المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة العلق: [الآية 19]
سورة العلق | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
جاء الأمر بالسجود هنا بعد كلمة ردع وزجر ، وهو قوله «كَلَّا» «لا تُطِعْهُ»
لما جاء به من لا يؤمن باللّه واليوم الآخر ، يقول له ربه :وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ»
[ «كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» الآية: ]
لما تعتصم مما دعاك إليه فتأمن من غائلة ذلك ، وقد جعل اللّه القربة في الصلاة في حال السجود ، وليس الإنسان بمعصوم من الشيطان في شيء من صلاته إلا في السجود ، فإنه إذا سجد اعتزل عنه الشيطان يبكي على نفسه ، ويقول :أمر ابن آدم بالسجود فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ؛ وإنما أمرت الملائكة والخلق بالسجود وجعل معه القربة ، وقال صلّى اللّه عليه وسلّم [ أقرب ما يكون العبد من اللّه في سجوده ]
ليعلموا أن الحق في نسبة الفوق إليه من قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ)
و (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) كنسبة التحت إليه ، فإن السجود طلب السفل بوجهه ، كما أن القيام يطلب الفوق إذا رفع وجهه بالدعاء ويديه ، وقد جعل اللّه السجود حالة القرب من اللّه ، فلم يقيده سبحانه الفوق عن التحت ولا التحت عن الفوق ، فإنه خالق الفوق والتحت ، فشرع اللّه للعبد السجود ، وجعل له فيه القربة ، لأنه ربما يتخيل العبد تنزيه الحق عن التحت أن يكون له نسبة إليه ، فطلبت الوجوه بالسجود رؤية ربها ، لأن الوجوه مكان الأعين ، والأعين محل الأبصار ، فطلبه العبد في سجوده ليراه من حيث
حقيقته ، فإن التحت للعبد لأنه سفل ، ونبّه الشرع على ذلك بحديث الهبوط ، وهو أنا روينا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : [ لو دليتم بحبل لهبط على اللّه ]
فنسبة التحت والفوق إليه سبحانه على السواء ، لا تحده الجهات ولا تحصره ، وكل أحد إنما يطلب ربه من حقيقته ، ومن حيث هو ، فنسبة العلو والسفل من اللّه واحدة ، فالعلو للّه عرفا وعلما ، والمعية علما وشرعا لا عرفا ، ولما كان السجود في العرف بعدا عما يجب للّه من العلو ، أراد اللّه أن يرى حكمه في الغاية وليس إلا السجود ، فمن سجد اقترب من اللّه ضرورة ، فيشهده الساجد في علوه ،
ولهذا شرع للعبد أن يقول في سجوده [ سبحان ربي الأعلى ] ينزهه عن تلك الصفة ، ولما كان السجود حال القربة وصفة المقربين
قال له : «اسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» يعني اقتراب كرامة وبر وتحف ، كما يقول الملك للرجل إذا دخل عليه فحياه بالسجود له بين يديه ،
فيقول له الملك : أدنه أدنه ، حتى ينتهي منه حيث يريد من القربة ، فهذا معنى قوله «وَاقْتَرِبْ» في حال السجود ، إعلاما بأنه قد شاهد من سجد له ، وأنه بين يديه ، وهو يقول له : اقترب ؛ ليضاعف له القربة ،
