المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 24]
سورة البقرة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
ولهذا قال تعالى : ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) ولن : لنفي التأبيد أي : ولن تفعلوا ذلك أبدا . وهذه - أيضا - معجزة أخرى ، وهو أنه أخبر أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبدا وكذلك وقع الأمر ، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن ، وأنى يتأتى ذلك لأحد ، والقرآن كلام الله خالق كل شيء ؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ؟ !
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى ، قال الله تعالى : ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) [ هود : 1 ] ، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف ، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يجارى ولا يدانى ، فقد أخبر عن مغيبات ماضية وآتية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ، ونهى عن كل شر كما قال : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) [ الأنعام : 115 ] أي : صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام ، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء ، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ، كما قيل في الشعر : إن أعذبه أكذبه ، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر ، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع ، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعبر على التعبير على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ، ثم تجد له فيها بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته .
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير ، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة ، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة ، وسواء تكررت أم لا ، وكلما تكرر حلا وعلا ، لا يخلق عن كثرة الرد ، ولا يمل منه العلماء ، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ، فما ظنك بالقلوب الفاهمات ، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن ، كما قال في الترغيب : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) [ السجدة : 17 ] وقال : ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ) [ الزخرف : 71 ] ، وقال في الترهيب : ( أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ) [ الإسراء : 68 ] ، ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ) [ الملك : 16 ، 17 ] وقال في الزجر : ( فكلا أخذنا بذنبه ) [ العنكبوت : 40 ] ، وقال في الوعظ : ( أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) [ الشعراء : 205 - 207 ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة ، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي ، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء ؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا ) فأوعها سمعك فإنه خير ما يأمر به أو شر ينهى عنه . ولهذا قال تعالى : ( يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) الآية [ الأعراف : 157 ] ، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم ، بشرت به وحذرت وأنذرت ؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى ، وثبتت على الطريقة المثلى ، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم ، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم .
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة لفظ مسلم . وقوله : وإنما كان الذي أوتيته وحيا أي : الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه ، بخلاف غيره من الكتب الإلهية ، فإنها ليست معجزة [ عند كثير من العلماء ] والله أعلم . وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته ، وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ، ولله الحمد والمنة .
[ وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصوفية ، فقال : إن كان هذا القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته ، فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له ، كان ذلك دليلا على أنه من عند الله ؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته ، كما قررنا ، إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب فخر الدين في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر ) و إنا أعطيناك الكوثر ) ] .
وقوله تعالى : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) أما الوقود ، بفتح الواو ، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه ، كما قال : ( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) [ الجن : 15 ] وقال تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) [ الأنبياء : 98 ] .
والمراد بالحجارة هاهنا : هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت ، أجارنا الله منها .
قال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله تعالى : ( وقودها الناس والحجارة ) قال : هي حجارة من كبريت ، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا ، يعدها للكافرين . رواهابن جرير ، وهذا لفظه . وابن أبي حاتم ، والحاكم في مستدركه وقال : على شرط الشيخين .
وقال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ) أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود ، يعذبون به مع النار .
وقال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة . وقال أبو جعفر محمد بن علي : [ هي ] حجارة من كبريت . وقال ابن جريج : حجارة من كبريت أسود في النار ، وقال لي عمرو بن دينار : أصلب من هذه الحجارة وأعظم .
[ وقيل : المراد بها : حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) الآية [ الأنبياء : 98 ] ، حكاه القرطبي وفخر الدين ورجحه على الأول ؛ قال : لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمنكر فجعلها هذه الحجارة أولى ، وهذا الذي قاله ليس بقوي ؛ وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك ، ثم إن أخذ النار في هذه الحجارة - أيضا - مشاهد ، وهذا الجص يكون أحجارا فتعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك . وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها . وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها ، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال : ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) [ الإسراء : 97 ] . وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمى ويشتد لهبها قال : ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها ، قال : وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل مؤذ في النار وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف ثم قال القرطبي : وقد فسر بمعنيين ، أحدهما : أن كل من آذى الناس دخل النار ، والآخر : كل ما يؤذي فهو في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك ] .
وقوله تعالى : ( أعدت للكافرين ) الأظهر أن الضمير في ( أعدت ) عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ، ويحتمل عوده على الحجارة ، كما قال ابن مسعود ، ولا منافاة بين القولين في المعنى ؛ لأنهما متلازمان .
و ( أعدت ) أي : أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله ، كما قال [ محمد ] بن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( أعدت للكافرين ) أي : لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .
وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله : ( أعدت ) أي : أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها : تحاجت الجنة والنار ومنها : استأذنت النار ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف ، وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة ، الآن وصل إلى قعرها وهو عند مسلم وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى ، وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس .
تنبيه ينبغي الوقوف عليه :
قوله : ( فأتوا بسورة من مثله ) وقوله في سورة يونس : ( بسورة مثله ) [ يونس : 38 ] يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة ؛ لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه ، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها ، وهذا ما أعلم فيه نزاعا بين الناس سلفا وخلفا ، وقد قال الإمام العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره : فإن قيل : قوله : ( فأتوا بسورة من مثله ) يتناول سورة الكوثر وسورة العصر ، و ( قل يا أيها الكافرون ) ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن . فإن قلتم : إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة ، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين : قلنا : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ، وقلنا : إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن كذلك ، كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزا ، فعلى التقديرين يحصل المعجز ، هذا لفظه بحروفه . والصواب : أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة .
قال الشافعي ، رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) [ سورة العصر ] . وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم ، فقال له مسيلمة : ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين ؟ فقال له عمرو : لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال : وما هي ؟ فقال : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل علي مثلها ، فقال : وما هو ؟ فقال : يا وبر يا وبر ، إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حقر فقر ، ثم قال : كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال: { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله. وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم. وفي قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق. وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه. وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق. وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين. كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال، فقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } وفي قوله: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة. وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها
تفسير البغوي
{فإن لم تفعلوا} فيما مضى.
{ولن تفعلوا} أبداً فيما بقي.
وإنما قال ذلك لبيان الإعجاز وأن القرآن كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث عجزوا عن الإتيان بمثله.
{فاتقوا النار} أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار.
{التي وقودها الناس والحجارة} قال ابن عباس وأكثر المفسرين: يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهاباً، وقيل: جميع الحجارة وهودليل على عظمة تلك النار، وقيل: أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت منحوتة من الحجارة كما قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [98-الأنبياء].
{أعدت} هُيِّئَت {للكافرين}.
الإعراب:
(فَإِنْ) الفاء استئنافية، (إن) شرطية.
(لَمْ تَفْعَلُوا) فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعل. والجملة ابتدائية لا محل لها.
(وَلَنْ) الواو اعتراضية، لن حرف ناصب.
(تَفْعَلُوا) فعل مضارع منصوب بحذف النون. والجملة ابتدائية لا محل لها.
(فَاتَّقُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط، اتقوا فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعل. والجملة في محل جزم جواب الشرط.
(النَّارَ) مفعول به منصوب.
(الَّتِي) اسم موصول في محل نصب صفة.
(وَقُودُهَا) مبتدأ والهاء في محل جر بالإضافة.
(النَّاسُ) خبر.
(وَالْحِجارَةُ) اسم معطوف على الناس. والجملة صلة الموصول.
(أُعِدَّتْ) فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هي.
(لِلْكافِرِينَ) متعلقان بالفعل أعدت.
والجملة في محل نصب حال من النار، وقيل مستأنفة.