الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة إسبال الستور وهي للاسم الغفار والغافر الغفور»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[15] - «حضرة إسبال الستور وهي للاسم الغفار والغافر الغفور»

إذا كان درعي من وجودي لباسه *** فإن وجود الحق للرأس مغفر

فحقق مقالي إنه فيه بين *** فإن شئت أبدية وإن شئت استر

[الأمور كلها ستور]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد الغفار وهي حضرة الغيرة والوقاية والحفظ والعصمة والصون فاعلم أيدنا الله وإياك بِرُوحٍ مِنْهُ أن الأمور كلها ستور بعضها على بعض وأعلاها ستر الاسم الظاهر الإلهي فإنه ستر على الاسم الباطن الإلهي وما ثم وراء الله مرمى فهو ستر عليه فإذا كنت مع الاسم الباطن الإلهي في حال شهود ورؤية كان هذا الاسم الإلهي الباطن الذي أنت به في الوقت متحدا وله مشاهد سترا على الاسم الإلهي الظاهر ولا تقل انتقل حكم الظهور للاسم الإلهي الباطن وصار البطون للاسم الظاهر بل الظاهر على ما هو عليه من الحكم يعطي الصور في العالم كله والباطن وإن كان مشهودا فهو على حاله باطن يعطي المعاني التي تسترها الصور الظاهرة فهذا أعلى الستور وأخفاها وأعلى مستور وأخفاه ودون هذا الستر كون القلب وسع الحق فهو ستر عليه فإن القلب محل الصور الإلهية التي أنشأتها الاعتقادات بنظرها وأدلتها فهي ستور عليها لذلك تبصر الشخص ولا تبصر ما اعتقده إلا أن يرفع لك الستر بستر آخر وهو العبارة عن معتقده في ربه فالعبارة وإن دلتك عليه فهي ستر بالنظر إلى عين ما تدل عليه فإن الذي تدل عليه ما ظهر لعينك وإنما حصل في قلبك مثل ما يعتقده صاحب تلك العبارة فأخبر عن مستور وهو عندك مستور أيضا فما كشفته ولكن نقلت مثاله إليك لا عينه فكل حرف جاء لمعنى فهو ستر عليه وإن جاء ليدل عليه فهذا الستر من أعظم الستور وإن كان دون الستر الأول الذي هو ستر الأسماء الإلهية وإن دلت على ذات المسمى فهي أعيان الستور عليها فإن الناظر يحار فيها لاختلاف أحكامها في هذه الذات المسماة فكل اسم له حكم فيها فهي وإن عزت وعظمت ولها الحكم الذاتي في الوجود بالإيجاد محكوم عليها بأحكام هذه الأسماء الحسنى بل أسماء الموجودات كلها أسماؤها لمن فهم عن الله ثم المرتبة الثالثة في النزول في علم الستور ستور أعيان الأسماء اللفظية الكائنة في ألسنة الناطقين والأسماء الرقمية في أقلام الكاتبين فإنها ستور على الأسماء الإلهية من حيث إن الحق متكلم لنفسه بأسمائه فتكون هذه الأسماء اللفظية والمرقومة التي عندنا أسماء تلك الأسماء وستورا عليها فإنا لا ندرك لتلك الأسماء كيفية ولو أدركنا كيفيتها شهودا لارتفعت الستور وهي لا ترتفع وما لنا في أنفسنا أمثلة لها جملة واحدة بل أعظم ما عندنا تخيلها في نفوسنا والتخيل أمر تحدثه في النفوس المحسوسات فتصورها بالقوة المصورة في خيال الشخص وليس بعد هذه الستور إلا ستور الخلق بعضه على بعض فالستور وإن كانت دلائل فهي دلائل إجمالية فالعالم بل الوجود كله ستر ومستور وساتر فنحن في غيبه مستورون وهو ستر علينا فهو مشهود لنا إذ الستر لا بد أن يكون مشهودا لمستوره فإن الستر برزخ أبدا بين المستور والمستور عنه فهو مشهود لهما ولما جاءت الأحكام المشروعة إلى المكلفين وتعلقت بأفعالهم وفرق الحكم في أفعال المكلفين إلى طاعة ومعصية ولا طاعة ولا معصية وإلى مرغب فيه وإلى حكم غير مرغب فيه فالطاعة والمعصية حظر ووجوب فعلا أو تركا والمرغب فيه وغير المرغب فيه ندب وكراهة فعلا أو تركا ولا طاعة ولا معصية ولا مرغب فيه ولا غير مرغب فيه إباحة وهو حكم مرتبة النفس بما هي لذاتها وعينها وباقي الأحكام ليست لعينها وإنما تقبله بالداعي من خارج من لمة ملك ولمة شيطان فهي لمن حكمت عليه لمته‏

