الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
الباب: | فى سبب نقص العلوم وزيادتها وقوله تعالى (وقل رب زدنى علما) وقوله --ص-- إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبضه بقبض العلماء |
فطلب ما هو فأداه النظر إلى أن يستكشف عن الأسماء الإلهية هل لها أعيان أو هل هي نسب حتى يرى رجوع الآثار هل ترجع إلى أمر وجودي أو عدمي فلما نظر رأى أنه ليس الأسماء أعيانا موجودة وإنما هي نسب فرأى مستند الآثار إلى أمر عدمي فقال المتهجد قصارى الأمر أن يكون رجوعي إلى أمر عدمي فأمعن النظر في ذلك ورأى نفسه مولدا من قيام ونوم ورأى النوم رجوع النفس إلى ذاتها وما تطلبه ورأى القيام حق الله عليه فلما كانت ذاته مركبة من هذين الأمرين نظر إلى الحق من حيث ذات الحق فلاح له إن الحق إذا انفرد بذاته لذاته لم يكن العالم وإذا توجه إلى العالم ظهر عين العالم لذلك التوجه فرأى إن العالم كله موجود عن ذلك التوجه المختلف النسب ورأى المتهجد ذاته مركبة من نظر الحق لنفسه دون العالم وهو حالة النوم للنائم ومن نظره إلى العالم وهو حالة القيام لأداء حق الحق عليه فعلم إن سبب وجود عينه أشرف الأسباب حيث استند من وجه إلى الذات معراة عن نسب الأسماء التي تطلب العالم إليه فتحقق إن وجوده أعظم الوجود وأن علمه أسنى العلوم وحصل له مطلوبه وهو كان غرضه وكان سبب ذلك انكساره وفقره فقال في قضاء وطره من ذلك متمثلا رب ليل بتة ما أتى *** فجره حتى انقضى وطري من مقام كنت أعشقه *** بحديث طيب الخبر وقال في الأسماء لم أجد للاسم مدلولا *** غير من قد كان مفعولا ثم أعطتنا حقيقته *** كونه للعقل معقولا فتلفظنا به أدبا *** واعتقدنا الأمر مجهولا وكان قدر علمه في العلوم قدر معلومه وهو الذات في المعلومات فيتعلق بعلم التهجد علم جميع الأسماء كلها وأحقها به الاسم القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم وهو العبد في حال مناجاته فيعلم الأسماء على التفصيل أي كل اسم جاء علم ما يحوي عليه من الأسرار الوجودية وغير الوجودية على حسب ما تعطيه حقيقة ذلك الاسم ومما يتعلق بهذه الحالة من العلوم علم البرزخ وعلم التجلي الإلهي في الصور وعلم سوق الجنة وعلم تعبير الرؤيا لا نفس الرؤيا من جهة من يراها وإنما هي من جانب من ترى له فقد يكون الرائي هو الذي رآها لنفسه وقد يراها له غيره والعابر لها هو الذي له جزء من أجزاء النبوة حيث علم ما أريد بتلك الصورة ومن هو صاحب ذلك المقام [المتهجد: حظه من المقام المحمود]واعلم أن المقام المحمود الذي للمتهجد يكون لصاحبه دعاء معين وهو قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يأمره به وقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ يعني لهذا المقام فإنه موقف خاص بمحمد يحمد الله فيه بمحامد لا يعرفها إلا إذا دخل ذلك المقام وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أي إذا انتقل عنه إلى غيره من المقامات والمواقف أن تكون العناية به معه في خروجه منه كما كانت معه في دخوله إليه واجْعَلْ لِي من لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً من أجل المنازعين فيه فإن المقام الشريف لا يزال صاحبه محسودا ولما كانت النفوس لا تصل إليه رجعت تطلب وجها من وجوه القدح فيه تعظيما لحالهم التي هم عليها حتى لا ينسب النقص إليهم عن هذا المقام الشريف فطلب صاحب هذا المقام النصرة بالحجة التي هي السلطان على الجاحدين شرف هذه المرتبة وقُلْ جاءَ الْحَقُّ وزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ... والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ «الباب التاسع عشر» في سبب نقص العلوم وزيادتهاوقوله تعالى وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وقوله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبضه بقبض العلماء تجلى وجود الحق في فلك النفس *** دليل على ما في العلوم من النقص وإن غاب عن ذاك التجلي بنفسه *** فهل مدرك إياه بالبحث والفحص وإن ظهرت للعلم في النفس كثرة *** فقد ثبت الستر المحقق بالنص ولم يبد من شمس الوجود ونورها *** على عالم الأرواح شيء سوى القرص وليست تنال العين في غير مظهر *** ولو هلك الإنسان من شدة الحرص ولا ريب في قولي الذي قد بثثته *** وما هو بالزور المموه والخرص [العلم: مراتبه وأطواره]اعلم أيدك الله