الفتوحات المكية

كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار

للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


حكاية

ذكر أهل الأدب أن بني فزارة وبني هلال تنافروا إلى أنس بن مدركة، وتراضوا به يحكم بينهم، فقالت بنو هلال: يا بني فزارة، أكلتم أير الحمار. فقالت بنو فزارة: ولم نعرفه. و سبب هذا القول أن ثلاثة اصطحبوا فزاري وثعلبي وكلبي، فصادوا حمار وحش.

ومضى الفزاري في بعض حوائجه، فطبخا وأكلا، وخبئا للفزاري ذكر الحمار. فلما رجع قال له: خبأنا لك حقك فكل. فأقبل يأكل ولا يسيغه، فجعلا يضحكان، ففطن وأخذ السيف و قام إليهما، وقال: لتأكلا منه، أو لأقتلنكما. فامتنعا، فضرب أحدهما فقتله، و تناوله الآخر فأكل منه. فقال فيهم الشاعر:

نشدتك ي فزار وأنت شيخ إذا خيرت تحظى في الخيار

صيحانية أدمت بسمن أحبّ إليك أم أير الحمار

بلى أير الحمار وخصيتاه أحبّ إلى فزارة من فزار

فقالت بنو فزارة: يا بني هلال، منكم من سقى إبله، فلما رويت سلح في الحوض ومدره بخلا به. فنصرهم أنس بن مدركة على الهلاليين، فأخذ منهم الفزاريون مائة بعير، و كانوا تراهنوا عليها. وفي بني هلال يقول الشاعر:

لقد جللت خزيا هلال بن عامر بني عامر طرّا لسلحة مادر

ومن باب الحماسة: كان جحدر بن مالك لسنا شاعرا فاتكا شجاعا، وكان قد آثر على أهل هجر ناحيتها. وبلغ ذلك الحجاج بن يوسف، فكتب إلى عامل اليمامة يوبّخه بتلاعب جحدر به، ويأمره بالتجرد عليه حتى يظفر به. فبعث العامل إلى فتية من بني

يربوع بن حنظلة، فجعل لهم جعلا عظيما إن هم قتلوا جحدر، أو أتوا به أسيرا، ووعدهم أن يوفدهم إلى الحجاج. فخرج الفتية في طلبه، حتى إذا كانوا قريبا منه، بعثوا إليه رجلا منهم يريه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحزّب به، فوثق بهم واطمأن إليهم، فبينما هم على ذلك إذ شدّوه وثاقا وقدموا به إلى العامل، فبعث به معهم إلى الحجاج، وكتب يثني على الفتية. فلما قدموا به على الحجاج، قال له: أنت جحدر؟ قال: نعم. قال: ما حملك على ما بلغني عنك؟ قال: جراءة الجنان، وجفوة السلطان، وكلب الزمان. قال: وما الذي بلغ من أمرك، فيجتري جنانك، ويصلك سلطانك، ولا يكلبك زمانك؟ قال: لو بلاني الأمير لوجدني من صالح الأعوان، وأهم الفرسان، ومن أوفى أهل الزمان. فقال الحجاج: أنا قاذفك في قبة فيها أسد، فإن قتلك كفانا مئونتك، وإن قتلته خلّينا سبيلك ووصلناك. قال:

لقد أعطيت أصلحك الله الأمنية، وعظمت المنّة، وقرّبت المحنة. فأمر به فاستوثق منه بالحديد وألقي في السجن، وكتب إلى عامله بكسكر يأمره أن يصيد له أسدا ضاريا، فلم يلبث العامل أن بعث له بأسد ضاريات قد أثرت على أهل تلك الناحية، ومنعت عامة مراعيهم ومسارح دوابهم، فجعل واحدا منها وهو عظيمها في تابوت يجرّ على عجلة. فلما قدموا به ألقي في حيز وأجيع ثلاثا. ثم بعث إلى جحدر، فأخرج وأعطي سيفا، و دلّي عليه، فمشى إلى الأسد وأنشأ يقول:

ليث و ليث في مجال ضنك كلاهما ذو أنف ومحك

وصولة في بطشة وفتك أن يكشف الله قناع الشكّ

وأظفرن بجؤجر وبرك فهو أحقّ منزلا بترك

الذئب يعوي والغراب يبكي وقدرة الله مزال الشكّ

حتى إذا كان منه على قدر رمح تمطّى الأسد وزأر وحمل عليه، فتلقّاه جحدر بالسيف فضرب هامته ضربة فلقها، وسقط الأسد كأنه خيمة قوّضتها الريح، فانثنى جحدر وقد تلطخ بدمه لشدة حملة الأسد عليه، فكبّر الناس. فقال الحجاج: يا جحدر، إن أحببت أن ألحقك ببلادك وأحسن صحبتك وجائزتك فعلت ذلك بك، وإن أحببت أن تقيم عندنا أقمت فأسنينا فريضتك. قال: أختار صحبة الأمير. ففرض له ولجماعة أهل بيته.

