شرح مشكلات الفتوحات المكية
وفتح الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية
منسوب للشيخ عبد الكريم الجيلي
مقتطفات من الباب 559 من الفتوحات المكية
ومن ذلك ، سرّ الافتتاح بالنكاح ؛ من الباب الأحد عشر :
أنا في الوجود باب * وعليه منه قفل
فأنا بعل بوجه * وبوجه أنا أهل
القول - من القائل - في السامع ، نكاح . فعين المقول ، عين ما تكوّن من السامع ، فظهر . .
ظهور المصباح ، لتوجه سبب القول والتكوين - على التعيين - في المحل الظاهر ، لنزول الباطن إلى الظاهر . وهذا نكاح بين المعنى والحسّ ، والأمر المركّب والنّفس ؛ ليجمع بين الكثيف واللطيف ، ويكون به التمييز والتعريف .
وإن خالف تركيب المعاني ، تركيب الحروف ؛ فهو كخلاف المعرفة والمعروف .
ثم ينزل الأمر النكاحيّ ، من مقام الافتتاح ، إلى مقام الأرواح ؛ ومن المنازل الرفيعة ، إلى ما يظهر من نكاح الطبيعة ؛ ومن بيوت الأملاك ، إلى نكاح الأفلاك لوجود الأملاك ؛ ومن حركات الأزمان ، إلى نكاح الأركان ؛ ومن حركات الأركان ، إلى ظهور المولّدات التي آخرها جسم الإنسان ، ثم تظهر الأشخاص ، بين مباض ومناص.
فالنكاح ثابت مستقر ، ودائم مستمر .
ومن ذلك ، سرّ إطفاء النبراس بالأنفاس ، من الباب الخامس عشر :
لما كان القائل له مزاج الانفعال ، كان للنّفس الإطفاء والإشعال . فإن أطف أمات ، وإن أشعل أحيا ، فهو الذي أضحك وأبكى .فينسب الفعل إليه ، والقابل لا يعوّل عليه .
وذلك لعدم الإنصاف في تحقيق الأوصاف ، مع علمنا بأن الاشتراك معقول في الأصول . للقابل الإعانة ، ولا يطلب منه الاستعانة . فهو المجهول المعلوم ، عليه صاحب الذوق يحوم ، وحكمه في المحدث والقديم .
يظهر ذلك ، في إجابة السائل ، وهذا معنى قولنا القابل .
لولا نفس الرحمن ، ما ظهرت الأعيان . ولولا قبول الأعيان ، ما اتصفت بالكيان ، ولا كان ما كان .
الصبح إذ تنفّس ، أذهب الليل الذي كان عسعس .
فلولا الصّيد ما نفر الغزال * ولولا الصّدّ ما عذب الوصال
ولولا الشّرع ما ظهرت قيود * ولولا الفطر ما ارتقب الهلال
ولولا الجوع ما ذبلت شفاه * ولولا الصّوم ما كان الوصال
ولولا الكون ما انفطرت سماء * ولولا العين ما دكّت جبال
ولولا ما أبان الرّشد غيّا * لما عرفت هداية أو ضلال
ولا كان النّعيم بكلّ شيء * ولا حكم الجلال ولا الجمال
أرى شخصا له بصر ويرمي * ولا قوس لديه ولا نبال
فسبحان العليم بكلّ أمر * له العلم المحيط له الجلال
إذا نظرت إليه عيون قوم * بلا جفن بدا لهم الكمال
ووقتا لا يرون سوى نفوس * مبعّدة وغايتها اتصال
ومن ذلك :
سرّ من منح ليربح ، فلنفسه سعى ، فكان لما أعطي وع ، من الباب السابع عشر :
إذا ما كنت ميدانا * فجل فيه إذا كان
فإنّي لست أنفيه * لذا سمّيت إنسان
ومن ذلك :سرّ النافلة والفرض ، في تعلّق العلم بالطول والعرض ، من الباب العشرين :
من كان علته عيسى ، فلا يوسي . فإنه الخالق المحيي ، والمخلوق الذي يحيي .
عرض العالم في طبيعته ، وطوله في روحه وشريعته .
وهذ النور ، من « الصّيهور والدّيهور » ، المنسوب إلى الحسين بن منصور .
لم أر : متّحدا رتق وفتق ،
وبربّه نطق ،
وأقسم بالشّفق ، واللّيل وما وسق ، والقمر إذا اتّسق
وركّب طبقا عن طبق ، مثله
. . فإنّه نور في غسق .
منزلة الحق لديه ، منزلة موسى من التابوت ؛ ولذلك كان يقول باللاهوت والناسوت .وأين هو ، ممن يقول :العين واحدة ، ويحيل الصفة الزائدة ؟ وأين فاران من الطور ؟ وأين النار من النور ؟
العرض محدود ، والطول ظلّ ممدود ، والفرض والنفل : شاهد ومشهود .
