المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 272]
سورة البقرة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
قال أبو عبد الرحمن النسائي : أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ، أخبرنا الفريابي ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا ، فرخص لهم ، فنزلت هذه الآية : ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) .
وكذا رواه أبو حذيفة ، وابن المبارك ، وأبو أحمد الزبيري ، وأبو داود الحفري ، عن سفيان وهو الثوري به .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثني أحمد بن عبد الرحمن يعني الدشتكي حدثني أبي ، عن أبيه ، حدثنا أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، حتى نزلت هذه الآية : ( ليس عليك هداهم ) إلى آخرها ، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين . وسيأتي عند قوله تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ) الآية [ الممتحنة : 8 ] حديث أسماء بنت الصديق في ذلك [ إن شاء الله تعالى ] .
وقوله : ( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ) كقوله ( من عمل صالحا فلنفسه ) [ فصلت : 46 ، الجاثية : 15 ] ونظائرها في القرآن كثيرة .
وقوله : ( وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ) قال الحسن البصري : نفقة المؤمن لنفسه ، ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله .
وقال عطاء الخراساني : يعني إذا أعطيت لوجه الله ، فلا عليك ما كان عمله ، وهذا معنى حسن ، وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجره على الله ، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب : ألبر أو فاجر أو مستحق أو غيره ، هو مثاب على قصده ، ومستند هذا تمام الآية : ( وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) والحديث المخرج في الصحيحين ، من طريق أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال رجل : لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية ، فأصبح الناس يتحدثون : تصدق على زانية ! فقال : اللهم لك الحمد على زانية ، لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني ، فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على غني ! فقال : اللهم لك الحمد على غني ، لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق ، فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على سارق ! فقال : اللهم لك الحمد على زانية ، وعلى غني ، وعلى سارق ، فأتي فقيل له : أما صدقتك فقد قبلت ; وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها ، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته " .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس عليك هدى الخلق، وإنما عليك البلاغ المبين، والهداية بيد الله تعالى، ففيها دلالة على أن النفقة كما تكون على المسلم تكون على الكافر ولو لم يهتد، فلهذا قال: { وما تنفقوا من خير } أي: قليل أو كثير على أي شخص كان من مسلم وكافر { فلأنفسكم } أي: نفعه راجع إليكم { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } هذا إخبار عن نفقات المؤمنين الصادرة عن إيمانهم أنها لا تكون إلا لوجه الله تعالى، لأن إيمانهم يمنعهم عن المقاصد الردية ويوجب لهم الإخلاص { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } يوم القيامة تستوفون أجوركم { وأنتم لا تظلمون } أي: تنقصون من أعمالكم شيئا ولا مثقال ذرة، كما لا يزاد في سيئاتكم.
تفسير البغوي
( ليس عليك هداهم ) قال الكلبي سبب نزول هذه الآية أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار في اليهود وكانوا ينفقون عليهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم وأرادوهم على أن يسلموا وقال سعيد بن جبير كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزل قوله ( ليس عليك هداهم ) فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها ( ولكن الله يهدي من يشاء ) وأراد به هداية التوفيق أما هدى البيان والدعوة فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطوهم بعد نزول الآية .
( وما تنفقوا من خير ) أي مال ( فلأنفسكم ) أي تعملونه لأنفسكم ( وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ) وما جحد لفظه نفي ومعناه نهي أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ( وما تنفقوا من خير ) شرط كالأول ولذلك حذف النون منهما ( يوف إليكم ) أي يوفر لكم جزاؤه ومعناه : يؤدي إليكم ولذلك دخل فيه إلا ( وأنتم لا تظلمون ) لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا وهذا في صدقة التطوع أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة فأما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة .
الإعراب:
(لَيْسَ) فعل ماض ناقص (عَلَيْكَ) متعلقان بمحذوف خبرها (هُداهُمْ) اسمها مرفوع بالضمة المقدرة على الألف للتعذر والجملة مستأنفة.
(وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي) الواو عاطفة لكن ولفظ الجلالة اسمها وجملة: (يهدي) خبرها والجملة الاسمية معطوفة (مَنْ يَشاءُ) من اسم موصول مفعول به وجملة: (يشاء) صلة الموصول (وَما تُنْفِقُوا) الواو عاطفة ما شرطية جازمة في محل نصب مفعول به مقدم لتنفقوا (مِنْ خَيْرٍ) متعلقان بمحذوف حال (فَلِأَنْفُسِكُمْ) الفاء واقعة في جواب الشرط لأنفسكم متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره: منفعة لأنفسكم والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَما تُنْفِقُونَ) ما نافية تنفقون فعل مضارع والواو فاعل (إِلَّا ابْتِغاءَ) إلا أداة حصر ابتغاء مفعول لأجله (وَجْهِ) مضاف إليه (اللَّهَ) لفظ الجلالة مضاف إليه والجملة معطوفة (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) سبق إعرابها.
(يُوَفَّ) فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم لأنه جواب الشرط بحذف حرف العلة ونائب الفاعل هو (إِلَيْكُمْ) متعلقان بيوف (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أنتم مبتدأ خبره جملة تظلمون وجملة (أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) في محل نصب حال.