الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


152. الموقف الثاني و الخمسون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ﴾[النساء: 4/ 129].

وكل من طلب منه العدل بين أمرين متضادين، بحيث يكون إرضاء أحدهم إغضاباً للآخر، وإدخال السرور على أحدهما تخزيناً للآخر، إذا كانا على طرفي النقيض فلا يرضي أحدهما، إلاّ إغضاب الآخر، ولا يسر أحدهما، إلاَّ تحزين الآخر، ولا تحصل عمارة أحدهما إلاَّ بتخريب الآخر. وبقدر القرب من أحدهما، يبعد من الآخر، طلباً ل محيص عنه، ولا مهرب منه، فذانك الأمران نساء في حقّه، بمعنى زوجين متقابلين، كالنفس والروح، والدنيا والآخرة، فإنك إذا أعطيت النفس أغراضها، واتّبعت شهواتها، ومكّنته من مراداتها الطبيعية أرضيتها وأغضبت الروح. فإنَّ الأمور الطبيعية، والشهوات النفسانية، تضر بالروح وتسوّد وجهها، وتكسف شمسها، وتمنع عنها وصول المعارف، وتحجب عنها الأنوار والأسرار. فإذا أرضيت الروح باستعمال الأمور الروحانية و العزوف عن أحوال الطبيعة الجسمانية، أغضبت النفس. كيف؟ وهي مركب الروح، عليها يدرك مطالبه، وينال رغائبه، وأن كلَّ ما يقوّي الروح يضعف النفس، وبالعكس. وكذلك الدنيا والآخرة، كلم التفت إلى أحدهما أعرضت عن الآخر، وكلما سعيت في عمارة أحديهما أخربت، ولن تستطيع إرضاء الجميع أبداً، كما أخبر الله تعالى ولو بذلت جهدك، وأنفدت ما عندك، فإنَّ جمع النقيضين محال. فعلّمنا الحكيم تعالى الخلاص من هذا المشكل، والدواء لهذ الداء المعضل، وهو أن لا نميل كلّ الميل، لأننا وإن ملنا بقلوبنا إلى إحداهما فل نميل في ظواهرنا، بترك حقوق ما ملنا عنه رأساً، ونعرض عن مطالبه ونتركه هملاً، إذ نحن مأمورون بالإبقاء على كلّ واحد منهما، والرفق بهما، فلا غنى لنا عن أحدهما، وقد كان (صلى الله عليه وسلم) يعدل في القسمة بين نسائه، ويقول:

«اللّهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني بما تملك ولا أملك».

يعني القلب، ومراد الحق تعالى منَّا، وأمره لنا، بإرضاء الروح والنفس وعمارة الدنيا والآخرة على الحكمة التي جاءت بها الرسل (عليه السلام) والحد الذي حدوه لنا، كلّ واحد بحسبه وما يقتضيه حاله: ﴿ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً﴾[النساء: 4/27].

فالميل المضر بالدنيا والآخرة، أو بالنفس أو بالروح كلّه من اتباع الشهوات، واستغواء الشيطان، وتزيينه ليس من الدين في شيء، وإذا سمعت أو رأيت في كتاب حكايات القوم (رضي الله عنه) وما فعلوه بأنفسهم من الأضرار ، وما صنعوه بدنياهم من التخريب، فإنما ذلك كله ليحصلوا على عدم الميل المضر بأرواحهم وأخراهم،  ويكونوا على الحكم المشروع، والقسطاس الموضوع، فإن كل شيء تميل إليه النفس الميل الكلي، وتطلب التمتع به على الكمال والتمام، جاء الشرع بذمّه وتقبيحه والتنفير عنه، مع أن النفس لا تتركه كلّه، فذلك محال، لأنه لا بقاء لها بدونه رأساً، فيحصل الصلح على ترك طلب النفس الكلّ ، وإبقاء البعض لها: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة: 5/50].

فالقوم متبعون حكمة الشارع فيما فعلوا، وانظر أحوالهم في نهاياتهم عندما زموا أنفسهم بزمام الشرع والعقل، كيف تجدهم يأكلون أطايب الطعام، ويلبسون الأثواب ويركبون فاره الدواب، ويقولون: ابدأ بنفسك ثم بمن تعول، والأقربون أولى بالمعروف، ونحو هذا ويعمرون في الدنيا كل واحد على ما اقتضاه حاله، هذه سنة الأنبياء (عليه السلام) والكمّل من الورثة، وقال (صلى الله عليه وسلم):

«أمَّا أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني»، خرّجه أصحاب الصحيح.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!