الفتوحات المكية

اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر

وهو منتخب من كتاب لواقح الأنوار القدسية المختصر من الفتوحات المكية

تأليف الشيخ عبد الوهاب الشعراني

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


المبحث الحادي والعشرون: في صفة خلق اللّه تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام

* - قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] .

(فإن قلت): فما وجه تشبيه عيسى بآدم عليهما السلام، مع أن عيسى خلق من نطفة مريم ونفخ جبريل عليه الصلاة والسلام ؟

(فالجواب): أن الحق تعالى إنما أوقع التشبيه في عدم الأبوة الذكرانية من أجل أنه تعالى نصب ذلك دليلا لعيسى في براءة أمه وإنما لم يوقع التشبيه بحواء وإن كان الأمر عليه لكون المرأة محل التهمة لوجود الحمل إذ كانت محلا موضوعا للولادة وليس الرجل بمحل لذلك والمقصود من الأدلة إنما هو ارتفاع الشكوك وفي خلق حواء من آدم، لا يمكن وقوع الالتباس لكون آدم ليس بمحل لما صدر عنه من الولادة فكما لا يعهد ابن من غير أب كذلك لم يعهد ابن من غير أم فالتشبيه من طريق المعنى أن عيسى كحواء لأن ظهور عيسى من غير أب كظهور حواء من غير أم وإيضاح ذلك أن أول موجود وجد من الأجسام الإنسانية آدم عليه السلام فكان هو الأب الأول من هذا الجنس ثم إن الحق تعالى فصل عن آدم أبا ثانيا سماه أما فصح لهذا الأب الأول الدرجة عليه لكونه أصلا له فلما أوجد الحق تعالى عيسى ابن مريم تنزلت مريم عليها السلام منزلة آدم عليه السلام وتنزل عيسى منزلة حواء فلما وجدت أنثى من ذكر كذلك وجد ذكر من أنثى فختم الدور بمثل ما به بدأها في إيجاد ابن من غير أب كم كانت حواء من غير أم فكان عيسى وحواء أخوان وكان آدم ومريم أبوان لهما ذكر ذلك الشيخ محيي الدين في “ الفتوحات “ وهو كلام نفيس لم أجد أحدا تعرض له ولا حام حول معناه فرحمه اللّه ما كان أوسع اطلاعه وقال في الباب السابع منها:

(فإن قيل): كم أنواع ابتداء الجسوم الإنسانية ؟

(فالجواب): هي أربعة أنواع آدم وحواء وعيسى وبنو آدم فإن كل جسم من هذه الأربعة يخالف نشأة الآخر في التشبيه مع الاجتماع في الصورة لئلا يتوهم الضعيف العقل أن القوة الإلهية أو الحقائق لا تعطي أن تكون هذه النشأة الإنسانية إلا عن سبب واحد يعطي بذاته هذه النشأة فرد اللّه هذه الشبهة في وجه صاحبها بأن أظهر هذ النشء الإنساني بطريق لم يظهر به جسم حواء وأظهر جسم حواء بطريق لم يظهر به جسم ولد آدم وأظهر جسم ولد آدم بطريق لم يظهر به جسم عيسى عليه الصلاة والسلام. قال: وقد جمع اللّه تعالى هذه الأربعة أنواع في آية من القرآن وهو قوله تعالى: ي أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ [الحجرات: 13] . يريد آدم وجميع الناس مِنْ ذَكَرٍ [الحجرات: 13] يريد حواء وَأُنْثى [الحجرات: 13] يريد عيسى ومن المجموع مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] معا بطريق النكاح يريد بني آدم فهذه الآية من جوامع الكلم وفصل الخطاب ثم إنه لما ظهر جسم آدم كم ذكرنا ولم يكن فيه شهوة النكاح وكان سبق في علم اللّه أنه لا بد من التناسل والنكاح للإنتاج استخرج تعالى من ضلع آدم من القصيرى حواء فقصرت بذلك عن درجة الرجل فما تلحق به أبدا.

(فإن قلت): فما الحكمة في تخصيص خلقها من الضلع ؟

(فالجواب): الحكمة في ذلك ليكون عندها حنو على ولدها وزوجها لأجل الانحناء الذي في الضلع فحنو الرجل على المرأة إنما هو حنو على نفسه في الحقيقة لأنها جزء منه وحنو المرأة على الرجل لكونها منه خلقت أي: ضلعه والضلع فيه انحناء وانعطاف قال الشيخ: وإنما عمر اللّه تعالى الموضع الذي خرجت منه حواء من آدم بالشهوة لئلا يبقى في الوجود خلاء فلما غمرت بالهواء حن إليها حنينه إلى نفسه لأنها جزء منه وحنت حواء إليه لكونه موطنها الذي نشأت منه.

