فيه كامل أبدا فإن له وجهين والتجلي له لازم لا ينفك عنه فأما في الوجه الواحد وإما في الوجهين بزيادة ونقص في كل وجه فله الكمال من ذاته لا بد منه وله الزيادة والنقص من كونه له وجهان فكلما زاد من وجه نقص من وجه آخر وهو هو لحكمة قدرها العزيز العليم‏

وفي كفتي ميزاننا لك عبرة *** وأنت لسان فيه إن كنت تعقل‏

إذا رجحت إحداهما طاش أختها *** وأنت لما فيها تميل وتسفل‏

[الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم وينزل‏]

وجعل سبحانه إضافة الليل إلى القدر دون النهار لأن الليل شبيه بالغيب والتقدير لا يكون إلا غيبا لأنه في نفس الإنسان والنهار يعطي الظهور فلو كان بالنهار لظهر الحكم في غير محله ومناسبه فإن الفعل في الظاهر لا يظهر إلا على صورة ما هو في النفس فخرج من غيب إلى شهادة بالنسبة إلى الله ومن عدم إلى وجود بالنسبة إلى الخلق فهي ليلة يفرق فيها كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فينزل الأمر إليها عينا واحدة ثم يفرق فيها بحسب ما يعطيه من التفاصيل كما تقول في الكلام إنه واحد من كونه كلاما ثم يفرق في المتكلم به بحسب أحوال الذي يتكلم به إلى خبر واستخبار وتقرير وتهديد وأمر ونهي وغير ذلك من أقسام الكلام مع وحدانيته فهي ليلة مقادير الأشياء والمقادير ما تطلب سوانا فلهذا أمرنا بطلب ليلة القدر وهوقوله صلى الله عليه وسلم التمسوها لنستقبلها

كما يستقبل القادم إذا جاء من سفره والمسافر إذا جاء من سفره فلا بد له إذا كان له موجود من هدية لأهله الذين يستقبلونه فإذا استقبلوه واجتمعوا به دفع إليهم ما كان قد استعده به لهم فتلك المقادير فيهم وبذلك فليفرحوا فمنهم من تكون هديته لقاء ربه ومنهم من تكون هديته التوفيق الإلهي والاعتصام وكل على حسب ما أراد المقدر أن يهبه ويعطيه لا تحجير عليه في ذلك‏

[ليلة القدر دائرة منتقلة في كل الشهور]

وعلامتها محو الأنوار بنورها وجعلها دائرة منتقلة في الشهور وفي أيام الأسبوع حتى يأخذ كل شهر من الشهور قسطه منها وكذلك كل يوم من أيام الأسبوع كما جعل رمضان يدور في الشهور الشمسية حتى يأخذ كل شهر من الشهور الشمسية فضيلة رمضان فيعم فضل رمضان فصول السنة كلها فلو كان صومنا المفروض بالشهور الشمسية لما عم هذا التعميم وكذلك الحج سواء وكذلك الزكاة فإن حولها ليس بمعين إنما ابتداؤه من وقت حصول المال عند المكلف فما من يوم في السنة إلا وهو رأس حول لصاحب مال فلا تنفك السنة إلا وأيامها كلها محل للزكاة وهي الطهارة والبركة فالناس كلهم في بركة زكاة كل يوم يعم كل من زكى فيه ومن لم يزك‏

[علامة ليلة القدر محو الأنوار كلها بنورها]

وإنما محى نور الشمس من جرم الشمس في صبيحة ليلتها أعلاما بأن الليل زمان إتيانها والنهار زمان ظهور أحكامها فلهذا تستقبل ليلا تعظيما لها فمن فاته إدراكها ليلا فليرقب الشمس فإذا رأى العلامة دعا بما كان يدعو به في الليلة لو عرفها فإن محو نور الشمس لنورها كنور الكواكب مع ظهور الشمس لا يبقى لها نور في العين وبهذا يتقوى مذهب من يجعل الفجر حمرة الشفق لقوله تعالى هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي إلى مطلع الفجر فذلك القدر هو الذي يتميز به حد الليل من النهار الفجر الطالع ما هو ذلك الفجر في ليلة القدر من نور الشمس وإنما هو نور ليلة القدر ظهر في حجم الشمس كما إن نور القمر إنما هو نور الشمس ظهر في جرم القمر فلو كان نور القمر من ذاته لكان له شعاع كما هو للشمس ولما كان مستعارا من الشمس لم يكن له شعاع كذلك الشمس لها من نور ذاتها شعاع فإذا محت ليلة القدر شعاع الشمس بقيت الشمس كالقمر لها ضوء في الموجودات بغير شعاع مع وجود الضوء فذلك الضوء نور ليلة القدر حتى تعلو قيد رمح أو أقل من ذلك فحينئذ يرجع إليها نورها

