الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة الطبقة الأولى والثانية من الأقطاب الركبان | |
|
وبما ذا يسمى ذلك السبب فمن قائل هو الطبيعة ومن قائل هو الدهر ومن قائل غير ذلك فاتفق الكل في إثباته ووجوب وجوده وهل هذا الخلاف يضرهم مع هذا الاستناد أم لا هذا كله من علوم أهل هذا المقام انتهى الجزء السابع عشر (الباب الثلاثون في معرفة الطبقة الأولى والثانية من الأقطاب الركبان)(بسم الله الرحمن الرحيم) إن لله عبادا ركبوا *** نجب الأعمال في الليل البهيم وترقت همم الذل بهم *** لعزيز جل من فرد عليم فاجتباهم وتجلى لهمو *** وتلقاهم بكأسات النديم من يكن ذا رفعة في ذلة *** إنه يعرف مقدار العظيم رتبة الحادث إن حققتها *** إنما يظهر فيها بالقديم إن لله علوما جمة *** في رسول ونبي وقسيم لطفت ذاتا فما يدركها *** عالم الأنفاس أنفاس النسيم [الأفراد هم الركبان]اعلم أيدك الله أن أصحاب النجب في العرف هم الركبان قال الشاعر فليت لي بهمو قوما إذا ركبوا *** شنوا الإغارة فرسانا وركبانا الفرسان ركاب الخيل والركبان ركاب الإبل فالأفراس في المعروف تركبها جميع الطوائف من عجم وعرب والهجن لا يستعملها إلا العرب والعرب أرباب الفصاحة والحماسة والكرم ولما كانت هذه الصفات غالبة على هذه الطائفة سميناهم بالركبان فمنهم من يركب نجب الهمم ومنهم من يركب نجب الأعمال فلذلك جعلناهم طبقتين أولى وثانية وهؤلاء أصحاب الركبان هم الأفراد في هذه الطريقة فإنهم رضي الله عنهم على طبقات فمنهم الأقطاب ومنهم الأئمة ومنهم الأوتاد ومنهم الأبدال ومنهم النقباء ومنهم النجباء ومنهم الرجبيون ومنهم الأفراد وما منهم طائفة إلا وقد رأيت منهم وعاشرتهم ببلاد المغرب وببلاد الحجاز والشرق فهذا الباب مختص بالإفراد وهي طائفة خارجة عن حكم القطب وحدها ليس للقطب فيهم تصرف ولهم من الأعداد من الثلاثة إلى ما فوقها من الأفراد ليس لهم ولا لغيرهم فيما دون الفرد الأول الذي هو الثلاثة قدم فإن الأحدية وهو الواحد لذات الحق والاثنان للمرتبة وهو توحيد الألوهية والثلاثة أول وجود الكون عن الله فالأفراد في الملائكة الملائكة المهيمون في جمال الله وجلاله الخارجون عن الأملاك المسخرة والمدبرة اللذين هما في عالم التدوين والتسطير وهم من القلم والعقل إلى ما دون ذلك والأفراد من الإنس مثل المهيمة من الأملاك فأول الأفراد الثلاثة وقد قال صلى الله عليه وسلم الثلاثة ركب فأول الركب الثلاثة إلى ما فوق ذلك [ما للأفراد من الحضرات والأسماء والمواد]ولهم من الحضرات الإلهية الحضرة الفردانية وفيها يتميزون ومن الأسماء الإلهية الفرد والمواد الواردة على قلوبهم من المقام الذي ترد منه على الأملاك المهيمة ولهذا يجهل مقامهم وما يأتون به مثل ما أنكر موسى عليه السلام على خضر مع شهادة الله فيه لموسى عليه السلام وتعريفه بمنزلته وتزكية الله إياه وأخذه العهد عليه إذ أراد صحبته ولما علم الخضر أن موسى عليه السلام ليس له ذوق في المقام الذي هو الخضر عليه كما إن الخضر ليس له ذوق فيما هو موسى عليه من العلم الذي علمه الله إلا أن مقام الخضر لا يعطي الاعتراض على أحد من خلق الله لمشاهدة خاصة هو عليها ومقام موسى والرسل يعطي الاعتراض من حيث هم رسل لا غير في كل ما يرونه خارجا عما أرسلوا به ودليل ما ذهبنا إليه في هذا قول الخضر لموسى عليه السلام وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً فلو كان الخضر نبيا لما قال له ما لَمْ تُحِطْ به خُبْراً فالذي فعله