الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


حديث بناء قريش الكعبة

روينا من حديث الأزرقي، قال: حدثني جدي، نبأ مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، قال: جلس رجال من قريش في المسجد الحرام، فيهم حويطب بن عبد العزيز، ومخزمة بن نوفل، فتذاكروا بنيان قريش الكعبة، وما هاجهم عن ذلك، وذكروا كيف كان بناؤه قبل ذلك، قالوا: كانت الكعبة مبنية برضم يابس ليس بمدد، وكان بابها بالأرض، ولم يكن لها سقف، والكسوة إنما تدلى على الجدر من خارج، وتربط من أعلى الجدر من بطنها بصخور عظام.

وكان في بطن الكعبة عن يمين من دخلها جبّ يكون فيه ما يهدى للكعبة من مال وغير ذلك، وإن الله تعالى لما سرقت جرهم من ذلك المال مرارا بعث حيّة تحرسه، فلم تزل حارسة لم في الكعبة، وكان فيها قرنا كبش إسماعيل عليه السلام الذي فداه الله به من الذبح، فاتفق أن امرأة ذهبت تجمّر الكعبة فطاردت من مجمرتها شرارة فأحرقت كسوتها، فأضعفت النار حجارتها، وجاء سيل عظيم، فدخل البيت، وصدع حيطانه، ففزعت

قريش، و هابت هدمها، وخشوا إن مسّوها أن ينزل الله عليهم عذابا من عنده، ثم إنهم جمعو رأيهم على هدمها، والذي حرّضهم على ذلك وحثّهم عليه أن سفينة للروم انكسرت بالشعيبة، ساحل مكة قبل جدة، وكان في تلك السفينة روميّ يحسن البناء والتجارة، يسمى ما قوم، فأخذت قريش خشب تلك السفينة، فكان وجود الصانع والآلات والخشب حثّهم على ذلك، فأجمعوا وتعاونوا وتوافدوا وربعوا قبائل قريش أربعا، ثم اقترعو عند هبل في بطن الكعبة على جوانبها، فطار قدح بني عبد مناف وبني زهرة على الوجه الذي فيه الباب وهو الشرقي، وطار قدح بني عبد الدار وبني أسد بن عبد العزّى و بني عدي بن كعب على الشق الذي يلي الحجر وهو الشق الشامي، وطار قدح بني سهم و بني جمح وبني عامر بن لؤي على ظهر الكعبة وهو الشق الغربي، وطار قدح بني تميم و بني مخزوم وقبائل من قريش ضموا معهم على الشق اليماني الذي يلي الصفا وأجياد، فنقلوا الحجارة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غلام لم ينزل عليه وحي ينقل معهم الحجارة على رقبته، فبينما هو ينقلها إذ انكشفت نمرة كانت عليه، فنودي: ي محمد عورتك، وذلك أول ما نودي والله أعلم، فما رؤيت لرسول الله صلى الله عليه و سلم عورة بعد ذلك، وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم الفزع حين نودي، فأخذه العباس بن عبد المطلب فضمه إليه، وقال: لو جعلت نمرتك على عاتقك تقيك الحجارة، قال: ما أصابني هذا إلا من التعري، فشدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاره، وجعل ينقل معهم، وكانوا ينقلون بأنفسهم تبررا وتبركا بالكعبة.

فلم اجتمع إليهم ما يريدون من الحجارة والخشب ما يحتاجون إليه، وغدوا على هدمها، فخرجت لهم الحية التي كانت في بطنها تحرسها، سوداء الظهر، بياء البطن، رأسها مثل رأس الجدي، تمنعهم كلما أرادوا هدمها، فلما أرادوا ذلك اعتزلوا عند مقام إبراهيم عليه السلام، وهو يومئذ في مكانه الذي هو فيه اليوم، فقال لهم الوليد بن المغيرة:

يا قوم، ألستم تريدون بهدمها الإصلاح؟ قالوا: بلى، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين.

ولكن ل تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا من أطيب أموالكم، لا تدخلوا فيه مالا من ربا، ول مالا من ميسر، ولا مالا من مهر بغيّ، وجنّبوه الخبيث من أموالكم، فإن الله ل يقبل إلا طيبا. ففعلوا، ثم وقفوا عند المقام، فقاموا يدعون ربهم، ويقولون: اللهم إن كان لك في هدمه رضا فأتمه، واشغل عنا هدا الثعبان، فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب، ظهره أسود، وبطنه أبيض، ورجلاه صفراوان، والحية على جدار البيت فاغرة فاها، فأخذ برأسها ثم طار بها حتى أدخلها أجياد الصغراء.

فقال الزبير بن عبد المطلب:

عجبت لما تصورت العقاب إلى الثعبان وهي لها اضطراب

وقد كانت يكون لها كشيش وأحيانا يكون لها وثاب

إذا قمنا إلى التأسيس شدّت تهيّبنا البناء ولا تهاب

فلما أن خشينا الزجر جاءت عقاب بالسكات لها انصباب

فضمتها إليها ثم خلت لنا البنيان ليس لها حجاب

فقمنا حاشدين إلى بناء لنا منه القواعد والتراب

غداة نرفع التأسيس منه وليس على مساوينا ثياب

أعز به المليك بني لؤي فليس لأصله منهم ذهاب

وقد حشدت هناك بنو عدي ومرة قد تقدمها كلاب

فبوّأنا المليك بذاك عزّا وعند الله يلتمس الثواب

فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي عملكم، وقبل نفقتكم، فاهدموها، فهابت قريش هدمه، فقالوا: من يبدأ فيهدمه؟ فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم فأهدمه، فإني شيخ كبير، فإن أصابني أمر كان قد دنا أجلي. فعلا البيت، وفي يده عتلة يهدم بها، فتزعزع تحت رجله حجر، فقال: اللهم لم نرع، إنما أردنا الإصلاح.