ومن ذلك ، سرّ الجرس ، واتخاذ الحرس . . من الباب الخامس والثلاثين :
الجرس كلام مجمل ، والحرس باب مقفل . فمن فصّل مجمله ، وفتّح مقفله ؛ اطّلع على الأمر العجاب ، والتحق بذوي الألباب ، وعرف ما صانه القشر من اللباب ، فعظّم الحجاب والحجّاب .
الإجمال حكمة ، وفصل الخطاب قسمة .
لإزالة غمّة ، في أمور مهمّة ، محجوبة بليال مدلهمّة .
والحرس عصمة ، فهم أعظم نعمة ، لإزالة نعمة ، لإزالة نقمة .
صلصلة الجرس ، عين حمحمة الفرس .
*
ومن ذلك ، سرّ وجود النّفس في العسس . . من الباب التاسع والأربعين :
بالعسس يطيب المنام ، وبالنّفس تزول الآلام . إن أضيف إلى غير الرحمن ، فهو بتان . ظهور حكمه ، فزال عن المكروب غمّه .
من قبل اليمن جاء ، وبعد تنفيذ حكمه فاء . وإليه يرجع الأمر كله ، لأنه ظلّه ، لا ينقبض الظّلّ ، إلا إلى من صدر عنه ؛ فإنه ما ظهر عينه ، إلا منه . فالفرع ل يستبد ، فإنه إلى أصله يستند .
في الفروع يظهر التفصيل ، وتشهد له الأصول ، في قضية العقول .
ومن ذلك ، سرّ الحيرة والقصور ، فيما تحوي عليه الخيام والقصور . . من الباب الخمسين :
الخيمة والقصر ، يؤذن بالقهر والقسر . لولا الحيرة ما وجد العجز ، ولا ظهر سلطان العزّ ، وبالقصور ، علم بحدوث الأمور .
القصور يلزم الطرفين ، لعدم الاستقلال بإيجاد العين . لولا القبول والاقتدار ، وتكوير اليل والنهار - بالإقبال والإدبار - ما ظهرت أعيان ، ولا عدمت أكوان ، فسبحان المتفضّل بالدهور والأمور .
ومن ذلك ، سرّ الهرب من الحرب ، من الباب الأحد والخمسين :
من مال ، متحيّزا إلى فئة أو متحرّفا لقتال ، فما مال . فالهرب من الحرب ، وهو من الخداع ، في الفزاع ، كن قارّا ، ولا تتّبع فارّا .
لا تضطره إلى ضيق ، فيأتيك من تكرهه من فوق . كلّ يجري في قربه إلى أجل ، فلا تقلّ بجلّ . إذا نزل القدر ، عمي البصر . نزول الحمام ، يقيّد الأقدام .
ل جناح ، لمن غلبه الأمر المتاح .
من راح ، استراح ، إلى مقر الأرواح .
من فتح له باب السماء ، استظلّ بسدرة الانتهاء .
الشهيد حيّ ، وإنجازه ليّ .
ومن ذلك ؛ سرّ عبادة الهوى ، لماذا تهوى . . من الباب الثاني والخمسين :
لا احتجار على الهوى ، ولهذا يهوى . بالهوى يجتنب الهوى . وحقّ الهوى ، إنّ الهوى سبب الهوى . ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى ، بالهوى يتّبع الحق .
والهوى يقعدك مقعد الصدق .
الهوى ملاذ ، وفي العبادة به التذاذ ، وهو معاذ لمن به عاذ .وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ( 1 ) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ( 2 ) [ النّجم : 1 ، 2 ] .
فبهوي النجم وقع القسم ، بعد ما طلع ونجم ،* فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( 75 ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 ) [ الواقعة : 75 ، 76 ] فلولا علوّ قدره ، ما عظّم من أمره .
ومن ذلك ، سرّ تعشّق القوم بالنوم ، من الباب السادس والتسعين :
الخيال عين الكمال . لولاه ما فضّل الإنسان على سائر الحيوان ؛ به جال وصال وافتخر وطال ،
وبه قال من قال :سبحاني ؛ وإنني أنا اللّه ، وبه كان الحليم الأوّاه . فله الشتات والجمع بين أضداد الصفات حكم على المحال والواجب ، بما شاءه المذاهب .
يخرق فيهم العادة ، ويلحقهما بعالم الشهادة ، فيجسّدها في عين الناظر ، ويلحق الأول - في الحكم - بالآخر .
لا يثبت على حال ، وله الثبوت على تقلّب الأحوال . فله من آي القرآن ، ما جاء في سورة الرحمن ، من أنه تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ( 30 ) [ الرّحمن : 29 ، 30 ]
. . ولا بشيء من آلائك ربن نكذّب ، فإنّا من جملة نعمائك !
ومن ذلك ، سرّ العلم المستقر في النّفس بالحكم ، من الباب الأحد ومائة :
العلم حاكم ، فإن لم يعمل العالم بعلمه ، فليس بعالم العلم . لا يمهل ول يهمل . العلم أوجب الحكم ، لمّا علم الخضر حكم ؛ ولمّا لم يعلم ذلك صاحبه ، اعترض عليه ، ونسي ما كان قد ألزمه ، فالتزم !
