الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


364. الموقف الرابع الستون بعد الثلاثمائة

سأل بعض الأصحاب عن سبب انكباب المسلمين على استحسان أحوال النصارى والاقتداء بهم في عوائدهم وألبستهم وكيفية أكلهم وشربهم وركوبهم، بل في جميع حركاتهم وسكناتهم وأحكامهم وشريعتهم.

فقلت له: اعلم أن أكثر الناس أو كلهم، إلاّ الخواص من عباد الله تعالى ـ، يظنون أن الغلبة إذا حصلت للكافر على المسلم أن ذلك بنصر الله تعالى للكافر على المسلم، وليس كذلك. ولكن المسلم لما خالف أمر ربه ونبذ شريعة نبيه خذله الله تعالى ـ، فلما تقابل المسلم والكافر تولى الاسم الإلهي الخاذل المسلم وألقى في قلبه الرعب فانهزم المسلم فتبعه الكافر. فلما رأى ملوك الإسلام وذووا آرائهم ووزرائهم وأمارئهم ما يحصل على جيوشهم منغلبة الكفار مع شحهم على ملكهم توهموا أن ذلك لما عليه الكفار من الزي والأحوال والصفات فاستحسوا متابعتهم والتشبه بهم في جميع أحوالهم وتصرفاتهم، وتبعهم أمراؤهم وكل من له دخل في الأمور السلطانية، كل واحد يتقرب لمن هو أعلى بمتابعته والاقتداء به. ثم سرى ذلك السم في الرعايا على طبقاتهم ممن ضعف إيمانه الأضعف فالأضعف كما ورد: الناس على دين ملوكهم، فعظم الخطب وعمت المصيبة، ومن سنة الله تعالى التي قد خلت في عباده:﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾[فاطر:35/43].

أن المغلوب دائماً ينظر الغالب بعين الكمال فيقتدي به في أحواله ويتشبه به في زيه من مطعمه ومشربه ومركبه وعدته ولباسه وعوائده كلها، ويتكلم بلغته ولسانه. وربما سرى ذلك التشبيه والاقتداء بالغالب إلى العقيدة والنحلة إن كان للغالب نحلة، فما قنع السائل بهذا الجواب، وقال: أريد أعلى من هذا؟ فقلت له: سبب اختلاف أحوال العالم هو اختلاف التجليات الأسمائية الإلهية، فإن الألوهة لذاته تقتضي اختلاف الأحوال وعدم بقائها على وتيرة واحدة، إما إلى خير أو إلى أشر، وإم إلى نفع أو أنفع، أو إلى ضر أو أضر. فللأسماء الإلهية الفعل والتأثير في المخلوقات لا تتعطل على مقتضى ما سبق في أم الكتاب لكل مخلوق. لو ما رأينا اختلاف الأحوال والتنقل التبدل من كراهية شيء إلى استحسانه وبالعكس، علمن أن لذلك سبباً، وليس إلاّ اختلاف التجليات الأسمائية. فإن كل اسم من الأسماء الإلهية له نوع من التأثير يظهر عنه، فأمور الخلائق كلها تجري على أحكاماً لأسماء الإلهية. فالمخلوقات علامات على الأسماء الإلهية المؤثرة ومظاهر لها، لأنهم آثارها، فهي كاشفة لها، وهي علامة على تجليات الحق تعالى بما تجلّى وظهر، فهو المضل المحير الهادي الموقف المعز المذل، إلى غير هذا من التجليات الأسمائية. فالأسماء الإلهية هي التي تصرف الخلوقات وتتصرف فيهم بما يحمد ويذم وما ينبغي وما لا ينبغي في ظواهرهم وبواطنهم بطريق الاستيلاء عليهم والإحاطة بهم بما يسعدهم وبما يشقيهم. وفوق هذا لا مقال لقائل ولا سؤال لسائل. فإنّ السؤال عن علل الأشياء بلم كان كذا كالسؤال عن القدر، بل هو هو. فأفعال الحق في مخلوقاته لاتعلل، فإنه ما ثم علة موجبة لتكوين شيء إلا أن يقال على سبيل الإجمال: ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾[طه:20/50].

فإن شئت قلت مختار، وإن شئت قلت ذلك بحسب ما أعطي العلم، وإن شئت قلت الذات اقتضت أن يكون خلق كل شيء على ما هو عليه ذلك الشيء بلوازمه وعوارضه، جل العليم وعز الحكيم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!