[و ترى الشمس صبيحة ليلة القدر كأنها طاس ليس لها شعاع‏]

فترى الشمس تطلع في صبيحتها صبيحة ليلة القدر كأنها طاس ليس لها شعاع من وجود الضوء مثل طلوع القمر لا شعاع له وإنما ذكرت لك ذلك لتعلم بأي نور تستنير في صبيحة ليلة القدر فتعلم إن الحكم في الأنوار كلها لمن نُورُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وأنزل الأنوار ما يفتقر إلى مادة وهو المصباح فإذا أنزل الحق نوره في التشبيه إلى مصباح وهو نور مفتقر إلى مادة تمده وهي الدهن فما هو أعلى منه من الأنوار أقرب إلى التشبيه وأعلى في التنزيه وإنما أعلمنا الحق بذلك وجاء بكاف الصفة في‏

قوله كَمِشْكاةٍ إلى آخر الآية أعلاما أنه نور كل نور بل هو كل نور وشرع لنا طلب هذه الصفة

فكان صلى الله عليه وسلم يقول واجعلني نورا

وكذلك كان صلى الله عليه وسلم‏

(وصل في فصل التماسها مخافة الفوت)

[السحور فلاح والفلاح بقاء]

خرج الترمذي عن أبي ذر قال صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ثم لم يقم بنا السادسة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا له يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه فقال إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلاث من الشهر وصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه وقام بنا حتى تخوفنا أن يفوت الفلاح قيل وما الفلاح قال السحور

وقال هذا حديث حسن صحيح انظر ما أعجب قول هذا الصاحب حيث سمي السحور فلاحا والفلاح البقاء ينبه أن الإنسان إنما هو في الصوم بالعرض فإنه لا بقاء له فإن الصوم لله أ لا تراه يزول حكمه عن الصائمين بزوال الدنيا فهو في الآخرة يأكل ويشرب بما أسلف في أيام الصوم وهي الأيام الخالية يعني الماضية قال تعالى كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ في الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أيام الصوم في الدنيا والآخرة دار بقاء وأُكُلُها دائِمٌ وظِلُّها والسحور أكلة غذاء فنبه إن الإنسان في بقائه آكل لا صائم فهو متغذ بالذات صائم بالعرض فالغذاء باق فسماه فلاحا أي بقاء

[قيومية الرب وقيومية العبد]

وهو من السحر والسحر له وجهان كما ذكرنا وجد إلى الليل ووجه إلى النهار وهو الوقت الذي بين الفجرين كذلك الإنسان له البقاء الذي هو الفلاح وهو السحور في مقامه الذي هو فيه فله وجه إلى الواجب الوجود لنفسه ووجه إلى العدم لا ينفك عن ذلك في أي حالة كان من وجود أو عدم ولذلك سمي ممكنا ودخل في جملة الممكنات فهذه الصفة له باقية وإن ظهر بنعت إلهي في وقت فليس له فيه بقاء وإنما بقاؤه فيما قلناه ولهذا قال الصاحب لما اتصف في ليلته بالقيوم قال تخوفنا أن يفوتنا الفلاح وهو أن ينقضي زمان الليل وما عرفنا نفوسنا إذ في معرفتنا بها معرفة ربنا لكنهم ما فاتهم الفلاح بحمد الله بل أشهدهم الله نفوسهم بالغذاء ليشهدوا أن القيومية له ذاتية وقيومية العبد إنما هي بإمداد ما يتغذى به ولهذا