لما علم آدم الأسماء ، علم وتبرّز في صدر الخلافة ، وتقدّم ، العلم بالأسماء ، العلامة على حصول الإمامة .
العلم يحكم والأقدار جارية * وكلّ شيء له حدّ ومقدار
إلّا العلوم الّتي لا حدّ يحصرها * لكن لها في قلوب الخلق آثار
فحدّها ما لها في القلب من أثر * وعينها فيه أنجاد وأغوار
فلو تحدّ بحدّ الفوز ناقضه * حدّ لنجد ، ففي التّحديد إصرار
إفهم قوله تعالى : حَتَّى نَعْلَمَ [ محمّد : 31 ] فتعلم ، إن كنت ذا فهم ، من أعطاه العلم ؟ من علم الشيء قبل كونه ، فما علمه من حيث كونه ، وإنما علمه من حيث عينه ، من أين علم أنّ العين يكون ، وليس في العدم مكون ؟
هذا القدر من العلم ، أعطاه جوده ، وحكم به وجوده .
ومن ذلك ، ولاية البشر عين الضرر ، من الباب الخمسين ومائة :
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [ البقرة : 30 ] يؤمن به من كل خيفة ، أعطاه التقليد ، ومكّنه من الإقليد ؛ فتحكّم به في القريب والبعيد .
وجعله عين الوجود ، وأكرمه بالسجود ؛ فهو الروح المطهّر ، والإمام المدبّر .
شفّع الواحد عينه ، وحكم بالكثرة كونه . وإن كان كل جزء من العالم مثله في الدلالة ، ولكنه ليس بظلّ . . فلهذا انفرد بالخلافة ، وتميّز بالرسالة ؛ فشرّع ما شرع ، وأتبع - فهو واسطة العقد ، وحامل الأمانة والعهد .
حكم فقهر ، حين تحكّم في البشر ؛ فظهر النفع والضرر . فأول من تضرّر هو - كما ذكر - ثم إنه لم يقتصر ، حتى آذى الحق وسبّه ؛ وأعطاه قلبه ، وعلم أنه ربّه ، فأحبّه ، ولمّا حسده وغبطه ، أغضبه وأسخطه .
ثم بعد ذلك هداه ، وأرضاه ، واجتباه .
فلولا قوة الصورة م عتى ، ولرجوعه إلى الحق سمي فتى . بالجود في إزالة الغرض ، وأزال بزواله المرض .
وقام الأمر على ساق ، وحصل القمر في اتساق ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ( 30 ) [ القيامة : 29 ، 30 ] .
إن اللّه يزع بالسلطان ، ما لا يزع بالقرآن . فإن السلطان ناطق خالق ، والقرآن ناطق صامت ! فحكمه حكم المائت ، لا يخاف ولا يرجى ، ولا يطرد ولا يزجى . وما استند الصّدّيقون إليه ، ولا عوّل المؤمنون عليه ؛ إلا لصدق ما لديه .
فالقرآن أحقّ بالتعظيم من السلطان ، لأنه الكلام المجيد الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( 42 ) [ فصّلت : 42 ] .
لا رادّ لأمره ، ولا معقّب لحكمه . يصدّق في نطقه ، ويعطي الشيء واجب حقّه . فهو النور ، والسلطان قد يجور .
ومن ذلك ، مراتب الأحبة في منزل المحبة ، من الباب ( 185 ) :
الأحباب أرباب ، والمحبوب خلف الباب ، المحبّ ربّ دعوى ، فهو صاحب بلوى . لولا دعوى المحبة ، ما طلبنا الجزاء من اللطيف .
المحبوب إن شاء وصل ، وإن شاء هجر ؛ فإذا ادّعى محبّه محبّه اختبر . المحبّ في الاختبار ، والحبيب مصان من الأغيار ، ولهذ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [ الأنعام : 103 ] .
للأحبة منزل في المحبة ؛ فحبيب جنيب ، وحبيب قريب . فالمحبّ إذا كان ذ جنابة ، فما هو من القرابة ، وإذا لم يكن جنيبا ، كان قريبا !
قرب الحبيب بالاشتراك في الصفة ، وجنابته في عدم الاشتراك فيها ، كما أعطت المعرفة : « تقرّب إليّ بما ليس لي » لما طلب القرب الولي ،
والذي ليس له : الذّلة والافتقار ؛ فهو الغنيّ العزيز الجبار ، والمتكبر خلف باب الدار .
أنظر إلى ما أعطاه الاشتراك والدعوى ، من البلوى ! هو في النزوح بالجسم الصوري والعقل والروح ، ولهذا لا يتجلى - لمن هذه صفته - إلا القدّوس السّبوح .
فالنزيه للعين ، لا يقول بالاشتراك في الكون .
ومن ذلك ، الشوق والاشتياق للعشاق ، من الباب ( 187 ) :
الشّوق يسكن باللّقاء ، والاشتياق يهيج بالالتقاء
لا يعرف الاشتياق إلّ العشّاق .
من سكن باللّقاء ، فما هو عاشق ، عند أرباب الحقائق .
من قام بثيابه الحريق ؛ كيف يسكن ؟
وهل مثل هذ يتمكّن !
