الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة منازلة هل عرفت أوليائى الذين أدّبتهم بآدابى | |
|
لأن العبد ما دام في الحياة الدنيا لا يأمن التبديل ف إِنَّ الله يَفْعَلُ ما يُرِيدُ وما يدري العبد على الحقيقة مما كان عليه من الحال في حال عدمه إذ كان مشهودا لله لا لنفسه إلا ما مضى وما يقع فهو في علم الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله لعلمه بالله وما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا فلله رجال بهذه المثابة جعلنا الله منهم فما أعظم بشارتها من آية ولا بلغ إلينا تعيين أحد من أهل هذه الصفة إلا طلحة بن عبيد الله من العشرة صح فيه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه قال هذا ممن قَضى نَحْبَهُ وهو في الحياة الدنيا فآمن من التبديل وهذا عظيم ويدخل في هذا المقام وإن لم يبلغ فيه مبلغ من له العهد الخالص بالأصالة من عهد الله على القيام بدينه عند توبته فوفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ الله قال لي السيد سليمان الدنبلي إن له خمسين سنة ما خطر له خاطر سوء فمثل هذا يلحق بهؤلاء إذا مات عليه ومن أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ الله وكل من جدد عهدا مع الله فهو من المخلصين ما هو ممن له الدين الخالص فصاحب الدين الخالص مهما تجدد له من الله حكم بشرع لم يكن يعرفه قبل ذلك وقد كلفه الحق به في كتابه أو على لسان رسوله فإن هذا العبد يتلقاه بالدين الخالص والعهد الأول ولا يضره جهله بالمسألة المعينة الخالصة هذا لا يقدح في صاحب هذا المقام كأبي بكر الصديق الذي ما رأى شيئا إلا رأى الله قبله بالدين الخالص والعهد الإلهي الذي كان عليه وفي شهوده ولهذا لما واجهه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بالإيمان برسالته بادر وما تلكأ ولا طلب دليلا على ذلك منه بل صدقه بذلك العهد الخالص فإنه رأى رسالته هناك كما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم نبوته قبل وجود آدم كما روى عنه كنت نبيا وآدم بين الماء والطين أي لم يكن موجودا وإنما عرف بذلك لقوله وإِذْ أَخَذْنا من النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وكان هذا الميثاق قبل وجود جسد آدم فلما وجد آدم وقبض الحق على ظهره واستخرج منه كأمثال الذر يعني بنيه أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ كما جاء في القرآن فشهدوا فهذا هو الميثاق الثاني والميثاق الأول هو ما أخذه على الأنبياء فلما ولدوا فَمِنْهُمْ من قَضى نَحْبَهُ ومنهم من خذله الله فأشرك جعلنا الله ممن قضى نحبه ولم يبدل آمين بعزته والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب الخامس والأربعون وأربعمائة في معرفة منازلة هل عرفت أوليائي الذين أدبتهم بآدابي»أنبياء الله ما أدبهم *** غيره فاعتصموا بالأدب فهم السادة لا يخذلهم *** هكذا عينهم في الكتب فالذي يمشي على آثارهم *** هو معدود بذا في النجب فإذا كان كذا ثم كذا *** لم يزل لذاك خلف الحجب أسعد الناس بهم تابعهم *** فتراه مثلهم في النصب لزموا المحراب حتى ورمت *** منهم أقدامهم في قرب [المحب ذليل والمحبوب ذو دلال]قال الله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ومن أحب الله ذل ومن أحبه الله دل فالمحب ذليل والمحبوب ذو دلال ودلال وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله أدبني فأحسن أدبي [الشرائع آداب الله لعباده]واعلم أنه لتعريف الله بمنازل الخلق عنده من ولي وغيره طريقين الطريق الواحدة الكشف فيرى منازل الخلق عند الله فيعامل كل طائفة بمنزلها من الله والطريق الأخرى ملازمة الأدب الإلهي والأدب الإلهي هو ما شرعه لعباده في رسله وعلى ألسنتهم فالشرائع آداب الله التي نصبها لعباده فمن وفى بحق شرعه فقد تأدب بأدب الحق وعرف أولياء الحق فإذا رأيت من جمع الخير بيديه وملأهما به فتعلم أنه قد أخذ بأدب الله فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول لربه وهو الصادق العالم بربه والخير كله بيديك فالخير إذا أردت أن تعرفه فاعلم أنه جماع مكارم الأخلاق وهي معروفة عرفا وشرعا وكل ما تراه من إقامة الحدود على من لو لم يأمرك الحق بذلك لكنت تعفو عنه فذلك لا يقدح في مكارم الأخلاق مع هذا الشخص فإنك ما فعلت به ما فعلت لنفسك وإنما الله فعل بعبده ما شاء على يدك وكلاكما عبد لسيد واحد وإنما كلامنا فيما يرجع إليك لا لأمر سيدك فإنه من مكارم الأخلاق في العبيد امتثال أوامر سيدهم في عباده والوقوف عند حدوده ومراسمه فيهم لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ من حَادَّ الله ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ فكونهم حادوا الله ورسوله هو الذي عاد عليهم فهم جنوا على أنفسهم ما جنى عليهم صاحب مكارم الأخلاق فمن تعرض لأمر فقد أحب أن يتعرض إليه فيه فما فعلت معه في عدم ودك فيه إلا ما أحب ولا تكون مكارم الأخلاق إلا أن تفعل مع الشخص ما يحبه منك فإنه قد بغضك أولا لإيمانك بالله واليوم الآخر وأتخذك عدوا فمن مكارم خلقك معه أن تتلطف به في إيمانه فإن لم ينفع فلتقابله بالقهر فإن لم يفعل ولج فقدرت على قتله فاقتله بمكارم خلق منك حتى لا يبقى في الحياة الدنيا فيزيد كفرا وطغيانا فيزيده الله عذابا كما فعل من شهد الله له بأنه رحيم وهو خضر اقتلع رأس الغلام وقال إنه طبع كافرا فلو عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا وانتظم الغلام في سلك الكفار فقتله الخضر رحمة به وبابويه أما الصبي حيث أخرجه من الدنيا على الفطرة فسعد الغلام والله أعلم وسعد أبواه وهذا من أعظم مكارم الأخلاق كان بعض الصالحين يسأل الله الغزاة فلا يسهل الله له أسبابها ويحول بينه وبين الجهاد في سبيل الله وكان من الأولياء الأكابر عند الله ممن له حديث مع الله فبقي حائرا في تأخره وتعذر الأسباب عليه مع ما قد حصل في نفسه من حب الجهاد لما فيه من مرضاة الله ولما للشهداء عند الله فلما علم الله أنه قد ضاق صدره لذلك أعلمه الله بالطريقة التي كان يأخذ العلم عن الله بها فقال له لا يضيق صدرك من أجل تعذر أسباب الجهاد عليك فإني قضيت عليك لو غزوت لأسرت ولو أسرت لتنصرت ومت نصرانيا وإن لم تغز بقيت سالما في بيتك ومت عبدا صالحا على الإسلام فشكر الله على ذلك وعلم إن الله تعالى قد اختار له ما هو الأسعد في حقه فسكن خاطره وعلم إن الله قد اختار له ما له فيه الخيرة عنده أيضا من آداب الله الذي ينبغي للعبد أن يتأدب بها مع الله فإذا رأيت من سلم واستسلم وقامت به آداب الحق وقام بها في نفسه وفي عباده وتأدب مع الصفة لا مع الأشخاص ويتخيل صاحب الصفة أنه تأدب معه وما عنده خبر بحال هذا الأديب فإنه ينظر العالم بعين الحق وعين الحق تنظر إليهم بما أعطاها علم الله بهم وعلم الله بهم ما هم عليه من الأحوال فإن الذوات التي تقوم بها الأحوال لا يحكم عليهم من حيث ذواتهم سعادة ولا شقاء وإنما ذلك بما يقوم بالذوات من الصفات فالصفات لا تتصف بالشقاء لذاتها ولا بالسعادة والذوات الحاملة للصفات لا تتصف أيضا لنفسها وعينها بسعادة ولا شقاء فإذا قامت الصفات بالذوات وظهرت أحكامها فيها اتصفت الذوات بحسب ما حصل من الامتزاج الذي لم يكن ولا لواحد منهما على الانفراد فقيل عند ذلك في الشخص سعيد أو شقي فانظر ما أعجب حديث السعادة والشقاء حيث لم يظهر واحد منهما إلا بحسب الامتزاج كما لم يظهر سواد المداد إلا بامتزاج العفص والزاج كما لم يظهر بياض الشقة إلا بين الشقة والقصارة فالخوف كله من التركيب والآفات كلها إنما تطرأ على الشخص من كونه مركبا والخروج عن التركيب يعقل وليس بواقع في العالم أصلا المركب ولهذا قال أبو يزيد إنه لا صفة له فإنه أقيم في معقولية بساطته فلم ير تركيبا فقال لا صفة لي فصدق ولكنه غير واقع في الوجود الحسي العيني فما ثم إلا مركب يقبل السعادة أو بالشقاء بحسب ما تقتضيه مزجته فقد فرغ ربك وما كان فراغه عن مانع شغل وإنما أراد بذلك التنزيه أي أن الأمور لا تقع إلا على ما هي عليه في نفسها ومن عصمه الله من الزلل الذي يقتضيه هذا المشهد فقد اعتنى الله به الاعتناء الأعظم ومن هنا زلت الاقدام كما جاء في الشريعة نظيره لما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من سبق الكتاب على العبد بالسعادة أو بالشقاء فقالت الصحابة يا رسول الله ففيم العمل فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم اعملوا فكل ميسر لما يسر له وقد بين الحق بإرساله عليهم أسباب الخير وطرقه وأسباب الشقاء والشر وطرقه وجعل السلوك في طرق الخير بشرى فانظرها في نفسك فإن وجدت الأمر عندك إذا كنت في الخير مثلا واجدا باطنك وظاهرك فيه على السواء غير مرتاب فتلك البشرى فافرح بها في السعادة فإن الله ما يبدلك وإن رأيت الخير في ظاهرك وتجد في باطنك نكتة من شك أو اضطراب فيما أنت فيه من عبادة ويقع لك خاطر يقدح في أصلها بما يخالف ظاهر الفعل [إن الله لم يعطك إيمانا ولا نور قلبك بنوره]فاعلم إن الله لم يعطك إيمانا ولا نور قلبك بنوره فابك على نفسك أو أضحك فما لك في الآخرة من خلاق هذا ميزانك في نفسك وأنت أعرف بنفسك وما يخطر لك فيها ولهذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في الصحيح إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس فإنه يبدو لله منه هذا الخاطر الذي يقدح في |


