الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ما يقول القبر في كل يوم وليلة

حدثن المكين بن رستم إمام مقام إبراهيم عليه السلام، عن الكرخيّ، عن العورجيّ، عن المحبوبي، عن أبي عيسى الترمذي، نبأ محمد بن أحمد، وهو ابن مدوية، نبأ القاسم بن الحكم العرقيّ، نبأ عبيد الله، قال ابن الوليد الوضافي، عن عطية، عن أبي سعيد قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلاّه، فرأى أناسا كأنهم يكتشرون فقال: «أما إنكم لو أكثرتم ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى، فاكثروا ذكر هادم اللذات، الموت، فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، أنا بيت الدود. فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبا وأهلا، إنك كنت لأحب من يمشي على ظهري إليّ، فإذا وليتك اليوم وصرت إليّ فسترى صنيعي بك، فيتسع مدّ بصره، ويفتح

له باب إلى الجنة. وإذا دفن العبد الفاجر الكافر قال له القبر: لا مرحبا ولا أهلا، أما إنك كنت لأبغض من يمشي على ظهري إليّ، فإن أوليتك اليوم وصرت إليّ فسترى صنيعي بك» . قال: «فيلتئم عليه حتى يلتقي وتختلف أضلاعه» .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بأصابعه» ، فأدخل بعضها في جوف بعض، قال: «و يقبض له تسعون تنينا، لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا، فتنهشه وتخدشه حتى يقضى به إلى الحساب» .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار» .

وأنشد بعضهم:

كأني بأصحابي على حافتيّ قبري يهيلون من فوقي وأعينهم تجري

ستنسون أيامي إذا ما رجعتم وغادرتموني رهن دورية قفري

ألا أيها المذري عليّ دموعه ستقصر في يومين عني وعن ذكري

عفا الله عني حين أصبح ثاويا أزار فلا أدري وأجفى فلا أدري

قال عبيد الله بن عمير: ليس من ميت يموت إلا نادته حفرته التي يدفن فيها: أنا بيت الظلمة والوحدة، فإن كنت في حياتك لله مطيعا كنت اليوم عليك رحمة، وإن كنت لربك في حياتك عاصيا فأنا اليوم عليك نقمة، أنا بيت الذي من دخلني مطيعا خرج مني مسرورا، ومن دخلني عاصيا خرج مني مثبورا.

وخرج عطاء السلميّ إلى المقبرة ذات ليلة، فلما توسطها نادى بأعلى صوته:

أهل المقابر قد تساوى بينكم أين الوضيع من الكريم السيد

أين الملوك بني الملوك وأين من قد كان في الدنيا قليل المحفد

أين الحسان ذوو النضارة والنهى أين المليح من القبيح الأسود

أين الذين تجبّروا وتعظّموا وعتوا عتوّا لم يكن بالمرشد

فأجابه من قبر مجيب ينشد شعرا:

إن المنيّة عاصفتهم بغتة فهم خمود جوف قبر ملحد

قد دبّت الديدان في أجسامهم وسعت هوام الأرض في الوجه الندي

كم من وجوه قد تناثر لحمها ومفاصل بانت وبان من اليد

بات بعض الصالحين المنقطعين من أهل الخلوات في المقابر ليلة، فبينما هو يفكر في شأنها إذ هتف به هاتف ينشد:

و قف بالقصور على دخلة حزينا وقل أين أربابها

وأين الملوك ولاة العهود رقاة المنابر غلاّبه

تجيبك آثارهم عنهم إليك فقد مات أصحابها

الدخلة بالضم: باطن الأمر. يقال: هو عالم بدخلته أي بباطن أمره. انتهى.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!