للنار التهاب وملكة ، فلا بدّ من الحركة .
والحركة قلق . فمن سكن ، ما عشق
كيف يصحّ السّكون ؟ وهل في العشق كمون ، هو كلّه ظهور . ومقامه نشور
العاشق ما هو بحكمه ، وإنّما هو تحت حكم سلطان عشقه .
ولا بحكم من أحبّه .
هكذا تقتضي المحبّة .
فما حبّ محبّ إلّ نفسه ؛ أو ، ما عشق عاشق إلّا معناه وحسّه ! لذلك ،
العشّاق يتألّمون بالفراق ، ويطلبون لذّة التّلاق .
فهم في حظوظ نفوسهم يسعون
وهم في العشّاق الأعلون .
فإنّهم العلماء بالأمور ، وبالّذي خباه الحقّ خلف السّتور .
فلا منّة لمحبّ على محبوبه ، فإنّه مع مطلوبه ،
ولا عنده محبوب ومرغوب .
سوى ما تقرّ به عينه ، ويبتهج به كونه .
ولو أراد المحبّ ، ما يريده المحبوب من الهجر
هلك . . بين الإرادة ، والأمر ! وما صحّ دعواه في المحبّة
ولا كان من الأحبّة . .
ففكّر ، تعثر !
ومن ذلك ، الشّطح من الفتح ، من الباب ( 202 ) :
من شطح عن فناء شطح ! وهذا من أعظم المنح ؛ إلا أنه يلتبس على السامع ، فلا يعرف الجامع من غير الجامع ، ولهذا الالتباس ، جعله نقصا بعض الناس ، من باب سدّ الذريعة ، لما فيها - بالنظر إلى المخلوق - من الألفاظ الشنيعة التي لا تجيزها لهم الشريعة .
فمن تقوّى في هذ الفتح ، وعلم من نفسه أنه ليس بشاطح ، لم يظهر عليه شيء من الشطح . فلا يظهر الشطح ، من صاحب هذا الصف ، إلا إذا كان في حاله ضعف . .
ألا إن تبيّن ذلك ، عند الواصل والسالك . .
ألا ترى إلى ما قال صاحب القوة ، والتمكين في إنفاذ الأمر : « أنا سيّد ولد آدم ولا فخر » فانظر إلى أدبه في تحلّيه ، كيف تأدّب مع أبيه ، وما ذكر غير إخوته.
فالأديب من أخذ بأسوته ، فإن ربّه أدّبه . ومن أدّبه الحقّ ؛ أنزل الناس منازلهم ، لمّا تحقّق .
ومن ذلك ، الجامع واسع ، من الباب ( 229 ) :
لو لم يكن في الجامع اتساع ، ما كان جامعا بالإجماع . قلب المؤمن جامع للوسع ؛ فغاية اتّساعه على مقداره ، واتّساعه على قدر أنواره ، فتجوّل الإبصار ، على قدر ما تكشف له الأنوار ؛ ويكون السرور على قدر ما يحصل لك من الكشف بذلك النور .اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ النّور : 35 ] فقد عمّ الرفع والخفض .
فصاحب البصر الحديد ، يدرك به ما يريد ؛ ولهذا ، إرادة المحدث قاصرة ، ودائرته ضيقة متقاصرة !
ألا تراه ألبسه على ما قلناه في الخبر : فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وهي جنّة محصورة ، والأمور فيها مقصورة ؛ فكيف بمن لا يأخذه حصر ، ولا يسعه قصر ؟ كيف ينضبط شأنه ، أو يحدّ مكانه من مكانه ، عينه جهل ، ولو عرف كونه !
ومن ذلك ، المريد من يجد في القرآن ما يريد ، من الباب ( 235 ) :
كان شيخنا أبو مدين يقول :المريد ، من يجد في القرآن كلّ ما يريد ! ولقد صدق - في قوله - الشيخ العارف ؛ لأن اللّه يقول : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [ الأنعام : 38 ] فقد حوى بجميع المعارف ، وأحاط بما في العلم الإلهي من المواقف . .
وإن لم تتناهى ، فقد أحاط علما بها ، وبأنها لا تتناهى . فاسترسل عليه علمه ، وأظهرها عن التتالي حكمه إلى غير أمد ، بل لأبد الأبد .
فالمريد المكين ، من يقول - لما يريد - كُنْ فَيَكُونُ [ الأنعام : 73 ] . . فمن لم يكن له هذ المقام ، فما هو مريد ، والسلام !
من كانت إرادته قاصرة ، وهمّته متقاصرة ، لا يتميّز عن سائر العبيد ؛ فهذا معنى المريد . . فإن احتججت بقوله :إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [ القصص : 56 ] فما أصبت . العلّام ، من ينتقل من مقام إلى مقام ؛ ذلك حكم الدار ، وأين دار البوار من دار القرار ؟
ومن ذلك ، الاغتراب تباب . . من الباب ( 237 ) :
الغربة مفتاح الكرب ، ولولاها ما كانت القرب . القريب هو الغريب ، وهو الحبيب ، ولا يقال في الحبيب أنه غريب ، هو للمحب عينه ، وذاته ، وأسماؤه ، وصفاته . لا نظر له إليه ، فإنه ليس شيئا زائدا عليه .
