الفتوحات المكية

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث السبعون: في بيان أن نبينا محمدا صلى اللّه عليه وسلم أول شافع يوم القيامة وأول مشفع وأولاه فلا أحد يتقدم عليه

* - قال صلى اللّه عليه وسلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول شافع وأول مشفع، زاد في رواية ولا فخر، قال العلماء: وإنما خص يوم القيامة بالسيادة لأنه يوم ظهورها لكل أحد كقوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] بخلاف شرفه في الدنيا وسيادته فإنها لا تخلو من منازع. قال الشيخ محيي الدين: وإنم أخبرنا صلى اللّه عليه وسلم بأنه أول شافع وأول مشفع شفقة علينا لنستريح من التعب الحاصل بالذهاب إلى نبي بعد نبي في ذلك اليوم العظيم وكل منهم يقول نفسي نفسي فأراد إعلامنا بمقامه يوم القيامة لنصبر في مكاننا مستريحين حتى تأتي نوبته صلى اللّه عليه وسلم ويقول أنا لها أنا لها فكل من لم يبلغه هذا الحديث أو بلغه ونسيه لا بد من تعبه وذهابه إلى نبي بعد نبي بخلاف من بلغه ذلك ودام معه إلى يوم القيامة فصلى اللّه عليه وسلم ما أكثر شفقته على الأمة، وإنما قال في آخر الحديث لا فخر أي لا أفتخر بكوني سيد ولد آدم من الأنبياء فمن دونهم وإنما قصدت بذلك راحتكم من التعب يوم القيامة بحكم الوعد السابق لي من اللّه عز وجل أن أكون أول شافع وأول مشفع فما زكى صلى اللّه عليه وسلم نفسه إلا لغرض صحيح وكذلك تزكية جميع الأئمة لأنفسهم لا يكون إلا لغرض صحيح فإنهم منزهون من رؤية فخر نفوسهم على أحد من الخلق بل كان بعض العارفين يقول لا يبلغ أحد مقام الكمال حتى يرى نفسه أنها ليست بأهل أن تنالها رحمة اللّه عز وجل. قال الجلال السيوطي وغيره: وله صلى اللّه عليه وسلم يوم القيامة ثمان شفاعات: أوله وأعظمها شفاعته صلى اللّه عليه وسلم في تعجيل حساب الخلائق وإراحتهم من طول ذلك الموقف وهي مختصه به صلى اللّه عليه وسلم.

ثانيها في إدخال قوم الجنة بغير حساب قال النووي: وهي مختصة به وتردد في ذلك الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد والشيخ تقي الدين السبكي وقالا لم يرد في ذلك شيء وكان الشيخ محيي الدين يقول في معنى إن قوما يدخلون الجنة بغير حساب: أن المراد أنه لم يكن في حسابهم وفكرهم أن اللّه يدخلهم الجنة أبدا لشهودهم قبيح زلاتهم وقد مر ذلك عن غيره أيضا، ثالثها فيمن استحق دخول النار أن لا يدخله وتردد النووي في كون هذه مختصة به قال السبكي لأنه لم يرد في ذلك نص لا بنفيه ول بإثباته. رابعها في إخراج من أدخل النار من الموحدين حتى لا يبقى فيها أحد منهم وتخلو طبقتهم وينبت فيها الجرجير كما ورد وهذه الشفاعة يشاركه صلى اللّه عليه وسلم فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون وقد حكى القاضي عياض في ذلك تفصيلا فقال: إن كانت هذه الشفاعة لإخراج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان فهي خاصة به ليست لأحد من الأنبياء ولا الملائكة ولا المؤمنين وإن كانت لغير من ذكر فقد يشاركه في ذلك غيره. خامسها في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وجوز الإمام النووي رحمه اللّه اختصاص هذه به صلى اللّه عليه وسلم. سادسها في جماعة من صلحاء أمته لا يتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات كما ذكره القزويني في العروة الوثقى. سابعها فيمن خلد من الكفار في النار أن يخفف عنهم العذاب في أوقات مخصوصة جمعا بين هذا وقوله تعالى لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ [الزخرف: 75]

