المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة المائدة: [الآية 110]
سورة المائدة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119 « (
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ» فلا يؤثر فيهم عوارض يوم القيامة ، بل تخاف الناس ولا يخافون ، وتحزن الناس ولا يحزنون . . .
[ «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ] «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» فالرضى منا ومنه - الوجه الأول - رضي اللّه عنهم : بما أعطوه من بذل المجهود ، وغير بذل المجهود «وَرَضُوا عَنْهُ» بما أعطاهم مما يقتضي الوجود الجود أكثر من ذلك ، لكن العلم والحكمة غالبة - الوجه الثاني - «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» : بما أعطاه العبد من نفسه رضي اللّه به ، ورضي عنه فيه وإن لم يبذل استطاعته ، فرضي اللّه منك إذا أعطيت ما كلفك حد الاستطاعة التي لا حرج عليك فيها «وَرَضُوا عَنْهُ» رضي العبد من اللّه بالذي أعطاه من حال الدنيا ورضي عن اللّه في ذلك ، فإن متعلق الرضى القليل ، فإن الإنعام لا يتناهى بالبرهان الواضح والدليل ، فلا بد من الرضى ، بذا حكم الدليل وقضى ، وبهذا المعنى رضاه سبحانه عنك ، بما أعطيته منك ، وهو يعلم أن الاستطاعة فوق ما أعطيته - الوجه الثالث - «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» في يسير العمل «وَرَضُوا عَنْهُ» في يسير الثواب ، لأنه لا يتمكن تحصيل ما لا يتناهى في الوجود ، لأنه لا يتناهى ، فإن كل ما أعطاك الحق في الدنيا والآخرة من الخير والنعم فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده ، فإن الذي عنده لا نهاية له ، وكل ما حصل لك من ذلك فهو قليل بالنسبة إلى ما عنده ، فإن الذي عنده لا نهاية له ، وكل ما حصل لك من ذلك فهو متناه بحصوله ، وما قدم اللّه رضاه عن عبيده ، بما قبله من اليسير من أعمالهم التي كلفهم إلا ليرضوا عنه في يسير الثواب ، لما علموا أن عنده ما هو أكثر من الذي وصل إليهم . - الوجه الرابع - أخبرهم في التوقيع أنه عنهم راض تعالى وتقدس جلاله ، ثم أنه ناب عنهم في الخطاب بأنهم عنه راضون ، فقال تعالى : «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» .
وهنا نكتة لمن فهم ما تدل عليه ألفاظ القرآن من الرضى فقطع عليهم بذلك لعلمه بأنه واقع
منهم[ تحقيق الرضا ]
- تحقيق الرضا - اعلم أن اللّه تعالى قد أمرنا بالرضا قبل القضاء مطلقا ، فعلمنا أنه يريد الإجمال ، فإنه إذا فصّله حال المقضي عليه بالمقضى به انقسم إلى ما يجوز الرضا به وإلى ما لا يجوز ، فلما أطلق الرضا علمنا أنه أراد الإجمال ، والقدر توقيت الحكم ، فكل شيء بقضاء وقدر ، أي بحكم مؤقت ، فمن حيث التوقيت المطلق يجب الإيمان بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، ومن حيث التعيين يجب الإيمان به لا الرضا ببعضه ، وإنما قلنا : يجب الإيمان به أنه شر كما يجب الإيمان بالخير أنه خير ، فنقول : إنه يجب علي الإيمان بالشر أنه شر ، وأنه ليس إلى اللّه من كونه شرا ، لا من كونه عين وجود إن كان الشر أمرا وجوديا ، فمن حيث وجوده أي وجود عينه هو إلى اللّه ، ومن كونه شرا ليس إلى اللّه ، قال صلّى اللّه عليه وسلم في دعائه : والشر ليس إليك ، فالمؤمن ينفي عن الحق ما نفاه عن نفسه .
