الفتوحات المكية

شرح مشكلات الفتوحات المكية

وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية

منسوب للشيخ عبد الكريم الجيلي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


الباب الخامس الأمر دوريّ يعود إلى م بد !

قال الشيخ رضي اللّه عنه :ومن ذلك . أي ، ومن بعض ما تضمنه هذا الباب من فنون العلم المشار إليه آنفا . سرّ كن والبسملة ، فيمن علّله .

قد قلنا لك آنفا ، إن البسملة عبارة عن كلمة كُنْ [ النّحل : 40 ] ،

لأن اللّه تعالى كما أظهر الموجودات بواسطة الكلمة ، كذلك أظهر سرّ كتابه الكريم بواسطة البسملة .

فالكتاب كله ، نسخة جميع الوجود ؛ والفاتحة نسخة الإنسان ، والبسملة نسخة كلمة الحضرة .

ولهذا ، سنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البسملة في ابتداء الأمور ،ليكون التقدير فيه:كل فعل يفعله عقيب البسملة ، باللّه .

فمن بسمل عند الأكل ، كان تقدير حاله أن يقول : باللّه أشرب ، فلا بد من تقدير الفعل بعد البسملة بلسان الحال ، لتعلّق الباء من بِسْمِ اللَّهِ [ الفاتحة :

1 ] ؛ و « اسم » زائدة ، والمراد اللّه .

كما في قول : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ( 1 ) [ الأعلى :1].والمراد بذلك :سبّح ربّك .

وقد وضعنا للبسملة كتابا ، شرحناها فيه أيام البداية ، وسميناه بالكهف والرقيم في شرح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ( 1 ) [ الفاتحة :1].

وهذا الكتاب المذكور ، أول كتاب صنّفناه في علم الحقيقة ، فالحمد لمن جعل أول تصنيفاتي في : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ( 1 ) [ الفاتحة : 1 ] .

ليقع كمال النسبة الإلهية في إظهار الحقائق صورة ومعنى.

ولولا ما شرحناه من أمر البسملة ، لأوردنا لك ذلك كله، على التفصيل والإجمال ، وزبدة الأمر كله ؛ رجوع أمر جميع أفعال العباد ، إلى أنها أفعال للّه .

فلذلك :قال الحلّاج ، وإن لم يكن من أهل الاحتجاج ، بسم اللّه منك بمنزلة كن منه . الحلاج رضي اللّه عنه ، هو الحسين بن منصور الحلاج .

قال الشيخ إنه ليس من أهل الاحتجاج ،لأنه لما تحدّىوقال" أنا الحقّ"قتله سيف الشريعة ؛ فلو امتنع بمقتضى صفات الحق ، لم يستطع أن يقتله أحد ؛ فكانت حجّته ثابتة ودعواه صحيحة عند الغير .

كما جرى لأبي يزيد رضي اللّه عنه في قوله :سبحاني، ما أعظم شأني وأعزّ سلطاني!

وفي قول الشيخ عبد القادر رضي اللّه عنه :معاشر الأنبياء ، أوتيتم اللقب ، وأوتينا ما لم تؤتوه !

وفي قول الشيخ أبي الغيث بن جميل رضي اللّه عنه :خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله !

وقوله حين قال له الحكمي رضي اللّه عنه :ما حالك ؟ قال :أصبحت أحيي وأميت ، وأفعل ما أريد ، وأنا على كل شيء قدير.

فكلّ من هؤلاء السادة ، منع بحاله أن يسطو عليه أحد ، فأقام حجّته .

وكان الحلاج دون هذه المرتبة - ولو كان على الحقّ- ولهذا أخذته سيوف الشريعة .

ولا مؤاخذة على من قام عليه ، لأنهم قاموا بالحق ؛ولو كان حقّه أعلى من حقّهم.

ونهاية الأمر ؛ إن الذين فعلوا هذا الفعل ، إذا ظهرت عليهم الحقائق ؛ نكّسوا رؤوسهم ، وآمنوا بقوله .

ولول الحقيقة ، ما أخذته سيوف الشريعة ؛لأنه لما طلب ظهوره بالربوبية في عالم العبودية - وذلك أعزّ من وجود النار في قعر البحار- أطلقه لسان الوقت ، عن قيد الهيكل الجسماني ، ليتحقّق بما ادعاه في العالم اللائق بتلك الدعوى ، فجرى عليه ، ما جرى غيره من الحقائق على الحقائق ؛ لئلا يدّعي هذا المقام من ليس له ذلك .

