الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


موعظة نبوية

حدثن محمد بن قاسم، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن علي، عن أحمد بن محمد، عن علي بن قاسم، عن الشيباني، عن ابن زهير، عن موسى بن معاذ، عن يحيى بن عبد الحميد، عن قيس بن الربيع، عن حر بن الصباح، عن خليفة بن الحصين، عن قيس بن عاصم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا قيس، إن مع العز ذلاّ، وإن مع الحياة موتا، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل سيئة عقابا، وإن لكل أجل كتابا. إنه لا بد يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنده، فل تجعله إلا صالحا، فإنه إن كان صالحا لم تستأنس إلا به، وإن كان فاحشا لم تستوحش إلا منه، وهو فعلك» .

شعر في هذا المعنى:

تزوّد قرينا من فعالك إنما قرين الفتى في القبر ما كان يعمل

وإن كنت مشغولا بشيء فلا يكن بغير الذي يرضى به الله تشغل

فلن يصحب الإنسان من بعد موته إلى قبره إلا الذي كان يفعل

ألا إنما الإنسان ضيف لأهله يقيم قليلا عندهم ثم يرحل

وقال الآخر في القبر:

القبر بيت كريه سوف تسكنه ما ذا عملت ليوم القبر يا ساهي

ولأبي العتامية من قصيدة:

يا بيت بيت الرجا يا بيت منقطعي يا بيت بيت الردى يا بيت وحشته

ورأيت على قبر بسبا مكتوبا:

ولقد وقفت كما وقفت ولكم نظرت فما اعتبرت

حصّل لنفسك منزلا قبل الحصول لما حصلت

ورئي على قبر مكتوب:

أنا في قبري وحدي قد تبرأ الأهل مني

أسلموني لذنوبي خبت إن لم يعف عني

وسماعنا على قول ابن حبوس حيث يقول:

سكّان نعمان الأراك تيقنوا بأنكم في ربع قلبي سكان

ودوموا على حسن الوداد فإنني بليت بأقوام إذا أحفظوا خانو

سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم هل اكتحلت بالنوم في فيه أجفان

السماع الروحاني في ذلك سكان نعمان الأراك هم العارفون في نعيم حضرة المشاهدة، و محلها قلوبهم يقول لطيفته الربانية لهذه الهمم: داوموا فإني دفعت إلى نفوس أخذ عليها العهد الإلهي في الميثاق الأول فخانوا، ثم أخذ يصف نفسه بالقيومية تخلق إليها، أي قدر على التجرّد من عالم التركيب الذي هو محل النوم، إلى العالم الأنزه الأقدس الذي لا نوم فيه، ميراثا نبويا من أنه لا ينام قلبه صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ يخاطب الهمم: إن لمعان سيوفها إذا برقت من منازلها منازل الأحبة، فغمد هاتيك السيوف أجفاني، أي لا أنام، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.

وسماعن على قول مهيار حيث يقول:

من ناظر لي بين سلع وقبا كيف أضاء البرق أم كيف خبا

نبّهني وميضه ولم تنم عينيّ ولكن ردّ عقلا غرب

قرب له قد صار قلبي خافقا واستبردته أضلعي ملتهبا

يا لبعيد من منى ناديته يوهمني الصدق بريق كذب

وللنسيم سحرا بحاجر ردّت به عهد الصباريح الصّبا

آلية ما فتح العطار عن أعبق منها نفسا وأطيب

سل من يدلّ الناشدين بالغضا على الطريد ويرد السلبا

أراجع لي والمنى هل هلّة وطالع نجم والزبان غرّب

وطوله بين القباب يمنى لا خائفا عتبا ولا مرتقبا

السماع الروحاني للعارف في ذلك: من ناظر لي بين المقامات المحمدية؟ كيف لمع برق المعرفة؟ أم كيف خبا مطويا في غيم الكون؟ أيقظني لمعانه، على أن عيني ما نامت عنه، و لكن كان العقل منصرفا إلى عالم التدبير، فردّه إلى العالم المدبر، فسكنت له همم القلوب بعد طيرانها خضعا كسلسلة على صفوان، واستبردت برد السرور عطفات الجنوح، م كان حاميا بنود التنزلات الإلهية. فلما لاح له المعين من خلق خلقة الرصد مثال النور

المنزل ليقبله منه، عرفه بالحفظ الإلهي، فقال: يوهمني الصدق بريق كذبا، ثم رجع ينادي أيضا بالبعد من عالم الأنفاس، في البرزخ المشترك بين النور والظلمة، دلّ عليه وعلى عصر شبابه ريح الصبا، شروق نفس التنفس من نفس الرحمن، بما هو أطيب من المسك عرفا ونشرا. ثم قال: سل من يدل الناشدين قلوبهم بمقام الاشتياق على الطريق، عن البناء الأعز، ويرد قلبه الذي أخذ منه على عزّة. ثم قال: أراجع لي ذلك السلب؟ والمنى قد يكون أماني، وهل يطلع نجم سعد غربا؟ أي صار في الحجاب. وهل أراني طائفا مترددا بين القباب الساترة شموسا؟ لا خائفا عتبا. يقول: لم وأما ولا مترقبا، وعدل الحصول:

الاتصال و انتظام الشمل بالأحباب.

