الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


256. الموقف السادس والخمسون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا﴾[التوبة: 9/51].

المأمور أن يقول هذا هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنون أتباعه، لضمير الجماعة. فكل ما يصيب المؤمن ممّا قضاه الله تعالى وقدّره من البلايا والرزايا في النفس واولد والأهل والمال فهو له لا عليه، حيث كان ذلك لفائدة تعود عليه، ومنفعة تنجرّ إليه، وحينئذٍ كلّ بليّة تصيب المؤمن فهي نعمة توجب عليه حمد المبلي تعالى، وقد ورد في الصحيح: ((عجباً للمؤمن أمره كلّه خير، وليس ذلك إلاَّ للمؤمن، نفسه تنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله تعالى)).

والحمد لا يكون إلاَّ لنعمة على الحامد أو كمال، وفي خبر آخر: ((عجبت للمؤمن أن الله لم يقض له قضاء إلاَّ كان خيراً له)).رواه الإمام أحمد، وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: ((ما أصابتني مصيبة إلاَّ رأيت لله فيه عليَّ ثلاث نعم، أحدها كونها لم تكن في ديني، ثانيها أنها لم تكن أكبر، فإنه مامن مصيبة إلاَّ عند الله ماهو أعظم منها. ثالثها ما وعد الله عليها من الأجر)).

وفي الصحيح: «ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلاَّ كفّر الله بها من خطاياه».

ولهذا المؤمن يحمد الله على كل حال، وبهذا وصف الله تعالى أمّة محمد في التوراة قال: ((وأمته الحمادون، يحمدون الله على السراء والضراء)).

وهذا بخلاف الكافر، فإن كلّ ما قضاه وقدّره الله فهو عليه لا له، حتى ما صورته صورة نعمة فهو نقمة عليه، ولذا قيل: ((ليس لله على كل كافر نعمة حقيقية))، ،هذا الذي ذكرناه في حق المؤمن عام حتى في ابتلائه بالمعاصي والمخالفات، التي قدّرها الله وقضاها، فهي له لا عليه، وقد ورد في الخبر: ((إن العبد ليذنب الذنب فيدخله الجنة))، رواه ابن المبارك.

((لو أن العباد لم يذنبوا لخلق الله خلقاً يذنبون ثم يغفر لهم))، رواه الحاكم في المستدرك، وورد في صحيح مسلم: ((لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم)).

وذلك لأن الذنب سبب في إظهار آثار أسمائه: التوّاب والغفّار، والستّار، والحليم... ونحوها. وفي الصحيح:

((إن قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن)).

والمراد العبد المؤمن، وبالإصبعين لمّة الملك ولمّة الشيطان، وقد أضافهما إلى الرحمن، فلولا رحمة الله عبده المؤمن بتلك اللمة الشيطانية ما حصل له ثواب مخالفته بالتبديل والرجوع عنه إلى العمل بلمة الملك، وهو الندم، فإنه معظم أركان التوبة، والمؤمن إذا صدرت منه معصية لابدَّ أن يستغفر ويتوب يوماً ما، إذ عاود المعصية فإنه يستغفر ويتوب، وهكذا، وقد ورد في الخبر: ((إنَّ الله يحب المؤمن المفتن التواب)).

رواه الإمام أحمد، وناهيك بشيء يورث محبة الله تعالى لفاعله، وورد في خبر:

((إنَّ العبد العاصي،  عندم يبدّل الله سيئاته حسنات يقول: يارب، إنّ لي سيئات لا أراها ها هنا)).

فإن سيئات المؤمن التائب إمَّا أن تبّدل حسنات وإمَّا أن تغفر، ول يعاقب بها، فهو بين أحد الحسنيين، وأيّ مؤمن لا يندم ولا يستغفر من معصيته؟! هذ نادر، والنادر لا حكم له. وقد أخبر تعالى أنه يقبل توبة المؤمن مادام لم ينكشف له ملك الموت، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾[النساء: 4/ 17].

بشّر تعالى عباده المؤمنين، أنه أوجب على نفسه تفضلاً وامتناناً، فإنه عبّر بـ «على» وهي من أدوات الوجوب، قبول توبة المؤمنين الذين يعملون السوء ويعصون ربّهم بجهالة وسفاهة واغترار وأمان وحماقة وغلبة شهوة.... مع إيمانهم بحرمة السوء الذين عملوه، ثم يتوبون من قريب، أي ماداموا لم تنكشف لهم أحوال الآخرة، ولم يشاهدوا ملك الموت، ولو في حالة عجزهم عن النطق، فتقبل توبتهم بقلوبهم. أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿مِن قَرِيبٍ﴾ ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة: ((الدنيا كلها قريب)) وأخرج عن ابن أبي شيبة عنه (صلى الله عليه وسلم) أنَّ إبليس قال:

((وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدام مادام فيه الروح))!!

قال: ((وعزتي لا أحجب عنه التوبة مادام فيه الروح))!!.

وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصّححه: ((إن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر)).

والغرغرة هي كون الإنسان يجود بنفسه، وهذا بخلاف الكافر والمنافق، ولو في حالة قدرته على النطق وقوله: ((إني تبت الآن))، ولا الذين يموتون وهم كفّار. أخرج عبد بن أبي حميد وابن المنذر، عن أبي العالية أنه قال في قوله: ﴿إِنَّمَ التَّوْبَةُ﴾ الآية، هذه للمؤمنين؛ وفي قوله: ﴿وليست التوبة﴾ الآيتين، هذه لأهل النفاق وأهل الشرك، وأخرج ابن جرير عن الربيع ابن خيثم قال: نزلت الأولى في المؤمنين، ونزلت الوسطى في المنافقين، والأخرى في الكفار، ولذا قال تعالى في الأولى، ﴿على الله﴾ وما قال في الثانية، وقال في الأولى: ﴿ بِجَهَالَةٍ﴾ وماقال في الثانية، فانظر ما أعظم حرمة الإيمان وما أعلى مرتبته؟! اللهم ذوّقنا حلاوته حتى لا نسخط، وثبتنا حتى نلقاك عليه، إنك المنعم المتفضل.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!