الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة مقام احترام الشيوخ | |
|
شوق بتحصيل الوصال يزول *** والاشتياق مع الوصال يكون إن التخيل للفراق يديمه *** عند اللقاء فربه مغبون من قال هون صعبة قلنا له *** ما كل صعب في الوجود يهون هو من صفات العشق لا من غيره *** والعشق داء في القلوب دفين ما حكم هذا النعت إلا هاهنا *** وهناك يذهب عينه ويبين يقول بعض العشاق فأبكى إن نأوا شوقا إليهم *** وأبكي إن دنوا خوف الفراق [الاشتياق حركة يجدها المحب عند اجتماعه بمحبوبه فرحا به]الشوق يسكن باللقاء فإنه هبوب القلب إلى غائب فإذا ورد سكن والاشتياق حركة يجدها المحب عند اجتماعه بمحبوبه فرحا به لا يقدر يبلغ غاية وجده فيه فلو بلغ سكن لأنه لا يشبع منه فإن الحس لا يفي بما يقوم في النفس من تعلقها بالمحبوب فهو كشارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا قال عليه السلام منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا من حيث ما هو محب في تحصيل كل واحد منهما وما للعلم غاية ينتهي إليها فلهذا لا يشبع وكذلك الدنيا فإنها مشتهي النفوس والشهوة تطلبها وقد تجلى ذلك المشتهي في صورة قريبة تسمى دنيا فتعلقت الشهوة بها ثم تنتقل إلى الآخرة في الجنة فتتبعها الشهوة فلا تشبع أبدا لأنها صورة لا يتناهى أمدها ولو لا الشهوة ما طابت الجنة فالشوق ما سكن والاشتياق ما بقي ولنا في هذا الباب ليس يصفو عيش من ذاق الهوى *** دون أن يلقى الذي يعشقه فإذا أبصره يكمه *** ذلك المعنى الذي يقلقه وهو معنى حكمه مختلف *** عند من يعرف ما أطلقه [متعلق الشوق ليس بحاضر إنما متعلقة غائب غير مشهود له في الحال]ولما كان الحب لا يتعلق إلا بمعدوم كما قدمناه في باب المحبة كذلك الشوق لا يصح أن يتعلق بحاضر وإنما متعلقة غائب غير مشهود له في الحال ولذا كان الشوق من أوصاف المحبة ولهذا يطرد وينعكس فيقال كل محب مشتاق وكل مشتاق محب ومن ليس بمشتاق فليس بمحب ومن ليس بمحب فليس بمشتاق وقد ورد خبر لا علم لي بصحته إن الله تعالى ذكر المشتاقين إليه وقال عن نفسه إنه أشد شوقا إليهم كما يليق بجلاله فشوقه إليهم أن ينيلهم الراحة بلقاء من اشتاقوا إليه والوقت المقدر الذي لا يتبدل لم يصل فلا بد من تأخر وجود ما وقع الشوق الإلهي إليه هذا إن صح الخبر ولا علم لي به لا من الكشف ولا من رواية صحيحة إلا أنه مذكور مشهور وقد اتصفت الجنة بالاشتياق إلى علي وسلمان وعمار وبلال وتكلم الناس في ذلك من حيث اشتقاق أسماء هؤلاء من العلو والسلامة والعمران والاستبلال ولكن ما هو محقق فإن الشوق أمر ذوقي ولو خطر لي هذا الخبر حين رأيت الجنة لسألتها عن شوقها لهؤلاء دون غيرهم فإنها أعرف بالسبب الذي أداها إلى الشوق لهؤلاء الأربعة وكذلك النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قد رأيته مرارا وسألته عن أشياء وما خطر لي أن أسأله عن شوق الجنة لهؤلاء بل شغلني ما كان أهم علي منه والشوق علم ذوق يعرفه كل مشتاق من نفسه (الباب الأحد والثمانون ومائة في معرفة مقام احترام الشيوخ)ما حرمة الشيخ إلا حرمة الله *** فقم بها أدبا لله بالله هم الأدلاء والقربى تؤيدهم *** على الدلالة تأييدا على الله الوارثون هم للرسل أجمعهم *** فما حديثهم إلا عن الله كالأنبياء تراهم في محاربهم *** لا يسألون من الله سوى الله فإن بدا منهم حال تولهم *** عن الشريعة فاتركهم مع الله لا تتبعهم ولا تسلك لهم أثرا *** فإنهم طلقاء الله في الله لا تقتدي بالذي زالت شريعته *** عنه ولو جاء بالإنباء عن الله ولما رأينا في هذا الزمان جهل المريدين بمراتب شيوخهم قلنا في ذلك جهلت مقادير الشيوخ *** أهل المشاهد والرسوخ واستنزلت ألفاظهم *** جهلا وكان لها الشموخ [العلماء بالله بمنزلة الطبيب من العالم]الشيوخ نواب الحق في العالم كالرسل عليه السلام في زمانهم بل هم الورثة الذين ورثوا علم الشرائع عن الأنبياء عليه السلام غير أنهم لا يشرعون فلهم رضي الله عنهم حفظ الشريعة في العموم ما لهم التشريع ولهم حفظ القلوب ومراعاة الآداب في الخصوص هم