قال صلى الله عليه وسلم حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه‏

فجعل القيومية للغذاء وإن كان هو القائم بها فكأنه يقول وإن تلبسنا بالتماس هذه الليلة من الاسم الوتر تعالى فلم يغننا ذلك الالتماس عن حظوظ نفوسنا التي بها بقاؤنا وهو التغذي فإن التماسنا لها إنما هو لما ينالنا من خيرها في دار البقاء فما التمسناها بالعبادة إلا لحظ نفسي نبقى به في الدار الآخرة والسحور رب الوقت في الحال وهو سبب في بقاء الحياة الدنيا للعمل الصالح فتخوفنا أن يفوتنا حكمه إذ كان ذلك الحكم عين طلبنا بالالتماس وإن اختلف الدار

[ليلة القدر في الأوتار من الليالي وقد تكون في الأشفاع‏]

ثم جعلها صلى الله عليه وسلم في الوتر من الليالي دون الشفع لأنه انفرد بها الليل دون النهار فإنه وتر من اليوم واليوم شفع فإن اليوم عبارة عن ليل ونهار ولكن في تلك السنة لو ورد النص فإنها قد تكون في الأشفاع إلا في تلك السنة لما ورد في الخبر من التماسها في الأوتار من العشر الآخر ولمعنى آخر أيضا وهو أن الطلب إذا كان في ليالي وتر الشهر كان الوتر حافظا لهذا العبد لما تعطيه هذه الليلة من البركات والخير وهو في وتر من الزمان المذكر له وترية الحق فيضيف ذلك الخير إلى الله لا إلى الليلة وإن كانت سببا في حصوله ولكن عين شهود الوتر يحفظه من نسبة الخير لغير الله مع ثبوت السبب عنده فلو كانت في ليلة شفع وهي سبب لم يكن لهذا العبد من يذكره تذكير حال في وقت التماسه إياها أو في شهوده إياها إذ اعثر عليها فكان محصلا للخير من يد غير أهله فيكون صاحب جهل وحجاب في أخذ ذلك الخير فما كان يقاوم ما حصل له فيها من الخير ما حصل له من الحرمان والجهل لحجابه عن معطي الخير فلهذا أيضا جعلت في أوتار الليالي فافهم‏

[ليلة القدر في العشر الأوسط والعشر الآخر]

وجعلت في العشر الآخر لأنها نور والنور شهادة وظهور فهو بمنزلة النهار إذ سمي النهار لاتساع النور فيه والنهار متأخر عن الليل لأنه مسلوخ منه والعشر الآخر متأخر عن العشر الأوسط والأول فكان ظهورها والتماسها في المناسب الأبعد وما رأيت أحدا رآها في العشر الأول ولا نقل إلينا وإنما تقع في العشر الوسط والآخر

خرج مسلم عن أبي سعيد قال اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر

وكذلك التجلي الإلهي ما ورد قط في خبر صحيح نبوي ولا سقيم إن الله يتجلى في الثلث الأول من الليل وقد ورد أنه يتجلى في الثلث الأوسط والآخر من الليل وليلة القدر إنما هي حكم تجل‏

إلهي فكانت في الثلث الأوسط والآخر من الشهر ولم تكن في الثلث الأول فإن الأول أنت ولا بد فالأولية لك في معرفتك ربك وأنت وهو لا تجتمعان كما إن الدليل والمدلول لا يجتمعان فمن عرف نفسه عرف ربه فقدمك فإنك الدليل فالأولية لك في المعرفة النظرية والكشفية فإن معرفة الكشف لا تكون إلا بعد رياضة ومجاهدة فلا بد من تقدمك نظرا وكشفا كما إن علمه بك إنما هو من علمه به فلو لم يتصف بأنه عالم بنفسه ما علمك فتفطن في علم الله بك من أين هو فإنها مسألة دقيقة جدا ذكرناها في كتابنا الموسوم بعقلة المستوفز وفي هذا الكتاب‏

(وصل في فصل في التماسها في الجماعة بالقيام في شهر رمضان)

خرج أبو داود عن مسلم بن خالد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد فقال من هؤلاء فقيل هؤلاء ناس ليس معهم قرآن وأبي بن كعب يصلي بهم وهم يصلون بصلاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصابوا ونعم ما صنعوا

