الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


203. الموقف الثالث بعد المائتين

قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الفاتحة: 1/2].

أنظر إلى هذا الجود العظيم و العناية الكبرى بهذا العبد الكريم على ربّه فإنه تعالى أولاً أمره بحمده وعلمه كيفية الحمد، فقال: قل: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الفاتحة: 1/2].

بالجملة الاسمية المفيدة الدوام والاستمرار، و"بأل" العهدية التي معهودها حمد الحق تعالى نفسه بنفسه في أزله، وقال "الله" باللام المفيدة، أنَّ الحمد صادر منه تعالى، راجع إليه، فهو الحامد وهو المحمود، وهو معنى ما ورد في الخبر الصحيح: «وإليه يرجع عواقب الثناء».

وما قال "بالله" لأن الباء لا تفيد هذا، ولهذا قال بعضهم: "اللاميون أفضل من البائيين".

وبعد ما خلق تعالى هذا القول في العبد. قال تعالى: ((حمدني عبدي)).

أمر وعلم وخلق، ونسب ذلك للعبد فهذا هو الفضل المبين، إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك، ثم علّمه تعالى كيف يثني عليه، فقال: قل: ﴿ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ﴾[الفاتحة: 1/3].

وبعدما خلق ذلك في العبد قال: ((أثنى عليَّ عبدي)).

ثم علمه كيف يمجدّه، فقال، قل ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾[الفاتحة1/ 4].

ثم لما حصل الحمد و الثناء والتمجيد من العبد حصل على كمال الأدب، فأطلق تعالى لسانه بعده، بالسؤال والطلب، فعلّمه تعالى كيف يسأل وماذا يسأل، فقال له: قل ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾[الفاتحة: 1/5].

أي اجعلني لا أعبد ولا أخضع وأتذلل إلاَّ لك، لأن العبادة لغة الخضوع مطلقاً، وا لإنسان مهما ارتفعت منزلته، وعظمت مكانته فلابد أن يتذّلل ويتعبّد لبعض المخلوقات، التي يراها أعلى منه، والتعبد والتذلل لغير الله تعالى شرك ، فأمر الحق تعالى عبده أن يسأله شهوده في كل مظهر عبده بمعنى تذلّل وخضع له ، فيكون تعبده حينئذٍ للظاهر تعالى، لا للمظهر، فيتخلص من الشرك، بل يحصل على غاية الكمال في الأدب، فإنه أعطى الظاهر تعالى حقه والمظهر مستحقّه، وقال بحقّ الشريعة و لحقيقة، ووفّى المراتب ما تطلبه. ثم قال له، قل: ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 1/5].

أي اجعلني لا أستعين إلاَّ بك. لأن المخلوق ولو بلغ من الاقتدار والعظمة، فلابدَّ أن يستعين بغيره من إنس أو جن أو ملك أو اسم إ لهي، فإ ذا لم يشهد وجه الحق تعالى ، فيما استعان به كان مشركاً، فأمر الحق عبده أن يسأله شهوده في كل شيء استعان به حسّياً أو معنوياً، وحينئذٍ يتخلّص من الشرك، فإذا خلق تعالى هذا القول بالسؤال في العبد، قال تعالى: ((هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي م سأل)).

يعني ما تقدّم وما يأتي، ثم بعد التفصيل أمره بإجمال السؤال الجامع لأسباب السعادة، فقال: قل:

﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾[الفاتحة: 1/6].

صراط الله الربّ الموصل إلى رضوانه تعالى ودار سعادته، ثم زاده بياناً فقال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ ﴾[الفاتحة: 1/7].

وهم: محمّد وإخوانه من المرسلين و النبّيين صلوات الله عليه وسلامه وعليهم أجمعين وأتباعهم من الصديقين وا لشهداء والصالحين، أترى بعد أن أمره بسؤاله، وعلّمه كيفية السؤال، وآداب المناجاة، ووعده بإجابة سؤاله يرده صفر اليدين؟ كلاّ فإنه تعالى أكرم من أن يردّه خائباً، ولو لم يأمره السؤال، ولا وعده بالإجابة، كيف وقد أمر وعلَّم ووعد، والحمد لله رب العالمين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!