ما هو عنه بمعزل ، وما هو له بمنزل .
قيل لقيس ليلى : من أنت ؟
قال : ليلى !
قيل له : من ليلى ؟
قال : ليلى !
فما ظهر له عين في هذ البين ، فما بقي اغتراب ، فإنه في تباب ؛ فقد عينه ، وزال كونه .
العشّاق ، لا يتصفون بالشوق والاشتياق ، الشوق إلى غائب ، وما ثمّ غائب . من كان الحقّ سمعه ، كيف يطلبه ؟ ومن كان لسانه ، كيف يعتبه ؟
فأين تذهبون ، وما ثمّ أين عند من تحقّق بالعين .
ومن ذلك ، من شرب طرب . . من الباب ( 256 ) :
لا يطرب الشارب ، إلا إذا شرب خمرا ، وإذا شرب خمرا فقد جاء شيئا إمرا ؛ لأنه يخامر العقول ، فيحول بينها وبين الأفكار ، فيجعل العواقب في الأخبار ، فيبدي الأسرار برفع الأستار . فحرّمت في الدنيا لعظم شأنها ، وقوة سلطانها . . وهي لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [ محمّد : 15 ]
حيث كانت ، ولهذا ، عزّت وما هانت . في الدني محرّمة ، وفي الآخرة مكرّمة .
هي ألذّ أنهار الجنان ، ولها مقام الإحسان . عطاؤها أجزل العطاء ،
ولهذا يقول من أصابه حكمها ، وما أخطأ للشاعر الجاهلي المنخّل بن مسعود اليشكري:
فإذا سكرت فإنّني * ربّ الخورنق والسّدير
وهو صادق . . وإذا فارقه حكمها ، وعفا عنه رسمها ، يقول - أيضا - ويصدق ،
وقال الحق :
وإذا صحوت فإنّني * ربّ الشّويهة والبعير
وهذا المقام أعلى ، لأنه ربّ الحيوان ، فتفطّن لهذا الميزان .
ومن ذلك ، التنزيه تمويه . . من الباب ( 280 ) :
إنّ الوجود لأكوان وأشباه * فلا إله لنا في الكون إلّا هو
جلّ الإله فما يحظى به أحد * فلم يقل عارف بربّه ما هو
للّه قوم إذا حفّوا بحضرته * يبغون وصلتههم بذاته تاهو
قد موّه القوم بالتّنزيه وهو هم * في كلّ حال ، فعين القوم عيناه
واللّه ما ولد الرّحمن من ولد * وما له والد ، ما ثمّ إلّا هو
وكلّ ما في الوجود الكون من ولد * ووالد هو في تحقيقنا ما هو
دليلنا : ما رمى بالرّمل حين رمى * محمّد ، وهو قولي : ما هو إلّا هو
فالحمد للّه لا أبغي به بدلا * لأنّه ليس في الأكوان إلّا هو
ومن ذلك ، الدليل في حركة الثقيل ؛ من الباب ( 293 ) :
الأمر جليل ، من أجل حركة الثقيل ؛ لا يتحرّك إلا عن أمر مهم ، وخطب ملم . .
كزلزلة الساعة المذهلة عن الرضاعة ، مع الحبّ المفرط في الولد ، ولا يلوي على أحد .
وقد ذهب بعض الأوائل ، أن العالم أبدا نازل ، يطلب بنزوله من أوجده ، حين وحّده . . والحقّ ل ينتهي ، فمن أول حركة ، كان ينبغي أن يعتكف عليه ، لأنه جلّ أن تقطع إليه المسافات المحقّقة ، فكيف المتوهّمة ؟
رسوم معلّمة ، وأسرار مكتّمة
بيوت مظلمة ، وألسنة غير مفهمة
لأن الخيال ، يخيّل العلم به والمقال !
فأين تذهبون ، أو ماذا تطلبون ؟
يقول العارف لأبي يزيد :« الذي تطلبه تركته ببسطام » فدلّه على المقام . فإن العبد يسار به في حال إقامته ، إما إلى دار إهانته ، وإما إلى دار كرامته .
ومن ذلك الإيثار ليس من صفات علماء الأسرار من الباب ( 333 ) :
ما هو لك ، فما تقدر على دفعه . وما ليس لك ، فما لك استطاعة على منعه ، فأين الإيثار ؟ والأمر أمانة ، فأدّها إلى أهلها قبل أن تسلبها وتوصف بالخيانة .