كما قال [ من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا ] فإذا كان اقتراب العبد عن أمر إلهي كان أعظم وأتم في بره وإكرامه ، لأنه ممتثل أمر سيده على الكشف والشهود ،
ودلّت هذه الآية على أن أول شيء يمنحك السجود هو القربة ، ثم بعد ذلك تعطى من مقام القربة ما يليق بالمقربين من الملائكة والنبيين ،
وليس في العبادات ما يلحق العبد بمقامات المقربين - وهو أعلى مقام أولياء اللّه من ملك ورسول ونبي وولي ومؤمن - إلا الصلاة ، فإن اللّه في هذه الحالة يباهي به المقربين من ملائكته ،
وذلك أنه يقول لهم : يا ملائكتي أنا قربتكم ابتداء وجعلتكم من خواصّ ملائكتي ، وهذا عبدي جعلت بينه وبين مقام القربة حجبا كثيرة وموانع عظيمة ، من أغراض نفسية وشهوات حسية ، وتدبير أهل ومال وولد وخدم وأصحاب وأهوال عظام ،
فقطع كل ذلك وجاهد حتى سجد واقترب فكان من المقربين ، فانظروا ما خصصتكم به يا ملائكتي من شرف المقام حيث ما ابتليتكم بهذه الموانع ولا كلفتكم مشاقها ،
فاعرفوا قدر هذا العبد وراعوا له حق ما قاساه في طريقه من أجلي ، فتقول الملائكة : يا ربنا لو كنا ممن يتنعم بالجنان وتكون محلا لإقامتنا ألست كنت تعيّن لنا فيها منازل تقتضيها أعمالنا ؟
ربنا نحن نسألك أن تهبها لهذا العبد ، فيعطيه اللّه ما سألته فيه الملائكة ، فانظروا ما أشرف الصلاة ، وأفضل ما فيها ذكر اللّه من الأقوال ،
والسجود من الأفعال ، وفيه العصمة من الشيطان ، فإنه لا يفارق المصلي في شيء من أفعال الصلاة إلا في السجود خاصة ، لأنه خطيئته ، وعند السجود يبكي ويتأسف ثم يعود إلى الإغواء عند الرفع من السجود ، ومن جهة أخرى ، لما كان الإنسان مظهرا للأسماء الإلهية ، وكونه على الصورة أعطاه ذلك الرفعة ، ولاتصافه بالرفعة أمر بالسجود ليمنحه التقريب ، فهذه السجدة سجدة طلب القرب من اللّه
[ إشارة : الحق قبلة القلب ]
-إشارة - اعلمأن اللّه تعالى لما خلق العالم جعل له ظاهرا وباطنا ، وجعل منه غيبا وشهادة ، وكله للّه شهادة وظاهر ، فجعل القلب من عالم الغيب وجعل الوجه من عالم الشهادة ، وعيّن للوجه جهة يسجد لها سماها بيته وقبلته ،
أي يستقبلها بوجهه إذا صلى ، وجعل استقبالها عبادة ، وجعل أفضل أفعال الصلاة السجود وأفضل أقوالها ذكر اللّه بالقرآن ، وعيّن للقلب نفسه سبحانه ، فلا يقصد غيره ، وأمره أن يسجد له ، فإن سجد عن كشف لم يرفع رأسه أبدا من سجدته دنيا وآخرة ،
ومن سجد من غير كشف رفع رأسه ، ورفعه المعبر عنه بالغفلة عن اللّه ونسيان اللّه في الأشياء ، فمن لم يرفع رأسه في سجود قلبه فهو الذي لا يزال يشهد الحق دائما في كل شيء ، فلا يرى شيئا إلا ويرى اللّه قبل ذلك الشيء ، وهذه حالة أبي بكر الصديق .
