الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى معرفة منزل اختلاط العالم الكلى من الحضرة المحمدية |
الصورة الأولى الإلهية ويترك الوسائط وينزل من تلك الصورة على جميع الصور من أعلى إلى أسفل وفي كل صورة ما ينظر إليها إلا من حيث ذلك الوجه الخاص بها بوجهه الخاص به إلى أن ينتهي على جميع الصور فيعرف من ذلك الأمر الإلهي جميع ما في العالم من العقل الأول إلى الأرض من الأسرار الإلهية حين يعلم الكاهن أو العراف وأمثال هؤلاء ما يكون في العالم العنصري خاصة من الحوادث ثم إن العارف يكسو ذلك الأمر الإلهي من حلل الأدب والحضور الإلهي في أخذه منه والنور والبهاء ما إذا صعد به الأمر الإلهي على معراجه تتعجب منه ملائكة السموات العلى فيباهي الله به ملائكته ويقول هذا عبد جعل في الحضيض وفي أسفل سافلين بالنسبة إليكم فما أثر فيه منزله ولا حكم عليه موطنه ولا حجبته عني كثرة حجبه وخرق الكل ونظر إلي وأخذ عني فكيف به لو كان مثلكم بلا حجب ظلمانية كثيفة عنصرية فيقول السامعون المخاطبون سبحانك ذلك فضلك تختص به من تشاء من عبادك منة منك ورحمة وأنت ذو الفضل العظيم فلا يضاهي هذا العبد أحد من خلق الله إلا العقل الأول والملائكة المقربون المهيمون وما ثم قلب بهذه المثابة من هذا العالم إلا قلوب الأفراد من رجال الله كالخضر وأمثاله وهم على قدم محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فهذا قد ذكرنا يسيرا من صورة تنزل الملائكة على قلب المحمدي الواقف ويتضمن هذا المنزل من العلوم علم الأرواح العلوية والأرواح البرزخية وعلم ما يفتح الله به على الصادق في طلب العلم النافع وعلم التمييز والترجيح وعلم الإلقاء واللقاء والكتابة وعلم القرآن وعلم ما يكون وعلم الغيب وعلم المقادير وعلم رد الأشياء إلى أصولها وعلم الذهاب وعلم الآخرة وعلم إلحاق الثاني بالأول وعلم نشء العالم وعلم الاستقرار في المكان والمكانة وعلم الحياة وعلم طول العالم وعرضه وعمقه ومن أين اكتسبه وعلم حوادث الجو وما سببها وهي الآثار العلوية وعلم مواطن الصمت والكلام وعلم الجمع والتفرقة وهو من علم النسب وعلم دقائق المكر وعلم التقوى أي الذي تنتجه التقوى في قوله واتَّقُوا الله ويُعَلِّمُكُمُ الله وأين منه قوله إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وعلم الإحسان أي ما ينتجه الإحسان وعلم الإمهال من اسمه الحليم وعلم الحقائق وعلم الخشوع وعلم منزلة كلام الله من كلام المخلوقين والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فإنه أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً وأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب الثامن وثلاثمائة في معرفة منزل اختلاط العالم الكلي من الحضرة المحمدية»عجبي من قائل كن لعدم *** والذي قيل له لم يك ثم نم إن كان فلم قيل له *** لتكن والكون ما لا ينقسم فلقد أبطل كن قدرة من *** دل بالعقل عليها وحكم كيف للعقل دليل والذي *** قد بناه العقل بالكشف هدم فنجاة النفس في الشرع فلا *** تك إنسانا رأى ثم حرم واعتصم بالشرع في الكشف فقد *** فاز بالخير عبيد قد عصم أهمل الفكر ولا تحفل به *** واتركنه مثل لحم في وضم إن للفكر مقاما فاعتضد *** به فيه تك شخصا قد رحم كل علم يشهد الشرع له *** هو علم فبه فلتعتصم