الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


297. الموقف السابع والتسعون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ{1} لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ{2} مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ{3} تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ{4}﴾[المعارج: 70/ 1-4].

أي من السنين المعروفة عندنا، مما نعدّ. وفي هذه الآية إشارة إلى م يقوله بعض أهل الكشف، وهو انقطاع العذاب عن أهل النار، الذين هم أهلها، بانقطاع حكم ذي المعارج. ومدّة حكمه خمسون ألف سنة. سمّي هذا اليوم يوم ذي المعارج، لكثرة عروج الملائكة إليه تعالى فيه ، وإلى بعضهم بعضاً ليأخذ كلّ ملك ممّن فوقه في المرتبة أمر الله تعالى ومراده فيما يجريه، لكثرة الأحكام في هذا اليوم. فإنه يوم الجزاء للمكلّفين، من أوّل مكلف من الجن والإنس، بالخير و الشرّ، على الأعمال الخيرية و الشريّة، بعد الوزن وا لتحقيق. و الدنيا وإن كان فيها جزاء على الخير والشرّ، لكن على الغيب والجهل، وهنالك في هذا اليوم، على المعاينة ورؤية الأعمال الخيرية والشرّية، ورؤية الجزاء عليها كذلك. ولذا كان من أس ماء هذا اليوم يوم الدين، والدين الجزاء، والجزاء وإن كان منه في الدنيا لكن على الحجاب بالوسائط. وأمَّا هنالك فبغير واسطة حجاب، بل على الكشف والمعاينة يتولاه الملك الحق بذاته ولذا قال:

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾[الفاتحة: 1/4].

ويوم ذي المعارج أطول أيام الأسماء الإلهية، إلاَّ الاسم الرحمن. وإن الأسماء الإلهية لها أيام متفاضلة في المدد إلى الآن، وهو الزمان الذي لا ينقسم، وهو يوم الشأن. ويوم ذي المعارج، من أوّل قيام القيامة إلى أن تعمّ الرحمة أهل النار، الذين هم أهلها، وماهم منها بمخرجين، فينقطع الغضب الإلهي بانقطاع مدّة حكم ذي المعارج، وهي خمسون ألف سنة، ولا يبقى حكم من أحكام أسماء الانتقام والغضب، مع بقاء جهنّم على حالها، من وجود أسباب العذاب. ولا يجدون لها ألماً، لأن الحدود المقامة على الخلائق أخذت حدّها، وبلغت نهايتها، ففي الصحيح: ((تقول الأنبياء في هذا اليوم: إنَّ ربّي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله))، يعنون يوم القيامة، يوم ذي المعارج، وبانقضاء حكم ذي المعارج يعزل الاسم الله الاسم المنتقم وما يجري مجراه من الأسماء الإلهية، ويعطي الولاية والحكم المطلق للاسم الرحمن الرحيم، لأن الاسم «الله»الجامع له الولاية والعزل في الأسماء الإلهية، من حيث إنها لها دول، ولهذا فإنَّ الأسماء الإلهية تخشى الاسم «الله» فإنَّ كل اسم إلهي يحب ظهور أثره في العالم دائماً، والحكمة الإلهية لا تقتضي هذا لا يقال م ذكرتموه، يلزم منه تعطيل أسماء الانتقام والغضب، لأنا نقول: الأسماء الإلهية نسب، ل تظهر إلاَّ بين منسوب ومنسوب إليه، ماهي أعيان وجودية عينية، أو نقول: كان الله ولا شيء معه، ولم يرجع إليه وصف لم يكن عليه بخلقه المخلوقات، فكذلك هو يكون، أو نقول: يبقى تأثير أسماء الانتقام والغضب في صورة مجسّدة، كما قال شيخ الشيوخ أبو مدين (رضي الله عنه) لما روي له قوله (صلى الله عليه وسلم) : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)).

صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدخل الكبر النار، وصاحبه الجنة، فيبقي تأثير أسماء الانتقام في صور مجسدّة. وتجسيد المعاني واقع شرعاً نقلاً وكشفاً. وبهذه الصور المجسّدة يكون ملء الجنة والنار، «لكلّ واحد منكما ملؤها». وأما ماورد في الأحاديث النبويّة، أن هذا اليوم، وهو يوم ذي المعارج، يكون على المؤمن قدر صلاة ركعتي الفجر، وعلى الكافر خمسين ألف سنة؛ فليس المراد أن مدته الزمانية تكون قصيرة في حق المؤمن، طويلة في حقّ الكافر؛ وإنما المراد حكمه وولايته، يكون في حق المؤمن قصيراً، كما مثل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإن المراد في الحديث ليس بينه وبين خروجه من حكم ذي المعارج إلاَّ المدّة التي بين خروجه من قبره ودخوله الجنة. فيتسلّمه الاسم الرحمن الرحيم، ومن جرى مجراه من الأسماء الإلهية، والمؤمن الذي لا يوقف لحساب ولا غيره هم ثلاث فرق: الأولى المعنية بقوله تعالى: ﴿َتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾[السجدة: 32/16].

الثانية المعنية بقوله:﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾[النور: 24/37].

الثالثة المعنية بقوله: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾[الأحزاب: 33/23].

وأمَّا حكم الاسم ذي المعارج، وولايته في حقّ الكافر فهو مدة خمسين ألف سنة كما ذكر الله، فإنَّ الاسم الإلهي ذي المعارج يجمع بين الضدّين: الشدّة من الاسم الشديد في قوم، والرفق من الاسم الإلهي الرفيق في قوم؛ والعذاب من الاسم المعذب في قوم؛ والنعيم من الاسم المنعم في قوم. بل يجمع بين الضدّين في شخص و احد. ألا ترى أصحاب الأعراف! فإنهم لا في الجنّة التي هي باطن سور الأعراف، ولا في النار التي هي ظاهر السور. ومن هنا يظهر أن سور الأعراف برزخ معقول حاجز بين الجنة و النار كما قال: ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾[الفرقان: 25/ 53].﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً﴾ يعني حدّاً معقولاً، كسائر الحدود في الأشياء. فإنَّ الحدود برازخ تمنع من اختلاط الأشياء وعدم تمايزها. فقد بان وجه قصر يوم ذي المعارج على المؤمن. وأمَّا ما ورد في الأخبار النبويّة، وهو أنَّ القيامة تقوم عشية يوم الجمعة، ولا يأتي وقت طلوع الشمس من يوم السبت إلاَّ وأهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار... فالمراد أهل الجنة الذين هم أهلها، وهم الطوائف الثلاث الذين ذكرناهم، لا مطلق من يدخل الجنّة، فإن الذين يدخلون الجنة منهم من لا يدخلها إلا بعد الحساب، ومنهم من ل يدخلها إلاَّ بعد وقوفه في بعض المواقف، أو أكثرها، أو كلّها، ومنهم من لا يدخله إلاّ بعد دخوله النار. وكذلك أهل النار. فالمراد أهل النار الذين هم أهلها، وهم ثلاث طوائف: الجبابرة، ومن آذى الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) والمصورون الصور التي تعبد من دون اللهن فهؤلاء من قبورهم إلى النار، وأولئك من قبورهم إلى الجنة، فافهم قوله (صلى الله عليه وسلم) أهل الجنة وأهل النار. ويبقى حكم الاسم الإلهي ذي المعارج في أهل النار الذين هم أهلها، إلى تمام يومه، وهو خمسون ألف سنة، وأما الذين يوقفون في الخمسين المواقف التي ذكرها سيدنا محي الدين في الفتوحات المكية بالسند إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) هم بعض المؤمنين، والموحدون من غير إيمان بنبّي من الأنبياء حيث لم يرسل إليهم نبي. فإنَّ الموحدين من غير إيمان بنبيّ يسألون عن مكارم الأخلاق وحقوق المخلوقين، وهم متفاوتون في مدد الوقوف في تلك المواقف، مختلفون في سرعة النجاة والبطء. ثم تدركهم الشفاعات فلا يبقى في النار مؤمن ولا موحّد توحيداً عقلياً، وتوقيفهم في تلك المواقف هو من الأحكام التي حكم الله بها عليهم وقت محاسبتهم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!