الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


201. الموقف الأول بعد المائتين

قال تعالى : ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى ﴾[الأنعام: 6/ 19].

الاستفهام إنكاري، معناه النهي، أي لا تشهدوا صورة عبدت، مع الله، أي صورة كانت حسيّة أو معنوية، إذ المعيّة في اللسان المتواضع عليه تقتضي وجودين، وليس الوجود إلاَّ واحداً، وقد قضى أن لا نعبد إلاَّ إياه، فلا يمكن أن يعبد معه سواه، ول يلزم من تعدد الصور تعدّد الحقيقة، فإنَّ الحقيقة الإنسانية واحدة بإجماع العقلاء، وصورها لا تحصى كثرة، فإنَّ السمع والبصر والشم واليد والرجل، كلّها صورها، قل ل أشهد ما شهدتموه من تعدّد الآلهة. وإنما أشهد إلهاً واحداً تعدّدت مظاهره، والعين و احدة كالأسماء المتعددة للمسمّى الواحد، فهل ذلك قادح في وحدة المسمّى؟ ولهذ قال:

﴿ ِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ﴾[الأنعام: 6/ 19].

أي المعبود في كل صورة هو إله واحد عيناً، وحقيقة، ووجوداً، فليس هنالك آلهة مع الله، كما قال تعالى في آية النمل:

﴿أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[النمل: 27/ 63].

أي لا إله مع الله، فهو إله واحد تعددت تعيناته ومظاهره، بل هم قوم يعدلون عن شهود الوحدة الحقيقية، إلى الكثرة المجازية الاعتبارية. فالعارف يرى جميع الصور المعبودة وغير المعبودة ليس لها وجود مع الله، وإنما وجودها هو وجود الله الواحد العين والحقيقة، والصور ظهوراته وتعيّناته، والظهور والتعيّن والتعدد اعتبارات عقلّية لا وجودية خارجية، ولكن الحجاب صيّرها كما يراها المحجوب. وهذ التوحيد الذي قدّمناه هو الذي أمر الله تعالى به عباده، وجاءت به الرسل (عليهم الصلاة و السلام) ، فإنه تعالى أمر بتوحيد حقيقة ألوهيته، فإنها واحدة،  وجد الموحد أو عدم، وما أمر بتوحيد الصورة والتعيّنات فإنها أعدام اعتبارية، وإنما أمر بشهود وحدته في ألوهته، وسريان هويته في مظاهره المتعددة، وتعيّناته المتكثرة، وحينئذٍ يكون هو الذي وحّد نفسه بنفسه، فيصحّ قوله: لا إله إلاَّ الله، بمعنى نفي تعدّد الإله في ألوهيته وإن تعددت مظاهره. ول وجود إلاَّ وجود الله.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!