[ شاهد السجدتين ]
-إشارة - شاهد السجدتين، أنت كل من حيث حقك وحقيقتك ، وأنت جزء من حيث أحدهما ، فله عليك سجدتان ، لكونك على حقيقتين ، فاسجد له من حيث كلك سجود العالم كله ، فتجدك قد استوفيت حقائق سجودهم في سجدتك ، وإن لم تجد ذلك فما سجدت ، واسجد له أيضا السجدة الثانية التي لا تعم ، وهو سجود الاختصاص ، بما تختص به خاصيتك التي لا مشاركة فيها ، ولا يقبل السجود الخاص إلا في الصلاة ، وهو سجود القلب ، وسجود كل قلب على حدّ علمه ، وعلمه على حدّ ما يتجلى له ، وهاتان السجدتان ، خلع الثياب ، وتحجير الأسباب ، وذبح النفس ، ورمي الكون ، وإلا فكيف يصح سجود الاختصاص بوجود الكثرة ؟
- إشارة–" وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ "
دعاك إلى الاقتراب الاسم القريب ، فإنك المحب ليس الحبيب ، ولهذا قال لك «وَاقْتَرِبْ» ولو كنت محبوبا لقال لك : تقترب ؛ فإذا لاحت لك عبوديتك في سجودك ، وصحت لك القربة من معبودك ، وتحققت كبرياءه فيها ، وقلت عند ذلك :نوفيها ، غلطت وأصبت ، وأحطت وخبتّ ، فانظر في علوه ، ونزاهته في
سموه ، وسبحه على قدر ما ظهر ، كما شرع وأمر ، يبدو لك في هذا الخضوع ، ما بدا لك في الركوع ، من إعادة التنزيه إليك ، ورده عليك «1» ،
واجتهد في الدعاء ، مع أن قبلته في السماء ، وقبلتك في سجودك في الأرض ، محل الانحطاط والخفض ، لا تجزع أيها الساجد ، فإنك لفخذ نقطة الدائرة المشاهد ، وهي الغيب الحقيقي ، والإله الخالقي ، فمكّن كفيك من الترب ،
فإنك في محل القرب ، فتفطّن لما رمزناه ، وفك المعمى الذي ألغزناه ، واعلم أنك معصوم في سجودك من الشيطان ، فإنه قهارة فليس له عليك سلطان ، إذا عاين هذه الحال اشتغل بنفسه ، واحترق في برج نحسه ، وصار شاهدا لك عند ربك بالطاعة ، ومشاهدا لما يؤول إليه من الخسران يوم قيام الساعة ، ويكفيك هذا القدر في سجودك ، فإنه حجابك في استمرار وجودك ، جعلنا اللّه وإياكم ممن سجد فوجد ، وتهجد فتمجد ، بمنه وكرمه .
(97) سورة القدر مكيّة
------------
(19) الفتوحات ج 1 / 515">515 - ج 3 / 379 - ج 1 / 264 - ج 4 / 431 ، 189 - ج 2 / 34 ، 102 - ج 1 / 515">515- ج 3 / 303 - كتاب التنزلات الموصلية - كتاب الشاهدتفسير ابن كثير:
وقوله : ( كلا لا تطعه ) يعني : يا محمد لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها ، وصل حيث شئت ولا تباله ; فإن الله حافظك وناصرك ، وهو يعصمك من الناس ( واسجد واقترب ) كما ثبت في الصحيح - عند مسلم - من طريق عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن عمارة بن غزية ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء " .
وتقدم أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد في : ( إذا السماء انشقت ) و ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )
آخر تفسير سورة " اقرأ " .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
وأما حالة المنهي، فأمره الله أن لا يصغى إلى هذا الناهي ولا ينقاد لنهيه فقال: { كَلَّا لَا تُطِعْهُ } [أي:] فإنه لا يأمر إلا بما فيه خسارة الدارين، { وَاسْجُدْ } لربك { وَاقْتَرَبَ } منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات، فإنها كلها تدني من رضاه وتقرب منه.
وهذا عام لكل ناه عن الخير ومنهي عنه، وإن كانت نازلة في شأن أبي جهل حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، وعبث به وآذاه. تمت ولله الحمد.
تفسير البغوي
ثم قال : ( كلا ) ليس الأمر على ما عليه أبو جهل ، ( لا تطعه ) في ترك الصلاة ، ( واسجد ) صل لله ( واقترب ) من الله .
أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي ، حدثنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلئي ، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السراج ومحمد بن سلمة قالوا : أخبرنا وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن عمارة بن غزية عن سمي مولى أبي بكر أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء [ فيها ] " .
الإعراب:
(كَلَّا) حرف ردع وزجر (لا تُطِعْهُ) مضارع مجزوم بلا الناهية والهاء مفعوله والفاعل مستتر والجملة الفعلية مستأنفة (وَاسْجُدْ) فعل أمر فاعله مستتر والجملة معطوفة على ما قبلها (وَاقْتَرِبْ) معطوف على اسجد.