[الجماعة في ليلة القدر أحق من غيرها لأنها ليلة جمع‏]

فالجمعية فيها أحق للمناسبة فإن قدرها أعظم من ألف شهر لياليه وأيامه فلها مقام هذا الجمع وأنزل الله فيها القرآن قرآنا أي مجموعا وأنزله بنون الجمع والعظمة فجمع في إنزاله فيها جميع الأسماء بقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وفيها تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ ما نزل فيها واحد والرُّوحُ القائم فيهم مقام أبي في الجماعة التي يصلي بهم من كُلِّ أَمْرٍ وكل يقتضي جميع الأمور التي يريد الحق تنفيذها في خلقه وحَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ نهاية غاية فإنها تتضمن حرف إلى التي للغاية ولا تكون نهاية إلا عن ابتداء فكان جمعا فهذه الليلة ليلة جمع فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا ونعم ما صنعوا يغبطهم لما ذكرناه‏

[الباعث على التماس ليلة القدر]

والباعث لالتماسها أمور تقتضيها وهي البواعث على التماسها وهو عظم قدرها وعظم من أنزلها وحقارة من التمسها عند نفسه بالتماسها فإنه شاهد بالتماس لهذا الخير العظيم القدر على نفسه بافتقار عظيم يقابله لأن العبد كلما أراد أن يتحقق بعبودية حقر قدره إلى أن يلحق نفسه بالعدم الذي هو أصله ولا أحقر من العدم فلا أحقر من نفس المخلوق فسمي أيضا ليلة القدر لمعرفة أهل الحضور فيها بأقدارهم أعني بحقارتها مع أن الخير الذي ينالونه شر كالملتمسين في الإمكان والافتقار وأفقر الموجودات من افتقر إلى مفتقر فلا أفقر من الإنسان فإنه لا أعرف بالله منه لجمعيته وعقله ومعرفته بنفسه‏

(وصل في فصل إلحاقها من قامها برسول الله صلى الله عليه وسلم في المغفرة)

قال الله تعالى يخاطب محمدا صلى الله عليه وسلم لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ وذكر مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قام ليلة القدر وفي مسلم فيوافقها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

يقول يستر عنه ذنبه حتى لا يخجل وإن كان ممن قيل له افعل ما شئت فقد غفرت لك كما ورد في الصحيح‏

[من قام ليلة القدر فوافقها ستر عنه خطاب التحريم‏]

فيكون قد ستر عنه خطاب التحريم وأبيح له شرعا فما تصرف إلا في مباح ف إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فلو لا عظم قدرها ما ألحقها الله بصفة العلم الذي هو أشرف الصفات ولهذا أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة منه ومعنى قولي ألحقها الله لما

ورد في الصحيح أن العبد إذا أذنب ذنبا فعلم إن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب يقول الله له في الثالثة افعل ما شئت فقد غفرت لك‏

وما ثم سبب موجب لإباحة ما حرم عليه فعله إلا العلم فلحق فضل ليلة القدر بمرتبة العلم فيما ذكرناه وقال صلى الله عليه وسلم من حرم خيرها فقد حرم ذكره النسائي‏

وأي خير أعظم من رفع التحجير فذلك جنة معجلة

(وصل في فصل الاعتكاف)

[الاعتكاف لغة وشرعا واعتبارا]

الاعتكاف الإقامة بمكان مخصوص وفي الشرع على عمل مخصوص بحال مخصوص على نية القربة إلى الله جل جلاله وهو مندوب إليه شرعا واجب بالنذر وفي الاعتبار الإقامة مع الله على ما ينبغي لله إيثار الجناب الله فإن أقام بالله فهو أتم من أن يقيم بنفسه‏

[العمل الذي يخص الاعتكاف‏]

فأما العمل الذي يخصه فمن قائل إنه الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب ومن قائل جميع أعمال البر المختصة بالآخرة والذي أذهب إليه أن له أن يفعل جميع أفعال البر التي لا تخرجه عن الإقامة بالموضع الذي أقام فيه فإن خرج فليس بمعتكف ولا يثبت فيه عندي الاشتراط وقد ثبت عن عائشة أن السنة للمعتكف أن لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا

[الإقامة مع الله بالله والإقامة بنفسك له‏]