من العلماء بالله بمنزلة الطبيب من العالم بعلم الطبيعة فالطبيب لا يعرف الطبيعة إلا بما هي مدبرة للبدن الإنساني خاصة والعالم بعلم الطبيعة يعرفها مطلقا وإن لم يكن طبيبا وقد يجمع الشيخ بين الأمرين ولكن حظ الشيخوخة من العلم بالله أن يعرف من الناس موارد حركاتهم ومصادرها والعلم بالخواطر مذمومها ومحمودها وموضع اللبس الداخل فيها من ظهور الخاطر المذموم في صورة المحمود ويعرف الأنفاس والنظرة ويعرف ما لهما وما يحويان عليه من الخير الذي يرضى الله ومن الشر الذي يسخط الله ويعرف العلل والأدوية ويعرف الأزمنة والسن والأمكنة والأغذية وما يصلح المزاج وما يفسده والفرق بين الكشف الحقيقي والكشف الخيالي ويعلم التجلي الإلهي ويعلم التربية وانتقال المريد من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة ويعلم متى يترك التحكم في طبيعة المريد ويتحكم في عقله ومتى يصدق المريد خواطره ويعلم ما للنفس من الأحكام وما للشيطان من الأحكام وما تحت قدرة الشيطان ويعلم الحجب التي تعصم الإنسان من إلقاء الشياطين في قلبه ويعلم ما تكنه نفس المريد مما لا يشعر به المريد ويفرق للمريد إذا فتح عليه في باطنه بين الفتح الروحاني وبين الفتح الإلهي ويعلم بالشم أهل الطريق الذين يصلحون له من الذين لا يصلحون ويعلم التحلية التي يحلي بها نفوس المريدين الذين هم عرائس الحق وهم له كالماشطة للعروس تزينها فهم أدباء الله عالمون بآداب الحضرة وما تستحقه من الحرمة [إن الشيخ عبارة عمن جمع جميع ما يحتاج إليه المريد السالك في حال تربيته وسلوكه]والجامع لمقام الشيخوخة إن الشيخ عبارة عمن جمع جميع ما يحتاج إليه المريد السالك في حال تربيته وسلوكه وكشفه إلى أن ينتهي إلى الأهلية للشيخوخة وجميع ما يحتاج إليه المريد إذا مرض خاطره وقلبه بشبهة وقعت له لا يعرف صحتها من سقمها كما وقع لسهل في سجود القلب وكما وقع لشيخنا حين قيل له أنت عيسى بن مريم فيداويه الشيخ بما ينبغي وكذلك إذا ابتلي من يخرج ليسمع من الحق من خارج لا من نفسه بمحرم يؤمر بفعله أو ينهى عن واجب فيكون الشيخ عارفا بتخليصه من ذلك حتى لا يجري عليه لسان ذنب مع صحة المقام الذي هو فيه فهم أطباء دين الله فمهما نقصهم شيء مما يحتاجون إليه في التربية فلا يحل له أن يقعد على منصة الشيخوخة فإنه يفسد أكثر مما يصلح ويفتن كالمتطبب يعل الصحيح ويقتل المريض فإذا انتهى إلى هذا الحد فهو شيخ في طريق الله يجب على كل مريد حرمته والقيام بخدمته والوقوف عند مراسمه لا يكتم عنه شيئا مما يعلم أن الله يعلمه منه يخدمه ما دامت له حرمة عنده فإن سقطت حرمته من قلبه فلا يقعد عنده ساعة واحدة فإنه لا ينتفع به ويتضرر فإن الصحبة إنما تقع المنفعة فيها بالحرمة فمتى ما رجعت الحرمة له في قلبه حينئذ يخدمه وينتفع به فإن الشيوخ على حالين شيوخ عارفون بالكتاب والسنة قائلون بها في ظواهرهم متحققون بها في سرائرهم يراعون حدود الله ويوفون بعهد الله قائمون بمراسم الشريعة لا يتأولون في الورع آخذون بالاحتياط مجانبون لأهل التخليط مشفقون على الأمة لا يمقتون أحدا من العصاة يحبون ما أحب الله ويبغضون ما أبغض الله ببغض الله لا تأخذهم في الله لومة لائم يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المجمع عليه يُسارِعُونَ في الْخَيْراتِ ويعفون عن الناس يوقرون الكبير ويرحمون الصغير ويميطون الأذى عن طريق الله وطريق الناس يدعون في الخير بالأوجب فالأوجب يؤدون الحقوق إلى أهلها يبرون إخوانهم بل الناس أجمعهم لا يقتصرون بالجود على معارفهم جودهم مطلق الكبير لهم أب والمثل لهم أخ وكفؤ والصغير لهم ابن وجميع الخلق لهم عائلة يتفقدون حوائجهم إن أطاعوا رأوا الحق موفقهم في طاعتهم إياه وإن عصوا سارعوا بالتوبة والحياء من الله ولاموا نفوسهم على ما صدر منهم ولا يهربون في معاصيهم إلى القضاء والقدر فإنه سوء أدب مع الله هينون لينون ذوو مقة رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً في نظرهم رحمة لعباد الله كأنهم يبكون الهم عليهم أغلب من الفرح لما يعطيه موطن |