(فإن قلت): فإذن حب حواء حب الموطن وحب آدم حب نفسه ؟

(فالجواب): نعم. وهو كذلك ولذلك كان حب الرجل للمرأة ظاهرا إذ كانت عينه وأما المرأة فأعطيت القوة المعبر عنها بالحياة فلم يظهر عليها محبة الرجل لقوته على الإخفاء إذ الموطن لم يتحد بها اتحاد آدم بها. قال: وصور اللّه تعالى في ذلك الضلع جميع ما صوره وخلقه في جسم آدم فكان نشء آدم في صورته كنشء الفاخوري فيم ينشئه من الطين والطبخ وكان نشء جسم حواء كنشء النجار فيما ينحته من الصور في الخشب فلما نحتها في الضلع وأقام صورتها وسواها نفخ فيها من روحه فقامت حية ناطقة أنثى ليجعلها محلا للزراعة والحرث لوجود الإنبات الذي هو التناسل وأطال في ذلك في الباب السابق.

(فإن قيل): فما وجه تسمية عيسى عليه الصلاة والسلام روحا من اللّه ؟

(فالجواب): كما قاله الشيخ أبو طاهر القزويني رحمه اللّه: أن الحق تعالى لما خلق الأرواح قبل الأجسام بألفي عام كما ورد، خبأها في مكنون علمه فلما خلق الأجسام هيأ في علمه لكل ذرة منها روحا في الملكوت تناسبها من سعادة أو شقاوة فكانت تلك الذرات أزواجا لأرواحها كما قال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [يس: 36] .

أي مقرونة كل روح بشكلها ثم لما أراد اللّه تعالى أخذ الميثاق منهم أهبط بقدرته تلك الأرواح كلها من أماكنها على تلك الذرات على وفق علمه وحكمته ثم لما أخذ منهم الميثاق حل عقال الأرواح فطارت إلى مكامنها في الملكوت إلى وقت اتصالها بالأجنة في الأرحام. قال الشيخ: ورأيت في تفسير الإنجيل أن روح عيسى عليه الصلاة والسلام لم يسترد عن الذرة بعد أخذ الميثاق وإنما دفعها اللّه تعالى إلى جبريل عليه السلام، فأسكنه الملكوت وكان يسبح اللّه ويقدسه إلى أن أمره بنفخه فنفخه في جيب مريم فخلق منها المسيح عليه الصلاة والسلام، من غير نطفة متوسطة فلذلك سماه اللّه روحا دون غيره ثم رفعه إلى السماء بقدر ما فيه من الروحانية فكان مكثه في الأرض بقدر ما فيه من الطين ومكثه في السماء بقدر ما فيه من النور. قال الشيخ: وقول اللّه تعالى حكاية عنه وهو في المهد من قوله: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [مريم: 31]

إشارة منه إلى هذه الجملة يعني: أينما كنت في السماء والأرض ويؤيد ذلك قول أبي بن كعب: إن اللّه تعالى لما رد أرواح بني آدم إلى صلب آدم مع الذرات أمسك عنده روح عيسى فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم فكان منه عيسى عليه السلام، فلهذا قال: فيه روح منه.

(فإن قلت): فهل الملائكة الموكلون بالأرواح ويتولون تصوير الأجنة هم أعوان عزرائيل أو إسرافيل ؟

(فالجواب): هم أعوان إسرافيل عليه الصلاة والسلام، الموكل بالصور، وأما هو عليه السلام، فإنما هو ناظر إلى صور الخليقة المصورة تحت العرش، فإن في الحديث: أن لكل ما خلق اللّه تعالى صورة مخصوصة في ساق العرش أظهرها اللّه تعالى قبل تكوينهم ثم إنه لصور بني آدم تشابه وتشاكل في الخليقة لأنهم على صورة أبيهم آدم وآدم هو كذلك في الصور التي تحت العرش وإليه الإشارة بقوله صلى اللّه عليه وسلم: “ إن اللّه خلق آدم على صورته “. وفي رواية أخرى:

“ على صورة الرحمن “. ومعناه على الصورة التي صورها الرحمن في العرش أو اللوح قبل خلق آدم عليه السلام فإن الحق تعالى لا صورة له لمباينته لجميع خلقه فافهم. فعلم أن إسرافيل ناظر إلى الصور المنقوشة في العرش وملك الأرواح عند تصوير الجنين ناظر إلى إسرافيل وتلك الصور كلها حكاية عما في علمه الأزلي سبحانه وتعالى فيأخذ إسرافيل تلك الصورة المختصة المسماة عند اللّه لتلك الذرة المخلقة المرباة ثم يلقيها إلى ملك الأرحام وملك الأرحام يلقيها إلى الجنين في الرحم فيصوره بتلك الصور المعينة وإلقاء الصورة إنما يكون بإلقاء نسختها التي تليق بها، وإنما أضاف تعالى التصوير في الأرحام إليه بقوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمران: 6] .

لأن هذه الأسباب مقدرة على قضية علمه وتدبيره إجراء للعادة الحسنى فهو تعالى مصور للصور ومصور مصوريها لا خالق سواه ولا مصور إلا هو ولذلك شدد الوعيد على من اتخذ الأصنام واللّه تعالى أعلم. فأمعن النظر في هذا المبحث فإنك لا تجده في كتاب واللّه تعالى يتولى هداك.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!