فاعلم إن الإقامة مع الله إذا كانت بالله فله التصرف في جميع أعمال البر المختصة بمكانه‏

الذي اعتكف فيه والخارجة عنه التي يخرجه فعلها عن مكانه فإن الله يقول وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وإذا كانت الإقامة بنفسك لله فقد عينت مكانا لها فلتلزمها به حتى يتجلى لك في غير ما ألزمتها به فافهم‏

(وصل في فصل المكان الذي يعتكف فيه)

فمن قائل لا يجوز الاعتكاف إلا في الثلاثة المساجد التي تشهد الرجال إليها ومن قائل الاعتكاف عام في كل مسجد ومن قائل لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجمعة ومن قائل تعتكف المرأة في مسجد بيتها ومن قائل يجوز الاعتكاف حيث شاء إلا أنه إن اعتكف في غير مسجد جاز له مباشرة النساء وإن اعتكف في مسجد فليس له مباشرة النساء وبه أقول إلا أني أزيد أنه إن نوى الاعتكاف في أيام تقام فيها الجمعة فلا يعتكف إلا في مكان يمكن له مع الإقامة فيه أن يقيم الجمعة سواء كان في المسجد أو في مكان قريب من المسجد يجوز له إقامة الجمعة فيه‏

[المساجد بيوت الله مضافة إليه‏]

اعلم أن المساجد بيوت الله مضافة إليه فمن استلزم الإقامة فيها فلا ينبغي له أن يصرف وجهه لغير رب البيت فإنه سوء أدب فإنه لا فائدة للاختصاص بإضافتها إلى الله إلا أن لا يخالطها شي‏ء من حظوظ الطبع ومن أقام مع الله في غير البيت الذي أضافه إلى نفسه جاز له مباشرة أهله إلا في حال صومه في اعتكافه إن كان صائما

[مباشرة المرأة هو رجوع العقل من حال العقل إلى مشاهدة النفس‏]

ومباشرة المرأة رجوع العقل من حال العقل عن الله إلى مشاهدة النفس سواء جعلها دليلا أو غير دليل فإن جعلها دليلا فالدليل والمدلول لا يجتمعان فلا تصح الإقامة مع الله وملابسة النفس وأعلى الرجوع إلى النفس وملابستها أن يلابسها دليل وأما إن لم يلابسها دليل فلم يبق إلا شهود الطبع فلا ينبغي للمعتكف أن يباشر النساء في مسجد كان أو في غير مسجد

[سريان الحق في جميع الموجودات‏]

ومن كان مشهده سريان الحق في جميع الموجودات وأنه الظاهر في مظاهر الأعيان وأن باقتداره واستعداداتها كان الوجود في الأعيان رأى أن ذلك نكاح وأجاز مباشرة المعتكف المرأة إذا لم يكن في مسجد فإن هذا المشهد لا يصح فيه إن يكون للمسجد عين موجودة فإنه لا يرى في الأعيان من هذه حالته إلا الله فلا مسجد أي لا موضع تواضع ولا تطأطؤ فافهم‏

(وصل في فصل قضاء الاعتكاف)

ذكر مسلم عن أبي بن كعب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فسافر عاما فلم يعتكف فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة

[الإقامة على الدوام مع الله هو طريق أهل الله‏]

الإقامة مع الله على الدوام هو طريق أهل الله ولها الثناء العام ولذلك صاحبها الحمد لله على كل حال وهو ذكر الضراء وهو الذكر الأعم الأتم فإنه إذا حمده العبد على الضراء فكيف يكون مع السراء فإن السراء من جملة أحوال العبد وقد دخل تحت عموم قوله كل حال وهو الطرفان وما بينهما وحمد السراء مقيد

فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في السراء الحمد لله المنعم المفضل‏

فيقيده وهذا هو حمد أيضا أعم من الأول وإن ظهر فيه التقييد ولكن لا يفطن له كل أحد فإن من نعم الله على عبده وإنعامه أن وفقه أن يقول عند الضراء الحمد لله على كل حال فهذا من اسمه المنعم المفضل عليه بهذا القول‏

[رؤية الله مع كل شي‏ء وبعد كل شي‏ء]

