الفتوحات المكية

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الثاني والستون: في بيان أن النفس باقية بعد موت جسدها منعمة كانت أو معذبة وفي فنائه عند القيامة تردد للعلماء وبيان أن أجساد الأنبياء والشهداء لا تبلى

اعلم أن العلماء اختلفوا في فناء النفس عند القيامة واتفقوا على بقائه بعد موت جسدها وكان الشيخ تقي الدين السبكي رحمه اللّه يقول: الأظهر أن الروح لا تفني أبدا لأن الأصل في بقائها بعد الموت استمرار أي البقاء فيكون من المستثني بقوله إلا من شاء اللّه كما قالوا ذلك في الحور العين. وقال بعضهم إنها تفني عند النفخة الأولى كغيرها توفية لقوله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ(26) [الرحمن: 26] رجحه الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور لكنه قال: المراد بفنائها عند الصعق الأخروي خمودها فقط. قال وذلك هو حظها من الموت والفناء اللازم لصفة الحدوث فمن رآها في كشفه الصوري حال خمودها قال إنها ماتت، ومن أعطاه اللّه علم حقيقتها قال إنها نائمة. قال والذي كشف لي أيضا أن الطائفة الذين لا يصعقون عند النفخة يموتون أيضا بعد ذلك بأمر اللّه تعالى تحقيقا لوعده وتمييزا لصفة القدم من الحدوث وعليه يحمل قوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] فلا يجيبه أحد لأنه ما ثم حي ينطق فيقول اللّه تعالى ردا بنفسهلِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] قال وذهب قوم إلى أن الطائفة الذين لم يصعقوا عند النفخة الأولى لا يموتون أيضا لأن اللّه تعالى أنشأهم على حقائق لا تقبل الموت كالمخلوقات التي خلقها اللّه تعالى للبقاء وعلى هذا تخصيص عدم الإجابة المذكورة بمن صعق أي فلا يجيبه أحد ممن صعق أو ممن خمد انتهى.

(فإن قلت): فما الصحيح في عجب الذنب ؟

(فالجواب): المشهور من القولين أنه لا يبلى لحديث الشيخين: ليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة. وفي رواية لمسلم:

كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب الخلق يوم القيامة. وفي رواية للإمام أحمد وابن حبان: قيل وما هو يا رسول اللّه قال مثل حبة خردل منه ينشأون. قال العلماء وهو في أسفل الصلب عند رأس العصعص يشبه في المحل محل أصل الذنب من ذوات الأربع. وقال المزني رحمه اللّه الصحيح أنه يبلى كغيره قال تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وتأول الحديث بأنه لا يبلى بأكل التراب وإنما يبلى بلا تراب كما يميت اللّه تلك الأموات بلا ملك موت انتهى، ووافق المزني على ذلك ابن قتيبة وقال إنه آخر ما يبلى من الميت ولم يتعرض لوقت فنائه هل هو عند فناء العالم أو قبل ذلك وهو محتمل ؛ وروى الطبراني وغيره مرفوعا: المؤذن المحتسب كالمتشحط في دمه فإن مات لم يدود، أي لم يأكله الدود قال في " النهاية " وكان الشيخ محيي الدين رحمه اللّه يقول في قوله تعالى هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا [القصص: 88] المراد بالوجه هنا حقيقة الشيء الثابتة في علم اللّه عز وجل وهذه لا يصح فناؤها في العلم الإلهي لأنها معلوم علم للّه عز وجل وكان سيدي علي بن وفا رحمه اللّه يقول في قوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] المراد به العمل الصالح كما إذا عمل العبد عملا صالحا وخلط معه نوع من الرياء فوجه الحق تعالى هو الشق الخالص ووجه غير الرب هو ما أريد غير اللّه فم كان للّه فهو باق وما كان لغيره فهو فان انتهى.

(خاتمة): يستثنى من بلاء الأجساد أجساد الأنبياء والشهداء في قتال الكفار بشرطه ويلحق بهم من خالطت محبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حشاشته حتى سرت في جسمه سريان الماء في العود، وكذلك من يأكل الحلال الصرف الذي لا يخالطه شبهة كما شاهدنا ذلك في الشيخ نور الدين الشوني شيخ الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم وفي جدي الشيخ علي رحمه اللّه أما الشيخ نور الدين الشوني فنزلت بعد سنة وتسعة أشهر فوجدته طريا كم وضعناه وكنت رأيت له رؤيا قبل أن يموت وذلك أني سمعت قائلا يقول: من أراد أن يزور النبي صلى اللّه عليه وسلم فليزره في المدرسة السوفية عند الشيخ نور الدين الشوني فمضيت إليه فوجدت على بابها الأول أبا هريرة وعلى الباب الثاني المقداد بن الأسود وعلى الباب الثالث الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم فقلت للإمام علي رضي اللّه عنه أين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ها هو جالس على التخت داخل تلك الخلوة فوقفت على بابها فوجدت الشيخ نور الدين هو الجالس فقلت له أين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتبسم، وصرت أتطلب النبي صلى اللّه عليه وسلم فظهر لي وجهه في وجه الشيخ نور الدين فما زال النور يتشرب من جهة جبهة الشيخ نور الدين إلى أصابع رجليه فخفي الشوني وظهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلمت عليه فقصصت هذه الرؤيا على الشيخ فقال: يا ولدي ما سررت في عمري كله بشيء مثل هذه الرؤيا وإن صح منامك يا ولدي لا يبلي لي جسد فكان الأمر كما ذكرناه وأما جدي رضي اللّه عنه فكان يبالغ في الورع ويقول: من أحكم أكل الحلال الصرف لم يبل له جسد وكان لا يأكل قط طعام أحد من مشايخ البلاد ولا طعام قاض ولا طعام مباشر ولا طعام أحد لا يتورع وكان لا يأكل فراخ حمام الأبراج لأكلها من زرع الناس وترك آخر عمره أكل عسل النحل لما أخبره أهل برشوم الصغرى أن نحل بلده يعدي البحر ويأكل زهر فواكههم فلما مات دفنوا والدي بجانبه بعد إحدى وعشرين سنة فوجده طريا كما وضعوه هكذا أخبرني الذي دفنه ودفن الوالد واللّه تعالى أعلم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!