ولو كان متحقّقا بذلك كمال التحقّق ، كما كان عليه غيره من الكمّل المذكورين ، لامتنع بحقّ صفات الربوبية عن تلك القتلة ، كما امتنع غيره . .

فكان الحلّاج على بيّنة من اللّه ، ولو لم يكن له شاهد تلك البيّنة ؛ وكان من ذكرناهم من الكمّل ، على بيّنة من اللّه ، ويتلوه شاهد منه .

ولهذا ، قال اللّه تعالى :إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [ لقمان : 19 ] .

يريد بذلك ، كناية عن حال المريد إذا تكلّم قبل أوان الكلام ؛ وفي المثل السائر عند الامتحان يعزّ المرء أو يهان .

فلكل مقام مقال ، لا يصح دعوى المتكلّم عن ذلك ، إلا إذا تمكّن فيه .

فلو كان الحلّاج رضي اللّه عنه ، واجد الحقيقة، ما قال غير متمكّن بالحال ؛ فتعجّل وتكلّم ، ولو تأمّل في قوله تعالى لنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام : لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ [ القيامة : 16 ] الآية ، لكان ، كغيره من الكمّل الذين قال اللّه في حقّهم : لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [ الأنبياء : 27 ] الآية

فالكامل يعمل بأمر اللّه ، كلّ ما يعلمه اللّه ، والعارف يعمل باللّه مطلقا ؛ لا يعلم هذا الأمر المخصوص - الذي يتوجّه من الحقّ إلا الكامل - إلا إذا كان عارفا كاملا ، وإلا فهو محجوب عنه .

ولما كان الوليّ فاعل باللّه ، لتحقّق ذاته بمعنى صفاته ؛ كان بِسْمِ اللَّهِ [ الفاتحة : 1 ] منه ، بمنزله كُنْ [ النّحل : 40 ] من اللّه .

إذا قارنت ذلك منه حركة إرادية لصدور ما يريد في الخارج ، كما أن كلمة كُنْ [ النّحل : 40 ] من الحقّ مقارنة لإرادته ما يكون على الوجه المخصوص المراد .

ولهذا ،قال الشيخ رضي اللّه عنه: فخذ التكوين عنه . الضمير في " عنه " راجع إلى اسم اللّه المذكور في البسملة ،

والمراد :خذ علم كيفية التكوين ، عن اللّه المكوّن ؛ فقل للشيء كُنْ [ النّحل : 40 ] فيكون ، كما هو القائل تعالى لكل شيء .

وعن ذلك عبّر بقوله :فمن تقوّى جأشه ، أي قلبه ؛ واستدار عرشه ، باستوائه بذاته على عرش أسمائه وصفاته ؛ وتمهّد فرشه ، بتمكنه من التحقّق ، صورة ومعنى ؛ فظهر أثر اسم باطنه على ظاهره ،

فكان لجسمه جميع ما هو لروحه-التي لها ما للحقّ تعالى- كان متصرّفا في العالم ، تكوّن الأشياء بكلمته له كُنْ [ النّحل : 40 ] كرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،قال كن ، ولم يبسمل ؛ فكان ، ولم يحوقل.

أشار إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم ، لشيخ رآه من بعيد :« كن زيدا »فكان ذلك الشيخ زيدا ، أخو عمر بن الخطّاب ، أرسله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وترقّب وصوله ؛ وحكايته مشهورة . "" في الحديث « كن أبا خيثمة » صحيح مسلم وصحيح ابن حبان وروى القصة غيرهم . ""

والمراد :أن من كان متحقّقا بربه - روحا وجسما ، وصورة ومعنى - تكوّن ذلك الشيخ فصار زيدا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :كُنْ[ النّحل : 40 ] .

ولم يقل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ( 1 ) [ الفاتحة : 1 ] .

لأن بِسْمِ اللَّهِ [ الفاتحة : 1 ] مرتبة العارف ، وكُنْ [ النّحل : 40 ] مرتبة اللّه ،

والمحقّق هو اللَّهِ [ الفاتحة : 1 ] ليس المراد بهذا الاسم غير المحقّق ، ولا غير اللّه تعالى .

وقوله : فَكانَ [ الأعراف : 175 ] ضميره راجع إلى ما قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كُنْ [ النّحل : 40 ] وفاعل « لم يحوقل » راجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أي : لم يقل لا حول ولا قوة إلا باللّه .