فإذا اتفق أن ينقل الله من له صفة الإقامة معه على كل حال إلى من يرى الله بعد كل شي‏ء فتزيله هذه الحال عن الإقامة مع الله دائما فيكون بمنزلة المسافر الذي يناقض الاعتكاف فيجب عليه القضاء إذا رجع إلى حاله الأول وصورة قضائه الإقامة مع الله الثابت بالدليل الشرعي فإنها أيام أخر وهي العشر الوسط بين العشرين الآخر والأول كذلك هي النعوت التي جاءت بها الشريعة من صفات التشبيه بين الحس والعقل وهي حضرة الخيال ففي هذه الحضرة يقضي الاعتكاف وفي العشر الآخر المتصلة به يعتكف على عادته بصفات التنزيه عقلا وشرعا من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ

(وصل في فصل تعيين الوقت الذي يدخل فيه الذي يريد الاعتكاف إلى المكان الذي يقيم فيه)

خرج مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتكفه‏

[الاعتكاف العام المطلق والاعتكاف الخاص المقيد]

اعلم أن المعتكف وهو المقيم مع الله على جهة القربة دائما لا يصح له ذلك إلا بوجه خاص وهو أن يشهده في كل شي‏ء هذا هو الاعتكاف العام المطلق وثم اعتكاف آخر مقيد يعتكف فيه العبد مع اسم ما إلهي يتجلى له ذلك الاسم بسلطانه فيدعوه إلى الإقامة معه‏

[الأمر الإلهي دورى فلا يتناهى في الأشياء]

واعتبار مكان الاعتكاف في المعاني هو المكانة وما ثم اسم إلهي إلا وهو

بين اسمين إلهيين فإن الأمر الإلهي دوري ولهذا لا يتناهى أمر الله في الأشياء فإن الدائرة لا أول لها ولا آخر إلا بحكم الفرض ولهذا خرج العالم مستديرا على صورة الأمر الذي هو عليه في نفسه حتى في الأشكال فأول شكل قبل الجسم الكل الشكل المستدير وهو الفلك ولما كانت الأشياء الكائنة من الله عند حركات هذه الأفلاك بما قدره العزيز العليم أعطت الحكمة أن تكون على صورته في الشكل أو ما يقاربها فما من حيوان ولا شجرة ولا ورقة ولا حجر ولا جسم إلا وفيه ميل إلى الاستدارة ولا بد منها لكنها تدق في أشياء وتظهر بينة في أشياء واجعل بالك في كل ما خلق الله تعالى من جبل وشجر وجسم تر فيه انعطافا إلى الاستدارة ولذلك كان الشكل الكري أفضل الأشكال‏

[الدخول في الاعتكاف وقت ظهور علامة التجلي الأعظم‏]

ولما كان التجلي الأعظم العام يشبه طلوع الشمس ومع التجلي الشمس يكون الاعتكاف العام قيل للمعتكف بترجمان اسم ما إلهي ادخل في اعتكافك في وقت ظهور علامة التجلي الأعظم وهو طلوع الفجر وبعد صلاة الصبح ليقرب عليك الفتح ولا يقيدك هذا الاسم الإلهي الذي أقمت معه أو تريد الإقامة معه عن التجلي الأعظم الذي هو بمنزلة طلوع الشمس فتجمع في اعتكافك بين التقييد والإطلاق فإنه لو دخل المعتكف أول الليل بعدت عليه المسافة الزمانية وطال المدى فربما نسي ما هو الأمر عليه فإن الإنسان مجبول على النسيان‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته‏

وهذا الحديث بشرى من النبي صلى الله عليه وسلم للناس كافة فإن آدم رحمه الله فرحمت ذريته كانوا حيثما كانوا جعل لهم رحمة تخصهم بأي دار أنزلهم الله تعالى فإن الأمر إضافي وإن الأصول تحكم على الفروع‏

[النفوس الإنسانية متولدة عن الأجسام العنصرية]

