الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


150. الموقف الخامس وبعد المائة

قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّ كُنَّا مُنذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدخان: 44/ 3- 4].

الضمير في قوله: ﴿ أَنزَلْنَاهُ﴾ عائد على الكتاب المبين، وهو القرآن العظيم مثل قوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[القدر: 97/ 1].

فالليلة المباركة هي ليلة القدر، ولبركتها نزل القرآن فيها، وهي التي يفرق فيها كل أمر حكيم، محكوم مبيّن بجميع لوازمه، ولواحقه، محدود بمكانه، مؤقت بزمانه، كما قال: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾[القدر: 97/ 4].

أي من كلّ ما يقع في العالم العلوي و السفلي، في تلك السنة، يظهره الله ـ تعالى للموكلين بإنفاذه. وهذا من بركة تلك الليلة. فإنَّ الأمور التي تقع في السنة في العالم العلوي والسفلي لا يحصيها إلاَّ خالقها. وهي كلها تترّتب وتتّبين في تلك الليلة. وهذه الليلة ممتزجة، لا ضوء محض، ولا ظلمة خالصة. كنت أنظر إلى ظل شخص فأراه متميزاً وليس هناك نور زائد كما يتوهّمه أكثر الناس، وذلك في الخامس والعشرين من شعبان، فلا تختص برمضان، كما قال بعض العلماء. وبعض الناس تنكشف لهم أنوار في وسط السماء، أو في جوانبها، أو أنوار تشبه السرج، فيظنون أن ذلك علامة ليلة القدر وليس الأمر كذلك. وإنما علامة ليلة القدر ما رواه مسلم في الصحيح:

«إنَّ الشمس تطلع صبيحتها ولا نور لها».

وقد شاهدت ذلك، فكانت الشمس كالترس النحاسي لا شعاع لها. ولو كانت فيه كتابة لأمكنني قراءتها من غير كلفة. وقائم هذه الليلة يحصل له ما وعد الله به، ولو لم تنكشف له، والناس يرغبون في معرفتها ويطلبونها لأجل إجابة الدعاء فيها. وكان الأولى أن يطلبوها لما وعد الله تعالى به قائمها على لسان رسوله (صلى الله عليه وسلم) ففي الصحاح:

«من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» .

وأمَّا الدعاء، فلا يمكن الداعي أن يدعو تلك الليلة إلاَّ ما سبقت القسمة الأزلية بحصوله، وكان يطلبه بلسان استعداده، فهو مجبور على هذا وقالت عائشة (رضي الله عنه) يارسول الله، إذا رأيت ليلة القدر ما أقول؟! فقال: قولي:

« اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنّي»

وظاهر أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بمراقبتها وطلبها إنما هو لإقامتها، طلباً لما وعد الله من مغفرة الذنوب، في حقّ عامة أهل الإيمان والعباد، ل في حق الخواصّ الذين لا يريدون إلاَّ وجهه، فلا يطلبون غيره.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!