المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة الكهف: [الآية 28]
سورة الكهف | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
ما تميز العالم إلا بالمراتب ، وما شرف بعضه على بعضه إلا بها ، ومن علم أن الشرف للرتب لا لعينه لم يغالط نفسه في أنه أشرف من غيره ، وإن كان يقول إن هذه الرتبة أشرف من هذه الرتبة ، ولما كانت الخلافة ربوبية في الظاهر لأنه يظهر بحكم الملك ، فيتصرف في الملك بصفات سيده ظاهرا ، وإن كانت عبوديته له مشهودة في باطنه ، فلم تعم عبوديته عند رعيته الذين هم أتباعه ، وظهر ملكه بهم وباتباعهم والأخذ عنه ، فكان في مجاورتهم بالظاهر أقرب ، وبذلك المقدار يستتر من عبوديته ، لذلك كثيرا ما ينزل في الوحي على الأنبياء «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» فكانت هذه الآية دواء لهذه العلة ، وبهذا المقدار كانت أحوال الأنبياء والرسل في الدنيا البكاء والنوح ، فإنه موضع تتقى فتنته ، فقال الكامل صلّى اللّه عليه وسلم: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» عن أمر اللّه ، قيل له : قل ، فقال ، وبهذا علمنا أنه عن أمر اللّه ، لأنه نقل الأمر إلينا كما نقل المأمور ، وكان هذا القول دواء للمرض الذي قام بمن عبد عيسى عليه السلام من أمته ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول لنا كثيرا في هذا المقام في حق نفسه وتعليما لنا «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» فلم ير لنفسه فضلا علينا ، أي حكم البشرية فيّ حكمها فيكم ،
[إشارة: لم أمر الحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول " قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ " ]
فكان ذلك من التأديب الإلهي الذي أدب اللّه تعالى به نبيه عليه السلام فيما أوحى به إليه ،
فقال صلّى اللّه عليه وسلم : [ إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر ]
يعني لنفسه ولحق غيره ، [ وأرضى كما يرضى البشر ]
يعني لنفسه ولغيره ، ويعني أن أغضب عليهم وأرضى لنفسي [ اللهم من دعوت عليه فاجعل دعائي عليه رحمة له ورضوانا ]
ثم ذكر المرتبة وهو قوله «يُوحى إِلَيَّ» ولما كان صلّى اللّه عليه وسلم لم تؤثر فيه المراتب إذا نالها ، قال وهو في المرتبة العليا [ أنا سيد الناس ]
وفي رواية [ أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ] فنفى أن يقصد بذلك الفخر ، لأنه ذكر الرتبة التي لها الفخر الذي هو صلّى اللّه عليه وسلم مترجم عنها وناطق بلسانها ، فذكر رتبة الشفاعة والمقام المحمود ، فالفخر للرتبة ولا فخر بالذات إلا للّه وحده ، فلم تحكم فيه المرتبة ، وقال في كل وقت وهو في مرتبة الرسالة والخلافة
" إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ "، فلم تحجبه المرتبة عن معرفة نشأته ، وسبب ذلك أنه رأى لطيفته ناظرة إلى مركبها العنصري وهو متبدد فيها ، فشاهد ذاته العنصرية ، فعلم أنها تحت قوة الأفلاك العلوية ، ورأى المشاركة بينها وبين سائر الخلق الإنساني والحيواني والنبات والمعادن ، فلم ير لنفسه من حيث نشأته العنصرية فضلا على كل من تولد منها ، وأنه مثل لهم وهم أمثال له ، فقال : «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» ثم رأى افتقاره إلى ما تقوم به نشأته من الغذاء الطبيعي كسائر المخلوقات الطبيعية ،
فعرف نفسه فقال:
[ يا أبا بكر ما أخرجك ، قال : الجوع ، قال : وأنا أخرجني الجوع ] فكشف عن حجرين قد وضعهما على بطنه يشد بهما أمعاءه -إشارة- كان عليه السلام نائب الحق ، فهو وجهه في العالم ، فكان الحق يقول له : «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أي استتر بعبوديتك ،