------------
(119) الفتوحات ج 2 / 222 - ج 4 / 351 ، 432 - ج 2 / 212 - ج 4 / 351 - ج 2 / 212 - ج 4 / 27 ، 18 - ج 2 / 212تفسير ابن كثير:
يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم - عليه السلام - مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات ، فقال تعالى : ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ) أي : في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء ( وعلى والدتك ) حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون الجاهلون إليها من الفاحشة ( إذ أيدتك بروح القدس ) وهو جبريل ، - عليه السلام - ، وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك ، فأنطقتك في المهد صغيرا ، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب ، واعترفت لي بالعبودية ، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي ; ولهذا قال تعالى : ( تكلم الناس في المهد وكهلا ) أي : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك . وضمن " تكلم " تدعو ; لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب .
وقوله : ( وإذ علمتك الكتاب والحكمة ) أي : الخط والفهم ) والتوراة ) وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم ، وقد يرد لفظ التوراة في الحديث ويراد به ما هو أعم من ذلك .
وقوله : ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني ) أي : تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك فيكون طائرا بإذني ، أي : فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك ، فتكون طيرا ذا روح بإذن الله وخلقه .
وقوله : ( وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني ) قد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته .
وقوله : ( وإذ تخرج الموتى بإذني ) أي : تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته ، وإرادته ومشيئته .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن طلحة - يعني ابن مصرف - عن أبي بشر ، عن أبي الهذيل قال : كان عيسى ابن مريم ، - عليه السلام - ، إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين ، يقرأ في الأولى : ( تبارك الذي بيده الملك ) [ سورة الملك ] ، وفي الثانية : ( الم . تنزيل الكتاب ) [ سورة السجدة ] . فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه ، ثم دعا بسبعة أسماء : يا قديم ، يا خفي ، يا دائم ، يا فرد ، يا وتر ، يا أحد ، يا صمد - وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر : يا حي ، يا قيوم ، يا الله ، يا رحمن ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا نور السموات والأرض ، وما بينهما ورب العرش العظيم ، يا رب .
وهذا أثر عجيب جدا .
وقوله : ( وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ) أي : واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم ، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر ، وسعوا في قتلك وصلبك ، فنجيتك منهم ، ورفعتك إلي ، وطهرتك من دنسهم ، وكفيتك شرهم . وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا ، أو يكون هذا الامتنان واقعا يوم القيامة ، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة . وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ } أي: اذكرها بقلبك ولسانك، وقم بواجبها شكرا لربك، حيث أنعم عليك نعما ما أنعم بها على غيرك. { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } أي: إذ قويتك بالروح والوحي، الذي طهرك وزكاك، وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله. وقيل: إن المراد "بروح القدس" جبريل عليه السلام، وأن الله أعانه به وبملازمته له، وتثبيته في المواطن المشقة. { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا } المراد بالتكليم هنا، غير التكليم المعهود الذي هو مجرد الكلام، وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم والمخاطب، وهو الدعوة إلى الله. ولعيسى عليه السلام من ذلك، ما لإخوانه من أولي العزم من المرسلين، من التكليم في حال الكهولة، بالرسالة والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، وامتاز عنهم بأنه كلم الناس في المهد، فقال: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } الآية. { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } فالكتاب يشمل الكتب السابقة، وخصوصا التوراة، فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل -بعد موسى- بها. ويشمل الإنجيل الذي أنزله الله عليه. والحكمة هي: معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه، وحسن الدعوة والتعليم، ومراعاة ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي. { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } أي: طيرا مصورا لا روح فيه. فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وتبرئ الأكمه الذي لا بصر له ولا عين. { وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } فهذه آيات بيِّنَات، ومعجزات باهرات، يعجز عنها الأطباء وغيرهم، أيد الله بها عيسى وقوى بها دعوته. { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ } لما جاءهم الحق مؤيدا بالبينات الموجبة للإيمان به. { إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } وهموا بعيسى أن يقتلوه، وسعوا في ذلك، فكفَّ الله أيديهم عنه، وحفظه منهم وعصمه. فهذه مِنَنٌ امتَنَّ الله بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم، ودعاه إلى شكرها والقيام بها، فقام بها عليه السلام أتم القيام، وصبر كما صبر إخوانه من أولي العزم.