كما ورد ذلك في « الصحيحين » في حق أبي طالب وكما ذكره ابن دحية في حق أبي لهب من أنه يخفف عنه العذاب في كل يوم اثنين لسروره بولادة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإعتاقه ثويبة حين بشرته به. قال الجلال السيوطي: ولا يرد علين شفاعته صلى اللّه عليه وسلم لبعضهم أن يخفف عنه عذاب القبر لأن هذه شفاعته في المؤمنين وفي البرزخ كلامنا إنما هو في شفاعاته صلى اللّه عليه وسلم يوم القيامة على وجه فيه عموم لسائر الموحدين ولغيرهم على وجه التخفيف فقط كما مر. ثامنها في أطفال المشركين أن لا يعذبوا وهذه الثلاث الأخيرة ذكرها بعضهم وأضاف إليها من دفن بالمدينة رواه الترمذي وصححه قال الشيخ محيي الدين في الباب الأحد والسبعين وثلاثمائة: واعلم أن الشفاعة الأولى من محمد صلى اللّه عليه وسلم تكون في فتح باب الشفاعة للناس فيشفع في كل شافع أن يشفع فإذا شفع الشافعون قبل الحق تعالى من شفاعتهم ما شاء ورد منها ما شاء قال: ويبسط اللّه تعالى الرحمة ذلك اليوم في قلوب الشفعاء فمن رد اللّه تعالى شفاعته من الشافعين في ذلك اليوم لا يردها انتقاصا له ولا عدم رحمة بالمشفوع فيه وإنما أراد تعالى بذلك إظهار المنة الإلهية على بعض عبيده فيتولى اللّه تعالى سعادتهم ويرفع الشقاء عنهم بإخراجهم من النار إلى الجنان بشفاعة الاسم أرحم الراحمين عند الاسم المنتقم والجبار فهي أي شفاعة الحق مراتب أسماء إلهية لا شفاعة محققة لأن اللّه تعالى يقول: سبقت رحمتي غضبي شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين فدل بالمفهوم أنه لم يشفع فيتولى بنفسه إخراج من شاء من عصاة الموحدين من النار إلى الجنة ويملأ اللّه تعالى جهنم بغضبه وعقابه كما يملأ الجنة برضاه ورحمته.

* - وقال في الباب الرابع والسبعين وثلاثمائة ما نصه: اعلم أن لكل من أرحم الراحمين والملائكة والنبيين والمؤمنين جماعة مخصوصة يشفع فيهم فشفاعة أرحم الراحمين خاصة بمن لم يعمل خيرا قط غير توحيدهم اللّه عز وجل فقط قال: وهؤلاء هم الذين شهدوا مع شهادة اللّه والملائكة أنه لا إله إلا هو وشفاعة الملائكة خاصة بمن كان على مكارم الأخلاق من العصاة قال وتكون شفاعة الملائكة على الترتيب الذي جعله اللّه لهم وآخرهم شفاعة التسعة عشر التي على جهنم وأما شفاعة النبيين فتكون في المؤمنين خاصة والمؤمنون قسمان مؤمن عن نظر وتحصيل دليل فالشافع فيه النييون فإن الأنبياء جاءوا بالخبر إلى الاسم والخبر هو متعلق الإيمان والقسم الثاني مؤمن مقلد لما أعطاه أبواه وأهل الدار التي نشأ فيها فالشافع في هذا المؤمنون الذين هم فوقه في الدرجة بعد أن خلص هؤلاء الشافعون بأنفسهم ونجوا بشفاعة محمد صلى اللّه عليه وسلم ثم إن الشفعاء كلهم لا يشفعون إلا إذا انتهت مدة المؤاخذة لعصاة الموحدين انتهى.

