الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


30. الموقف الثلاثون

قال لي الحق تعالى: «تدري من أنت؟ فقلت: نعم، أنا العدم الظاهر بظهورك، والظلمة المشرقة بنورك، فقال لي: عرفت فالزم. وإياك أن تدّعي ما ليس لك. فإنَّ الأمانة مؤداة، والعارية مردودة، واسم الممكن منسحب عليك أبداً، كما هو منسحب عليك أزلاً».

ثم قال لي: «أتدري من أنت؟ فقلت: نعم، أنا الحق حقيقة، والخلق مجازاً وطريقة. أنا الممكن صورة، الواجب ضرورة. اسم الحق لي هو الأصل، واسم الخلق على العارية والفصل. فقال لي: اعلم هذا الرمز، ودع الجدار ينقض على الكنز، حتى ل يستخرجه إلاَّ من أتعب نفسه، وعاين رمسه».

ثم قال لي الحق تعالى : ما أنت؟ فقلت: إنَّ لي حقيقتين من حيثيتين: أمَّا من حيث أنت فأنا القديم الأزلي الواجب الوجود الجلي. أمَّا الوجوب فمن اقتضاء ذاتك، وأما القدم فمن قدم علمك وصفاتك، وأمَّا من حيث أنا فأنا العدم الذي ما شمَّ رائحة الوجود، والحادث الذي في حال حدوثه مفقود. فما كنت حاضراً بك لك فأنا وجود. وما كنت غائباً بنفسي عنك، فأنا مفقود موجود.

ثم قال لي: ومن أنا؟ فقلت: أنت الواجب الوجود بالذات، المنفرد بكمالي الذات والصفات، بل تنزَّهت عن كمال الصفات بكمال الذات. فأنت الكامل في كل حال، المنزّه عن كل ما يخطر بالبال. فقال: ما عرفتني!! فقلت: من غير خوف عقوق، وأنت المشبّه بكل حادث مخلوق. فأنت الربّ والعبد، والقرب والبعد، وأنت الواحد الكثير، والجليل الحقير، الغني الفقير، العابد المعبود، الشاهد المشهود. فأنت الجامع المتضادات ولجميع أنواع المنافاة، فإنك الظاهر الباطن، المسافر القاطن، الزارع الحارث، المستهزئ الماكر الناكث، فأنت الحق، وأنا الحق، وأنت الخلق، وأنا الخلق، ولا أنت حقّ، ول أنا حق، ولا أنت خلق، ولا أنا خلق. فقال: حسبك عرفتني؛ فاسترني عمّن لا يعرفني، فإنَّ للربوبية سراً لو ظهر لبطلت الربوبية وللعبودية سرّاً لو ظهر لبطلت العبودية. وأحمد على أن عرّفناك بنا، فإنك لا تعرفنا بغيرنا، إذ لا دليل غيرنا علينا.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!