وإذا خالفه العقل فقل *** طورك ألزم ما لكم فيه قدم إن لله علوما جمة *** نالها من لم يقل ما ثم لم جهل التكييف فيها وانتفى *** عن حماها رفعة سلطان كم مثل ما قد جهل اللوح الذي *** خط فيه الحق من علم القلم [أن الناس اختلفوا في مسمى الإنسان]اعلم أن الناس اختلفوا في مسمى الإنسان ما هو فقالت طائفة هو اللطيفة وطائفة قالت هو الجسم وطائفة قالت هو المجموع وهو الأولى وقد وردت لفظة الإنسان على ما ذهبت إليه كل طائفة ثم اختلفنا في شرفه هل هو ذاتي له أو هو بمرتبة نالها بعد ظهوره في عينه وتسويته كاملا في إنسانية إما بالعلم وإما بالخلافة والإمامة فمن قال إنه شريف لذاته نظر إلى خلق الله إياه بيديه ولم يجمع ذلك لغيره من المخلوقين وقال إنه خلقه على صورته فهذا حجة من قال شرفه شرف ذاتي ومن خالف هذا القول قال لو أنه شريف لذاته لكنا إذا رأينا ذاته علمنا شرفه والأمر ليس كذلك ولم يكن يتميز الإنسان الكبير الشريف بما يكون عليه من العلم والخلق على غيره من الأناسي ويجمعهما الحد الذاتي فدل إن شرف الإنسان بأمر عارض يسمى المنزلة أو المرتبة فالمنزلة هي الشريفة والشخص الموصوف بها نال الشرف بحكم التبعية كمرتبة الرسالة والنبوة والخلافة والسلطنة والله يقول أ ولم ير (أَ ولا يَذْكُرُ) الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ من قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئاً وقال هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ من الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أي قد أتى على الإنسان وقد قالت الملائكة فيه من حيث ذاته ما قالت وصدقت فما علم شرفه إلا بما أعطاه الله من العلم والخلافة فليس لمخلوق شرف من ذاته على غيره إلا بتشريف الله إياه وأرفع المنازل عند الله أن يحفظ الله على عبده مشاهدة عبوديته دائما سواء خلع عليه من الخلع الربانية شيئا أو لم يخلع فهذه أشرف منزلة تعطي لعبد وهو قوله تعالى واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي وقوله سبحانه سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ فقرن معه تنزيهه قال بعض المحبين في هذا المقام لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي فليس لصنعة شرف أعلى من إضافتها إلى صانعها ولهذا لم يكن لمخلوق شرف إلا بالوجه الخاص الذي له من الحق لا من جهة سببه المخلوق مثله وفي هذا الشرف يستوي أول موجود وهو القلم أو العقل أو ما سميته وأدنى الموجودات مرتبة فإن النسبة واحدة في الإيجاد والحقيقة واحدة في الجميع من الإمكان فأخر صورة ظهر فيها الإنسان الصورة الآدمية وليس وراءها صورة أنزل منها وبها يكون في النار من شقي لأنها نشأة وتركيب تقبل الآلام والعلل وأما أهل السعادة فينشئون نشأة وتركيبا لا يقبل ألما ولا مرضا ولا خبثا ولهذا لا يهرم أهل الجنة ولا يتمخطون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يسقمون ولا يجوعون ولا يعطشون وأهل النار على النقيض منهم وهي نشأة الدنيا وتركيبها فهي أدنى صورة قبلها الإنسان وقد أتت عليه أزمنة ودهور قبل إن يظهر في هذه الصورة الآدمية وهو في الصورة التي له في كل مقام وحضرة من فلك وسماء وغير ذلك مما تمر عليه الأزمان والدهور ولم يكن قط في صورة من تلك الصور مذكورا بهذه