* - وقال في الباب السابع والسبعين وثلاثمائة في قوله صلى اللّه عليه وسلم سحقا سحقا في حق قوم ارتدوا على أدبارهم بعده صلى اللّه عليه وسلم إنما قال صلى اللّه عليه وسلم ذلك طلبا لموافقة الحق تعالى في غضبه عليهم إذ العالم بالأمر لا يزيد على حكم ما يقضي به الوقت فلهذا قال صلى اللّه عليه وسلم مع شفقته ورحمته سحقا سحقا ثم إنه صلى اللّه عليه وسلم بعد زوال ذلك الحال يتلطف في المسألة ويشفع فيمن كادت تهوي به الريح في مكان سحيق فهي شفاعة فيمن ارتد عن فعل شيء من فروض الإسلام لا فيمن ارتد عن أصل الدين انتهى.

* - وقال في الباب الثالث والسبعين إنما كان صلى اللّه عليه وسلم صاحب المقام المحمود في الشفاعة يوم القيامة بين يدي اللّه عز وجل لأنه أوتي جوامع الكلم فيحمده في ذلك المقام الأولون والآخرون ويرجع إلى مقامه ذلك جميع مقامات الخلائق وكما كانت بعثته صلى اللّه عليه وسلم عامة وشريعته جامعة لجميع الشرائع كانت شفاعته كذلك عامة فكما لا يخرج عن شريعته عمل يصح أن يشرع، كذا لا يصح أن يخرج عن شفاعته أحد وأطال في ذلك ثم قال في الجواب الثامن والسبعين من الباب السابق إنما سجد صلى اللّه عليه وسلم يوم القيامة بين يدي اللّه عز وجل من غير أن يتقدمه إذن من اللّه عز وجل في ذلك السجود لأن السجود في ذلك اليوم هو المأمور بالتكون في عين جسم محمد صلى اللّه عليه وسلم إذ هو طريق إلى فتح باب الشفاعة التي ليست لأحد غيره فلذلك يتقدم محمد صلى اللّه عليه وسلم بين يدي الرب جل وعلا كما يليق بجلاله في ذلك اليوم الأعظم ويسجد من غير أمر ورد عليه بالسجود فيقال له ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع صلى اللّه عليه وسلم.

(خاتمة): ذكر الشيخ في الباب الحادي والسبعين في أسرار الصوم: ثم اعلم أن فتوة أولياء اللّه تعالى إذا أذن لهم في الشفاعة أن يبدءوا بالشفاعة فيمن آذاهم في دار الدنيا ورماهم بالكفر والزندقة والرياء والنقائص وذلك ليزيلوا عنه الخجل حين يرى مقام أولياء اللّه تعالى في الآخرة عند اللّه تعالى من التقريب وإجابة السؤال وقد كان في دار الدنيا يجهل ذلك وهناك تطمئن نفوس المنكرين ويزول منها الخوف الذي حصل لهم من أولياء اللّه تعالى في ذلك اليوم العظيم قال: وإنم لم يبدأ الأولياء بالشفاعة فيمن أحسن إليهم واعتقدهم في دار الدنيا لأن المحسن مطمئن بما قدم من الإحسان فعين إحسانه يكفيه ويكون شفيعا له عند اللّه عز وجل هل جزاء الإحسان إلا الإحسان انتهى. (وكان): سيدي علي الخواص رحمه اللّه يقول: لا يكمل الفقير حتى يسأل اللّه العفو والصفح في دار الدنيا عن كل من سبه أو ذمه أو أنكر عليه ليوافي القيامة مغفورا له ولا يحصل له خجل ولا خوف ممن سبّهم أو أنكر عليهم من أهل اللّه عز وجل ولهذا المقام حلاوة يجدها العبد وانشراح عكس من ينتقم من آذاه أو أنكر عليه واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!