أن كل حيوان وكل موصوف بإدراك فإنه في كل نفس في علم جديد من حيث ذلك الإدراك لكن الشخص المدرك قد لا يكون ممن يجعل باله أن ذلك علم فهذا هو في نفس الأمر علم فاتصاف العلوم بالنقص في حق العالم هو أن الإدراك قد حيل بينه وبين أشياء كثيرة مما كان يدركها لو لم يقم به هذا المانع كمن طرأ عليه العمي أو الصمم أو غير ذلك ولما كانت العلوم تعلو وتتضع بحسب المعلوم لذلك تعلقت الهمم بالعلوم الشريفة العالية التي إذا اتصف بها الإنسان زكت نفسه وعظمت مرتبته فأعلاها مرتبة العلم بالله وأعلى الطرق إلى العلم بالله علم التجليات ودونها علم النظر وليس دون النظر علم إلهي وإنما هي عقائد في عموم الخلق لا علوم وهذه العلوم هي التي أمر الله نبيه عليه السلام بطلب الزيادة منها قال تعالى ولا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ من قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي زدني من كلامك ما نزيد به علما بك فإنه قد زاد هنا من العلم العلم بشرف التأني عند الوحي أدبا مع المعلم الذي أتاه به من قبل ربه ولهذا أردف هذه الآية بقوله وعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أي ذلت فأراد علوم التجلي والتجلي أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم وهي علوم الأذواق [العلم: ازدياده وزيادته]واعلم أن للزيادة والنقص بابا آخر نذكره أيضا إن شاء الله وذلك أن الله جعل لكل شيء ونفس الإنسان من جملته الأشياء ظاهرا وباطنا فهي تدرك بالظاهر أمورا تسمى عينا وتدرك بالباطن أمورا تسمى علما والحق سبحانه هو الظاهر والباطن فبه وقع الإدراك فإنه ليس في قدرة كل ما سوى الله أن يدرك شيئا بنفسه وإنما أدركه بما جعل الله فيه وتجلى الحق لكل من تجلى له من أي عالم كان من عالم الغيب أو الشهادة إنما هو من الاسم الظاهر وأما الاسم الباطن فمن حقيقة هذه النسبة أنه لا يقع فيها تجل أبدا لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ كان التجلي عبارة عن ظهوره لمن تجلى له في ذلك المجلى وهو الاسم الظاهر فإن معقولية النسب لا تتبدل وإن لم يكن لها وجود عيني لكن لها الوجود العقلي فهي معقولة فإذا تجلى الحق إما منة أو إجابة لسؤال فيه فتجلى لظاهر النفس وقع الإدراك بالحس في الصورة في برزخ التمثل فوقعت الزيادة عند المتجلي له في علوم الأحكام إن كان من علماء الشريعة وفي علوم موازين المعاني إن كان منطقيا وفي علوم ميزان الكلام إن كان نحويا وكذلك صاحب كل علم من علوم الأكوان وغير الأكوان تقع له الزيادة في نفسه من علمه الذي هو بصدده فأهل هذه الطريقة يعلمون أن هذه الزيادة إنما كانت من ذلك التجلي الإلهي لهؤلاء الأصناف فإنهم لا يقدرون على إنكار ما كشف لهم وغير العارفين يحسون بالزيادة وينسبون ذلك إلى أفكارهم وغير هذين يجدون من الزيادة ولا يعلمون أنهم استزادوا شيئا فهم في المثل كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ الله وهي هذه الزيادة وأصلها والعجب من الذين نسبوا ذلك إلى أفكارهم وما علم إن فكره ونظره وبحثه في مسألة من المسائل هو من زيادة العلوم في نفسه من ذلك التجلي الذي ذكرناه فالناظر مشغول بمتعلق نظره وبغاية مطلبه فيحجب عن علم الحال فهو في مزيد علم وهو لا يشعر وإذا وقع التجلي أيضا بالاسم الظاهر لباطن النفس وقع الإدراك بالبصيرة في عالم الحقائق والمعاني المجردة عن المواد وهي المعبر عنها بالنصوص إذ النص ما لا إشكال فيه ولا احتمال بوجه من الوجوه وليس ذلك إلا في المعاني فيكون صاحب المعاني مستريحا من تعب الفكر فتقع الزيادة له عند التجلي في العلوم الإلهية وعلوم الأسرار وعلوم الباطن وما يتعلق بالآخرة وهذا مخصوص بأهل طريقنا فهذا سبب الزيادة [العلم: نقصانه]وأما سبب نقصها فامران إما سوء في المزاج في أصل النشء أو فساد عارض في القوة الموصلة إلى ذلك وهذا لا ينجبر كما قال الخضر في الغلام إنه طبع كافرا فهذا في أصل النشء وأما الأمر العارض فقد يزول إن كان في القوة بالطب وإن كان في النفس فشغله حب الرئاسة واتباع الشهوات عن اقتناء العلوم التي فيها شرفه وسعادته فهذا أيضا قد يزول بداعي الحق من قلبه فيرجع إلى الفكر الصحيح فيعلم إن الدنيا منزل من منازل المسافر وأنها جسر يعبر وأن الإنسان إذا لم تتحل نفسه هنا بالعلوم ومكارم الأخلاق وصفات الملإ الأعلى من الطهارة والتنزه عن |