وأنشد جحدر يقول:

يا جمل إنك لو رأيت سيالتي في يوم هيج مردف وعجاج

وتقدمي لليث أرسف نحوه عني أكابره عن الإخراج

جهم كان جبينه لما بدا طبق الرحا متفجر الأثباج

يرتو بناظرتين يحسب فيهما من ظنّ خالهما شعاع سراج

شثن براثنه كان نيوبه زرق المعاول، أو سداة زجاج

وكأنما خبطت عليه عباءة برقاء أو خلق من الديباج

قرنان محتضران قد ربتهما أم المنيّة غير ذات نتاج

وعلمت أني إن أبيت نزاله إني من الحجاج لست بناج

فمشيت أرفل في الحديد مكبّلا بالموت نفسي عند ذاك أناجي

والناس منهم شامت وعصابة عبراتهم لي بالحلوق شواجي

ففلقت هامته فخرّ كأنه أطم تقوّض مائل الأبراج

ثم انثنيت وفي قميصي شاهد مما جرى من شاخب الأوداج

أيقنت أني ذو حفاظ ماجد من نسل أملاك ذوي أتواج

فلئن قذفت إلى المنيّة عامدا إني لخيرك بعد ذلك راجي

علّم النساء بأنني لا أنثني إذ لا يتقن بغيرة الأزواج

حدثنا محمد بن قاسم، قال: سئل بعض السادة عن أول توبته، قال: لما تمادت بي المخالفة، وأسرفت على نفسي إسرافا أدى بي إلى القنوط، فوقع في قلبي أن الله ل يرحمني لما عظم في قلبي إجرامي، فأقمت ثلاثا لا أذوق طعاما، ولا أسيغ شرابا، وقد جعلت ذنوبي بين عينيّ، فلما كانت الليلة الرابعة رأيت في النوم جارية وبيدها جام من الذهب مكتوب عليه بالنور: (يا هذا اشتد بك الكرب فأين اللجا؟ وإذا عظم عليك الخوف فأين الرجا؟) وعلى جبينها مكتوب: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ل تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَلله فوضعت الجام بين يديّ، فأكلت منه طعاما لا يشبه طعام الدنيا، فوجدت حلاوة الرجا في قلبي، واستقمت من تلك الليلة على طاعة ربي.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو لا حب الوطن لخرب البلد السوء، فبحب الأوطان عمرت البلدان) .

قال بقراط: (يداوي كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تترع إلى غذائها) .

وقال بعض الحكماء: (اطلبوا الرزق في البعد عن الأوطان، فإنكم إن لم تكسبوا مالا غنمتم عقلا كثيرا) .

وقال بعضهم: (لا يألف الوطن إلا ضيق العطن) .

روينا من حديث الهيثم بن الحسن بن عمارة قال: قدم شيخ من خزاعة أيام المختار، فنزل على عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، فلما رأى ما تصنع سوقة المختار بالمختار من الإعظام و الإجلال، جعل يقول: (يا عباد الله، بالمختار يصنع هذا؟ والله لقد

رأيته مع الإماء في الحجاز) ، فبلغ ذلك المختار فدعا به، فقال: م هذا الذي بلغنا عنك؟ قال: أباطيل. فأمر بضرب عنقه، فقال: لا، والله لا تقدر على ذلك، قال: ولم؟ قال: أما دون أن أنظر إليك وقد هدمت مدينة دمشق حجرا حجرا، و قتلت المقاتلة، وسبيت الذرية، ثم تصلبني على شجرة على نهر، والله إني لأعرف الشجرة الساعة، وأعرف شاطئ ذلك النهر.

فالتفت المختار إلى أصحابه فقال لهم: أما إن الرجل قد عرف الشجرة، وربما يقول حقا.

فأمر به فحبس حتى إذا كان الليل بعث إليه فقال: يا أخا خزاعة، أو مزاح عند القتل؟ قال: أنشدك الله أن أقتل ضياعا، قال: وما تطلب هاهنا؟ قال: أربعة آلاف درهم أقضي به ديني، قال: ادفعوها إليه، وإياك أن تصبح بالكوفة، فقبضها وخرج.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!