الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


93. الموقف الثالث والتسعون

قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر: 54/ 49].

اعلم أن الشيئية: شيئية ثبوت، وشيئية وجود، فشيئية الوجود حادثة، وهي المراد، المنفية في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾[مريم: 19/ 9].

أي موجوداً. وشيئية الثبوت هي عبارة عن استعداد الممكن، وقبوله للظهور بالوجود الحق، وظهور الوجود الحق به، فإنه لولا قبوله ما حصل ما حصل. ألا ترى المحال، لمَا لم يكن له استعاد ولا قبول للمظهرية ولا للظهور ماكان له وجود؟!.. وهذا الاستعداد والقبول للممكن قديم غير مجعول، فما تعلّق به أثر للقدرة القديمة. كما أن العدم السابق على الوجود ليس من أثر القدرة القديمة، فشيئية الثبوت قديمة، وهي المرادة والمخاطبة، بقوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [النحل: 16/ 40].

كان المأمور ثابتاً معدوماً فسمع الخطاب فامتثل الأمر بالكون فكان، فم اثبت الحق تعالى لنفسه إلاَّ الأمر بالكون، وأمَّا الكون فمن الشيء المأمور لنفسه، إذ أمر المعدوم الصرف، الذي لا ثبوت له ولا استعداد للكون، وخطابه بالكون محال لاسيما من الحكيم العليم، فمتعلق الأمر والحدوث و الخلق والتكوين إنما هو الصورة، وهي الهيئة الاجتماعية الحاصلة من اجتماع الأسماء. فمعنى "كن" اقبل اتصافك بوجودي وظهوري بك فتكون مظهراً لي، لا أنك تكون موجوداً، فالأمر والمأمور والأمر واحد عند التحقق، والتغاير بينهما اعتباري ليس بشيء زائد على الهيئة الاجتماعية للأسماء الإلهية، التي تلك العين الثابتة صورتها العلمية، ف لتكوين عين المكون (اسم مفعول)، وعين المكون (اسم فاعل). فالحق تعالى إذا توجه توجهاً خاصاً لعين من الأعيان الثابتة،  التي قلنا إنها صور الأسماء الإلهية للإيجاد، بمعنى المظهرية للوجود الحق، وتوجهه تعالى عينه وعين ما توجه إليه، انصبغ الوجود الحق بأحوال تلك العين الثابتة، وبما لها من الاستعداد للصفات التي تعرض لها حالاً بعد حال، إلى الأبد، فيظهر الوجود الحق منصبغاً بصفاتها، والعين نفسها باقية في العدم والثبوت وتنصبغ تلك العين بالوجود الحق.

﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً﴾[البقرة: 2/ 138].

فيحصل لها الشعور بنفسها، وعندما حصل لها الشعور بنفسها، نظرت في مرآة الوجود الحق، الذي هو نور السموات والأرض، ونور كلّ شيء؛ فنظرت نفسها في النور فظنت أن الذي رأته في مرآة الوجود من صورتها شيء آخر، وأنها حصلت على وجود خارجي، غير الوجود العلمين وليس الأمر كذلك. وإنما الذي رأته وظنته وجوداً خارجياً هو الوجود الحق الظاهر بأحكامها واستعداداتها. وأمَّا هي فما شمَّت رائحة الوجود أزلاً وأبداً، إذ حد الأعيان الثابتة، إذا حدها من حدّها، هي حقائق الممكنات في العلم الإلهي، ويسميها المتكلمون الماهيات، كما يسميها أهل الله أيضاً الاستعدادات والحقائق العلمية، فلو كان لها وجود خارج العلم لانقلبت حقيقتها. وقلب الحقائق محال. فحقيقة كل شيء أي شيء كان هي نسبة معلوميته في علم الحق تعالى من حيث أن علمه عين ذاته. فافهم الأمر على أصله، واكتمه إلاَّ عن أهله، المستعدين لقبوله، المتهيئين لتحصيله، وإن خالفت ندمت إذ ما كل ما يعلم يقال، وأنهم يكذبونك، ولا يمكنك إقامة دليل على صدق دعواك، فإن الأمور الوجدانية لا يمكن حدّها، ول إقامة دليل عليها، حتى في الأمور العادية في الخلق، كالفرح والغم، والخوف و الخشوع، ونحوها، فلا يمكن توصيلها إلى الغير أبداً، ولا سبيل لها إلاَّ الذوق، وإذ أخذها المؤن بحسن ظنّه بالمخبر يحصل له فرقان بينه وبين الجاهل بها، ولكن لا مثل ذوقها.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!