الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة الرفعة»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[24] - «حضرة الرفعة»

يرفع المؤمن المهيمن قوما *** آمنوا فوق غيرهم درجات‏

فتراهم بهم نفوسا سكارى *** داخلات في حكمه خارجات‏

ورأينا لديه فتيان صدق *** عاملوه بالصدق في فتيات‏

طاهرات من الخنا معلنات *** بشهادات حقه مؤمنات‏

[الرفعة لله تعالى بالذات وللعبد بالعرض‏]

يدعى صاحبها عبد الرفيع قال الله تعالى رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ فالرفعة له سبحانه بالذات وهي للعبد بالعرض وإنها على النقيض من حضرة الخفض في الحكم فإن الخفض للعبد بالأصالة والرفعة للحق واعلم أيدنا الله وإياك بِرُوحٍ مِنْهُ أن هذه الحضرة من حضرات السواء التي لها موقف السواء في المواقف التي بين كل مقامين يوقف في كل موقف منها العبد ليعرف بآداب المقام الذي ينتقل إليه ويشكر على ما كان منه من الآداب في المقام الذي انتقل عنه وإنما سمي موقف السواء أو حضرة السواء لقوله تعالى عن نفسه إنه رَفِيعُ الدَّرَجاتِ فجعل له درجات ظهر فيها لعباده وقال في عباده العلماء به يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ يظهر فيها العلماء بالله ليراهم المؤمنون ثم إنه من حكم هذه الحضرة السوائية في رفع الدرجات التسخير بحسب الدرجة التي يكون فيها العبد أو الكائن فيها كان من كان فيقتضي له أي للكائن فيها إن يسخر له من هو في غيرها ويسخره أيضا من هو في درجة أخرى وقد تكون درجة المسخر اسم مفعول أعلى من درجة المسخر اسم فاعل ولكن في حال تسخير الأرفع بما سخره فيه شفاعة المحسن في المسي‏ء إذا سأل المسي‏ء الشفاعة فيه وفي حديث النزول في الثلث الباقي من الليل غنية وكفاية وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ لمن عقل ولما كانت الدرجة حاكمة

اقتضى أن يكون الأرفع مسخرا اسم مفعول وتكون أبدا تلك الدرجة أنزل من درجة المسخر اسم فاعل والحكم للأحوال كدرجة الملك في ذبه عن رعيته وقتاله عنهم وقيامه بمصالحهم والدرجة تقتضي له ذلك والتسخير يعطيه النزول في الدرجة عن درجة المسخر له اسم مفعول قال الله عز وجل ورَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا فافهم ثم إنه أمر عباده ونهاهم كما أمر عباده أيضا أن يامروه وينهوه فقال لهم قولوا اغفر لنا وارحمنا في مثل الأمر ويسمى دعاء ورغبة وفي مثل النهي لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا به وأمر الله أن نقول أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذا عاهَدْتُمْ والنهي لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وأمثال ذلك فنظرنا في السبب الذي أوجب هذا من الله أن يكون مأمورا منهيا على عزته‏

وجبروته ومن العبد على ذله وافتقاره فوجدناه حكم الدرجات بما تقتضيه والدرجة أيضا هي التي جعلت هذا الأمر والنهي في حق الله يسمى أمر أو نهيا وفي حق العبد يسمى دعاء ورغبة فأقام الحق نفسه بصورة ما أقام فيه عباده بعضهم مع بعض وقوله رَفِيعُ الدَّرَجاتِ إنما ذلك على خلقه ثم أنزل نفسه معهم في القيام بمصالحهم وبما كسبوا قال تعالى أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ كما قال تعالى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ لأنهن عائلته وقد ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن الخلق عيال الله‏

فيقوم بهم لأن الخلق إلى الله يميلون ولهذا كانوا عائلة له فلما أنزل نفسه في هذه المنزلة فضلا منه وحقيقة فإنه لا يكون الأمر إلا هكذا نبه أنه منا وفينا كنحن منا وفينا

