المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة محمد: [الآية 19]
سورة محمد | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) .
وَاللَّهُ الْغَنِيُّ» لأنه لم يطلب تكوين الموجودات لافتقاره إليها ، وإنما الأشياء في حال عدمها الإمكاني لها تطلب وجودها ، وهي مفتقرة بالذات إلى اللّه الذي هو الموجد لها لفقرها الذاتي ، فهي تطلب وجودها من اللّه ، فقبل الحق سؤالها وأوجدها لها ولأجل سؤالها ، لا من حاجة قامت به إليها ، لأنها مشهودة له تعالى في حال عدمها ووجودها ، والعبد ليس كذلك ، فإنه فاقد لما افتقر إليه في حال عدمه ، وإن كان غير فاقد له علما ، إذ لولا علمه به ما عيّن بالإيجاد شيئا عن شيء ودون شيء ، غير أن العبد مركب من ذاتين من معنى وحس وهو كماله ، فما لم يوجد الشيء المعلوم للحس ، فما كمل إدراكه لذلك الشيء بكمال ذاته ،
فإن أدركه حسا بعد وجوده وقد كان أدركه علما ، فكمل إدراكه للشيء بذاته ، فتركيبه سبب فقره إلى هذا الذي أراد وجوده ، وإمكانه سبب فقره إلى مرجحه ، وأما الحق تعالى فليس بمركب ، بل هو واحد ، فإدراكه للأشياء على ما هي عليه من حقائقها في حال عدمها ووجودها إدراك واحد ، فلهذا لم يكن في إيجاده الأشياء عن فقر كما كان هذا للعبد ، ولهذا قال :" وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ "- راجع سورة فاطر آية 15 –
«وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» فأعطى اللّه في هذه الآية سبب الاستبدال ،
وهو التولي فقال : «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا» عما سألتموه من الإنفاق وبخلتم «يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» أي على صفتكم ، بل يعطون ما يسألون ، ويعني ما وقع منهم من المخالفة لأمر اللّه ، بل يكونون على أتم قدم وأقواه في طاعة اللّه
[ إشارة :قريب التجلي فما لك مولّ ؟ : ]
- إشارة - «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» قريب التجلي فما لك مول ؟ لا ترأس على من تبعك ، فإنه ما تبعك وإنما تبع سر الحق الذي أودعه فيك ، وكذلك أودعه في التابع ، غير أنك علمته منك بإعلام الحق إياك ، وما علم التابع ما عنده ، وتلك المناسبة التي جمعت بينكما ، فإن رأست عليه ووطّيته ، أبدلك الحق مكانه ، وأبدله مكانك .
(48) سورة الفتح مدنيّة
------------
(38) الفتوحات ج 1 / 734 - ج 2 / 534 - ج 1 / 586 - كتاب الإسفار - كتاب الشاهدتفسير ابن كثير:
وقوله : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) هذا إخبار : بأنه لا إله إلا الله ، ولا يتأتى كونه آمرا بعلم ذلك ; ولهذا عطف عليه بقوله : ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي هزلي وجدي ، وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي " . وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة : " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت إلهي لا إله إلا أنت " . وفي الصحيح أنه قال : " يا أيها الناس ، توبوا إلى ربكم ، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة "
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عاصم الأحول قال : سمعت عبد الله بن سرجس قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلت معه من طعامه ، فقلت : غفر الله لك يا رسول الله ، فقلت : أستغفر لك ؟ فقال : " نعم ، ولكم " ، وقرأ : ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) ، ثم نظرت إلى نغض كتفه الأيمن أو : كتفه الأيسر - شعبة الذي شك - فإذا هو كهيئة الجمع عليه الثآليل .
رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق ، عن عاصم الأحول به .
وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو يعلى : حدثنا محرز بن عون ، حدثنا عثمان بن مطر ، حدثنا عبد الغفور ، عن أبي نصيرة ، عن أبي رجاء ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار ، فأكثروا منهما ، فإن إبليس قال : أهلكت الناس بالذنوب ، وأهلكوني ب " لا إله إلا الله " والاستغفار ، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء ، فهم يحسبون أنهم مهتدون " .
وفي الأثر المروي : " قال إبليس : وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم . فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني "
والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا .
وقوله : ( والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) أي : يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم ، كقوله : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ) [ الأنعام : 60 ] ، وكقوله : ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ) [ هود : 6 ] . وهذا القول ذهب إليه ابن جريج ، وهو اختيار ابن جرير . وعن ابن عباس : متقلبكم في الدنيا ، ومثواكم في الآخرة .
وقال السدي : متقلبكم في الدنيا ، ومثواكم في قبوركم .
والأول أولى وأظهر ، والله أعلم .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه.
وهذا العلم الذي أمر الله به -وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد، كائنا من كان، بل كل مضطر إلى ذلك. والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور: أحدها بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته فإنها توجب بذل الجهد في التأله له، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال.
الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية.
الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتأله له وحده لا شريك له.
الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داع إلى العلم، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا ينصرون من عبدهم، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة، من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك، وتواطؤها عليه.
السابع: أن خواص الخلق، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقا وعقولا، ورأيا وصوابا، وعلما -وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون- قد شهدوا لله بذلك.
الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع حكمته، وغرائب خلقه.
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله، وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها، لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت، وقامت أدلة التوحيد من كل جانب، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، بحيث يكون كالجبال الرواسي، لا تزلزله الشبه والخيالات، ولا يزداد -على تكرر الباطل والشبه- إلا نموا وكمالا.
هذا، وإن نظرت إلى الدليل العظيم، والأمر الكبير -وهو تدبر هذا القرآن العظيم، والتأمل في آياته- فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره.
وقوله: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } أي: اطلب من الله المغفرة لذنبك، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة والدعاء بالمغفرة، والحسنات الماحية، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم.
{ و } استغفر أيضا { للمؤمنين وَالْمُؤْمِنَات } فإنهم -بسبب إيمانهم- كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة.
ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم، وإذا كان مأمورا بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم، فإن من لوازم ذلك النصح لهم، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه، ويأمرهم بما فيه الخير لهم، وينهاهم عما فيه ضررهم، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم، ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم.
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } أي: تصرفاتكم وحركاتكم، وذهابكم ومجيئكم، { وَمَثْوَاكُمْ } الذي به تستقرون، فهو يعلمكم في الحركات والسكنات، فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
تفسير البغوي
قوله - عز وجل - : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) قيل : الخطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به غيره ، وقيل : معناه فاثبت عليه . وقال الحسين بن الفضل : فازدد علما على علمك . وقال أبو العالية وابن عيينة : هو متصل بما قبله معناه : إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله . وقيل : فاعلم أنه لا إله إلا الله ، أن الممالك تبطل عند قيامها ، فلا ملك ولا حكم لأحد إلا لله ( واستغفر لذنبك ) أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له لتستن به أمته .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أبي بردة ، عن الأغر المزني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة " .
قوله - عز وجل - : ( وللمؤمنين والمؤمنات ) هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم ( والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) قال ابن عباس والضحاك : " متقلبكم " متصرفكم [ ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا ، " ومثواكم " مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار .
وقال مقاتل وابن جرير : " متقلبكم " منصرفكم ] لأشغالكم بالنهار ، " ومثواكم " مأواكم إلى مضاجعكم بالليل .
وقال عكرمة : " متقلبكم " من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات . " ومثواكم " مقامكم في الأرض .
وقال ابن كيسان : " متقلبكم " من ظهر إلى بطن ، " ومثواكم " مقامكم في القبور .
والمعنى : أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها .
الإعراب:
(فَاعْلَمْ) الفاء حرف استئناف وأمر فاعله مستتر (أَنَّهُ) أن واسمها (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) سبق إعرابها في الآية 8 من الدخان والجملة الاسمية خبر أن والمصدر المؤول من أن وما بعدها سد مسد مفعولي اعلم وجملة اعلم مستأنفة لا محل لها (وَاسْتَغْفِرْ) أمر فاعله مستتر (لِذَنْبِكَ) متعلقان بالفعل والجملة معطوفة على ما قبلها (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) معطوف على ما قبله (وَاللَّهُ) حرف استئناف ومبتدأ (يَعْلَمُ) مضارع فاعله مستتر (مُتَقَلَّبَكُمْ) مفعوله (وَمَثْواكُمْ) معطوف عليه والجملة خبر المبتدأ والجملة الاسمية مستأنفة.