لم يكن من مقام النبوة وقال له في انفراد كل واحد منهما بمقامه الذي هو عليه قال الخضر لموسى عليه السلام يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا وافترقا وتميزا بالإنكار [الأفراد لهم الأولية في الأمور]فالإنكار ليس من شأن الأفراد فإن لهم الأولية في الأمور فهم ينكر عليهم ولا ينكرون قال الجنيد لا يبلغ أحد درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق وذلك لأنهم يعلمون من الله ما لا يعلمه غيرهم [الأفراد هم أصحاب العلم الباطن]وهم أصحاب العلم الذي كان يقول فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين يضرب بيده إلى صدره ويتنهد إن هاهنا لعلوما جمة لو وجدت لها حملة فإنه كان من الأفراد ولم يسمع هذا من غيره في زمانه إلا أبي هريرة ذكر مثل هذا خرج البخاري في صحيحة عنه أنه قال حملت عن النبي صلى الله عليه وسلم جوابين أما الواحد فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم البلعوم مجرى الطعام فأبو هريرة ذكر أنه حمله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيه ناقلا عن غير ذوق ولكنه علم لكونه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن إنما نتكلم فيمن أعطى عين الفهم في كلام الله تعالى في نفسه وذلك علم الأفراد وكان من الأفراد عبد الله بن العباس البحر كان يلقب به لاتساع علمه فكان يقول في قوله عز وجل الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومن الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لو ذكرت تفسيره لرجمتموني وفي رواية لقلتم إني كافر وإلى هذا العلم كان يشير على ابن الحسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين عليهم الصلاة والسلام بقوله فلا أدري هل هما من قيله أو تمثل بهما يا رب جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي *** يرون أقبح ما يأتونه حسنا فنبه بقوله يعبد الوثنا على مقصوده ينظر إليه تأويل قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته بإعادة الضمير على الله تعالى وهو من بعض محتملاته [مشكلة العلم الباطن]بالله يا أخي أنصفي فيما أقوله لك لا شك أنك قد أجمعت معي على أنه كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار في كل ما وصف به فيها ربه تعالى من الفرح والضحك والتعجب والتبشبش والغضب والتردد والكراهة والمحبة والشوق إن ذلك وأمثاله يجب الايمان به والتصديق فلو هبت نفحات من هذه الحضرة الإلهية كشفا وتجليا وتعريفا إلهيا على قلوب الأولياء بحيث أن يعلموا بإعلام الله وشاهدوا بإشهاد الله من هذه الأمور المعبر عنها بهذه الألفاظ على لسان الرسول وقد وقع الايمان مني ومنك بهذا كله إذا أتى بمثله هذا الولي في حق الله تعالى أ لست تزندقه كما قال الجنيد أ لست تقول إن هذا مشبه هذا عابد وثن كيف وصف الحق بما وصف به المخلوق ما فعلت عبدة الأوثان أكثر من هذا كما قال علي بن الحسين أ لست كنت تقتله أو تفتي بقتله كما قال ابن عباس فبأي شيء آمنت وسلمت لما سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق الله من الأمور التي تحيلها الأدلة العقلية ومنعت من تأويلها والأشعري تأولها على وجوه من التنزيه في زعمه فأين الإنصاف فهلا قلت القدرة واسعة أن تعطي لهذا الولي ما أعطت للنبي من علوم الأسرار فإن ذلك ليس من خصائص النبوة ولا حجر الشارع على أمته هذا الباب ولا تكلم فيه بشيء بل قال إن يكن في أمتي محدثون فعمر منهم فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن ثم من يحدث ممن ليس بنبي وقد يحدث بمثل هذا فإنه خارج عن تشريع الأحكام من الحلال والحرام فإن ذلك أعني التشريع من خصائص النبوة وليس الاطلاع على غوامض العلوم الإلهية من خصائص نبوة التشريع بل هي سارية في عباد الله من رسول وولي وتابع ومتبوع يا ولي فأين الإنصاف منك أ ليس هذا موجودا في الفقهاء وأصحاب الأفكار الذين هم فراعنة الأولياء ودجاجة عباد الله الصالحين والله يقول لمن عمل منا بما شرع الله له إن الله يعلمه ويتولى تعليمه بعلوم أنتجتها أعماله قال تعالى واتَّقُوا الله ويُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقال إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [عمر بن الخطاب وابن حنبل]ومن أقطاب هذا المقام عمر بن الخطاب وأحمد بن حنبل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في عمر بن الخطاب يذكر ما أعطاه الله من القوة يا عمر ما لقيك الشيطان في فج إلا سلك فجا غير فجك! فدل على عصمته بشهادة المعصوم وقد علمنا إن الشيطان ما يسلك قط بنا إلا إلى الباطل وهو غير فج عمر بن الخطاب فما كان عمر يسلك إلا فجاج الحق بالنص فكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم في جميع مسالكه وللحق صولة ولما كان الحق صعب المرام قويا حمله على النفوس لا تحمله ولا تقبله بل تمجه وترده لهذا قال صلى الله عليه وسلم ما ترك الحق لعمر من صديق وصدق صلى الله عليه وسلم يعني في الظاهر والباطن أما في الظاهر فلعدم الإنصاف وحب الرئاسة وخروج الإنسان عن عبوديته واشتغاله بما لا يعنيه وعدم تفرغه لما دعي إليه من شغله بنفسه وعيبه عن عيوب الناس وأما في الباطن فما ترك الحق لعمر في قلبه من صديق فما كان له تعلق إلا بالله [مأساة العلم الباطن]ثم الطامة الكبرى أنك إذا قلت لواحد من هذه الطائفة المنكرة اشتغل بنفسك يقول لك إنما أقوم حماية لدين الله وغيرة له والغيرة لله من الايمان وأمثال هذا ولا يسكن ولا ينظر هل ذلك من قبيل الإمكان أم لا أعني أن يكون الله قد عرف وليا من أوليائه بما يجريه في خلقه كالخضر ويعلمه علوما من لدنه تكون العبارة عنها بهذه الصيغ التي ينطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الخضر وما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي وآمن هذا المنكر بها على زعمه إذ جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فو الله لو كان مؤمنا بها ما أنكرها على هذا الولي لأن الشارع ما أنكر إطلاقها في جناب الحق من استواء ونزول ومعية وضحك وفرح وتبشبش وتعجب وأمثال ذلك وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم قط أنه حجرها على أحد من عباد الله بل أخبر عن الله أنه يقول لنا لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ففتح لنا وندبنا إلى التأسي به صلى الله عليه وسلم وقال فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وهذا من اتباعه والتأسي به فمن التأسي به إذا ورد علينا من الحق سبحانه وارد حق فعلمنا من لدنه علما فيه رحمة حبانا الله بها وعناية حيث كنا في ذلك على بينة من ربنا ويتلوها شاهد منا وهو اتباعنا سنته وما شرع لنا لم نخل بشيء منها ولا ارتكبنا مخالفة بتحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل فنطلب لذلك المعلوم الذي علمناه من جانب الحق أمثال هذه العبارات النبوية لنفصح بها عن ذلك ولا سيما إذا سألنا عن شيء من ذلك لأن الله أخبر عمن هذه صفته