إنه منا وفينا *** مثلنا منا وفينا

وبنا عرفت ربي *** هكذا جاء يقينا

قال الله تعالى ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ وعلل بقوله لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ومن سألته فقد اتخذته موضعا لسؤالك فيما سألته فيه وقد أخبر عن نفسه بالإجابة فيما سأله لمن سأله على الشرط الذي قرره كما نجيبه نحن فيما سألنا أيضا على الشرط الذي تقضي به مراتبنا ثم إنه عز وجل لما كان عين أسمائه في مرتبة كون الاسم هو عين المسمى ومن يقول في صفات الحق إنها لا هي هو ولا هي غيره وقد علمنا رفعة الدرجات في الأسماء بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ كانت ما كانت ليتخذ بعضهم بعضا بحسب مرتبته فنعلم إن درجة الحي أعظم الدرجات في الأسماء لأنه الشرط المصحح لوجود الأسماء وإن العلم من العالم أعم تعلقا وأعظم إحاطة من القادر والمريد لأن لمثل هؤلاء خصوص تعلق من متعلقات العالم فهم للعالم كالسدنة ولما كان العلم يتبع المعلوم علمنا إن العالم تحت تسخير المعلوم يتقلب بتقليبه ولا يظهر له عين في التعلق به إلا ما يعطيه المعلوم فرتبة المعلوم إذا حققتها علمت علو درجتها على سائر الدرجات أعني المعلومات ومن المعلومات للحق نفس الحق وعينه وما يجب له ويستحيل عليه وما يجب لكل معلوم سوى الحق وما يستحيل على ذلك المعلوم وما يجوز عليه فلا يقوم فيه الحق إلا بما يعطيه المعلوم من ذاته وكذلك درجة السميع والبصير والشكور وسائر الأسماء في التعلق الخاص والرءوف والرحيم وسائر الأسماء كلها تنزل عن الاسم العليم في الدرجة إلا المحيط فإنه ينزل عن العليم بدرجة واحدة فإنه لا يحيط إلا بمسمى الشي‏ء والمحال معلوم وليس بشي‏ء إلا في وجود الخيال فهنالك له شيئية اقتضتها تلك الحضرة فهو محيط بالمحال إذا تخيله الوهم شيئا كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ولكن في المرتبة الخارجة عن الخيال لا إحاطة له بالمحال مع كون المحال معلوما للعالم غير موصوف بالإحاطة وكذلك الحي لما كانت له درجة الشرطية كان له السببية في ظهور أعيان الأسماء الإلهية وآثارها وكذلك كل علة لا بد أن يكون لها حكم الحياة وحينئذ يكون عنها الأثر الوجودي ولا يشعر بذلك كل أحد من نظار العلماء من أولي الباب إلا أرباب الكشف الذين يعاينون سريان الحياة في جميع الموجودات كلها جوهرها وعرضها ويرون قيام المعنى بالمعنى حتى يقال فيه سواد مشرق وسواد كدر ومن لا علم له يجعل الإشراق للمحل لا للسواد وما عنده خبر فكذلك قيام الحياة بجميع الأعراض قيامها بأعيان الجواهر فما من شي‏ء من عرض وجوهر وحامل ومحمول إلا وهو يسبح بحمد الله ولا يسبح الله إلا حي عالم بمن يسبح وبما يسبح فيفصل بعلمه بين من ينبغي له التسبيح وبين من ينبغي له التشبيه في العين الواحدة من وجوه مختلفة وهو سبحانه يثني على نفسه ويسبح نفسه بنفسه كما قال فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وقال وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً وكل ذلك في معرض الثناء على نفسه لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ ومن لم يعرف الله تعالى والعالم بمثل هذه المعرفة فما عنده علم بالله ولا بالعالم ولو لا ما هو الأمر كما قررناه ما

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من عرف نفسه عرف ربه‏

وأتى بالعامل الذي يتعدى إلى مفعول واحد ولم يقل علم وذلك ليرفع الإشكال في الأحدية فقد بان لك يا وليي بما فصلناه وأومأنا إليه ما تقتضيه هذه الحضرة حضرة الرفع والتي قبلها حضرة الميزان الذي به يخفض الله ويرفع ولما كانت للحق الدرجة العليا قال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فإن الكلمة إذا خرجت تجسدت في صورة ما هي عليه من طيب وخبيث فالخبيث يبقى فيما تجسد فيه ما له‏

من صعود والطيب من الكلم إذا ظهرت صورته وتشكلت فإن كانت الكلمة الطيبة تقتضي عملا وعمل صاحبها ذلك العمل أنشأ الله من عمله براقا أي مركوبا لهذه الكلمة فيصعد به هذا العمل إلى الله صعود رفعة يتميز بها عن الكلم الخبيث كل ذلك يشهده أهل الله عيانا أو إيمانا فالخلق في كل نفس في تكوين فهم كل يوم في شأن لأنهم في نفس وهو هيولى صور التكوين فالحق في وجود الأنفاس شئونه والتصوير لما هو العبد عليه من الحال في وقت تنفسه فيعطيه الحق النفس الداخل هيولائي الذات فإذا استقر في القلب وأعطى أمانته من التبريد الذي جاء له تشكل وانفتحت في ذات ذلك النفس صورة ما في القلب من الخواطر فيزعجه السحر بعد فتح الصورة فيه على مدرجته خروج انزعاج لدخول غيره لأن السحر وهو الرئة له حفظ هذه النشأة فهو كالروبان بل هو كالحاجب الذي بيده الباب فإذا خرج فلا يخلو إما أن يتلفظ صاحب ذلك النفس بكلام أو لا يتلفظ فإن تلفظ تشكل ذلك الهواء بصورة ما تلفظ به من الحروف فيزيد في صورة ما اكتسبه من القلب وإن لم يتلفظ خرج بالصورة التي قبلها في القلب من الخاطر هكذا الأمر دائما دنيا وآخرة ففي الدنيا يتصور في خبيث وطيب وفي الآخرة لا يتصور إلا طيبا لأن حضرة الآخرة تقتضي له الطيب فلا يزال يوجد طيبا بعد طيب حتى يكثر الطيبون فيغلبون على الخبيثين الذين أوردوا صاحبهم الشقاء فإذا كثروا عليهم غلبوهم فازالوا حكمهم فيه فهو المعبر عنه بما لهم إلى الرحمة في جهنم وإن كانوا من أهلها فمن حيث إنهم عمار لا غير فإن رحمة الله سبقت غضبه والحكم لله وما سوى الله فمجعول وآله العقائد مجعول فما عبد الله قط من حيث ما هو عليه وإنما عبد من حيث ما هو مجعول في نفس العابد فتفطن لهذا السر فإنه لطيف جدا به أقام الله عذر عباده في حق من قال فيهم وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ فاشترك الكل المنزه وغير المنزه في الجعل فكل صاحب عقد في الله فهو صاحب جعل فمن هنا تعرف من عبد ومن عبد والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!