منهما لا لذاتها فالسعيد من النفوس المكلفة على نوعين في السعادة النوع الواحد مستور عن قيام المعصية به وغير المرغب فيه ولا لا طاعة ولا لا معصية ولا مرغبا ولا غير مرغب فيه فهو أسعد السعداء والنوع الآخر هو المستور بعد حكم المعصية فيه عن العقوبة على ذلك وهو المغفور له وهذه الأحكام تتعلق من المكلف في ظاهره وباطنه فالسعيد التام الكامل المعصوم ودونه المحفوظ ظاهرا غير المحفوظ باطنا فأقل مستور من اسمه عبد الغافر وأكثر مستور من اسمه عبد الغفور والمتوسط بينهما عبد الغفار فالناس أعني المكلفين على ثلاثة أحوال غافر وغفار وغفور ثم إن للمكلفين بعضهم مع بعض حكم هذه الأسماء فيمن جنى عليهم أو من حموه عن وقوع الجناية منهم ولهم أحكام أسماء الله فمتى تجاوز عمن جنى عليه تجاوز الله عنه ومن أنظر معسرا جنى ثمرة ذلك في الآخرة من عند الله فما يرى المكلف في الآخرة إلا أعماله تم إن الله يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ

[أن من الستور ما هو معلول بالبشرية]

واعلم أن من الستور وإرخائها ما هو معلول بالبشرية وهو قوله وما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْياً أَوْ من وَراءِ حِجابٍ وهو الستر أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا وهو ستر أيضا وليس الستر هنا سوى عين الصورة التي يتجلى فيها للعبد عند إسماعه كلام الحق في أي صوره تجلى فإن الله يقول لنبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله والمتكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وإن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده وقوله تعالى كنت سمعه وبصره‏

الحديث فهذه كلها صور حجابية أعطتها البشرية وما ثم إلا بشر وروح هذه المسألة ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فنفى الوسائط عن خلق آدم ومن هنا إلى ما دون ذلك حكم اسم البشر فحيث ارتفعت الوسائط ظهر حكم البشرية لمن عقل إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فهذا حصر الستور وإرخاؤها على البدور والمكسوفات ستور فمنها ظلالية ومنها أعيان ذوات مثل كسوف القمر والشمس وسائر الكواكب الخمسة وأعظمها ستر الشمس فإنها تطمس أنوار الكواكب كلها فلا يبقى نور إلا نورها في عين الرائي وإن كانت أنوار الكواكب مندرجة فيها ولكن لا ظهور لها كما قال النابغة الجعدي في ممدحه‏

أ لم تر أن الله أعطاك صورة *** ترى كل ملك دونها يتذبذب‏

بأنك شمس والملوك كواكب *** إذا طلعت لم يبد منهن كوكب‏

ونعلم بالقطع أن الكواكب بادية وطالعة في أعيانها ومجاريها غير إن إدراك الرائي يقصر عنها لقوة نور الشمس نور على نور البصر فيبهره‏

قيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أ رأيت ربك فقال نوراني أراه‏

فكيف أن يرى به فهو حجاب عليه ولم يكن ذلك إلا لضعف الإدراك فإنه تعالى قد يتجلى فيما دون النور فيرى كما ورد أينما شاء وهو القائل لَنْ تَرانِي فرؤيته لا رؤيته فهو المستور المرئي من غير ظهور ولا إحاطة فالستر لا بد منه وهذا القدر كاف من الإيماء فإن ميدان الغفران واسع لأنه الغيب والشهادة والله من وَرائِهِمْ مُحِيطٌ فأسبل الستر بالوراء على أعين السامعين فوقفوا مع ما سمعوا

فأسبل الستر بالوراء *** إسباله الستر بالمراء

بلا نزاع ولا خصام *** ولا جدال ولا مراء

فكل مجلى له حجاب *** يحجبه عند كل راء

من عن يمين وعن شمال *** وعن أمام وعن وراء

يعرفه كل من رآه *** من مخلص كان أو مراء


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!