الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


85. الموقف الخامس والثمانون

ورد في الصحاح، ولا يبعد أن يكون في الأحاديث المتواترة:

((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)).

قد تكلم الناس على هذا الحديث قديماً وحديثاً، ذكر الإمام السيوطي (رضي الله عنه) منها نحو الأربعين قولاً، ومنها مالم يبلغه بلا شك. وأكثر الناس عليه كلاماً على طريق أهل العرفان العارف بالله عبد العزيز الدباغ الفاسي فإنه أبدع وأتى بما لم يسبقه إليه غيره. وكل ماقيل في معنى هذا الحديث فصواب وأصوب، وحق وأحق، فإن الكل من عند الله تعالى ـ، ومن تجلياته، إذ كلام الحق تعالى وكلام رسوله (صلى الله عليه وسلم) بحر زاخر، ماله ساحل، فكل ما فهمه الخلق في كلام الله ـ تعالى وكلام رسوله (صلى الله عليه وسلم) الذي هو كلام الله، على لسانه، لأنه:

﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[النجم: 83/ 3 4 ].

هو مراد ومقصود، وإن خالف الحق ظاهراً، فإنه كما قال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾[البقرة: 2/26].

فالضلالة مقصودة، وما يطلق عليه اسم الخطأ مقصود، فالكل عطاء الله.

﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾[الإسراء: 17/ 20].

ومن المراد لله ولرسوله في الكلام، مالم يهتدوا إليه ولا بلغوه. والذي ألقاه الحق تعالى علي معاني هذا الحديث العظيم الشأن، ومن إشاراته المعجوز عن استيفائها بالبيان، أن المراد بالأحرف هنا الأحرف الحقيقية. إذ الأحرف عند الطايفة العلية ثمانية أنواع: "أحرف حقيقية، وأحرف عالية، وأحرف روحانية، وأحرف صورية، وأحرف معنوية، وأحرف خيالية، وأحرف حسية لفظية، وأحرف خطية". والمراد من الأحرف الحقيقية الأمهات السبعة والأصول الكلية: "العلم، والإرادة، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر، والحياة التي هي شرط في إثبات الجميع "ولا يصح إثبات شيء بدونها".

أخبر (عليه السلام) أن هذا القرآن وهو النظم المعجز المنزل عليه (صلى الله عليه وسلم) أنزل مستولياً ومستعلياً استعلاء دلالة على متعلقات هذه الأحرف التي ذكرناها. وهي أمهات الأسماء والصفات. فكل مدلولاتها ومتعلقاتها يدل عليه القرآن العظيم، وتؤخذ منه، ولذا ورد عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه قال:

«وما حرك طائر جناحيه، إلا وجدنا ذلك في كتاب الله تعالى».

وترى العارفين يستخرجون العلوم والأسرار والأخبار بالمغيبات الآتية من القرآن. وجميع العلوم المتداولة مأخوذة من القرآن، ويهدي إليه هداية بينة. وجميع الثلاثة والسبعين فرقة يأخذون الأدلة والحجج لمذاهبهم من القرآن. وهذا من جملة وجوه إعجازه، وخروجه عن طوق البشر. كيف لا وهو تعالى قال: ﴿مَّا فَرَّطْنَ فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾[الأنعام: 6/38].

فكل ما يطلق عليه اسم شيء فهو في القرآن العظيم، إما صريحاً وإم إشارة، إما ضمناً وإما التزاماً، والشيء أعمّ من الموجود والمعدوم عند أهل اللغة، ولذ قالوا: إنَّ أنكر النكرات: شيء، ثم موجود. لأجل هذا الجم ع العظيم سمّي بالقرآن، من القرء، وهو الجمع، إذ القرآن الكريم ليس هو إلاَّ ظاهر علم الحق تعالى . ول ريب أن علمه تعالى محيط بالكليات والجزئيات، فالقرآن محيط بالكليات و الجزئيات، فإنه أمر الله المنزل، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ﴾[الطلاق: 65/ 5].

وأمره صفته المحيطة بكل شيء، القائمة على كل شيء، وتختلف دلالات القرآن على متعلقات الأحرف، باختلاف وجوه قراءاته، من زيادة ونقص وتقديم وتأخير، ورفع ونصب، وخفض وسكون، فإنها الأحرف الصغار، وكل وجه يتفرع إلى وجوه، منها أصول، ومنه فروع، ومنها ملزومات، ومنها لوازم بيّنة، ومنها غير بينّة، ومنها لوازم اللوازم.... وهكذا. والحق تعالى بجوده يفتح على كل واحد ويعطيه مما أحاط به القرآن من مدلولاته ما يستحقه، ويطلبه استعداده، إما هدى وإما ضلالة، إما رشداً وإما غياً، والإحاطة بجميع ما أحاط به القرآن محال، فلذا قال (عليه السلام): ((فاقرؤوا ما تيسّر منه)).

أي من مدلولاته ، وا لعلوم التي تضمّنها، فهو أمر بالدّال، وإرادة المدلول، لأن القرآن كله يسر، كما قال: ﴿{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾[القمر: 54/ 17]. [القمر: 54/22]، [ا لقمر: 54/32]، [القمر: 54/ 40].

فليس منه يسر وغير يسر، بل تعدد أوجه القراءة تيسير، كما ورد في الحديث:

((اقرأني جبريل على حرف و احد، فاستزدته فزادني إلى سبعة)).

والذي منه يسر وغير يسر هو متعلقات الأحرف السبعة، التي ذكرناها قبل ولا تيسير لأ حد شيء إلا ماهو مستعد له.

قوله "ولا تختلفوا" إلى آخر الحديث، أي لا تجعلوا ما يفتح الله به على بعضكم في الفهم فيه خلافاً قادحاً في القرآن، وموجباً للشك فيه، حتى يؤدي ذلك إلى الشك في أصل الدين. ولهذا اختلف الصحابة (رضوان الله عليهم) وكذا من بعدهم من أهل الفضل والعلم، وما جعلوا ذلك اختلافاً في الدين، ولا كفّر بعضهم بعضاً. وما حصل للخلق كلهم من معلوماته تعالى ، التي هي متعلقات صفات الأمهات الأصول إلاَّ كما قال الخضر لموسى (عليه السلام):

((مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ)). أي ما تعلق به علمي وعلمك من علم الله (أي معلوماته)؛ ((إلاَّ كما نقص هذا العصفور بنقرته من هذا البحر)).

فهذا إشارة إلى ما أشار إليه هذا الخبر العظيم الشأن.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!