الصورة الآدمية العنصرية ولهذا ما ابتلاه قط في صورة من صوره في جميع العالم إلا في هذه الصورة الآدمية ولا عصى الإنسان قط خالقه إلا فيها ولا ادعى رتبة خالقه إلا فيها ولا مات إلا فيها ولهذا يقبل الموت أهل الكبائر في النار ثم يخرجون فيغمسون في نهر الحياة فيتركبون تركيبا لا يقبل الألم ولا الأسقام فيدخلون بتلك الصورة الجنة [أن الصراط هو صراط الهدى]واعلم أن الصراط الذي إذا سلكت عليه وثبت الله عليه أقدامك حتى أوصلك إلى الجنة هو صراط الهدى الذي أنشأته لنفسك في دار الدنيا من الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة فهو في هذه الدار بحكم المعنى لا يشاهد له صورة حسية فيمد لك يوم القيامة جسرا محسوسا على متن جهنم أوله في الموقف وآخره على باب الجنة تعرف عند ما تشاهده أنه صنعتك وبناؤك وتعلم أنه قد كان في الدنيا ممدودا جسرا على متن جهنم طبيعتك في طولك وعرضك وعمقك وثلاث شعب إذ كان جسمك ظل حقيقتك وهو ظل غير ظليل لا يغنيها من اللهب بل هو الذي يقودها إلى لهب الجهالة ويضرم فيها نارها فالإنسان الكامل يعجل بقيامته في الموطن الذي تنفعه قيامته فيه وتقبل فيه توبته وهو موطن الدنيا فإن قيامة الدار الأخرى لا ينفع فيها عمل لأنه لم يكلف فيها بعمل فإنه موطن جزاء لما سلف في الدار الدنيا وهو قوله تعالى ثُمَّ هَدى أي بين ما يقتضيه المواطن ليكون الإنسان المخاطب في كل موطن بما قرن به من العمل بالذي يرضيه وهو ممزوج بما ينافيه مثل خلق الأجسام الطبيعية سواء فإن الحرارة تنافر البرودة وإن الرطوبة تنافر اليبوسة وأراد الحق أن يجمع الكل على ما هم عليه من التضاد في جسم واحد فضم الحرارة إلى اليبوسة فخلق منهما المرة الصفراء ثم زوج بين الحرارة والرطوبة فكان لهذا المزاج الدم وجعله مجاورا لهما جعل الرطوبة التي في الدم مما يلي اليبوسة التي في الصفراء بحكم المجاورة حتى تقاومها في الفعل فلا تترك كل واحدة منهما يظهر سلطانها في المزاج الإنساني الحيواني فلو جعل الحرارة الدموية تليها فلا بد إن كان يليها من الصفراء إما الحرارة أو اليبوسة فإن وليتها اليبوسة وهي المنفعلة عن الحرارة فكان اليبس يتقوى سلطانه في الجسم فيؤدي إلى دخول المرض عليه فيحول المرض بينه وبين ما كلفه رب الجسم أن يشتغل به من العلوم واقتنائها والأعمال الموصلة إلى السعادة وكذلك لو جاورتها حرارة الصفراء لزادت في كمية الصفراء فيعتل فلهذا كانت الرطوبة مما يلي الصفراء ثم إنه تعالى زوج بين البرودة والرطوبة فكان من هذا الاختلاط البلغم فجعل الرطوبة البلغمية مما يلي الحرارة الدموية ولو لم يكن كذلك لكان كما ذكرناه أولا من دخول العلة والسقم للزيادة في الكمية في ذلك الخلط ثم زوج بين البرودة واليبوسة فكان من ذلك المزج المرة السوداء فجعل اليبوسة من السوداء مما يلي الرطوبة من البلغم ولم يجعل البرودة من السوداء تليها لئلا تزيد في كمية رطوبة البلغم فإن الرطوبة منفعلة عن البرودة فإذا حصلت بين برودة البلغم وبرودة السوداء تضاعفت وزادت كمية البلغم فدخلت العلة والمرض على الجسم فإنها قابلة للانفعال فانظر لحكمة الله في هذه النشأة وهذا لبقاء الصحة على هذا الجسم الذي هو مركب هذه اللطيفة ليوصلها إلى ما دعاها إليه ربها عز وجل فهذا المركب الجسمي يستولي عليه الروح الإلهي فإذا