ولا تظهر مكانتك عندي . واعلم أن جميع ما سوى اللّه يمكن حصرهم في الأجناس الآتية ،
وهم الملك والفلك والكوكب والطبيعة والعنصر والمعدن والنبات والحيوان والإنسان ،
وما من صنف ذكرناه من هؤلاء الأصناف إلا وقد عبد منهم أشخاص ،
فمنهم من عبد الملائكة ، ومنهم من عبد الكواكب ، ومنهم من عبد الأفلاك ،
ومنهم من عبد العناصر ، ومنهم من عبد الأحجار ،
ومنهم من عبد الأشجار ، ومنهم من عبد الحيوان ، ومنهم من عبد الجن والإنس ، فالمخلص في العبادة التي هي ذاتية له أن لا يقصد إلا من أوجده وخلقه ،
وهو اللّه تعالى ، فتخلص له هذه العبادة ولا يعامل بها أحدا ممن ذكرناه ، أي لا يراه في شيء فيذل له ، واعلم أنه ما من شيء في الكون إلا وفيه ضرر ونفع ، فاستجلب بهذه الصفة الإلهية
نفوس المحتاجين إليه لافتقارهم إلى المنفعة ودفع المضار ، فأداهم ذلك إلى عبادة الأشياء وإن لم يشعروا ، ولما علم اللّه ما أودعه في خلقه ، وما جعل في الثقلين من الحاجة إلى ما أودع اللّه في الموجودات وفي الناس بعضهم إلى بعض قال : «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ»
فذكر لقاء اللّه ليدل على حالة الرضى من غير احتمال ، كما ذكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وذلك في الجنة ، فإنها دار الرضوان ،
فما كل من لقي اللّه سعيد «فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً» أي لا يشوبه فساد ، والصالح الذي لا يدخله خلل ، فإن ظهر فيه خلل فليس بصالح ، وليس الخلل في العمل وعدم الصلاح فيه إلا الشرك ، فقال : «وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» أي لا يذل إلا اللّه لا لغيره ،
لأنه إذا لم ير شيئا سوى اللّه وأنه الواضع أسباب المضار والمنافع ، لجأ إلى اللّه في دفع ما يضره ونيل ما ينفعه من غير تعيين سبب ، ونكر «أَحَداً» فدخل تحته كل شيء له أحدية ، وعم كل ما ينطلق عليه اسم أحد ، وهو كل شيء في عالم الخلق والأمر ،
وعم الشرك الأصغر ، وهو الشرك الذي في العموم ، وهو الربوبية المستورة المنتهكة ، في مثل فعلت وصنعت وفعل فلان ولولا فلان ، فهذا هو الشرك المغفور ، فإنك إذا راجعت أصحاب هذا القول فيه رجعوا إلى اللّه تعالى ،
والشرك الذي في الخصوص ، فهم الذين يجعلون مع اللّه إلها آخر ، وهو الظلم العظيم ،
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ إن اللّه إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية ، فأول من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل اللّه ورجل كثير المال ، فيقول اللّه للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلته على رسولي ؟
قال : بلى يا رب ، قال : فما ذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول اللّه له : كذبت ، وتقول الملائكة له : كذبت ،
ويقول اللّه : إنما قرأت ليقال فلان قارئ فقد قيل ذلك ، ويؤتى بصاحب المال فيقول اللّه له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فما ذا عملت فيما آتيتك ؟
قال : كنت أصل الرحم وأتصدق ، فيقول اللّه له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ،
ويقول اللّه له : بل أردت أن يقال فلان جواد فقيل ذلك ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل اللّه فيقول اللّه : فيما ذا قتلت ؟
فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت ، فيقول اللّه له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول اللّه له : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك ، ثم ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على ركبة أبي هريرة وقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول من يسعر