وهذا يدلك على إن هذه النفوس الإنسانية نتيجة عن هذه الأجسام العنصرية ومتولدة عنها فإنها ما ظهرت إلا بعد تسوية هذه الأجسام واعتدال أخلاطها فهي للنفوس المنفوخة فيها من الروح المضاف إليه تعالى كالأماكن التي تطرح الشمس شعاعاتها عليها فتختلف آثارها باختلاف القوابل أين ضوء نور الشمس في الأجسام الكثيفة منه في الأجسام الصقيلة فلهذا تفاضلت النفوس لتفاضل الأمزجة فترى نفسا سريعة القبول للفضائل والعلوم ونفسا أخرى في الضد منها وبينهما متوسطات فهكذا هو الأمر إن فهمت قال تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ يعني جسم الإنسان ونَفَخْتُ فِيهِ من رُوحِي ولهذا قلنا إن النسيان في الإنسان أمر طبيعي يقتضيه المزاج كما إن التذكر أمر طبيعي أيضا في هذا المزاج الخاص وكذلك جميع القوي التي تنسب إلى الإنسان أ لا تراه يقل فعل هذه القوي في أشخاص ويكثر في أشخاص‏

[وقت دخول المعتكف مكان اعتكافه‏]

فنبه الشارع بدخول المعتكف مكان اعتكافه بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس‏

(وصل في فصل إقامة المعتكف مع الله ما هي)

[لا يقام مع الله إلا بالقلب‏]

اعلم أن الإقامة مع الله إنما هو أمر معنوي لا أمر حسي فلا يقام مع الله إلا بالقلب كما لا يتوجه في الصلاة إلى الله إلا بالقلب وكما تتوجه بوجهك إلى المسماة قبلة وهي الكعبة كذلك يقام بالحس مع أفعال البر وقد يكون من أفعال البر ملاحظة النفس ليؤدي إليها حقها المشروع لها فإن لنفسك عليك حقا وقد يؤثر نفسه على غيرها بإيصال الخير إليها وهو الذي شرعه الله لنا وما لنا طريق إلى الله إلا ما شرعه ولهذا يكلف الإنسان نفسه بعض مصالحها ليعود خير ذلك إليها كخروج المعتكف إلى حاجة الإنسان وإقباله على ما كان من نسائه وأهله ليصلح بعض شأنه في حال إقامته واعتكافه‏

[الحكم للأغلب‏]

ذكر مسلم عن عائشة أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فارجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان‏

وقال النسائي عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني وهو معتكف في المسجد فيتكئ على باب حجرتي فاغسل رأسه وأنا في حجرتي وسائره في المسجد

وفي هذا دليل لمن يقول بالحكم للأغلب فإنه ما أخرجه كون رأسه في غير المسجد عن الاعتكاف لأن الأكثر منه في المسجد فراعى حكم الأكثر في الجرمية

(وصل في فصل ما يكون عليه المعتكف في نهاره)

ذكر أبو أحمد من حديث عبد الله بن بديل بن ورقاء المكي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن عمر أنه نذر أن يعتكف في المسجد الحرام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف وصم‏

(اعتباره)

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد الإقامة مع الله أن يقيم معه بصفة هي لله وهي الصوم ليكون مع الله بالله لله فلا يرى منه شي‏ء

إلا الله وهذه حالة أهل الله‏

قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أولياء الله قال الذين إذا رأوا ذكر الله‏

أي لتحققهم بالله يغيبون به عنهم وعن عيون الخلق فإذا رآهم الناس لم يروا غير الله فتذكرهم بالله رؤيتهم مثل الآيات المذكرات وهذا هو المقام الذي‏

سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه واجعلني نورا

فأجاب الله تعالى دعاءه فأخبرنا أنه بعثه إلى الناس بَشِيراً ونَذِيراً وداعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسِراجاً مُنِيراً فجعله نورا كما سأل فإن‏

قوله لربه واجعلني نورا

فأكون بذاتي عين الاسم الإلهي النور ومن كان الحق سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله ولا ينطق عن الهوى فما هو هو وما بقي لمن يراه ما يرى إلا الله عرف ذلك الرائي أو لم يعرفه هكذا يشاهدونه أهل العلم بالله‏

[الخلفاء يظهرون في العالم بصورة من استخلفهم‏]