تفسير البغوي
قوله تعالى : ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ) قال الحسن : ذكر النعمة شكرها ، وأراد بقوله ( نعمتي ) أي : نعمي ، [ قال الحسن ] لفظه واحد ومعناه جمع ، كقوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ، ( وعلى والدتك ) مريم ثم ذكر النعم فقال : ( إذ أيدتك ) قويتك ، ( بروح القدس ) يعني جبريل عليه السلام ، ( تكلم الناس ) يعني : وتكلم الناس ، ( في المهد ) صبيا ، ( وكهلا ) نبيا قال ابن عباس : أرسله وهو ابن ثلاثين سنة ، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله إليه ، ( وإذ علمتك الكتاب ) يعني الخط ، ( والحكمة ) يعني العلم والفهم ، ( والتوراة والإنجيل وإذ تخلق ) تجعل وتصور ، ( من الطين كهيئة الطير ) كصورة الطير ، ( بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا ) حيا يطير ، ( بإذني وتبرئ ) وتصحح ، ( الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى ) من قبورهم أحياء ، ( بإذني وإذ كففت ) منعت وصرفت ، ( بني إسرائيل ) يعني اليهود ، ( عنك ) حين هموا بقتلك ، ( إذ جئتهم بالبينات ) يعني : الدلالات والمعجزات ، وهي التي ذكرنا .
( فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ) يعني : ما جاءهم به من البينات ، قرأ حمزة والكسائي " ساحر مبين " هاهنا وفي سورة هود والصف ، فيكون راجعا إلى عيسى عليه السلام ، وفي هود يكون راجعا إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
الإعراب:
(إِذْ) ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب بدل من يوم في الآية السابقة متعلق بالفعل المحذوف اذكر (قالَ اللَّهُ) ماض ولفظ الجلالة فاعله والجملة في محل جر بالإضافة.
(يا عِيسَى) منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب (ابْنَ) صفة منصوب وهو مضاف (مَرْيَمَ) مضاف إليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة للعلمية والتأنيث المعنوي.
(اذْكُرْ) أمر فاعله مستتر (نِعْمَتِي) مفعول به منصوب للفعل اذكر وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم، والياء في محل جر بالإضافة (عَلَيْكَ) متعلقان بمحذوف حال من نعمتي وجملة اذكر مقول القول (وَعَلى والِدَتِكَ) عطف على ما قبلها.
(إِذْ) ظرف زمان متعلق بمحذوف حال من نعمتي وقيل هو بدل منها (أَيَّدْتُكَ) فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والكاف مفعوله (بِرُوحِ) متعلقان بأيدتك (الْقُدُسِ) مضاف إليه (تُكَلِّمُ النَّاسَ) فعل مضارع ومفعوله والجملة في محل نصب حال (فِي الْمَهْدِ) متعلقان بمحذوف حال رضيعا في المهد (وَكَهْلًا) عطف على الحال المحذوفة.
(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) عطف على ما قبله والكتاب مفعول به ثان (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) من الطين، وكهيئة الطير متعلقان بالفعل تخلق (بِإِذْنِي) متعلقان بمحذوف حال من الطير والجملة في محل جر بالإضافة، وجملة (فَتَنْفُخُ فِيها) معطوفة عليها، وكذلك جملة (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) معطوفة واسم تكون ضمير مستتر تقديره هي وطيرا خبرها والجار والمجرور بإذني متعلقان بمحذوف صفة (طَيْراً) وجملة (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) معطوفة، وبإذني: متعلقان بالفعل (تُبْرِئُ). وكذلك جملة (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) معطوفة.
(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) بني مفعول به منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم إسرائيل مضاف إليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة للعلمية والعجمة وعنك متعلقان بكففت (إِذْ) ظرف متعلق بكففت أيضا (جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فعل ماض تعلق به الجار والمجرور بعده والتاء فاعله والهاء مفعوله والجملة في محل جر بالإضافة.
(فَقالَ الَّذِينَ) فعل ماض واسم الموصول فاعل والجملة معطوفة (كَفَرُوا مِنْهُمْ) فعل ماض تعلق به الجار والمجرور والواو فاعله والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
(إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ) إن نافية. هذا مبتدأ وسحر خبره. إلا حرف حصر (مُبِينٌ) صفة. والجملة مقول القول.