بهم النار يوم القيامة ]
فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث يغشى عليه ،
يقول اللّه تعالى :" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً "
وجاء في الحديث الغريب الصحيح [ من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك ] فنكر تعالى العمل وما خص عملا من عمل ، والضمير في فيه يعود على العمل ، والضمير في منه يعود على الغير الذي هو الشريك ، وضمير هو يعود على المشرك - تحقيق إخلاص العمل للّه من الشرك
[ - الإخلاص في العمل ]
-الإخلاص في العمل -هو أن تقف كشفا على أن العامل ذلك العمل هو اللّه ، كما هو في نفس الأمر ، أي عمل كان ذلك العمل ، مذموما أو محمودا أو ما كان ، فذلك حكم اللّه تعالى فيه ما هو عين العمل ، لذلك فإن اللّه لا يتبرأ من العمل فإنه العامل بلا شك ، فإخلاص العمل للّه هو نصيب اللّه من العمل ، لأن الصورة الظاهرة في العمل إنما هي في الشخص الذي أظهر اللّه فيه عمله ، فيلتبس الأمر للصورة الظاهرة ، والصورة الظاهرة لا تشك أن العمل بالشهود ظاهر منها ، فهي إضافة صحيحة ، فإن البصر لا يقع إلا على آلة وهي مصرّفة لأمر آخر ، لا يقع الحس الظاهر عليه ، بدليل الموت ووجود الآلة وسلب العمل ، فإذن الآلة ما هي العامل ، والحس ما أدرك إلا الآلة ، فكما علم الحاكم أن وراء المحسوس أمرا هو العامل بهذه الآلة والمصرف لها ، المعبر عنه عند علماء النظر العقلي بالنفس العاملة الناطقة والحيوانية ، فقد انتقلوا إلى معنى ليس هو من مدركات الحس ،
فكذلك إدراك أهل الكشف والشهود - في الجمع والوجود - في النفس الناطقة ما أدرك أهل النظر في الآلة المحسوسة سواء ، فعرفوا أن ما وراء النفس الناطقة هو العامل ، وهو مسمى اللّه ، فالنفس في هذا العمل كالآلة المحسوسة سواء ، ومتى لم يدرك هذا الإدراك فلا يتصف عندنا بأنه أخلص في عمله جملة واحدة ، مع ثبوت الآلات وتصرفها لظهور صورة العمل من العامل ،
فالعالم كله آلات الحق فيما يصدر عنه من الأفعال ،
قال صلّى اللّه عليه وسلم فيما صح عنه : [ أتدرون ما حق اللّه على العباد ، قالو :اللّه ورسوله أعلم ، قال : إن حق اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم قال : أتدرون ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك ، أن يدخلهم الجنة ]
فنكر صلّى اللّه عليه وسلم بقوله شيئا ليدخل فيه جميع الأشياء ، وهو قوله تعالى «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً "
- وجه آخر -في تفسير قوله تعالى في هذه الآية ،
كأنه تعالى يقول : إن الحق لا يعبد من حيث أحديته ، لأن الأحدية تنافي وجود العابد ، فكأنه يقول : لا يعبد إلا الرب من حيث ربوبيته ، فإن الرب أوجدك ، فتعلق به وتذلل له ولا تشرك الأحدية مع الربوبية في العبادة ، فتتذلل لها كما تتذلل للربوبية ،
فإن الأحدية لا تعرفك ولا تقبلك ، فيكون تعبد في غير معبد ، وتطمع في غير مطمع ، وتعمل في غير معمل ، وهي عبادة الجاهل ، فنفى عبادة العابدين من التعلق بالأحدية ، فإن الأحدية لا تثبت إلا للّه مطلقا ، وإنما ما سوى اللّه فلا أحدية له مطلقا ،
فهذا هو المفهوم من هذه الآية عندنا من حيث طريقنا في تفسير القرآن ، ويأخذ أهل الرسوم في ذلك قسطهم أيضا تفسيرا للمعنى ، فيحملون الأحد المذكور على ما اتخذوه من الشركاء ، وهو تفسير صحيح أيضا ، فالقرآن هو البحر الذي لا ساحل له ، إذ كان المنسوب إليه يقصد به جميع ما يطلبه الكلام من المعاني بخلاف كلام المخلوقين .