أنه يدعو إلى الله على بصيرة فمن التأسي المأمور به برسول الله صلى الله عليه وسلم أن نطلق على تلك المعاني هذه الألفاظ النبوية إذ لو كان في العبارة عنها ما هو أفصح منها لا طلقها صلى الله عليه وسلم فإنه المأمور بتبيين ما أنزل به علينا ولا نعدل إلى غيرها لما نريده من البيان مع التحقق ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فإنا إذا عدلنا إلى عبارة غيرها ادعينا بذلك أنا أعلم بحق الله وأنزه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أسوأ ما يكون من الأدب ثم إن المعنى لا بد أن يختل عند السامع إذ كان ذلك اللفظ الذي خالفت به لفظ من كان أفصح الناس وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن لا يدل على ذلك المعنى بحكم المطابقة فشرع لنا التأسي وغاب هذا المنكر المكفر من أتى بمثل هذا عن النظر في هذا كله وذلك لأمرين أو لأحدهما إن كان عالما فلحسد قام به قال تعالى حَسَداً من عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وإن كان جاهلا فهو بالنبوة أجهل [أقطاب الأفراد واختصاصاتهم]يا ولي لقينا من أقطاب هذا المقام بجبل أبي قبيس بمكة في يوم واحد ما يزيد على السبعين رجلا وليس لهذه الطبقة تلميذ في طريقهم أصلا ولا يسلكون أحدا بطريق التربية لكن لهم الوصية والنصيحة ونشر العلم فمن وفق أخذ به ويقال إن أبا السعود بن الشبل كان منهم وما لقيته ولا رأيته ولكن شممت له رائحة طيبة ونفسا عطريا وبلغني أن عبد القادر الجيلي وكان عدلا قطب وقته شهد لمحمد بن قائد الأواني بهذا المقام كذا نقل إلي والعهدة على الناقل فإن ابن قائد زعم أنه ما رأى هناك أمامه سوى قدم نبيه وهذا لا يكون إلا لأفراد الوقت فإن لم يكن من الأفراد فلا بد أن يرى قدم قطب وقته أمامه زائدا على قدم نبيه إن كان إماما وإن كان وتدا فيرى أمامه ثلاثة أقدام وإن كان بدلا يرى أربعة قدام وهكذا إلا أنه لا بد أن يكون في حضرة الاتباع مقاما فإذا لم يقم في حضرات الاتباع وعدل به عن يمين الطريق بين المخدع وبين الطريق فإنه لا يبصر قدما أمامه وذلك هو طريق الوجه الخاص الذي من الحق إلى كل موجود ومن ذلك الوجه الخاص تنكشف للأولياء هذه العلوم التي تنكر عليهم ويزندقون بها ويزندقهم بها ويكفرهم من يؤمن بها إذا جاءته عن الرسل وهي العلوم عينها وهي التي ذكرناها آنفا ولأصحاب هذا المقام التصريف والتصرف في العالم فالطبقة الأولى من هؤلاء تركت التصرف لله في خلقه مع التمكن وتولية الحق لهم إياه تمكنا لا أمرا لكن عرضا فلبسوا الستر ودخلوا في سرادقات الغيب واستتر وبحجب العوائد ولزموا العبودة والافتقار وهم الفتيان الظرفاء الملامتية الأخفياء الأبرياء وكان أبو السعود منهم كان رحمه الله ممن امتثل أمر الله في قوله تعالى فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا فالوكيل له التصرف فلو أمر امتثل الأمر هذا من شأنهم وأما عبد القادر فالظاهر من حاله إنه كان مأمورا بالتصرف فلهذا ظهر عليه هذا هو الظن بأمثاله وأما محمد الأواني فكان يذكر إن الله أعطاه التصرف فقبله فكان يتصرف ولم يكن مأمورا فابتلي فنقصه من المعرفة القدر الذي علا أبو السعود به عليه فنطق أبو السعود بلسان الطبقة الأولى من طائفة الركبان وسميناهم أقطابا لثبوتهم ولأن هذا المقام أعني مقام العبودة يدور عليهم لم أرد بقطبيتهم أن لهم جماعة تحت أمرهم يكونون رؤساء عليهم وأقطابا لهم هم أجل من ذلك وأعلى فلا رياسة أصلا لهم في نفوسهم لتحققهم بعبوديتهم |