من المؤمنين الخلفاء يظهر في العالم والسوقة بصفات من استخلفها قالت بلقيس في عرشها كَأَنَّهُ هُوَ وما كان إلا هو ولكن حجبها بعد المسافة وحكم العادة وجهلها بقدر سليمان عليه السلام عند ربه فهذا حجبها أن تقول هو هو فقالت كَأَنَّهُ هُوَ وأي مسافة أبعد من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ممن مثله أشياء قال الكامل صلى الله عليه وسلم إنما أنا بشر مثلكم عن أمر الله قيل له قل فقال قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وبهذا علمنا أنه عن أمر الله لأنه نقل الأمر لنا كما نقل المأمور وكان هذا القول دواء للمرض الذي قام بمن عبد عيسى عليه السلام من أمته فقالوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وفاتهم علم كثير حيث قالوا ابن مريم وما شعروا ولهذا قال الله تعالى في إقامة الحجة على من هذه صفته قُلْ سَمُّوهُمْ فما يسمونهم إلا بما يعرفون به من الأسماء حتى يعقل عنهم ما يريدون فإذا سموهم تبين في نفس الاسم أنه ليس الذي طلب منهم الرسول المبعوث إليهم أن يعبدوه‏

[من هو عين الأكوان والأعيان‏]

وإنما قلنا هو هو لما يعطيه الكشف الصحيح في الخصوص والايمان الصريح في العموم كما

ورد به الخبر النبوي الإلهي من أن الله إذا أحب عبده كان سمعه وبصره‏

وذكر قواه وجوارحه والإنسان ليس غير هذه الأمور المذكورة الذي جعل الحق هويته عينها فإن كنت مؤمنا عرفت بمن أنت وإن كنت صاحب شهود صحيح عرفت من شاهدت وأكثر من هذا البيان النبوي عن الله ما يكون في قوة الإنسان حتى يكون المؤمن صاحب حال عيان فيعرف عند ذلك من هو عين هذه الأكوان والأعيان‏

(وصل في فصل زيارة المعتكف في معتكفه المقيم مع الله من حيث اسم ما تطلبه أسماء أخر إلهية في أعيان أكوان ليظهر سلطانها فيها منازعة للاسم الذي هو مقيم معه)

ذكر البخاري عن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في معتكفه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب أم سلمة

الحديث‏

[كل حركة للإنسان عن ورود اسم إلهى عليه‏]

فهذا اسم إلهي حرك صفية لتزوره حتى يأخذ بوساطتها النبي صلى الله عليه وسلم من الإقامة مع الاسم الإلهي الذي أجاءها فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الاسم زمان حديثه معها ثم أخرجه من موضع جلوسه حين شيعها وهو نوع سفر لا بل هو سفر بر الرجل بأمر أنه تعظيما لحرمتها وقصدها فإن السفر انتقال ولم ينتقل إلا بحكم ذلك الاسم عليه من مكانه فإن المعتكف إذا انتقل إلى حاجة الإنسان من وضوء وما لا بد منه فإن ذلك كله من حكم الاسم الذي أقام معه في مدة اعتكافه وما من حركة يتحركها الإنسان في اعتكافه وغير اعتكافه إلا عن ورود اسم إلهي عليه هذا مفروغ منه عندنا في الحقائق الإلهية وأسماء الله لا تحصى كثرة وما من شأن المعتكف تشييع الزائر فما تحرك لذلك إلا لحكم الاسم الإلهي الذي حرك الزائر إليه فالعين لا تعرف إلا أنها زائرة لقضاء غرضها من نظر أو حديث والعارف يشهد الأسماء الإلهية ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله فالاسم الإلهي الذي حرك صفية من وراء حجاب صفية ومعه كان يتأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم وله قام وشيع وكان مطلب ذلك الاسم إظهار سلطانه فيه وقد ظهر وقد بينا ذلك في مجاراة الأسماء الإلهية في أول هذا الكتاب وفي عنقاء مغرب‏

(وصل في فصل اعتكاف المستحاضة في المسجد)

[الحكمة تعطى وضع الشي‏ء في موضعه‏]

كذب النفس لعلة مشروعة ليس بحيض ولذلك تصلي المستحاضة ولا تصلي الحائض‏

ورد عن عائشة على ما ذكره البخاري أنه اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مستحاضة من أزواجه‏

الحديث فمن وضع الأشياء



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!