(19) سورة مريم مكيّة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
------------
(110) الفتوحات ج 3 / 225 ، 50 - ج 1 / 664 - ج 3 / 225 ، 191 ، 337 ، 23 ، 225 ، 23 - كتاب النجاة - كتاب المشاهد - الفتوحات ج 2 / 221">221 - ج 3 / 478 ، 355 - ج 1 / 221">221 - ج 3 / 478 ، 355 - ج 4 / 536 - ج 2 / 221">221 - ج 3 / 477 - ح2 / 581تفسير ابن كثير:
وقوله : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) أي : اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ، ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله ، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء . يقال : إنها نزلت في أشراف قريش ، حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب [ وخباب ] وابن مسعود ، وليفرد أولئك بمجلس على حدة . فنهاه الله عن ذلك ، فقال : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) الآية [ الأنعام : 52 ] الآية ، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء ، فقال : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه )
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي ، عن إسرائيل ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن سعد - هو ابن أبي وقاص - قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا! . قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ورجلان نسيت اسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله عز وجل : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي التياح قال : سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص ، فأمسك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قص ، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس ، أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب "
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا هاشم حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت كردوس بن قيس - وكان قاص العامة بالكوفة - يقول : أخبرني رجل من أصحاب بدر : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب " . قال شعبة : فقلت : أي مجلس ؟ قال : كان قاصا
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا محمد ، حدثنا يزيد بن أبان ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أجالس قوما يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس ، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا " . فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس ، فبلغت ستة وتسعين ألفا ، وهاهنا من يقول : " أربعة من ولد إسماعيل " والله ما قال إلا ثمانية ، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي مسلم - وهو الكوفي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم " .
هكذا رواه أبو أحمد ، عن عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر مرسلا . وحدثناه يحيى بن المعلى ، عن منصور ، حدثنا محمد بن الصلت ، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف ، فسكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون المرئي ، حدثنا ميمون بن سياه ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله ، لا يريدون بذلك إلا وجهه ، إلا ناداهم مناد من السماء : أن قوموا مغفورا لكم ، قد بدلت سيئاتكم حسنات " تفرد به أحمد ، رحمه الله .
وقال الطبراني : حدثنا إسماعيل بن الحسن ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، عن أسامة بن زيد عن أبي حازم ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في بعض أبياته : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) فخرج يلتمسهم ، فوجد قوما يذكرون الله تعالى ، منهم ثائر الرأس ، وجافي الجلد وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم وقال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم "
عبد الرحمن هذا ، ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة وأما أبوه فمن سادات الصحابة ، رضي الله عنهم .
وقوله : ( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم : يعني : تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة .
( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) أي : شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا ( واتبع هواه وكان أمره فرطا ) أي : أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ، ولا تكن مطيعا له ولا محبا لطريقته ، ولا تغبطه بما هو فيه ، كما قال تعالى : ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) [ طه : 131 ]
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
يأمر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وغيره أسوته، في الأوامر والنواهي -أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين { الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى.
{ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } أي: لا تجاوزهم بصرك، وترفع عنهم نظرك.
{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فإن هذا ضار غير نافع، وقاطع عن المصالح الدينية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة، فإن زينة الدنيا تروق للناظر، وتسحر العقل، فيغفل القلب عن ذكر الله، ويقبل على اللذات والشهوات، فيضيع وقته، وينفرط أمره، فيخسر الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية، ولهذا قال: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } غفل عن الله، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره.
