الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


88. الموقف الثامن و الثمانون

قال تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[الأنعام: 6/40].

هذه الآية الكريمة نفي وبرهان في الرد على المشركين، الذين جعلو لله أنداداً وشركاء في الألوهية، والتماس النفع منهم، عند عامّة المفسرين، وعندن وعند أهل طريقنا هي نعي وردَّ على من جعل لله تعالى شريكاً مطلقاً في الألوهية وفي الوجود والصفات، قل يا محمد لهؤلاء المحجوبين، الذين جعلوا للمخلوقات وجوداً مستقلاً حادثاً أو قديماً، وجعلوا لها صفات مغايرة لصفات الله تعالى ـ، من قدرة وإرادة وغيرهما، فأدّاهم ذلك إلى أن قالوا: إنه إذا نزل بنا ما لا يقدر على دفعه المخلوق فإنا ندعو الله إليه؛ وإذا نزل بنا غير ذلك من مهمّاتنا ومصالحنا فإنَّ ندعو غير الله إليه من مخلوقاته، أرأيتكم أي أخبروني: إن أتاكم نوع من أنواع عذاب الله، الخارجة عن طوق المخلوق، كالزلازل والخسف والريح العاصفة، أو أتتكم الساعة، وهي القيامة والحشر للحساب، أغير الله تدعون؟.. أي: أيكون لكم مدعو مغاير لله تعالى ـ في هاتين الحالتين، وفي هذين الوقتين؟ أم تدعون الله الذي تخيّلتموه مبايناً للعالم ومغايراً له، وتنسون ما تشركون، أي تنسون شرككم، وهو جعلكم للمخلوقات وجوداً مستقلاً مغايراً للوجود الحق؟!... فلا شك أنهم يقولون ما هو معتقدهم، من مغايرة وجود الحق لوجود الخلق، إذ الحق تعالى عندهم لا يظهر في مظهر، ول يتعين بتعين، إن كنتم صادقين، "إن" بمعنى "لو" أي لو كنتم صادقين لعلمتم وقلتم: إنكم لا تدعون إلاَّ الله تعالى في جميع الأحوال والأوقات. فإن المخلوقات من جن وإنس وملك وغيرهم، مظاهره هو الظاهر لا غير، و الصدق مطابقة الخبر للواقع، والكذب ضده. فالصادق هو العارف الذي يقول: المدعو لكل أمر، وفي كل وقت وحال هو الله تعالى والمخلوقات مظاهره، من غير حلول ولا اتحاد ولا امتزاج، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ﴾[فاطر: 35/ 15].

ونحن افتقارنا إلى بعضنا، فافتقارنا ليس إلاَّ إليه، وبعضن مظاهره وتعيناته لا غير. و الكاذب هو الجاهل الذي يقول: المدعو في حال ووقت هو الله، و المدعو في حال ووقت غيره، في بل إياه تدعون: إبطال لما تخيّلوه، وإضراب على ما توهّموه، وحصر لدعائهم في كلّ وقت وحال، في الله تعالى فيكشف ما ت دعون إليه ممّا قلَّ أو جلَّ إن شاء فإنه لا مكره له تعالى ولأنَّ الغالب على من كانت حالته الجهل بالله عدم إجابة دعائه، لأنَّه تخيل الله تعالى بعيداً عنه في السماء أو فوق العرض لا غير. فيكون الله تعالى بعيداً عن إجابة دعائه، جزاءً وفاقاً، لأنه عند ظن عبده به.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!