فاعطها عن رضى قلبك ، تفز برضى ربّك ، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا :
للّه قوم وجود الحقّ عينهم * هم الأحياء إن عاشوا وإن ماتو
هم الأعزّ ألا يدرون أنّهم * هم ولا ما هم إلّا إذا ماتو
للّه درّهم من سادة سلفوا * وخلّفونا على الآثار إذ ماتو
لا يأخذ القوم نوم لا ولا سنة * ولا يؤدهم حفظ ولو ماتو
فكيف بالشّمس لو أبدت محاسنهم * أقسمت باللّه إنّ القوم ما ماتو
وكنت تصدق ، إنّ اللّه أخبرنا * عن مثلهم ، أنّهم واللّه ما ماتو
أحياء لم يعرفوا موتا وما قتلوا * في معرك وذووا رزق وقد ماتو
فلو تراهم سكارى في محاربهم * لقلت إنّهم الأحي وإن ماتو
اللّه كرّمهم ، اللّه شرّفهم * اللّه يحييهم به إذا ماتو
لقد رأيتهم كشفا وقد بعثوا * من بعد م قبروا ، من بعد ما ماتو
ومن ذلك ، من وعظه النوم من القوم ؛ من الباب ( 374 ) :
قال :من أراد أن يعرف حاله بعد الموت ، فلينظر في حاله إذا نام هو ، وبعد النوم . فالحضرة واحدة ، وإنما ضرب اللّه لنا ذلك مثلا ؛ وكذلك ضرب اليقظة من النوم ، كالبعث من الموت ، لقوم يعقلون .
وقال :الدنيا والآخرة أختان ، وقد نهى اللّه عن الجمع بين الأختين ، والجمع يجوز بين الضّرّتين ، فما هما ضرّتان ! لكن لما كان في الإحسان إلى إحدى الأختين بالنكاح ، إضرار بالأخرى ؛ لذلك قيل فيهما ضرّتان ، فتنبّه .
وقال :سفينتك مركبك ، فاخرقه بالمجاهدة .
وغلامك هواك ، فاقتله بسيف المخالفة .
وجدارك عقلك - لا ، بل الأمر المعتاد في العموم - فأقمه تستر به كنز المعارف الإلهية عقلا وشرعا ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، إذا بلغ عقلك وشرعك فيك أشدّهما ، وتوخّيا ما يكون من المنفعة في حقّهما ، وما أريد بالشرع إلا الإيمان ، فإن العقلوالإيمان :نور على نور .
ومن ذلك ، ما يحصّل : صاحب الرّحلة عن كل نحلة ؛ من الباب ( 375 ) :
قال :الرحلة من الأكوان إلى اللّه تعالى ، جهل به تعالى . فلو رأى وجه الحق في كل شيء ، لعرف قوله تعالى : وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيه [ البقرة : 148 ] وقوله : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ البقرة : 115 ] وقوله : لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [ المائدة : 48 ] على الاعتبارين في قوله :وَمِنْهاجاً[ المائدة : 48 ] .
وقال : الظلمة دليل على علم الغيب ، والنور دليل على عالم الشهادة . فالليل لباس ؛ فأنت الليل ، والنهار للحركة ، فهو للحق . شؤنة الحركة حياة ، وهي حقّية ؛ والسكون موت ، فهو خلقيّ ، ومع هذا ، فله ما سكن بالوجهين - من السكون والثبات - ولك ما تحرّك بالوجهين : من ، وإلى ، ولا اعتبار لليل ولا لنهار ، فله ما فيها من حكم الإيجاد ؛ ولك ما فيها من الانتفاع . والنوم راحة بدنية ، ومكاشفات عينية غيبية .
وقال : إرداف النعم وتواليها ، إرفاد الحق ومنحه لعباده ، فمن اتقى اللّه فيها سعد ، ومن لم يتّق اللّه فيها شقي .
وقال :مواهب الحقّ لا تحجير عليها ،فلا تقل :لم نعط ،
فإن الحقّ يقول :لم تأخذ . الدليل ما ورد من التكليف . .
قيل لك" لا تفعل "فعلت ، قيل لك" افعل "لم تفعل ، هكذا الأمر !
ومن ذلك ؛ الفرق في الوحي ، بين التّحت والفوق . . من الباب ( 376 ) :
قال :إذا قام المكلّف بما خاطبه به رسوله ، من حيث ما بلّغه عن ربّه - لا من حيث ما سنّ له - فما دخل له ، مما أتحفه الحقّ به في ميزان قيامه ،
فذلك :العلم المكتسب ، وما خرج عن ميزانه ، ولا يقبله ميزان عمله ،
فذلك :علم الوهب الإلهي .
فالعلم الكسبيّنصر اللّه ،والوهبيّفتحه. .
فإِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ( 1 ) [ النّصر : 1 ] ، علم أنه قد قام بحقّ ما كلّف ؛ وإذا انقادت إليه قواه - الحسّيّة والعقلية -
فمشت معه على طريقه ، الذي هو صراط اللّه ، لا صراط الرّبّ ؛ فليشكر اللّه على ما خوّله به وحباه .
وقال :خفي عن الناس طاعة إبليس ، بلعنة اللّه إياه ، كما خفي عنهم موافقة الملك ربّه - في خلافة آدم - بثناء اللّه عليهم ورضاه عنهم .
ومن ذلك ؛ الاستقصاء ، هل يمكن فيه الإحصاء . . من الباب ( 383 ) :
قال :إذا رأيت من يتبرأ من نفسه ، فلا تطمح فيه ، فإنه منك أشد تبرؤا . فافهم !