ثم جعل يهدمها حجرا حجرا بالعتلة، فهدم يومه ذلك، فقالت قريش: نخاف أن ينزل به العذاب مساء، فلما أمسى لم ير بأسا، فأصبح الوليد على عمله، فهدمت قريش معه حتى بلغو الأساس الأول الذي وضعته الملائكة، وهو الذي رفع عليه إبراهيم القواعد من البيت، و هي حجارة كبار كالإبل الخلّف، يحرك الحجر منها فترتج جوانبها، وقد تشبكت بعضه ببعض، فأدخل الوليد عتلة بين الحجرين، فانفلقت منه فلقة، فأخذها أبو وهب بن عمرو بن عمران بن مخزوم، ففرت من يده حتى عادت في مكانها، وطارت من تحتها برقة كادت تخطف أبصارهم، ورجفت مكة بأسرها، فلما رأوا ذلك أمسكوا عن أن ينظروا ما تحت ذلك، فلما جمعوا ما أخرجوا من النفقة، قلّت النفقة أن تبلغ عمارة البيت، فتشاوروا في ذلك، فأجمعوا رأيهم على أن يقتصروا على القواعد، ويحجروا ما يقفون عليه من بناء البيت، ويتركوا بقيته في الحجر عليه جدار مدار، ويطوّفون الناس من ورائه، ففعلو ذلك، وبنوا في بطن الكعبة أساسا يبنون عليه من شق الحجر، وتركوا من البيت في الحجر سنة أذرع وشبرا، فبنوا على ذلك.

فلم وضعوا أيديهم في بنائها قالوا: ارفعوا بابها من الأرض، واكسوها حتى لا يدخله السيول، ولا ترقى إلا بسلّم، ولا يدخلها إلا من أردتم.

ففعلو ذلك، وبنوها بساف من حجارة، وساف من خشب بين الحجارة، حتى انتهوا إلى موضع الركن، فاختلفوا في وضعه، وكثر الكلام فيه، وتنافسوا في ذلك.

فقالت بنو عبد مناف وزهرة: هو في الشق الذي وقع لنا، وقالت تميم ومخزوم: هو في الشق الذي وقع لنا، وقالت سائر القبائل: لم يكن الركن ممن استهمنا عليه، فقال أبو أمية بن المغيرة: يا قوم، إنما أردنا البرّ، ولم نرد الشر، ولا تحاسدوا، ول تنافسوا، فإنكم إذا اختلفتم تشتت أمركم، وطمع فيكم غيركم، ولكن حكّموا بينكم أول من يطلع عليكم من هذا الفجّ.

قالوا: رضينا وسلمنا. فطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا الأمين وقد رضينا به، فحكّموه، فبسط رداءه ثم وضع فيه الركن، فدعا من كل ربع رجلا، فأخذو أطراف الرداء، وكان في الرّبع الأول عبد مناف بن عتبة بن ربيعة، وكان في الرّبع الثاني أبو زمعة الأسود وكان أسنّ القوم، وكان في الرّبع الثالث العاص بن وائل، و في الرّبع الرابع أبو حذيفة بن المغيرة، فرفع القوم الركن، وقام النبي صلى الله عليه وسلم على الجدار، ثم وضعه عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة، وذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلى الله عليه وسلم حجرا يشدّ به الركن، فنحى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل النجدي، فغضب النجدي حيث نحي.

فقال النجدي: وا عجبا لقوم أهل شرف وعقل وسن وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم، كأنهم خدم له، أما والله ليفوتنهم سبقا، و ليقمن عليهم حظوظا وحدودا، وإن ذلك النجدي كان إبليس لعنه الله، ثم بنوا حتى بنوا أربعة أذرع، ثم كسوها، وبنوا حتى بلغ ارتفاع البيت ثمانية عشر ذراعا، زادو التسعة أذرع على بناء إبراهيم، وجعلوا سقفها مسطحا، وأقاموا سقفه على ستة دعائم في صفين، وبنوا درجة من خشب في بطنها من الركن الشامي، يصعد بها إلى سقف البيت، و زوّقوا البيت، وصوّروا الأنبياء والشجر والملائكة، وجعلوا لها بابا واحدا و كسوها من الحبرات اليمانية.

روينا من حديث الخطابي قال: أخبرني أبو الطيب طبطب الوراق، عن محمد بن يوسف النحوي قال: حدثني بعض مشايخنا قال: ركبت في سفينة ومعنا شاب من العلوية، فمكث معنا سبعا لم نسمع له كلاما، فقلنا له: يا هذا، قد جمعنا الله وإيّاك منذ سبع لا نراك تخالطنا، ولا نراك تكلمنا، فأنشأ يقول:

قليل الهمّ لا ولد يموت ولا أمر يحاذر أن يفوت

قضى وطر الصّبا فأفاد علما فغايته التفرّد والسكوت


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!