الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


ومن باب البلاغة

يحكى عن يحيى بن خالد، أنه وصف الفضل بن سهل وهو غلام على دين المجوسية للرشيد، وذكر أدبه وحسن معرفته، فعمل على ضمّه إلى المأمون، فقال ليحيى يوما: أدخل إليّ هذ الغلام المجوسي حتى أنظر إليه. فأوصله، فلما مثل بين يديه ووقف، تحيّر، فأراد الكلام فارتجّ عليه، فأدركته كبوة. فنظر الرشيد إلى يحيى نظرة منكرة، لما كان يقدّم من إفراط ثنائه عليه، فانبعث الفضل بن سهل، فقال: يا أمير المؤمنين، إن من أيمن الدلالة على فراهة المملوك شدّة إفراط هيبته لسيده، فقال له الرشيد: أحسنت، و الله إن كان سكوتك لتقول هذا، إنه لحسن، وإن كان شيء أدركك عند انقطاعك، إنه لأحسن،

أو حسن. ثم جعل لا يسأله عن شيء إلا رآه فيه مقدّما، فضمّه إلى المأمون.

حدثني أبو عبد الله بن عبد الجليل، قال: مرّ الحجاج بن يوسف بشخص من عمّاله كان قد صلبه، فوجد عند خشبته صبيا صغيرا، فاستنطقه الحجاج فقال له: يا صبي، ما تقول في هذا الراكب؟ فقال: أيها الأمير، هو زرع نعمتك، وحصيد نقمتك. فسأل عن الغلام، فوجده ابن ذلك المصلوب، فقرّبه وأقعده مقعد أبيه.

وحدثن أيضا عن الأصمعي، قال: لقيت بالبادية صبيا لم يدرك الحلم، فاستنطقته فوجدته بليغ فصيحا، فاستخبرته هل عنده شيء من عرض الدنيا، فقال: يا عم، والله ما أملك اليوم درهما واحدا. قال: فقلت له: تودّ أن تكون لك مائة ألف وتكون أحمق؟ فقال له: لا و الله يا عم. قلت: ولم؟ قال: أخاف أن يجني عليّ حمقي جناية تذهب بمالي، ويبقى عليّ حمقي.

وحدثن أيضا من هذا الباب، قال: كان الرشيد يميل لعبد الله المأمون أكثر من ميله إلى محمد الأمين، فقالت زبيدة، وهي أمّ الأمين: يا أمير المؤمنين، إنك تميل إلى المأمون أكثر من ميلك إلى ولدي الأمين. فقال لها: ما أنا حيث ظننت، ولكني تفرّست في النجابة أكثر من الأمين. قالت: فأحبّ من أمير المؤمنين أن يختبرهما بحضرتي.

قال: فبعث خلف الأمين أولا، فقال له: يا محمد، إني جلست هذا المقام، وآليت على نفسي ل يسألني منكم أحد شيئا إلا أعطيته ما سأل، فقال: أسألك كلب بني فلان، وبازي بني فلان، فكلب مشهور، وبازي مشهور. فقال له: لك ذلك، ثم انصرف.

فاستدعى المأمون، فوقف بباب الستر، فأذن له، فدخل وسلّم، فقال له: ادن فدنا، وخدم ووقف، فما زال يقول: ادن وهو يدنو ويخدم، إلى أن وقف بين يديه، فأمره بزيادة الدنوّ، فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا مقام العبد من مولاه. فقال: يا بنيّ، إني جلست هذ المقام، وآليت على نفسي لا يسألني أحد منكم على شيء إلا أعطيته ما سأل. قال: فأطرق واغرورقت عيناه بالدموع، وقال له: يا أمير المؤمنين، أسألك في الخلافة بعدك، وأرجو الله أن لا يذيقني فقدك. فقال: انصرف.

وحدثن أيضا، قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بغلمان يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير، ففرّ الصبيان خوفا من عمر إلا عبد الله بن الزبير. فقال له عمر: يا عبد الله، لم لم تفرّ كما فرّ أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم أكن على ريبة فأخافك، ولم أكن في الطريق الضيّق فأوسّع لك.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!