وقال :ما ثمّ ثقة بشيء ، لجهلنا بما في علم اللّه . . فيا لها من مصيبة !
وقال :ما ثمّ إلّا الإيمان ، فلا تعدل عنه . وإيّاك والتأويل فيما أنت به مؤمن ، فإنك ما تظفر منه بطائل ، ما لم يكشف لك عينا .
وقال :اجعل أساس أمرك كله على الإيمان والتقوى ، حتى تبين لك الأمور ، فاعمل بحسب ما بان لك ، وسر معها إلى ما يدعوك إليه .
وقال :اجعل زمامك يد الهادي ، ولا تتلكأ ، فيسلّط عليك الحادي ، فتشقى شقاء الأبد .
وقال : من كانت داره في الدنيا الجنان ، خيف عليه ، وبالعكس ! .
ومن ذلك ، من خيّرك ، فقد حيّرك ، من الباب ( 400 ) :
قال :ما دعا الملأ الأعلى إلى الخصام ، إلا التخيير في الكفّارات .
التخيير حيرة ، فإنه يطلب الأرجح أو الأيسر ، ولا يعرف ذلك إلا بالدليل ، ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أواسط ما تطعمون أهليكم ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة .
وقال :إذا خيّرك الحقّ في أمور ، فانظر إلى ما قدّم منها بالذكر ، فاعمل به ، فإنه ما قدّمه حتى تهمم به وبك ، فكأنه نبّهك على الأخذ به .
ما تزول الحيرة عن التخيير ، إلا بالأخذ بالمتقدّم . تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أراد السعي في حجّة الوادع : إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [ البقرة : 158 ] ثم قال :« أبدأ بما بدأ اللّه به »فبدأ بالصفا . .
وهذا عين ما أمرتك به لإزالة حيرة التخيير ؛ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الأحزاب : 21 ] .
ومن ذلك ؛ مزلّة الأقدام ، في بعض أحكام العقول والأحلام . . من الباب ( 407 ) :
قال :العارف من عبد اللّه من حيث ما شرع ، لا من حيث ما عقل من طريق النظر .
وقال :العقل قيّد موجده ، والشرع والكشف أرسله ، وهو للّه الحق ! .
وقال :للهوى في العقل حكم خفيّ ، لا يشعر به إلا أهل الكشف والوجود .
وقال :أثر الأوهام في النفوس البشرية ، أظهر وأقوى من أثر العقول ، إلا من شاء اللّه .
وقال :من رحمة اللّه بنا ، أنه رفع عنا المؤاخذة بالنسيان ، والخطأ ، وما نحدث به أنفسنا ، فلو أخذنا بما ذكرنا لهلك الناس .
وقال :ما سمّيت العقول عقولا ، إلا لقصورها على من عقلته - من العقال - فالسعيد من عقّله الشرع ، لا من عقّله غير الشرع .
ومن ذلك ، تنبيه : لا تضاهي النور الإلهي . . من الباب ( 420 ) :
قال :الحقّ لا يضاهي ، لأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشّورى : 11 ] إنما اللّه إِلهٌ واحِدٌ [ البقرة : 163 ] فأين المضاهى ؟ .
وقال :صفات التشبيه مضاهاة مشروعة ، فما أنت ضاهيت ! .
وقال :العقل ينافي المضاهاة ، والشرع يثبت وينفي ، والإيمان بما جاء به الشرع هو السعادة ، فلا يتعدى العاقل ما شرّع اللّه له ! .
وقال :العاقل من هجر عقله ، واتّبع شرعه بعقله من كونه مؤمنا .
وقال :أكمل العقول ، عقل ساوى إيمانه ، وهو عزيز .
وقال : لو تصرّف العقل ما كان عقلا ، فالتصريف للعلم لا للعقل .
وقال :
للعقل لبّ وللألباب أحلام * وللنّهى في وجود الكون أحكام
تمضي اللّيالي مع الأنفاس في عمه * للخوض فيه ، وأيّام وأعوام
وما لنا منه من علم ومعرفة * إلّا القصور وأقدام وإيهام
العلم باللّه نفي العلم عنك به * فكلّ ما نحن فيه فهو أوهام
وقال : العاقل ، من لعقله أعقل أنه لا يعقل ، فمتى عقلت جهلت .
ومن ذلك ، من أبى أن يكون من النقباء . . من الباب ( 456 ) :
قال : النقيب ، من استخرج كنز المعرفة باللّه من نفسه ، لما سمع قوله عزّ وجلّ : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [ فصّلت : 53 ] وقوله : وَفِي أَنْفُسِكُمْ فَلا تُبْصِرُونَ ( 21 ) [ الذّاريات : 21 ] وقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من عرف نفسه عرف ربّه » .
وقال :من أبى أن تكون له مثل هذه المعرفة . . لم يكن من النقباء .
وقال :لما علم أن بين الدليل والمدلول وجها رابطا ، زهد في العلم باللّه من حيث نظره في الدليل - وليس سوى نفسه - وكان ممّن عرف نفسه باللّه . .
وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب النظر ، مثل أبي حامد ، ولكن لنا في ذلك طريقة غير طريقتهم .
فإن الذي ذهبوا إليه في ذلك ل يصحّ ، والذي ذهبنا إليه يصحّ ؛ وهو أن نأخذ العلم به إيمانا ، ثم نعمل عليه ، حتى يكون الحقّ جميع قوانا فنعلمه به ، فنعلم عند ذلك نفوسنا به ، بعد علمنا به . .
وهذه طريقة أهل اللّه في تقدّم العلم باللّه .
ومن ذلك : دين الأنبياء واحد ، ما ثمّ أمر زائد ؛ وإن اختلفت الشرائع ، فثمّ أمر جامع :
الدّين عند الأنبياء وحيد * ومقامه بين الأنام شديد
فإذا الرّجال تفطّنوا لرحيله * عنهم وقام لهم بذاك شهيد
جاؤوا إليه مهطّعين لعلّه * يوما بقصدهم إليه يعود
قال : هو إقامة الدين ، وأن لا يتفرّق فيه . ما خلق اللّه أبغض إليه من الطلاق ، وهو بيد من أخذ بالساق ، فلماذا يقصد إلى البغيض مع هذا التعريض ؟ .
نكاح عقد وعرس شهدوا ، بتنا ببكر صهبا ؛ في لجّة عمياء .
نفوس زوّجت بأبدانها ، ولم يكن ناكحها غير أعيانها .
ثم أنه مع التكدّر والانتقاص ، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ ص : 3 ] .
ثم مع هذا يدعو ويجاب إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ ص : 5 ] وأعجب من ذلك ؛ " جبال سيّرت" فَكانَتْ سَراباً " ووسماء فتحت فَكانَتْ أَبْوابا"ً ذات " حبك " وبروج ، وأرواح لها فيها نزول وعروج ، ووَم لَها مِنْ فُرُوجٍ [ ق : 6 ]
فأين الولوج وأين الخروج ، وأين النزول ، وأين العروج .
هذا موضع الاعتبار ، فَاعْتَبِرُو يا أُولِي الْأَبْصارِ [ الحشر : 2 ] .
واللّه ، إن أمرا نحن فيه لمريج ، وإن زوجا زوّجنا به لبهيج .
سقف مرفوع ، ومهاد موضوع .
ووتد مفروق ، ووتد مجموع .
ظلمة ونور ،
وبيت معمور ،
وبحر مسجور ،
ومياه تغور ، ومراجل تفور
فار التّنّور ، واتّضحت الأمور
نجوم مشرقة ، ورجوم محرقة .
شهب ثواقب ، وشهب ذات ذوائب .
كلّم نجمت ، ذهبت ! .
يا ليت شعري : ما الذي أنارها ، وما الذي أوجب شرارها .
وأخواتها ثوابت ل تزول ،
في طلوع وأفول .
ليل عسعس ، فظهرت كواكبه .
وصباح تنفّس ، فضحه راكبه .
جوار خنّس في مجاريها ، وظباء كنّس لتحفظ ما فيها .
ليل ونهار ، أنجاد وأغوار ، إبدار وإسرار .
يا أهل الأفكار :
أقسم نجيّكم قسما لا لغو فيه ول ثنيا ، إن الذي جاء بهذا كله لصادق .
يؤمن به - لا بل يعلمه - الظالم لنفسه ، والمقتصد ، والسابق ؛ شخص من الجنس ، أيّد بروح القدس .
قيل له : بلّغ ، فبلّغ . وذكر ، فأبلغ
وقذف بالحقّ على الباطل ، فدمّغ ! .
فزهق الباطل ، وتحلّى العاطل .
نشأة الآخرة ، ردّه في الحافرة .
كيف يكون التّجسّد . . مع التّقيّد ؟ !
إن كان نفس الأمر انقلاب عين ، فقد جهل الكون .
وإن كان في النظر ، فهو من مغالط البصر . .
فإذا انبهم الأمر ، وأشكل ، فما لك إلا أن تتوكّل ! .
فأسلم وجهك إلى اللّه وأنت محسن ، تكن ممّن استمسك بالعروة الوثقى ، فإنه خير لك وأبقى .
وكن مع الرعيل الذي خطب بقوله : وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى [ طه : 73 ] . .
تكن السعيد ، الذي لا يشقى .
فإن نزلت عن هذه الدرجة ، فانزل إلى : وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ( 17 ) [ الأعلى :
17 ] . .
فإنهم ، وإن كانوا سعداء ، فإنه لا يستوي المؤمنون الميّتون على فرشهم ، والشهداء .
فلكل علم رجال ، ولكل مقام حال .
ولكل بيت أهل ، ومع كل صعب سهل .
وهذا القدر كاف في هذ الباب ، لمن علم فطاب ، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب .
انتهى الباب ، بانتهاء المجلدة الخامسة والثلاثين من هذا الكتاب والحمد للّه ، وصلّى على محمد رسوله . بخط منشىء هذ الكتاب .
*