{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي: صار تبعا لهواه، حيث ما اشتهت نفسه فعله، وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه، فهو قد اتخذ إلهه هواه، كما قال تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } الآية. { وَكَانَ أَمْرُهُ } أي: مصالح دينه ودنياه { فُرُطًا } أي: ضائعة معطلة. فهذا قد نهى الله عن طاعته، لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به، ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماما للناس، من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماما، والصبر المذكور في هذه الآية، هو الصبر على طاعة الله، الذي هو أعلى أنواع الصبر، وبتمامه تتم باقي الأقسام. وفي الآية، استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار، لأن الله مدحهم بفعله، وكل فعل مدح الله فاعله، دل ذلك على أن الله يحبه، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به، ويرغب فيه.
تفسير البغوي
قوله عز وجل : ( واصبر نفسك ) الآية . نزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم : أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم عنك حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا فأنزل الله عز وجل : ( واصبر نفسك ) أي احبس يا محمد نفسك ( مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) طرفي النهار ( يريدون وجهه ) أي : يريدون الله لا يريدون به عرضا من الدنيا .
قال قتادة : نزلت في أصحاب الصفة وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ولا إلى زرع ولا ضرع يصلون صلاة وينتظرون أخرى فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم " .
( ولا تعد ) أي : لا تصرف ولا تتجاوز ( عيناك عنهم ) إلى غيرهم ( تريد زينة الحياة الدنيا ) أي : طلب مجالسة الأغنياء والأشراف وصحبة أهل الدنيا .
( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) أي : جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا يعني : عيينة بن حصن . وقيل : أمية بن خلف ( واتبع هواه ) أي مراده في طلب الشهوات ( وكان أمره فرطا ) قال قتادة ومجاهد : ضياعا وقيل : معناه ضيع أمره وعطل أيامه وقيل : ندما . وقال مقاتل بن حيان : سرفا . وقال الفراء : متروكا . وقيل باطلا . وقيل : مخالفا للحق . وقال الأخفش : مجاوزا للحد . قيل : معنى التجاوز في الحد هو قول عيينة : إن أسلمنا أسلم الناس وهذا إفراط عظيم .
الإعراب:
(وَاصْبِرْ) الواو عاطفة وأمر فاعله مستتر (نَفْسَكَ) مفعول به والكاف مضاف إليه (مَعَ) ظرف مكان متعلق باصبر (الَّذِينَ) اسم موصول مضاف إليه (يَدْعُونَ) مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة صلة (رَبَّهُمْ) مفعول به والهاء مضاف إليه (بِالْغَداةِ) متعلقان بيدعون (وَالْعَشِيِّ) معطوف على الغداة (يُرِيدُونَ) مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعله (وَجْهَهُ) مفعول به والهاء مضاف إليه والجملة في محل نصب على الحال (وَلا) الواو عاطفة ولا ناهية (تَعْدُ) مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة (عَيْناكَ) فاعل مرفوع بالألف لأنه مثنى والكاف مضاف إليه والجملة معطوفة (عَنْهُمْ) متعلقان بتعد (تُرِيدُ) مضارع فاعله مستتر (زِينَةَ) مفعول به (الْحَياةِ) مضاف إليه (الدُّنْيا) صفة مجرورة بالكسرة المقدرة على الألف للتعذر (وَلا) الواو عاطفة ولا ناهية (تُطِعْ) مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر والجملة معطوفة (مَنْ) موصولية مفعول به (أَغْفَلْنا) ماض وفاعله (قَلْبَهُ) مفعول به والجملة صلة (عَنْ ذِكْرِنا) متعلقان بأغفلنا (وَاتَّبَعَ) الواو عاطفة وماض فاعله مستتر (هَواهُ) مفعول به منصوب بالفتحة المقدرة على الألف للتعذر والهاء مضاف إليه والجملة معطوفة (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) كان واسمها وخبرها والجملة معطوفة.