الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


32. الموقف الثاني والثلاثون.

قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[البقرة: 2/186].

اعلم أنَّ الحق تعالى لا يعطي أحداً ما يطلبه بلسان مقاله، إلاَّ إذا وافق طلب لسانه طلب استعداده؛ فإذا خالف طلب الاستعداد طلب اللسان فلا يعطي تعالى إلاَّ ما طلبه الاستعداد كائناً مَنْ كان ذلك الطالب وذلك المطلوب. فلو طلب القار تبييض لونه ما أجاب الحق، لأن استعداده يطلب خلافه، وهو السواد، ولو طلبت شقة الكتان مثلاً تسويدها ما أجاب الحق سؤالها، لأن استعدادها يطلب خلاف ذلك، وهو تبييضها. والإنسان قد يكون له استعداد الطلب باللسان، وما يكون له استعداد قبول المطلوب. فإذا سأل أحد من الحق تعالى شيئاً، ولم يعطه إيَّاه، فإنَّم ذلك لكون استعداده طلب خلافه، وليس له استعداد لقبول ذلك المطلوب. وإلاَّ فتعالى الحق أن يمنع أحداً عن بخل. فالآية الكريمة وإن كانت مطلقة في ظاهر اللفظ فهي مقيّدة بطلب الاستعداد وسؤاله. فإن مدار الأمر كلّه على الاستعداد للقبول سواء طلب أو لم يطلب. والاستعدادات الكلية قديمة لم يتعلق بها جعل، وإنما حصلت بالفيض الأقدس الذاتي. فالحق تعالى حكيم لا يعطي أحداً شيئاً هو غير طالب له باستعداده، فيكون مستعداً لقبوله، فلو عمد الملك مثلاً إلى خزاين السلاح فأعطاه العلماء لطلبهم إياها منه، وعمد إلى خزاين الكتب ففرّقها على الجند لطلبهم إياه منه، ماكان حكيماً. لأنَّ العالم غير مستعد لاستعمال السلاح والحرب، ولو طلب السلاح بلسانه، والجندي غير مستعد لفهم الكتب، ولو طلبها بلسانه، والله عليم حكيم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!