تغشاه حمل فينتج أعمالا إما صالحة وهي المخلقة وإما فاسدة وهي غير المخلقة وظهرت هذه الأعمال في صور مراكب فإن كانت صالحة صعدت به إلى عليين قال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أي الأرواح الطيبة فإنها كلمات الله مطهرة قال تعالى وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وقال والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ كذلك إذا كان العمل فاسدا يهوى به إلى أسفل سافلين قال تعالى ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي هوى به مركبه وقد كان في أحسن تقويم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإن عمله يصعد به إلى عليين فيكون له أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وهو الأجر المكتسب ولا يكون الأجر إلا مكتسبا فإن أعطى ما هو خارج عن الكسب لا يقال فيه أجر بل هو نور وهبات ولهذا قال في حق قوم لَهُمْ أَجْرُهُمْ ونُورُهُمْ فأجرهم ما اكتسبوه ونورهم ما وهبهم الحق تعالى من ذلك حتى لا ينفرد الأجر من غير أن يختلط به الوهب حتى يشغل ذلك الوهب العبد عن معاينة سلطان الاستحقاق الذي يعطيه الأجر إذ كان معاوضة عن عمل متقدم مضاف إلى العبد فلا أجر إلا ويخالطه نور لما ذكرناه فإن النشأة على هذا الأصل قامت وذلك أن الجسم الطبيعي لما تركب وظهر بروحه الحساس لو ترك مستقلا لأهلكته الدعوى ولكن جعل الله له روحا ربانيا من نفس الرحمن الذي هو الروح الإلهي فظهرت لطيفة الإنسان نورا فوكلت بالجسم الحيواني فلهذا قرن الأنوار بالأجور حتى تكون المنة الإلهية تصحب هذا العبد حيث كان والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ولهذا قلنا إن هذا منزل الاختلاط وإن كان يتضمن علوما جمة منها علم حروف المعاني لا حروف الهجاء وهل إذا دخل بعضها على بعض هل ينقلها عن مقام الحرفية إلى مقام الاسمية إذ الحرف لا يعمل في مثله وبما ذا يعمل حرف في حرف وليس كل حرف واحد بأقوى من صاحبه مثل دخول من على حرف عن فقد كان حرف عن يعطي معنى التجاوز فصيره حرف من يدل على الجهة والناحية كما يدل الاسم قال الشاعر من عن يمين الحبيا نظرة قبل فالعامل في يمين عن بلا شك ولكن هل عمل فيه عمل الحرفية لبقاء صورته أو عمل فيه عمل الإضافة وهو عمل الأسماء فيكون عمله من طريق المعنى الذي كساه من بدخوله عليه ويكون عن معمولا لمن أو يبقى على أصله فنقول بجواز دخول الحروف بعضها على بعض ونترك عمل الواحد منهما ونجعله زائدا كما نعمله في ما إذا جعلناها زائدة في قوله إذا ما راية رفعت لمجد فما هنا زائدة لأن الكلام يستقل دونها فتقول إذا راية فلا عمل هنا لها وكذلك حرف إن في قول امرئ القيس فما إن من حديث ولا صال فإن هنا زائدة لا عمل لها فيكون ذلك كذلك ولا مانع إذ لو حذفنا عن من قوله من عن يمين لم يختل المعنى ولا يخرج الحرف عن بابه إلى باب الاسمية من غير ضرورة وإذا أبدل الحرف من الحرف هل يعطي معنى ما أبدل منه أو هل يعطي خلافه ومما يتضمن هذا المنزل علم المراكب والركبان وعلم الزمان وعلم شرف الكلام وعلم شرف الذكر على الفكر وكون الحق وصف نفسه بالذكر وما وصف نفسه بالفكر مع أنه أثبت لنفسه التدبير وهو الفكر أو يقوم مقام اللازم له ويتضمن علم الخلق والصفات وعلم البيان وعلم الأحوال وعلم الاستعداد |