ومم نظمنا في هذا الباب قولنا:

بأبي الغصون المائسات عواطفا العاطفات على الخدود سوالفا

المرسلات من الشعور غدائرا اللينات معاقدا ومعاطف

الساحبات من الدلال دلادلا اللابسات من الجمال مطارفا

الباخلات بحسنهنّ صيانة الواهبات متالدا ومطارف

المونقات مضاحكا ومباسما الطيبات مقبلا ومراشفا

الناعمات مجرّدا والكاعبا ت مهندا والمهديات طرائف

الخالبات بكل سحر معجب عند الحديث مسامعا ولطائفا

الساترات من الحياء محاسنا تسبي بها القلب التقي الخائف

المبديات من الثغور لآلئا تشفي بريقتها ضعيفا تالفا

الراميات من العيون رواشقا قلبا خبيرا بالحروب مثاقف

المطلعات من الحبوب أهلة لا يلفين مع التمام كواسفا

المنشيات من الدموع سحائبا المسمعات من الزفير قواصف

يا صاحبي بمهجتي خمصانة أسدت إليّ أياديا وعوارفا

نظمت نظام النمل فهي نظامنا عربيّة عجماء تلهي العارف

مهما رنت سلت عليك صوارما ويريك مبسمها بريقا خاطفا

يا صاحبيّ قفا بأكناف الحمى من حاجر يا صاحبي قفا قف

حتى أسائل أين سارت عيسهم فقد اقتحمت معاطبا ومخاوفا

وقطعت أبغي رسم دار قد عفى من أجلهنّ مهالكا ومتالف

ومعالما ومجاهلا بشملة تشكو الوجا وسباسبا وتنايفا

مطوية الأقراب أذهب سيرها بحثيثة منها قوى وسدائف

حتى وقفت بها برملة حاجر فرأيت نوقا بالأهيل خوالف

يقتادها قمر عليه مهابة فطويت من حذر عليه شراسفا

قمر تعرّض للطواف فلم أكن بسواه عند طوافه بي طائف

يمحو بفاضل برده آثاره فتحار لو كنت الدليل القائفا

ولنا من هذا الباب:

ثلاث بدور ما يزن بريبة خرجن إلى التنعيم معتجرات

حسرن عن أمثال الشموس إضاءة ولبّين بالإهلال معتمرات

وأقبلن يمشين الرويد كمثل ما نمشي القطا في الحف الحبرات

ولنا من هذا الباب أيضا:

قف بالمنازل واندب لا للألا وسل الربوع الدارسات سؤالا

أين الأحبة أين سارت عيسهم هاتيك تقطع في البياب الآل

مثل الحدائق في السراب تراهم للأل تعظم في العيون الآل

ساروا يريدون العذيب ليشربوا ماء به مثل الحياة زلالا

فقفوت أسأل عنهم ريح الصّبا هل خيموا واستظلوا الظلال

قالت تركت على زرود قبابهم والعيس تشكو من سراه كلالا

قد أسدلوا فوق القباب مصاونا يسترن من حرّ الهجير جمال

فانهض إليهم طالبا آثارهم وارقل بعيسك نحوهم أرقالا

فإذا وقفت على معالم حاجر وقطعت أغوارا بها وجبال

قربت منازلهم ولاحت نارهم نارا قد أشعلت الحشا إشعالا

فأنخ بها لا يرهبنك أسدها فالاشتياق يريكها أشبال

ومن وقائع بعض الفقراء إلى الله تعالى، ما حدثنا به عبد الله ابن الأستاذ المروزي قال: رأى بعض الفقراء في واقعته الشيخ أبا مدين، ومعه ثلاثة من الصوفية، فيهم أبو حامد، وهم جلوس، فقدم لهم صحفة فيها ثريد، فأكلوا ثم حمدوا وأثنوا. ثم قال أبو حامد: يا أبا مدين، نحب غذا الروح، فقال لهم: سرّي مسرور بأسرار، تستمد من البحار الإلهية الأبدية الأزلية التي لا ينبغي كشفها، ولا يجوز بثها لغير أهلها، إذ العبارة والإشارة تعجز عن دركها، وأبت الغيرة إلا سترها، هي البحار المحيطة بالوجود، لا يلجها إلا من وطنه مفقود، وفي عالم الحقيقة بسرّه موجود، يتقلب بالحياة الأبدية، وينطق بالعلوم الأزلية، فهو بجسمه ظاهر، وبسرّ حقيقته ظافر، يطير في عالم الملكوت، ويسرح في عالم

الجبروت، تخلق بالأسماء والصفات، وفني عنها بمشاهدة الذات، هناك قراري، ووطني، وقرة عيني، وسكني، وبه دام فرحي، وهو علانيتي و سرّي، والممدّ لوجودي، ومالكي، ومعبودي، أظهر في وجودي قدرته، ورتب في بدائع صنعه حكمته، فهو الباطن الظاهر، الملك القاهر، فمن رقت همته عن ملاحظة نفسه لم يلتفت إلى غده وأمسه، وإنما هو ابن وقته، بالحق سبحانه يجري عمله أفعاله، وهو راض به مسرورا، إذ لم يكن شيئا مذكورا، فمن نزّه أقواله وأفعاله، فقد صفى همته و أحواله، فمن كان نطقه به يصول، ومن كان هو دليله فقد نال الوصول، ومن حقق نظره به يسمع وبه يقول، ويسمع عنه ويسأل به منه، إذ الوجود كله فاني والباقي فيه المعاني، به كل شيء يعرف، ولولاه لم يفهم ولم يوصف، فهو المظهر سبحانه للأكوان، و سرّ السرائر، ومظهر الأعلان، فرحمته لخلقه عامة، ونعمته لهم شاملة تامة، فهم فيها يغدون ويروحون، وبأسباغها عليهم ظاهرة وباطنة يتنعّمون، فكل شيء بجملته يشهد له بالوحدانية، ويقرّ له بالحدوث والعبودية، هو سبحانه منطقها بكرمه و مجده، وإن من شيء إلا يسبح بحمده.

وأنشدن من كتاب ابن زنجويه:

أيا عجب كيف يعصى الإل‍ ه أم كيف يجحده الجاحد

ولله في كل تحريكة وتسكينة عالم شاهد

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!