لأن ذلك مرتبة العارف الذي رجع إلى اللّه تعالى بالفناء عن صفات نفسه وأفعالها ، بل وعن ذات نفسه ؛ واللّه راجع إلى المحقّق ، رجوع العارف إلى اللّه .

فالعارف قائم باللّه ، واللّه قائم بالمحقّق .

فلهذا ، لم يقل المحقّق لا حول ولا قوة إلا باللّه ، كما يقول المحقّق .

فمن ذاق ، من شراب التمكين بالذات في تحقيق إظهار معاني الأسماء والصفات ؛ ضاق مسلكه ، لأنه حينئذ يسير بالذات ، والذات ظلمة لا طريق فيها لسالك .

وإلى هذا المعنى أشار سيدي محيي الدين عبد القادر الجيلاني ، رضي اللّه عنه ، بقوله:

كلّ الأولياء لمّا وصلوا إلى القدر وجدوه مصمت فوقفوا ، إلا أنا ، فتحت لي فيه روزنة ، فولجت فيها ، فدافعت أقدار الحقّ بالحقّ . .

هذ معنى ؛ وإن شئت قلت: من ذاق ألوهية الحقّ في الحقّ ، ضاق عن قبوله بحكم الخلق بالكلية ؛ فإن في ذلك فقدانه للربوبية ، إذ ليس من الكمال ترك الربوبية للعبودية ، فيضيق المحقّق عن كمال التنزيل إلى العالم الخلقي من كل جهة .

فإذن:يكون حقّا مع حقيقته بالذات ، وخلقا مع خليقته بالأسماء والصفات والشؤون والاعتبارات والنسب والإضافات ، فمعيّته مع الحق والخلق ، خير معيّة ، الحق سبحانه وتعالى ! ولم يقر بهذه النكتة - حالا - إلا كامل في هذه الدار ، وحقيقة الأمر ؛ رجوع الكلّ إلى هذا المعنى .


وقد أشار الشيخ رضي اللّه عنه إلى ذلك بقوله :

وإذا التفّت الساق بالساق : فإلى ربك المساق ، وإليه ترجع الأمور ، إذ كان منه الصدور .

معناه :إذا التفت والتحقت الذات الإنسانية بالذات الرحمانية ، بشهودها أنها عينها - لا غيرها - من كل جهة ، وبكل اعتبار ، وعلى كل حال ، وفي كل وقت على الدوام . فإلى مقام الربوبية المحضة ، يكون مساق هذا الإنسان .

وحينئذ ، ترجع إليه - أي إلى الإنسان - الأمور ؛ لأنه الحق الذي كان منه البداية والصدور . إذ الأمر دوريّ ، يعود إلى ما بد .

ولهذا ،قال الشيخ رضي اللّه عنه :لا تبسمل ، وقل بكن ، مثل ما قاله يكن .

بكن الأولى ،بالباء الموحدة .

ويكن الأخيرة ،بالياء المثناة من تحت ؛ وهذا جزاء لقوله : قل .

والمعنى :لا ترجع بك إليه ، كما هو المقصود في البسملة ، بل ارجع بالأمر كله إليك ، وقل كُنْ [ النّحل : 40 ] .

لم تريده ، كما يقوله الحقّ ، يكن ما شئت كما شئت .

فإليه رجوعنا ، لا إلينا . أي : فإلى مقام الربوبية رجوعنا ، لا إلى مقام العبودية .

فالربوبية لازمة لذواتنا ، والعبودية عارضة بحكم المحل .

وترتيب الحكمة ، هو المقتضي للحكمين في المحلين ؛ من أجل هذه الذات الواحدة الكاملة بجميع تلك المعاني .

فكن عين الذات الإلهية من كل جهة ، وبكل اعتبار ، وعلى كل حال ، لا تخرج عن ذلك طبعا . تكن ، عينه . . بإظهار الأثر من نفوذ كل أمر ، وإدراك كل علم . وما يلقّاها إلا الذين صبروا ، وَم يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 35 ) [فصّلت : 35 ] .

وقد رمزت لك في هذه النبذة ، جميع ما صرّح به الشيخ في الباب الخامس من كتاب الفتوحات المكية .فتأمله ، ترشد بمعرفته إن شاء اللّه تعالى .


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!