الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


172. الموقف الثاني والسبعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا ﴾[الأنعام: 6/ 158].

وورد في الأخبار الصحيحة أنَّ ذلك اليوم هو يوم طلوع الشمس من مغربها، فاعلم أنَّ هناك شمساً حقيقة، وشمساً مجازاً، وكلاهما بطلوعه من مغربه يغلق باب التوبة، ول ينفع نفساً إيمانها. فأمَّا الشمس مجازاً فهو الكوكب النهاري، الذي هو معدن الأنوار الحسّية وطلوعه من مغربه وما يتبع ذلك مشهور عند الجمهور. وأمَّا الشمس حقيقة وهي أصل الأنوار الحسّية والمعنوية، كما قال: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾[النور: 24/ 35].

فطلوعه من مغربه هو انكشافه وإشراقه من محل غروبه وانحجابه واستتاره، وهي النفس، فإنها حجاب شمس الحقيقة ومغربها، طلوعها من مغربها الذي هو نفس معرفته منها: «من عرف نفسه عرف ربه».

فصار المغرب مطلعاً ومشرقاً، وهذه الآية أعظم من كل آية ولا مغيب لشمس الحقيقة بعد طلوعها من مغربها، فإن مغربها هو الذي كان يحجبها ويسترها، وقد صار مشرقها ومطلعها. فلا مغيب لها أبداً، كما قيل:

إن شمس النهار تغرب بالليل       وشمس القلوب ليست تغيب

وحينئذٍ يغلق باب التوبة المعروفة عن هذا الذي طلعت عليه الشمس من مغربها، لأن التوبة رجوع، والذي طلعت عليه شمس الحقيقة من مغربها إلى من يرجع؟ فإنه انكشفت له المعيّة الإلهية، والإحاطة الربّانية، فلم يكن له من يرجع إليه، فقد انمحقت الأغيار، واتحدت الأنوار، فلم يبق إلاَّ الله الواحد القهّار، له الحكم وإليه ترجعون، فهذا قد رجع في الدنيا قبل الآخرة، وقامت قيامته، بل تلزمه التوبة من التوبة المعروفة عند العموم، فإنها قد صارت بالنسبة لصاحب هذا المقام خط وذنباً وجهلاً، إذ حسنات الأبرار سيّئات المقربين، ولا ينفعه إيمانه حينئذٍ، فإنه نفع الإيمان حالة الحجاب قبل الشهود و العيان، وطلوع الشمس التي لا يحتاج معه برهان، فإذا صار الغيب شهادة، والخبر معاينة لا ينفع نفساً إيمانها، وإنما ينفعه شهودها وعيانها، فتتبدّل أحوالها ونياتها ومقاصدها، التي كانت لها حالة إيمانها، على أحوال ونيّات ومقاصد غيرها، أعني تتغير أحوالها الباطنة، وأما الظاهرة فلا يتغير منها ولا قلامة ظفر، بل يبقى على أحواله الظاهرة المرضية شرعاً، وعلى طريقته الممدوحة عرفاً وطبعاً، وعلى حرفته المباحة المناسبة لحاله ومقامه، عند أمثاله. هذه حالة العارفين بعد فتح باب المعرفة لهم، وطلوع الشمس لهم من مغربها. وغير هذ تصنع. ولأن يلقى العبد ربّه بجميع الذنوب سوى الشرك، أهون من أن يلقاه بذرة من التصنع للخلق.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!