الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومم نظمنا في الربيع وأزهاره وما حباه الرفيع بأزهاره

أما ترى الروضة الغنّاء تضحك إذ جادت على الأرض بالأزهار أنواء

تبسم الأرض إذ تبكي السماء فهل بين السماء وبين الأرض شحناء

لا والذي بضروب الزهر أضحكها ما ثم شحناء لكن ثم أشياء

إن السماء تقول الزهر من زهري والأرض تأبى الذي قالته والماء

وقفت على نظم حسن الترصيع، ونثر في الربيع، وزهر بديع، لأبي علي بن شبل الشاعر:

عرائس الأرض تجلى في غلائلها وفي حليّ عليها صاغها الديم

تستنّ في حلل الأنواء مذهبة في كل حاشية من نسجها علم

درّ من الأقحوان الغضّ زينه حمر اليواقيت في المنثور ينتظم

كأنما بالسماء الأرض شامتة تبكي السماء وثغر الأرض يبتسم

ركز بها الصيف أعلامه وضرب سرادقاته وخيامه، وأظهر على الدنيا إنعامه، حين جاء يعزل الشتاء البريد، وسلّم إلى الصيف كتاب التقليد، فبعث جيوشه وسراياه، ولاطف بتحفه و هداياه، فصنائعه إلى الأرض مشكورة، وآلاؤه على الروض منثورة، إذ لبست أرديته و مطارفه، وحليت وشيه وزخارفه، وألقت نصيفها المعنبر، وتخمّرت بخمارها الأخضر، بين ثرى مصندل، وندّ مكفّر، ونسيم معطّر، وفضاء مفضّض، وجو مخلق، وترابيع ميادين من الآس والرياحين مستنّة الطوارق، مصفوفة النمارق، مفروز بالنوار بساطها، معلمة بالأزهار:

فكأنم ترنو العيون إلى ملح من الديباج في الزهر

وكأنما تطأ اللحاظ على وشي نمته أنامل القطر

وكأنما لبس النسيم بها نشر الخزامى وحقة العطر

حليّ بها القطر عقوده، ونشر بها ملاءه وبروده، وكتب في رءوس الشقاق عهوده، وشيا، ووشما، ورقما:

كأن عهد الربيع يهواها فقد كساها وشيا وحلاّها

فهي كبكر تزف في خلع شتى يحوز الجمال معناه

كأنما حبتها الجنة بزخارفها، والفراديس بطرائفها، وغذّاها السلسبيل ماء النعيم، و جرت في بروجها عين التنسيم، والتحقت بزرابيها ونمارقها، واشتملت بسندسها و استبرقها، فهي تباري السماء في استدارة أفلاكها، والنجوم في انتظامها واشتباكها:

غير أن النجوم تطلع في اللي‍ ل وهذي تضيء في الأصباح

زاهرات لها نسائم نشر ناميات الجسوم في الأرواح

وكأن الأنواء إذ نيّمتها قلدت كل روضة بوشاح

حط فيها الأقحوان لثامه، ونثر منها المنثور نظامه، فتبدّدت جمانه، وتغيّرت ألوانه، فاكذبا مشبههما بالثغور المبتسمة، واليواقيت المنظمة، وهبّ النسيم على سننه، فنبّه السوسن من وسنه، ولاح البنفسج حنيق الأوداج، لازوردي التاج، واسترد الورد من الخدود حمرته، والسرو من القدود قامته، واستحال لون العشاق في النهار، و انتقل صبغ الوجنات إلى الجلنار، وذاب العقيق على الشقيق، فانقض منه شرر كالحريق، وسالت سرح القطارب، كأنها زبانات العقارب، وفتح النرجس من الذهب عيونا، و أدار لها من اللؤلؤ الرطب جفونا، ومدّ من الزمرد الأخضر متونا، كغصون زبرجد أثمرت درّا، وأثمر درّها تبرا، كأنما استعار الزعفران من أحداقها ألوانا، والكافور من جفونها بياضا ولمعانا،

فهي قضيب من زمرّد بحدق ذهب، وسط فضة بيضاء، واستدارت شرف اللينوفر على خوط أملود لين العمود، كأنما خرط من الجزع اليماني، مؤذنا بالفرح والتهاني، تارة يشخص إلى السماء شخوص الباهت الحيران، وتارة يعوم في الماء عوم الظمآن، وتفتح الأدريون كالعيون الناظرة، والنجوم الزاهرة، كأنما توّجته الشمس بأصائلها فهو شعر:

مجوسيّ الصلاة فكل وجه بدور إذ ضياء الشمس دارا

دنانير لطبع النقش فيها سواد حول سكتها استدار

تريك قلانس الديباج ليلا وتيجانا مشبّكة نهارا

وخطرت القبول على الأغصان، فتمايلت كتمايل النشوان، وتناوحت أشجارها، وتجاوبت أطيارها، وهرجت بأصواتها، وترنمت بلغاتها، فملأت الأسماع زجلا، وأخرست العيدان خجلا، فكأنها قينات الأوراق سائرها، أو خطباء الأغصان منابرها، من هزارات مغرّدات، و وراشين مطربات، بأفانين معجبات، وورق من حمامات صادحات، بأطواق الملوك مقلدات، تترنم في فروع الأيك شجوا فتلهى عن سماع المسمعات، بإرجاء فدران، مفعمة الجدران، غمرة الجداول، جمة المناهل، ينقض ماؤها انقضاض الفضة المسبوكة، ويطرد حبابه اطراد الزرد المحبوكة، كفرند سيوف مصلتات، أو كبطون حيات على الرمضاء ملتويات. شعر:

وكأن السماء تنثر درّا فوق أرض من سندس خضراء

وعبير يثير من عبرات السّحب مسكا يفوح في الفيحاء

شغلتنا الأطيار حين تغنّت في ذراها عن أطيب ذاك الغناء

والحمد لله الذي دلّ بظواهر صنعته، على دقائق حكمته، فَتَبارَكَ اَلله أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ .


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!